باريس
قال عيسى بن هشام: سبحان من لا تجري الأمور إلا بتقديره، ولا تنفذ العزمات إلا بتيسيره،
فقد يسَّر الله لنا الرحلة إلى الديار الأوروبية، لنشهد مظاهر المدنية الغربية، وبلغنا
من
سفرنا المدى، فألقينا بباريس العصا، وشرعنا نجوب منها الطرقات الجامعة، والساحات الواسعة،
فلا القبائل تُدعى وتُهرع، ولا الجيوش تحشد وتجمع، ولا الموتى وهم ينشرون، ولا الخلق
وهم
يحشرون، يُضاهئُ ما القوم فيه من ازدحام واقتحام، واصطدام والتحام، متدفقين في سيرهم
تدفق
السيل تحت أضواء محت آية الليل فلا ليل، يُخشى فيها على الأبصار أن تعشو من شدة الأنوار،
وربما انخدعت بها الدِّيكة فأخذت في الصياح، إيذانًا بانبلاج الصباح.
فإذا نظرت إلى الشارع من العلو، لم تبال بالغلو، إن قلت: بحر مسجور
١ قام عليه شاطئان من نور، وإذا أبصرته من أسفله عند أوَّله، قلت: أسراب الدَّو
٢ تصعد إلى الجو، بين الكواكب الزهراء، من كرات الكهرباء، والبيوتُ عن حافَّتيه
تشارف جو السحاب، وتحاول أن تعلق من السماء بأسباب؛ فارعةً باسقة، متلاصقةً متناسقة كأنها
في انتساقها سطور الخط، والأزهار على جدرانها شكلٌ ونقط، فأين منه ما بناه لفرعون هامان،
وشاده جن سليمان لسليمان، ورفعه سنِمَّار للنعمان؟ وأين شماريخ ثبير
٣ من سنام البعير، ومعارج الجبال، من مدارج النمال؟ لا بل أين البحر العباب، من
لامع السراب، وأجرام الكواكب، من بيوت العناكب؟
وشاهدنا المارة يتسابقون في هذا الموقف المتلاطم، والمأزق المتزاحم من كل شيخ وكهل،
وصبي
وطفل، وفتى وفتاة، بين ركبان ومشاة، والألوف من صنوف العَجَل تخترق صنوف الناس، وتنفذ
بينهم
نفاذ السهام عن الأقواس، طائرة بقوة الكهرباء أو البخار أو الأفراس.
ولما لم يسابقهنَّ شيءٌ
من الحيوان سابقن الظلالَا
وكل سائر منهم في اضطراب العصفور، وتلفُّت القطا المذعور، إن خانته لفتته، أدركته
منيَّته، وإن عثرت قدمه، هريق دمه، وإن شمخ شامخ بأنفه، وقع في حتفه، فهم يتلمسون شاكلتي
الطريق
٤ كما يتلمس الشاطئ الغريق، والحوانيت على الجانبين متبرجة ببدائع البضائع،
ونفائس الصنائع تغوي الزاهد فيشتهيها، وتغري الشحيح فيشتريها، والحانات من بينها ممتلئة
بالنفوس، مشحونة بالجلوس، في يد كل واحد منهم كأس الصهباء، وفي الأخرى جريدة المساء،
ونحن
في هذا الموقف تكاد تطيش منا العقول، من هول الدهش والذهول، وتطير منا الألباب، من شدة
الوجل والاضطراب.
في ساحة لو أن لقمانًا بها
وهو الحكيمُ لكان غير حكيم
ومال بنا طلب الراحة، إلى حان في تلك الساحة، فلم نجد به مكانًا خاليًا من الزحام،
فعكفنا
مدة واقفين على الأقدام، وكدنا نذهب عنه آيسين، لولا أن تحرك بعض الجالسين، فذهبوا لشأنهم،
وخلفناهم في مكانهم، وجلسنا في هذا المأمن نتصفح وجوه الحاضرين، وأجناس المارين، فإذا
عدد
ربات الحجال، يربو على عدد الرجال، من كل ذات حسن وجمال، وتيهٍ ودلال، وقدٍّ متأوِّد،
وخدٍّ
متورد.
