القصر الكبير
قال عيسى بن هشام: وزرنا القصر الكبير، بعد القصر الصغير، أعني الآية الكبرى، بعد
المعجزة
الصغرى، ناطقةً بما لا يُتصور من جمال الوضع، وحسن الصنع، فيما احتواه هذان البناءان
من
الكنوز التي لم تجتمع لأحد من قبل، ولم يظفر بمثلها ملك في الدهر، ولا قيل ما كنوز قارون
عندها إلا من الترب والحصى، ولا قُرط «مارية» إلا من الخرز أو النوى، وما طوق «عمرو»
إلَّا
طوق أسر، وما أسلاب الإسكندر لديها إلا من أطمار «المجاذيب» و«الأولياء»، ولا وشيُ «دَارَا»
إلا من فراء «العرفاء» والفقهاء، وما أقلام البلغاء إلا مغازل النساء، إذا هي حاولت في
وصفها تسطيرًا، ورامت لنعتها تحبيرًا.
وماذا تقول في خزائن المسكونة تسكن في دارين، وأفلاذ البسيطة مبسوطة بين جدارين، لو
توزَّع بعض ما اخْتَزَناه على الخلق، لم يكد أحد بعدها في طلب الرزق، ولم يشكُ شاك من
عيش
الحرمان، ولم يبك باكٍ من بؤس الزمان، ولأصبح المحروم بين الورى غنيًّا، وغدا اسم الفقر
في
الدنيا خبرًا مطويًّا، ولتساوى الناس في الرتبة والقدر، ولم يسلكوا فيما بينهم سبل الختل
والغدر، نعم ولم يغر سالب على مسلوب، ولم يفتك غالب بمغلوب، ولم تُقتَرَف في العيش المآثم
والذنوب، ولم يبق للنفوس في الدنيا من مشتهًى ولا مطلوب، فالقصران قائمان يفخران على
الدهر،
لما ليس له به عهد من الثراء والوفر، وسرْنَا في أنحاء الغُرَف، نتأمل التحف والطرف،
ومن
أبدع ما اجتلاه النظر بين تلك الدرر والغُرر، معرض التماثيل والصُّوَر، فكم هناك من صور
براها الإتقان والإحكام، تمثل للعقول والأفهام، ما لا يمثله تأليف الكلام، وتشخِّص لك
حوادث
التاريخ ومناظره، كأنك كنت حاضرهُ وناظره، ويُوضح لك قلم الرسم والتصوير، ما يعجز عنه
قلم
الخط والتحرير، من مكنون الأهواء والأشجان بلفظ مبين من النقوش والألوان:
أراك المُنى فتمنَّيتَها
وصاغ لك الطيف حتى انبرى
فما شئت فيها من أثر يجلو صدأ الحس، ويرقق حواشي النفس، فتتولاك هزَّةُ الطرب لرؤيتها،
وتعتريك نفخة السحر من هيئتها، فتكاد تئن للفارس المقتول وتعطف على الواله المتبول، فتترحم
على قتيل الرمح والحسام كما تستغفر لشهيد الهوى والغرام، وتستبيك الفتاة الحسناء، والكاعب
العذراء، فتصبو إلى محبتها، وتطمع في مودتها، لولا عيون الرقباء من أهلها، وهم ضاربون
من
حولها.
وترى هناك صورة غادة باهرة الخلق، عريقة الحسن والعتق
١ يتألق على وجهها نور العفاف والصيانة، ويبدو على محيَّاها خصال الرزانة والرَّكانة
٢ مع قوة الشكيمة، وثبات العزيمة، قد وطئت تحت أقدامها غولًا من الأغوال، لها
مائة فم للنهش والاغتيال وطَعَنتها بالرمح في أحشائها فأوردتها مورد فنائها، وعلى رأس
الغادة فوج من ملائكة النصر، يتوجونها تاج العز والفخر، وتلك هي صورة «الفضيلة»، في
مصارعتها «للرذيلة»، وعن يمينها حُرَّة بارعة الجمال، بادية المهابة والجلال، ترمقها
بعين
المستبشر بظفر حزبه، والمغتبط بنيل سؤله وإربه، وتلك هي «الحكمة» التي لا تنال الفضيلة
إلا
بها، ولا تُدرك إلا بخالصها ولبابها، وعن شمالها حُرَّة أخرى يتلألأ في غرتها نور المعرفة
واليقين، وقوة الإدراك والتمكين، تحمل على كتفها طفلًا في سن الرضاع، وتمسكه في يده شبهَ
القلم أو اليراع، وهي تنظر إلى «الفضيلة» نظر التوقير والتعظيم، في موقف التبجيل والتكريم،
وتلك صورة «العلم» وفضله، وذلك الطفل صورة الإنسان في جهله.
