المعرض
قال عيسى بن هشام: وانطلقنا نقصد عكاظ الممالك والأمم، وسوق الأقدار والهمم، ومشهد
النفائس والعظائم، ومظهر القُوَى والعزائم، وحلبة الابتكار والابتداع، وميدان الإنشاء
والاختراع، ومعروض التبصر والاهتداء، في حسن التقليد والاقتداء، ولهذا المعرض خمسون بابًا،
تختلف ابتعادًا واقترابًا، فبلغناه من ناحية الباب المعظم، والمَدخل المقدَّم، فإذا الباب
قبة تقوم على ثلاث قوائم، تلامس بعلوها الغمائم، كأنها اليفاع
١ في الاتساع والارتفاع، ينحدر من تحتها الجيش المتراكب، فلا تتماس فيه المناكب،
وعلى كلا الجانبين سارية
٢ تقارن السحب غادية وسارية يدور في رأس كل واحدة منهما نبراس وأي نبراس، إذا
اشتعل جعل فحمة الليل قبسًا من الأقباس، فكلتاهما علم في رأسه نار، يستوي عندهما الليل
والنهار، ومن لصخر الخنساء أن يأتم بهما في ظلمة البيداء، وهو المؤتم به في أبيات
الرثاء:
وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداة به
كأنه علمٌ في رأسه نار
فهما عمودا فجر، لا عمودا صخر، يكتنفان تمثال غانية غيداء، قائمة على رأس تلك القبة
الشماء، رشيقة القد، بارزة النهد، ممكورة لفَّاء
٣ مجدولة عجزاء، قد خلعت الإزار والوشاح، وتبدت في «قميص الصباح»، وهي تضمُّه
بيديها إلى صدرها، خشية أن يحاول النسيم هتك سترها، إذا عارض وجهها القمر، علا وجهه الكدر،
ثم بان فيه الكلف والنمش، فاحتجب بالغمام وانكمش، وغارت منها الزُّهرة، غيرة الضرة من
الضرة، فغارت في الدجون، وغابت عن العيون، لو قام نابغة بني ذُبيان من قبره، لشهد أنها
الدُّمية التي وصف بها المتجردة في شعره:
أو دُميةٌ من مرمر مرفوعةٌ
بُنِيَتْ بآجُرٍّ يشاد وقَرْمَدِ
٤
أو درَّةٌ صدفية غوَّاصها
بَهِجٌ متى يَرَها يُهِلَّ ويسجد
لو أنها عَرَضَت لأشمط
٥ راهبٍ
عبد الإله صرورةٍ مُتعبِّد
٦
لَرَنَا لرؤيتها وحسن قوامها
ولخاله رَشدًا وإن لم يرشد
فقد أقامها الصناع آية الفن في التصوير والتشكيل، وشاردة الشوارد في الرسم والتمثيل،
يُخيِّلون بها «فرنسا» في ترحيبها بالزائرين والقاصدين، تحيتها للواردين على المعرض
والوافدين، والباب كله مرصع بحقاق من البِلُّور،
٧ إذا تلألأ فيها شعاع النور، خلتها أنوار الأزهار في أغصانها، أو أذيال الطواويس
في اختلاف ألوانها، بل قلائدَ منظومةً من در وجوهر، وعقودَ ياقوت من أحمر وأزرق وأصفر،
لا
بل فصوصًا منضَّدة من الماس، يتراءى فيها طيف الشمس بالانعكاس.