تختال في مفوَّف الألوان
من فاقع وناصع وقان
وهن يرفلن في الوشي، ويسرعن في المشي، ويتبارين في رفع الفضول من الأطراف والذيول
ويضربن
الأرض بأرجلهن، ويزحزحن ما استطعن من حُلَلِهن.
ويبسمن عن درٍّ تقلدن مثله
كأن التراقي وشحت بالمباسم
وينشرن من الأرج والطِّيب، مثل نشر الزهر في الغصن الرطيب، ويرسلن سهام العيون، فيحركن
سواكن الشجون، ويُسلِّطن من اللحاظ القواتل، ما يدمي حبات القلوب الغوافل.
إشارةُ أفواهٍ وغمز حواجبٍ
وتكسير أجفانٍ وكفٌّ تسلِّمُ
وأصناف الباعة يكثرون من الغدو والرواح، ويهيجون في النداء والصياح، بمثل العواء
والنُّباح، دائبين في الإلحاف والإلحاح.
ولما أفقنا هنيهة أخذ الباشا كعاده في السؤال
٥ يستجلي منا واقعة الحال، ويقول: ما أشك في أن هذا اليوم يوم عيد، عند أهل هذا
العالم الجديد، أو هم في نظري سكان مهاجرون، أو جند قافلون، انتهوا من حومة المنايا،
بالغنائم والسبايا. فأقول له: لا بل هي كما يصفها الواصفون، ويُعرِّفها العارفون، تلك
المدينة الفاضلة، أُم المدنية الكاملة، مهبط العمران والحضارة، ومظهر الزينة والنضارة،
وموطن العز والمجد، ومصدر النحس والسعد، بل هي تلك عندهم إرم ذات العماد، التي لم يخلق
مثلها في البلاد، لو رآها صاحب الإيوان، كسرى أنو شروان، لم يفخر على الدهر، بإيوان ولا
قصر، ولَحَكَم بأن «المدائن» لديها سبسبٌ قفر،
٦ ولو نظرها قيصر الرومان لأقسم أن رومية وهي عنده عاصمة الدنيا، قرية لديها من
الطبقة الدنيا، مثل التي ذكرها في كشفه عن طماعيته، قبل ولايته؛ إذ قال: أفضِّل أن أكون
الأول في أدنى قرية، ولا أكون الثاني في مدينة رومية، ولو شاهدها أفلاطون حكيم اليونان،
لم
يقل فيما دبر من الزمان: أحمد الله على نعمٍ ثلاث يعجز عن حمدها اللسان، ولا يقوم بحقها
شكران: أن خلقني من نوع الإنسان، لا من نوع الحيوان، ومن جنس الرجال، لا من جنس النساء،
ثم
جعل نسبتي إلى «أثينا» عاصمة اليونان، دون سائر البلدان، ولو اطلع عليها هاروت وماروت،
لم
يماريا في أن بابل عندها فلاة سبروت.
٧
كجنة الخلد تسُرُّ من رأى
فَتَزدَري «الخُلد» و«سُرَّ من رأى»
٨
هذه هي اليوم بيت العلم والفضل، ودار السلام والعدل، ومعهد الحق والإنصاف، ومهد الاتحاد
والائتلاف، هذه هي المدرسة التي يشرق منها على العالم شمس الهدى والعرفان، ويتلقَّى الإنسان
عنها حقوق الإنسان، ويعرف منها وجوه الخير والإحسان، ولكل إنسان وطن وهي لكل وطنيٍّ وطنٌ
ثان، لولاها لم يدرك الإنسان لنفسه من قدر، ولم يأمن في دياره من اغتيال أو غدر، فقد
كفَّت
عن الناس عاديات المظالم، وكفتهم بائقات المغارم،
٩ وعلمتهم كيف تؤتَى المكارم، وتجتنب الأوزار والمحارم، وكيف يعيش البشر في دار
الشقاء عيش السعادة والهناء، تحت ظل «الحرية» و«المساواة» و«الإخاء»، إذا نادها المظلوم
من
أي جنس وأي قوم، أجابته: لبيَّك مات الظلم فلا ظلم اليوم.