وترى امرأة نصفًا وضعت على كل ثدي لها طفلًا ترضعه وتضمه، وكأنها تقبله وتشمه، ومن
حولها
أطفال عراة تجذبهم إلى حجرها، وتسترها بفضل إزارها، وعلى مُحيَّاها سمات الغبطة والارتياح،
وعلامات الرضا والانشراح، فيكاد يلوح فيها ما طوتْهُ يد الزمان، من براعة الحسن والافتتان،
وتلك صورة «الخير والإحسان».
ثم ترى صورة وليدة من حسان الولائد، وخريدة من أبهَى الخرائد، كأنها المهاة في المخائل،
والظبية في الشمائل، يطول شعرها فضل الإزار، ويريك الليل في وضح النهار.
بفرعٍ يُعيد الليل والصبحُ نيرٌ
ووجه يعيد الصبح والليل مظلم
تبدَّت في ملتف غابة أغصانها من العود والند، وأغراسها من البنفسج والورد، فالأرض
مفروشة
بمنثور الأزهار، والسقف معروشة من أغصان الأشجار.
فهي تختال في زبر جدة خضـ
ـراء تُغذَى بلؤلؤ منثور
وغدت كلّ ربوة تشتهي الرقـ
ـص بثوب من النبات قصير
وقد نثرت الشمس عليها مثل نثار العرائس، بدنانير تُعيي أيدي اللوامس، كما عَيِيَ المتنبي
بمثلها من قبلها، وهو يجتاز شعب بوَّان، ويصف فيه التفاف الأغصان:
فسرتُ وقد حجبن الحرّ عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقَى الشرق منها في ثيابي
دنانيرًا تفرُّ من البنان
والأطيار واقفة من حولها على هيئة التغريد، وترديد النشيد، كأنها تجاوب الفتاة في
سؤالها،
عن أوبة خلها، بأن لكل حمامة منا شوقًا ينازعها، إلى إلف يضيعها، فيشتد بالفتاة الولع
والهيام، وتشترك في الهديل مع الحمام، وتلك هي «الطبيعة» في جمال الفطرة، وجلال
القدرة.
وترى «هُومِيرُوس» آدم الشعر اليوناني وهو أعمى البصر، ملتفعًا بالوشي والحَبَر، تضيء
لحيته بنور المشيب، ويملأ العينَ بالمنظر المهيب، متربعًا على سرير المُلك، مُلْكِ الأشعار،
لا مُلكِ الأقطار، وسلطان الأوزان، لا سلطان البلدان، وشعراءُ الجن يكللونه بأكاليل
الانتصار، وشعراء الإنس بين يديه في موقف الإعظام والإكبار، من «هبرنون» و«إسكيل» و«هوراس»
و«فيرجيل»، وعن يمينه أبطال الشجعان وفرسان الزمان، ممن رَوَى الشعر أنباءهم وخلَّد النظم
أسماءهم، وهم على سمة الخضوع وهيئة الخشوع، من «أشيل» و«إسكندر»، و«إينيه» و«قيصر» وعند
رأسه كاعبان، كأنهما اللؤلؤ والمرجان، متفقتان في جمال الوجه والجسم، وإن اختلفتا في
الشكل
والرسم، هما الفنَّان اللذان ابتكرهما في الشعر، منذ شبيبة الدهر، والشعراء في وقوفهم
كأنهم
يتأدبون بأدبهما، وينعمون بقربهما، والقيان من حولهما صفوف، يضربن بالمزاهر والدفوف،
ويوقعن
النَّغم واللحن، على ذلك النظم والوزن.