ولما تجاوزنا الباب انتهينا إلى سهل رحيب، ووادٍ عشيب، نبتت أرضه بالقصور المنيفة،
كما
ينبت الروض بالأغصان الوريفة، تضل فيه الحُداة، وتحار الهُداة، ولا بدع فالمدينة في اتساعها
قطر من الأقطار، وهذا المعرض في سُرَّتها مصرٌ من الأمصار، وما زلنا سائرين على أرض تزهو
فيها أغراس الجنان والبساتين، وأزهار الأغصان والرياحين، يتخللها من الدُّمى والتماثيل،
ما
يعرب عن الدقيق من المعاني والجليل، فتكاد تبادرك بالخطاب، أو ترد رجع الجواب، ولما امتلأت
العين من هذه المحاسن الشائعة، وجن اللب من هاتيك المناظر الرائعة، التفت إلى أصحابي
أتلمس
ما يجري في خواطرهم، وأتحسس ما يدور في ضمائرهم، فرأيت الباشا يتأمل ويحدق، ويمعن ثم
يطرق،
وإذا هو يقول في همسِه، وحديثه لنفسه: لله أبوهم ما أبعد شأوهم في التشييد، وأجلّ شأنهم
في
الإنشاء والتجديد، وما أسبقهم في الجد والاجتهاد، إلى التوسع وحب الازدياد، وما أشغلهم
بما
يكفي الإنسان أقله وأدونه، ويكفل راحته أصغره وأهونه، ولو تيقن ابن آدم أن القبر غايته،
لم
تخفق على القصور رايته، ولكان همه بحفر القبر أعظم من همه بتشييد القصر، فمقامه هناك
طويل،
وبقاؤه هنا قليل، ولو علم أن هذه الأحجار المذهَّبة في الشرفات العالية لا تلبث أن تنتقل
صفائح في القبور البالية، لم يعمل عمل المخلدين، وهو بين أظفار المنايا رهين.
تبني المنازل أعمارٌ مهدَّمة
من الزمان بأنفاسٍ وساعاتٍ
ووجدت «الصديق» في هذا الموقف على حال لا تتغيَّر، وهيئة لا تتأثر، ينظر إلى ما نستعظمه
نظرة الفلاح إلى قريته، والبدوي إلى دمنته، لا يعجبه شيء ولا يزدهيه، مما تحار أحلام
الورى
فيه.
لا مُعَنّى بكل شيء ولا
كلُّ عجيب عنده بعجيب
إلا أنه مع ذلك غير هادئ البال، ولا ساكن البلبال، كأنما هو يغوص على معنى يدقُّ في
الفهم، ويبحث في أمر يجل عن الوهم، ويستجمع لديه حواشي التفكير، ويلم أشتات التذكير،
فاستخبرته عما يشغله، وسألته عما يذهله، فلم يُسعف بالجواب ولم يسعد غير أني سمعته يترنم
وينشد:
ما أقلَّ اعتبارنا بالزمان
وأشدَّ اغترارنا بالأماني!
وقفاتٌ على غرور وإقدا
م على مزلق من الحدثان
التفاتًا إلى القرون الخوالي
هل ترى اليوم غير قرن فان؟
أين ربُّ السدير فالحيرة البيـ
ـضاء أم أين صاحب الإيوان؟
٨
والسيوف الحدادُ من آل بدرٍ
والقنا الصم من بني الريَّان
يكرعون العقار في فلق الإبـ
ريز كرع الظِّماء في الغدران
٩
تتراءاهم الوفود بعيدًا
ضاربين الصدور للأذقان
في رياض من السماح حوالٍ
وجبال من الحلوم رزان
وهم الماء لذَّ للعطشا
ن بردًا والنارُ للحيران
ما ثنت عنهم المنون يدٌ شو
كاء أطرافها من المُرَّان
١١
عطف الدهر فرعهم فرآه
بَعد بُعد الذُّرا قريب المجاني
وثنتهم بعد الجماح المنايا
في عنان التسليم والإذعان
ليس يبقى على الزمان جريءٌ
في إباء أو عاجزٌ في هوان
ورأيت الشيخ «الحكيم» يهز كتفيه، وينظر في عطفيه، ويقول في التفاته إلينا، وانعطافه
علينا: ما أشبه الأواخر بالأوائل، في التفاخر بالباطل الزائل! لا يظن ظان أن كل ما يراه
من
هذا المشهد الفخم، ويستعظمه من البناء الضخم، بما أُنفق عليه من الأموال الطائلة، وما
اقتضاه من المشاق الهائلة، سيدوم السنين والأعوام على الدهر، وإنما يعد بقاؤه باليوم
والشهر، وليس يمكث من كل هذا البناء والعمران، إلا هذان القصران، وأشار بيده إلى قصرين
متقابلين كأنهما في ارتفاعهما ذرْوَتَا جبلين، وهنا أخذ الباشا يستفهم منه ويَستعلم وأنا
أنقل له وأُترجم:
الباشا
:
وما مقدار الأموال التي أنفقت في تشييد هذا المعرض؟
الحكيم
:
اشتركت الحكومة في الإنفاق عليه بعشرين مليونًا من الفرنكات، وبلدية باريس بعشرين
مليونًا، وتألفت جمعية اشتركت فيه بستين مليونًا؛ أصدرت بها خمسة وستين مليونًا من
التذاكر لأيدي الناس تحت ضمانة البنك العقاري.