وهؤلاء أهلها كما تراهم يهجرون الرقاد، ويواصلون السهاد، ويصرفون الحياة في الجد
والعمل،
ولا ينتهي بهم أمل إلا إلى أمل، فليس على هممهم شيء بمحال، في كل حال، يذيبون بعزائمهم
صلب
الحديد، وتلين لإشارتهم صم الجلاميد، ويذيبون الهواء، ويكتبون على الماء، ويفتلون الحبال
من
الرمال، ويزلون راسيات الجبال، برائشات النبال، وينضبون الدأماء
١٠ بمتح الدِّلاء ويمحون آية الليل فلا تبلغ فيهم أمدًا، ويجعلون النهار دائمًا
عليهم سرمدًا.
أولئك الناس إن عُدُّوا بأجمعهم
ومن سواهم فلغوٌ غير معدود
والفرق بين الورى جمعًا وبينهُمُ
كالفرق ما بين معدومٍ وموجود
أقول قولي هذا والباشا ينصت ويتأمل، و«الصديق» يتبرم ويتململ، فالتفتُّ إليه أستخبره
الخبر، عن سبب هذا الضجر، فما أتممت عليه أحرف السؤال، حتى انهال علينا في المقال، انهيال
السيل من مشرفٍ عال:
الصديق
:
تالله لقد سئمنا ومللنا من سماع مثل هذه المبالغات وتردادها على آذاننا في وصف
هذه الديار، ونحن في ديارنا السنين والأعوام، وأولى ما يوصف هذا الوصف للغائب عنها
لا للحاضر فيها، وأنت رجل بحاث نبَّاث١١ من دأبك استنباط الغوامض واستجلاء الدخائل، وألزم ما يكون لنا الآن أن
نجعل فكرنا مجردًا عن مثل هذه الأوصاف والأخبار التي شحنت خيالنا زمنًا طويلًا،
فننساها ولا نذكرها ليكون حكمنا على المشاهدة والعيان خاليًا من مقدمات سبقت على
الغيب ورسخت في أذهاننا بالخبر، وقد علمت أن ذهن الإنسان يغلب عليه الانقباض عن
الفحص والتمحيص، ولا يباشرهما في الغالب إلا مضطرًّا مقسورًا لما في التسليم المطلق
والتصديق المعجل من راحة الفكر وسكون البال، وربما ارتسم في خياله أمر استحسنه
بالخبر، فيركن إليه ويردُّ كل ما يردُ عليه من قبيله إلى صحيفة الاستحسان والقبول
في نفسه؛ والأذن تعشق قبل العين أحيانًا، كما أنه إذا هو استقبح أمرًا كان الأمر
على هذا القياس، ولذلك ترى العاشق يرد كل ما يصدر عن معشوقه إلى الحسن، وإن كان غير
حسن في الواقع عند الفحص والتأمل، للميل الأول والاستحسان السالف، واستعداد لوح
الرضا والقبول في نفسه لانتقاشه فيه، ومن هنا جاء قولهم:
وعينُ الرضى عن كل عيب كليلةٌ
كما أن عين السخط تُبدي المساويا
ولقد ترى الرجل الشاعر الأديب إذا أنت أنشدته بيتًا من الشعر لم يكن يعرفه ولم
تُسمِّ له قائله ربما استهجنه ولم يستملحه، فإذا سميت له أبا تمام مثلًا أو أبا
الطيب، ارتد إلى الاستحسان وأخذ يتمحل لقائل البيت عذرًا إن كان في البيت ما
يُستهجن حقيقة، وما كان ذلك إلا لما اطمأنت عليه نفسه وتعودته من القبول والاستحسان
لكل ما يصدر عن هذين الشاعرين.