ومن لنا بهذا الشاعر وأمثاله من الأولين الأقدمين، والسابقين المقدَّمين، يصورون بأشعارهم
ما بين أيدينا من صور هذه الألواح المهارق، فالتصوير شعر صامت والشعر تصوير ناطق.
ولما أفقنا قليلًا من نشوة الإعجاب والازدهاء، واقتربت زيارتنا من الانتهاء؛ إذ نحن
برجل
أمامنا رثِّ الثياب، خلق الجلباب، كأنه المعنيُّ بقول القائل من شعراء الأوائل:
أخو سفر، جوَّاب أرضٍ، تقاذفت
به فلواتٌ، فهو أشعث أغبر
وقد اختلط شَعر جبهته بشَعر لحيته، فاختفت بينهما مقاطعه وملامحه، وغمضت أساريره
ولوائحه،
ونحلَ جسمه نحول الشاة بالأجادب،
٣ وطالت أظافره فتقوَّست كالمخالب، واختزن فيها الوسخ فصارت كالمكاحل علقت بها
المَرَاود، أو كخطوط الحداد على صفحات الجرائد، وهو يلحظ الداخلين والخارجين لحظة المزدري
المحتقر، ويذهب بنفسه ذهاب المبتدع المبتكر، والناس يقابلونه مع ذلك بالاحترام، ويواجهونه
بالإكرام، فالتفتَ الباشا إلى صاحبنا «الحكيم» يستخبره عن هذه الكتلة من الدَّمامة، والكومة
من القمامة، وكيف راق لهم الجمع بين هذه المناظر الحسان، وبين منظر هذا الشيطان، فاشتبك
بينهما الخطاب، وأخذت أترجم لهما في السؤال والجواب:
الباشا
:
أفما كان ينبغي منع هذا الرجل وأمثاله عن هذه الأماكن النفيسة؛ ليحفظوا لها
رونقها، ولئلا يضيعوا بهجتها في نفوس الزائرين؟ ولكن لعلهم أرادوا بذلك صرف عين
الكمال.
الحكيم
:
هذا الرجل هو من كبار المصورين الذين نفتخر على العالم بصنع أيديهم، مما ابتهج به
نظرك في هذا القصر الذي أقيم لتفخيم هذه الصناعة، وأنفق على تشييده أربعة وعشرون
مليونًا من الفرنكات، ولا تعجب من تفاوت المنظرين؛ فالذهب من التراب والماس من
الفحم.
الباشا
:
وكيف جاز لكم أن تتركوهم على مثل هذه الحالة من الفاقة وشظف العيش، وتضنوا عليهم
بما يصلح أحوالهم وينقذهم من هذه الرثاثة التي يرثي لها الناظر؟ وإن كانت هذه
الصناعة لا تدر الرزق على أربابها فلِمَ هذا التشييد لها وشدة العناية بها؟
الحكيم
:
إن هؤلاء الذين تعطف عليهم هم بيننا أوسع الناس رزقًا، وأكثرهم بضاعة رائجة،
واللوح الواحد من صنعتهم يُقدَّر بالمئات من الألوف وبالملايين، وليست هيئتهم هذه
عن حاجة أو فاقة، وإنما هي ناشئة عن إهمال أنفسهم وذهول عقولهم، وعذرهم فيها أن
أرباب الأعمال الدقيقة التي يغوص فيها الفكر، وتجهد القريحة ويتوزع لها الذهن في
عالم الخيال قلَّ أن تتوازن فيهم قُوَى الدماغ، فما تنمو قوة إلا بضعف أخرى،
فيصيبهم من الفتور والذهول ما يقصر بهم عن النظر في نظام الملبس والمطعم، ولا
يميزون في المعيشة الطيب من الخبيث، فتختل أجسامهم وتسوء أخلاقهم إلى أن ينتهوا إلى
حال من الطيش والحماقة، لا تطاق معها المعاشرة مع الأقارب والأجانب، ومنهم من يتصنع
ذلك كما يتصنع بعض أهل الدين التقشف والزهد، وقد ألف الناس ذلك منهم فإذا قيل لك:
هذا فلان الشاعر أو فلان الصانع أو فلان المتفنن، غفرت له ما ساءك من منظره لما
يسرك من مخبره، وربما لم يكن عند بعضهم من حسن الصناعة سوى قبح الهيئة ورثاثة
المرأى.