الباشا
:
وما الغرض منه؟
الحكيم
:
الأصل فيه الكسب والربح، والغرض منه عرض الأعمال والصناعات بما يظهر مقدار
المسافة التي تقطعها الأمة من حين لآخر في باب الإجادة والإتقان؛ ليتضاعف الجد
والاجتهاد وتتسابق الهمم في أسباب التقدم والارتقاء في مدارج المدنية.
الباشا
:
وهل تظنه يأتي بربح عظيم؟
الحكيم
:
كان أمل الربح منه عظيمًا، ولكن خاب الظن فيه؛ فإن الشركة قدرت عدد الزائرين
والمترددين عليه بخمسة وستين مليونًا في مدة وجوده وهي مائتان وأربعة أيام، ولكن لم
يتردد عليه إلى الآن سوى عشرة ملايين وقد مضى من المدة نصفها، وقد بلغ عدد الشركات
التي اشتهر إفلاسها فيه سبعين شركة إلى اليوم، وآخر شركة شاهدت إفلاسها أمس شركة
«شارع القاهرة» ورأيتهم يبيعون «معروضاتها» وأثاثها بحكم المحكمة في ناحية من نواحي
المعرض كانت الشركة أقامت لها فيه مكانًا فسيحًا، جمعت فيه ما يكون في شوارع
مدينتكم من لعب القرود، والتواء الثعابين، ورقص الزنوج، وتسريح الجمال، وسوق
الحمير، فرأيت الجمال وهي ثلاثة تباع بمائتين وخمسين فرنكًا، وبيع الحمار من
الأربعين حمارًا بتسعة عشر فرنكًا، وكان من ينظر إلى هذه الدواب وهي تعرض للبيع
بهذه الأثمان في غير بلادها يتخيل من أعينها كأنها تندب نحس طالعهما وبخس قيمتها في
غربتها، ولا تسل عن سوء الحال التي كان عليها النساء والرجال المصاحبون لهذه
الحيوانات، وقد تداركهم «مأمور التفليسة» فخصص لهم مقدارًا من الدراهم يُنفق عليهم
لإعادتهم إلى وطنهم، وعلى الجملة فالخسارة في هذا المعرض عظيمة، وأرى أنهم أخطأوا
كل الخطأ بالتوسع فيه وتكبير ساحته حتى لا تكاد تدرك الدورة الواحدة فيه إلا بقطع
مسافة لا تقل عن عشرة كيلومترات، فوزعوه وشتتوه مع قلة الزائرين والواردين، ولو
أنهم اختصروا فيه لكان خيرًا لهم.
الصديق
:
أهذه الشركة التي تذكرها في كلامك هي «شركة المعرض المصري» الذي سمعنا به؟
الحكيم
:
لا ولكنها شركة أخرى فرنسية، وليس من الضروري أن يكون أصحاب الشركة من أبناء
مصر.
الباشا
:
ولماذا لم تقدروا في هذا المعرض حسابكم بما لكم في مختلف الأمور من الدقة وصحة
النظر؟
الحكيم
:
كانوا يحسبون أن أمم العالم ستهرع إليه من كل فج، وكانوا يعتقدون أن أكثر ملوكها
يغدون على المعرض، فينفقون فيه خزائن أموالهم ودفائن كنوزهم؛ فلم يحضره إلا ملك
السويد من ملوك الغرب، ولم يزره إلا شاه العجم من ملوك الشرق، وكانوا قد دعوا إليه
ستًّا وخمسين مملكة للاشتراك فيه فلم يجبهم سوى ثلاثين منها.