ويمكن من هذا كله أن نستخرج معنى الحظ والسعد والإقبال الذي يناله الإنسان في
دنياه إن صادف عمله في النفوس صحيفة الاستحسان بين الناس، ومعنى النحس والتعس
والإدبار إن صادف ما يأتيه عندهم لوح الاستقباح، والشاعر يقول:
إذا أقبل الإنسان في الدهر صُدِّقت
أحاديثه عن نفسه وهو كاذبُ
فما بالك بأحاديث الرواة عنه وحسن القالة فيه، وقد عهدنا الغربيين عمومًا وهؤلاء
الفرنسيين خصوصًا لا نتصفح لهم كتابًا ولا نسمع منهم حديثًا إلا بتمجيد مدنيتهم،
ومباهاة الناس طُرًّا بنظام معيشتهم، وأنهم هم أرباب الخلق وسادة البشر، وأن الهدى
هداهم، والضلال فيمن عَدَاهم، وأنه أُوحيَ إليهم من سماء مدنيتهم أن يُخرجوا الناس
من الظلمات إلى النور، فإما الإيمان بها وإما الحسام، وقد ذاعت فينا دعوتهم،
وأعانهم منا على نشرها من أعانهم، فقبلنا مبالغاتهم بالتصديق والتسليم من غير بحث
ولا نظر، وصرفنا كل ما يأتونه إلى وجوه الحكمة والصواب، وبسطنا لهم صحيفة الاستحسان
من النفس يرتسم فيها كل ما يتخيلونه لنا ويموهون به علينا.
فالرأي لنا حينئذ أن نطرح عنا ما قالوا وما وصفوا، وننظر اليوم إلى الأمور في
حقائقها، ونحكم عليها بحسب قيمتها في ذاتها لا على حسب ما رسمه الوهم، وسوَّله
الخيال في نفوسنا، ومعنا الباشا يمتاز علينا والحمد لله بأنه كان بعيدًا عن هذا
العالم محتجبًا عن هذه الدنيا الدهر الطويل، فبقي خالي الذهن مما شحن رءوسنا من هذه
المدنية، فحكمُهُ اليوم على ما يشاهده بالعيان دون الخبر والرواية، يكون أصح حكم
ونظره أصدق نظر، وما علينا إلا أن نشاركه في صحة النظر مجرَّدين عن الهوى حتى نقف
على كنه الحق والباطل في نظام هذه المدنية وقوفًا تامًّا.
عيسى بن هشام
:
لك الله فيما تُبدئ وتعيد! كأنك تريد أن نخالف الإجماع، ونقابل الناس بغير ما
أَلِفُوهُ فننتقد لهم ما هو خالٍ عندهم من كل انتقاد بعيدٌ من الذامِّ والعار
فيرمونا بغلظة الطبع وجفاء الفهم وسخف الرأي! ولا يفوتنك أن كثيرًا من ذوي الرأي
يرون أنه ليس من أدب الدنيا أن كل حقيقة تُقال وكل صحيح يُروى.
أوليس من صواب الرأي حينئذٍ أن نسير على أسلوب الذين سبقونا إلى زيارة هذه
البلاد، فنرجع على أهل الشرق باللَّائمة عليهم في انخفاضهم وارتفاع أهل الغرب
فوقهم، وأن نَصِفَ ما القوم فيه من القوة والمَنَعة ومظاهر العز والعظمة في النعيم
المقيم، وأننا لا نزال راقدين رقادنا الطويل في كهوف التراخي والخمول، يقولون فنسمع
ويأمرون فنصدع، ويقتسمون أرزاقنا فنشكر، وينقصون من أرضنا فنحمد، ويحتلون ديارنا
فنقبل؟ أفلا أقلَّ من أن نسهب في بيان الأسباب التي ارتقت بهم إلى مرتبتهم في
الوجود، ونطنب في شرح القواعد والأصول التي أسسوا عليها بنيانهم لنحذو حذوهم ونعمل
على شاكلتهم؟ أوَليس الأليق بنا أن نحض قومنا لينفضوا عنهم غبار الكسل، ويخلعوا
عنهم لباس الخمول، ويهبُّوا إلى تقليد هؤلاء المجتهدين في أنواع الكمالات؟ أوَلَست
ترى من أفضل الأبواب في الحث والتحريض أن نفخم ما استطعنا في وصف هذه المدنية،
ونعظمها في أعينهم ونكبرها في صدرهم، ونبكتهم بأحاديثها ونرفع من قدرها بقدر ما نحط
من قدرنا، ونعيرهم بالمقارنة ليكون الحث والتحريض على المباراة أشدّ، والإثارة إلى
اللحاق بهم أبلغ؟ ولو سكت الأستاذ عن تلميذه ولم يعيره بسبق غيره عليه، أكنت تراه
يجد في الأخذ ويجتهد في التحصيل؟
الصديق
:
لا يعزب عن فطنتك بادئ الأمر أن جل هؤلاء الذين تحكي عن طريقتهم ممن زار هذه
البلاد من أقوامنا، وعادوا إلى بلادهم فحدّثوا عنها وكتبوا وقرروا وحكموا، ينقسمون
إلى أقسام:
-
القسم الأول منهم: الطلبة الذين تلقوا في هذه البلاد دروسهم، وهؤلاء لما هم فيه من
غُلوَاء الشباب والافتتان بكل رائع يغلب عليهم الأخذ بالظواهر، ولا
متسع ثمَّت عندهم للبحث والفحص ودقة التمييز فيما هو داخل تحت حكم
الفضيلة وداخلٌ تحت حكم الرذيلة عند النظر في معيشة أهل هذه المدنية
الغربية، بل هي تتجلى لهم في صورة معظمة فيأخذونها على الجملة زاهية
زاهرة حتى إذا انقلبوا إلى أهليهم رووا لنا عنها مثل حديث المغرم عن
معشوقه في أوقات نشوته، وكان همهم أن يظهر عليهم أثر من آثار تلك
المدنية العظيمة مما تخف مؤونته وتهون تكاليفه؛ ليلحقوا بأنفسهم شيئًا
من تلك العظمة التي بهرت خيالهم، وبهروا بها أعين الناس، ولسنا من أهل
هذه الطبقة.
-
والقسم الثاني: جماعة منا قصدوا هذه البلاد للنزهة والاسترواح لا سواهما، فهم لا
ينظرون إلى هذه المدنية إلَّا من وجه تطبيق العيان على الخبر، ومن بحث
منهم فانكشف له فيها عيب، كره تغيير الرأي ومخالفة المعهود لما فيه من
المشقة والكلفة، ثم أضف إلى ذلك ما يكون للاختصاص بمشاهدة المحاسن دون
المعايب والتبسط في الحكاية عنه من الفضل عن السامعين والمستخبرين،
ولسنا من هذا الصنف.
-
والقسم الثالث: طائفة من أرباب الوظائف في الحكومة يفرون إلى هذه البلاد من أسر
الخدمة مسافة الشهر أو الشهرين فرار الأسير من القد، ومنهم من تَلَقَّى
دروسه فيها، وحكمه حكم الذين ذكرناهم في القسم الأول، وفيهم من لم
يتعلم في أوروبا فهم يسيرون على نهج المباراة للمتعلمين فيها سائرين
على نمطهم؛ ليلتحقوا بهم ويحشروا في زمرتهم ويرتفع عنهم بعض امتيازهم
عليهم، وحكمهم حكم واحد أيضًا، على أنهم ليس عندهم جميعًا من سعة الوقت
ما يفسح لهم مجال البحث والتدقيق فيما يرونه، فإن كل موظف منهم لا ينفك
مدة زيارته مشتغل الفكر، مقسم النظر، بين أمرين: عين تنظر إلى ما بقي
في صحيفة إجازته من الأيام، وعين ترمق ما بقي في كيسه من الدراهم،
ولسنا من هذه الرتبة أيضًا.
وجميع هذه الأقسام كما تراهم مولعون بالمبالغة في الوصف والغلو في القول، ولا غرو
فالناس لا يرون لهم فضلًا في الرواية والنقل ما لم يضيفوا إليهما الكثير المفترَى
من عندهم، ولحكاية الغريب ورواية العجيب لذة في نفس الراوي وحلاوة في أذن السامع،
على هذا دَرَج الخلق منذ خلق الله آدم إلى اليوم، ومنذ جرت أساطير الأولين عن الجن
والعفاريت والأغوال والسعالي إلى قصة «ألف ليلة وليلة» و«سيرة عنترة» و«خريدة
العجائب»، وهناك قسم رابع ربما فحص ودقق ووقف وعلم، ولكن له هوى خاصًّا به يمنعه من
كشف الحقائق، ويدفعه إلى المبالغة على القصد والغلوِّ على العمد فلا يروي ما يرويه
عن هذه المدنية إلا بالتشييد والتمجيد باطلًا كان أم حقًّا؛ لينصر مذهبًا له
معيَّنًا وغرضًا مضمرًا، فيدأب بيننا كالأجير للأجنبي يرفع لنا من شأن مدنيته وقوة
حضارته؛ ليرتفع معه بارتفاعه، ويتسلط علينا بسلطانه وينتفع منه بتمكين جاهه فينا
وقدرته علينا، وفي هذا القسم من يرى أن في استيلاء المدنية الغربية على الشرق
وتغييرها لقديم عاداته وأخلاقه انتصارًا لمذهب بعينه، فهم في إشادتهم بأمرها
وتشيُّعهم لها وتبشيرهم بها كالمتشيعين لمذهب والمبشرين بدين.