الصديق
:
إني لأعجب لقوم يعتمدون في أعمالهم على رءوسهم ثم يذهلون عن أبدانهم، وقد علموا
أن القريحة السليمة لا تسكن إلا الجسم السليم، وكيف يصح البدن إذا لم تتعهده
النظافة وطيب الغذاء وحسن الرياضة وقضاء الفروض الطبيعية له، ولقد يعرض للرجل
المتفكر وهو في تجلي قريحته أن يشم رائحة كريهة أو يبصر منظرًا رثيثًا، فيضيق في
الحال صدره وينقبض فكره، فكيف بمن يجد ذلك في نفسه ويحس به في جسمه، وأحر بمن ينقطع
في عمله للفنون النفيسة أن يكون نفيسًا في ذاته، فلا يعرف عجرفة الطبع ولا شراسة
الخلق بما تولده فيه من صفاء الحس ولطف الشعور، وبما تورثه من حلاوة الشيم ورقة
الطبع، وعلى الوجه الأعم، لست أدري ما فائدة العلوم والمعارف والفنون إذا لم تكسب
صاحبها بادئ الأمر محاسن الأخلاق ومكارم الصفات، فيكون القدوة الحسنة لمن يقتدي
بعلمه ويتأدب بأدبه، وإلا فكيف تنبت الزهرة من السبخة، ويسطع النور من مهجور
القبور؟
الحكيم
:
صدقت وأجدت، ومن قصر في تربية نفسه فكيف يطمع في تربية غيره!
الباشا
:
وماذا يصنع هؤلاء الصناع بهذا الرزق الواسع والثراء الوافر، وحالهم في سوء
المعيشة على ما أسمع وأرى؟
الحكيم
:
يصنعون به ما يصنعه أهل الطيش والنزق من أرباب المواريث في الإسراف والتبذير، وهم
لشغفهم بالجمال الذي تستمد صناعتهم منه حسنها ورونقها لا يفتَرون عن التولع بالنساء
والافتتان بمحاسنهن، فترى ثمن اللوح الثمين يخرج من خزانة الغني المتباهي إلى يد
الصانع المفتون، إلى كيس الفاجرة الهلوك، إلى صُندوق التاجر والصائغ، وعندهم أيضًا
باب إنفاق عظيم على طائفة من النساء التي يطلقون عليها اسم «المثال».
الباشا
:
وما «المثال»؟
الحكيم
:
«المثال» هو المرأة التي يتخيرها المصور؛ ليأخذ في التصوير على مثالها لجمال
وجهها أو لحسن تركيبها وتناسب أعضائها، فهذه لزندها، وهذه لنهدها، وتلك لقوامها،
والأخرى لشكل ابتسامها، وهلم جرًّا، فترى غرف المصورين ممتلئة بهاته «الأمثلة» التي
تختلف أجورها باختلاف أقدارها، وقلما تدخل على مصوِّر في مصنعه إلا ترى أمامه امرأة
مكشوفة البدن، عارية الجسم، يقلِّبها كيف شاء ذات اليمين وذات الشمال حتى تصير على
الشكل الذي يريد أن يملأ عينه منه، ويحصره في ذهنه ليخرج الصورة على مثاله.