قال عيسى بن هشام: وكنا وصلنا في هذه الأثناء إلى باب أحد القصرين المشار إليهما بالبنان
المعدودين لعرض ما يسمونه بالفنون الجميلة، وهو المعروف بالقصر الصغير، فعوَّلنا على
البدء
بزيارته فدخلنا فإذا هو ببنائه وتشييده وزينته وزخرفه ونقشه ورسمه يفوق كثيرًا من قصور
الملوك والقياصرة، وناهيك أنهم أنفقوا في إقامته اثني عشر مليونًا من الفرنكات، وقد عرضوا
فيه نفائس المصنوعات مما حُفِظ عن الأوائل منذ العصر الروماني إلى القرن الثامن عشر؛
من
قطعة المعدن المضروبة إلى نقوش أبواب الكنائس، ومن أواني الفخار إلى الحلي والجواهر،
ومن
النعل المطرزة إلى التاج المرصع، وهنا يعجز القلم عن الوصف والنعت، والإحاطة بمثل هذه
النفائس لا تأتي من طريق الخبر والنقل بل من جهة المشاهدة والعيان، ولا يمكن أن يتجلى
أثرها
في نفس القارئ مثل أثرها في نفس الرائي، ولما فرغنا من دورتنا الأولى في القصر استوقف
الصديق الباشا يسأله عما شاهد من التحف، ورأى من الطُّرف:
الباشا
:
ما أرى إلا كثيرًا مما كان يوجد عندنا بعضه في الأسواق القديمة وبعضه في البيوت
العظيمة.
الحكيم
:
اعلموا أن ما ترونه هنا هو أنفس الأشياء وأغلاها قيمة في العالم لا تتناول كنهها
الظنون، مثال ذلك أن هذه الساعة التي بجانبنا، ولم تلتفتوا إليها في وقوفكم عندها،
قد رغب في شرائها بعض الأغنياء فساومها بثلاثة ملايين فرنك، فلم يسمح صاحبها بالبيع
لقلة الثمن، وما هي إلا كرة محمولة على أيدي ثلاثة هياكل من الرخام، ولكن دقة
الصنعة وقدم العهد أورثاها هذه القيمة العجيبة في الثمن.
الصديق
:
حقًّا إن التحفظ على التحف القديمة والآثار العتيقة حسنة من حسنات أهل الغرب
يُغبطون عليها، فإن النظر إليها يورث إحساسًا جليلًا في النفس، وذكرًا جميلًا بمجد
الأمم الغابرة ودرسًا مفيدًا في التاريخ، كما أن في ذلك من حفظ السلسلة في الصناعات
ما يفيد الفكر، ويساعد على الترقي في العمل، وقد أهمل أهل الشرق هذا الباب إهمالًا
لا يغتفر لهم حتى اندثرت المآثر واندرست، ولم نعُد نعلم من كيفيات المعايش عند
المتقدمين إلا الأسماء التي غابت عنا مسمياتها، وقل لي بالله: أي شيء يكون اليوم
أجمل في العين نظرًا وأجل في القلب وقعًا لو حفظنا ما ضيعه التفريط مثلًا من «درَّة
عمر» و«صمصامة معدي كرب» و«قميص عثمان» و«درع عليٍّ» و«تاج الرشيد» و«راية المعز»؟
ولكنني أرى مع ذلك أن الغربيين تجاوزوا الحد، وتغالوا في هذا الباب غُلوًّا كبيرًا،
وذهب بهم حب التنافس في اقتناء العتيق مذهبًا يلامون عليه لحبسهم الأموال الطائلة
على أثمان هذه المقتنيات التي لولاها لكانت من قسمة الأرزاق بين العباد، وكم في هذا
العالم المتمدين من الألوف الذين لا يجد أحدهم فرنكًا واحدًا لقوت يومه، بينا نرى
أحد المولعين بالمقتنيات يعرض ثلاثة ملايين لاقتناء مثل هذه القطعة من
الرخام.
الحكيم
:
نعم لك الحق فيما تعتب به علينا من هذه المغالاة لمجرد التباهي والتفاخر، مع
حرمان الناس من أرزاقهم، ولكن ليس عندنا من الوقت الآن ما يكفينا لبسط القول في
نصرة المذهب الاشتراكي.
قال عيسى بن هشام: وأدركنا التعب والكلال، وإن لم يكن يدركنا السأم والمَلال، واحتاج
الجسم إلى الراحة والسكون، فغادرنا القصر وفي النفس منه بلابلُ وشجون.