فقد تبين لك إذن أننا لسنا بمعدودين في قسم من هذه الأقسام، وقد خرجنا من ديارنا
واصطحبنا في سفرنا على شريطة الفحص والتنقيب والاعتراض والانتقاد، وأن نتحدث عن هذه
المدنية بما فيها من ضارٍّ ونافع ومُعوج ومستقيم على المشاهدة في منبت أرضها وتربة
نشأتها، وأنا رجل أميل إلى أن كل حقيقة تقال وكل صحيح يُروى، فدعنا حينئذ من الغلو
والإغراق واتركنا من التخيل في النعت وتعمُّل الشعر في الوصف، وخد بنا فيما عهدناه
على أنفسنا، وقد آن أن نسأل الباشا، وهو ينظر إلى الأمور بنظر صادق مجرد عن الهوى،
عما وقع عليه من التأثير في نظرته الأولى عن هذا العالم الحديث عنده، وعن جملة ما
حصل منه في نفسه.
الباشا
:
ما أراني أميِّز شيئًا فيما رأيته من هذا الخلق المزدحم، وهذه الحركة المشابهة
لحركة الأسواق في هذا الدَّويِّ المماثل لدوي الخلايا، وهذه الأضواء التي يتأذى
منها البصر، وجملة ما أنا فيه الدهشة والحيرة، ولعل هذا هو الذي يمنعني من التمييز،
وكنت أود أن يقع اختيارنا على ناحية ساكنة من المدينة خالية من مثل هذا الزحام حتى
نألف الديار وساكنيها.
عيسى بن هشام
:
ليس ما توده من هذا القبيل بميسور؛ لأن الزحام منتشر في جميع أرجاء المدينة، وهذه
الحركة لا تنتهي الليل والنهار، ولا جَرَمَ فإن عدد سكانها يقدَّر ببضعة ملايين،
ولك أن تقول فيها: إنها جملة بلاد متجمعة متشابكة يعدُّونها مدينة واحدة.
الصديق
:
وفي هذا من عظمة الملك ما لا يخفى على أحد!
الباشا
:
إن كان الأمر كذلك فلا بد لنا من مرشد يرشدنا وهادٍ يهدينا، فنقف منه على ما يخفى
علينا فيها، وما يغمض من حقائق الأمور.
الصديق
:
ما إخالك واجدًا لطلبتك، فقل أن تجد في أهلها من لا يسلك السبيل المعروف في تشييد
مجد قومه، ونشر مفاخرهم بما نحن في غنًى عنه، ولسنا نستفيد منه إلا كثرة اللغو وقلة
المحصول.
قال عيسى بن هشام: وجاء وقت الطعام، فقمنا إلى المطعم، ولما أخذنا مقاعدنا على المائدة
تبصَّرنا أمامنا ثلاثة أشخاص من أهل المدينة يتجادلون بينهم، فأنصتنا إليهم نتلقف من
أفواههم ما يخوضون فيه؛ أحدهم: شاب ضئيل الجسم، حسن الشَّارة محلوق اللحية والشارب، ظاهر
التكلف في زيه، ينم شكله وحديثه على أنه أديب من كُتاب العصر. وثانيهم: رجل بدين، منتفخ
البطن، أحمر اللون، ينبئك وجهه وقوله أنه من طائفة التجار. وثالثهم: شيخ جميل المنظر
في
وقار السن ورزانة العلم، ما يشك رائيه والسامع له في أنه رجل من أهل الفلسفة والحكمة.
ولذَّ
لنا أن نجعل التفرغ لاستماع كلامهم سمر المائدة، فوجدناهم ينتقلون فيه من باب إلى باب
ومن
شأن إلى شأن، حتى انتهى القول بهم في الأحوال الحاضرة إلى حرب الصين، فسمعنا «الكاتب»
يقول
وهو يضرب المائدة بيديه والأرض برجليه:
الكاتب
:
لقد آن للمدنية أن تزيل الهمجية وتمحو الوحشية من الوجود، وأن نقوم بنشر الرسالة
التي سخرنا أنفسنا لتبليغها إلى الناس، فتصلح من شأن الإنسان في أي مكان كان، وتغرس
فيه أصول المدنية، ونأخذه بتعاليمها لنصل بالعالم الإنساني إلى الراحة الدائمة
والسعادة المطلقة في هذه الحياة، وإلا فما مزية جهادنا في فنون الترقي والتقدم
والتسابق في العلوم والفنون؟ وما فائدة هذا الاختراع والابتداع في أبواب الصناعات
والآلات؟ فإن كان المقصود من المدنية أن نتقن هذه الآلات الحربية، ونعدّ هذه القوى
العسكرية ليقتل بها بعضنا بعضًا ونخرّب بيوتنا بأيدينا، فبئست العلوم والفنون، وبئس
ما سخرنا له أنفسنا وأضعنا فيه أعمارنا؛ إذ تنقلب الغاية من تهذيب المدنية إلى
فظاعة الوحشية.
ولقد كان الواجب على دول الغرب وأممه أن يتحد بعضها ببعض فتنصرف بكليتها، وتندفع
بجميع قواها التي شيدتها لها أفكار العلماء وذوي المعارف منا إلى تهذيب بقية أهل
هذا العالم المقيمين على الجهالة إلى اليوم؛ لتنتزعها من حضيض الهمجية إلى مقام
الرفعة الإنسانية، فيحق لكل واحد منا بعد ذلك أن يفتخر على الطبيعة بأنه أصلح
فسادها وسد نقصانها.
التاجر
:
نعم هكذا يجب أن تكون سيرتنا، وإلَّا فكيف يتسنى لنا تصريف بضاعتنا وترويج
صناعتنا التي تقوم عليها معايشنا وتضيق بها أرضنا إذا اجترأ أهل الصين على أن
يقوموا في وجوهنا ويعطلوا مصالحنا؟ وكيف نجهد أفهامنا في العلوم ونشقى ونتعب، وفي
العالم أقوام نيام على أرض من الذهب كالأرصاد فوق الكنوز لا ينتفعون بها، ولا
يتركون الانتفاع بخيرات الطبيعة وطيباتها للذين استحقوها بكشف أسرارها ورفع
أستارها؟
الحكيم
:
إن كان الكلام بينكما عن المدنية الصحيحة التي تقوم على الحرية والمساواة والإخاء
حقيقة، وتعم الخلق من غير استثناء بالعدل والإحسان، وتوفر لهم أسباب السلم والأمن
في السعة والرخاء؛ فلسنا منها في شيء إن كنا نظنها مقصورة على إتقان الآلات وحشد
الجنود والتفنن في تشييد قوى الحرب، وإنفاق ثروة الأمة في سبيل ذلك حتى تضيق بنا
الأرزاق في أرضنا، فنعمل على طلبها في أنحاء المسكونة، ونُسلط على أهلها هذه القوى
الحربية، ولسنا من المدنية في شيء أيضًا إذا كنا نعتبر أنفسنا ملائكة الأرض وصفوة
البشر وأرباب الخلق فنحتقر بقية العالم، ولا نرضى منهم إلا بتغيير أخلاقهم ونسخ
عاداتهم، وأن يفوضوا إلينا أمورهم، ويسلموا إلينا مقاليدهم ونكون فوقهم كالأوصياء،
نصرفهم إلى ما نحب ونسوقهم إلى ما نهوى، وليست المدنية أن نذهب إلى الصيني في أقصى
الأرض، وهو آمن مطمئن بين أهله وولده في عيش يرتضيه ونظام يألفه فنقول له: قُم فقد
جئناك بالهدى والحق، فهلم فكسِّر أصنامك واهدم مناسكك واحرق كتابك وغير ثيابك وبدل
طعامك وارفع حجابك، وكُن أوروبيًّا في الصين القديم، وغربيًّا في الشرق الأقصى،
فإذا قال لنا: لست أفقه شيئًا مما تدعونني إليه، ولا أدري ما هذا الدين الذي
تبلغونني رسالته، قلنا له: ليس هذا بدين ولا بمذهب، وإنما هو دعوة المدنية الغربية
ندعوك إليها لتقرها وتتلبس بها، فيقول لنا: إن كانت لكم مدنية غربية فلنا مدنية
شرقية أسَّستها فينا تجارب القرون المتراكمة، وبقيت فينا نقيَّةً خالصة هذبتها
الدهور وأخلصتها يد الزمان، وليس يبقى على الزمن من الأخلاق والعادات إلا ما كان له
أصل ثابت وجوهر نقي، وأنتم إن كنتم تؤرخون وجودكم في العالم بسبعة آلاف من السنين
فنحن نؤرخ وجودنا بمئات الألوف، وإن كانت مدنيتكم بنت قرن أو اثنين فإن مدنيتنا بنت
عشرات القرون اصطلحنا عليها وألفناها، وطاب لنا العيش بها طول هاتيك الدهور، ومن
دلائل المدنية الصحيحة أن تعيش فيها بأمن وسلام، لا يطمع أحد فيما ليس له ولا يغير
على حق لغيره، وقد علمتم أننا عشنا دهرنا الطويل لم نطمع في أرضكم ولم نُثر حربًا
لفتح، ومن دلائلها أنها لا تنتهي بأصحابها إلى مفاسد الترف والنعيم فتضعف الأجسام
ويقل النسل، وقد علمتم أن بلادنا هي أكثر البقاع سكانًا وأعظمها عمرانًا، فنقول له:
ما أضلَّ أحلامكم يا معشر الصينيين! ألم تعلموا بأن مدنيتنا هي مدنية العالم كله لا
سواها؛ قامت على العلوم والمعارف، واستوت على أساس متين كان ينشده الخلق منذ القدم،
فما زالوا يتخبطون دون الوصول إليها حتى سمحت الطبيعة آخر الدهر، فأنجبتنا لها
فأخرجناها للناس هدى ورحمة، وعهدنا على أنفسنا دعوة الخلق إليها ليسعدوا بها مدى
الحياة؟ بهذا وصانا أئمة المدنية فينا ورجال الدعوة منا. إن كانت هذه هي المدنية
التي نفاخر بها ونساجل، فلا بدع أن يعتقد أهل الشرق أنها ليست إلا وسيلة من وسائل
الفتوحات لنيل المطامع وبلوغ المآرب.
قال عيسى بن هشام: وتأتي غادة هيفاء تتثنى بقوامها وتتكسر في مشيئتها، فتخاطب «الكاتب»
بالعتاب؛ لأنه أهملها في الانتظار وجلس للكلام والجدال، وتسوقه أمامها بعصا المظلة، ويتبعها
التاجر، ويبقى الحكيم يرمي ثلاثتهم بالنظر الشرر، وينعي عليهم سوء رأيهم وفساد
نظرهم.
ويلتفت إليَّ «الصديق» فيقول لي: ما أغرب ما نرى من هذا الشيخ الفرنسي فما أصلبه في
قول
الحق، وما أجرأه على الجهر بالصدق، وما أولانا بمعاشرة مثله نستبصر به ونسترشد! فأرفع
ببصري
إلى الشيخ، فإذا هو يرمي بنظره إلينا، ويستمع لحديثنا بالعربية ويظهر نحونا البشر، فقابلته
بابتسامة أخطب بها ودهُ، فبادرنا بالحديث واتصل بيننا حبل الكلام، فسألنا عن أمرنا، وسألناه
عن أمره، فتبين لنا أنه رجل من أساتذة الفلسفة والحكمة ومن المستشرقين الذين يشتغلون
بالشرق
وأهله، وكشفنا له حقيقة أمرنا والغرض الذي رمينا إليه، فاتفق معنا على المخالطة والمصاحبة
نحكي له عن الشرق ويحكي لنا عن الغرب، ودعانا لزيارة المعرض العام معه في الغد، فقابلناه
على ذلك بالشكر والحمد.