الباشا
:
ما هذا الذي تحكيه من التبذل والتفضح؟
الحكيم
:
ليس هذا عندنا بعيب ولا نقص، ولا غضاضة على النساء منه؛ فالأمر معدود بينهن كأنه
صنعة من الصناعات الجليلة، لا عار في مزاولتها، ولا بأس على السمعة منها، وعندنا
اليوم خلاف قائم: هل يجوز للمصور أن يمارس صناعته على هذا الشكل في طريق الناس، وفي
مسالك السابلة كما يفعل ذلك في داخل مصنعه؟ فإن أحد المصورين عَنَّ له بالأمس أن
يصور صورة انبعاثٍ القبور، فقصد إحدى المقابر وجلس هناك بأدوات صناعته وفيها
امرأتان للمثال، وأقامهما أمامه وهما عاريتا الجسد، وكان يقيم هناك في كل يوم
الساعة والساعتين على هذه الحال يمعن بنظره في الفتاتين، ثم يخطط ويصور، وكان بجانب
المقبرة دار تُبْنَى قام على حائطها البنَّاءون فاشمأزوا من هذا المنظر، ودفعهم
دافع الحياء إلى مخاطبة المصور ليعدل عن قبح ما هو فيه، فلم يعبأ بهم ولم يبال
بتأنيبهم واستمر على ذلك أيامًا، فرفعوا الأمر إلى رجال الشرطة ثم إلى قضاة المحاكم
لمنع الرجل عن هذا الفعل السيئ، ولا تزال الجرائد تتجادل في المسألة أيجوز المنع أم
لا يجوز، فبعضُها يذهب إلى وجوبه ارتكانًا على نص القانون الذي يعاقب من ينتهك حرمة
الآداب العامة في الطرق، وبعضُها يرى الإباحة؛ لأن كل إنسان حر في صناعته، ولا يجوز
لأحد أن يحول بينه وبين ما فيه إتقان صناعته وإجادة فنه.
الباشا
:
نعوذ بالله من هذه البدع.
قال عيسى بن هشام: وانتهينا بالخروج من القصر بعد أن كدنا نضل فيه لاتساع أطرافه ونواحيه،
وتعدُّد غُرُفاته وحُجُراته، وهي كلها غاصة بالصور والتماثيل، ثم وقفنا في الخارج وقفة
الإجلال والإعظام أمام هذين القصرين اللذين هما تاجا المعرض وإكليلا الصناعة، وعاد الباشا
إلى «الحكيم» يسأله:
الباشا
:
وماذا يكون شأن هذين القصرين بعد انتهاء المعرض؟
الحكيم
:
يبقيان على حالهما دون أبنية المعرض لعرض أعمال أهل الصناعة والتصوير في كل
عام.
الصديق
:
إنني كلما نظرت إلى هذه العناية الكبرى عندكم بفن التصوير والغلو فيه إلى هذا
الحد، ثم نظرت إلى قلة العناية به عندنا حرتُ في معرفة السبب، فإن كان ذلك ناشئًا
عن الترقي في المدنية، فإنني أراه فيكم قديمًا منذ جاهليتكم الأولى كما أراه
والمدنية مسفرة بينكم، وربما كان القديم أبدع من الحديث، مع أن أهل الشرق على ما
تعلمون أوسع مجالًا في الخيال وأبعد شأوًا في التصور، فكيف نما هذا الفن فيكم دون
أن ينمو فينا؟
الحكيم
:
إن أهل الغرب كانوا قبل الدين المسيحي أهل عبادة للأوثان والأصنام، فقضى الاعتقاد
الديني بإتقان الرسم والتصوير، واتسع نطاقه على الأخص في الدولة اليونانية والدولة
الرومانية حتى تعدى التصوير تماثيل الآلهة إلى تماثيل الخلق، فأقيمت التماثيل
لكبراء الرجال وعظماء الأبطال، ووصل الغلو في ذلك أيام الدولة اليونانية أنهم أحصوا
ثلثمائة تمثال لشخص واحد في شوارع «أثينا» في حال حياته، فلم تمكث بعد وفاته
ثلثمائة يوم؛ لأنه كان ممن نال الشهرة بالباطل، وعلوَّ الصيت على غير استحقاق، ومن
ملح ما يروى في هذا الباب أن بعض الناس قال لعظيم من عظمائهم جليل القدر كبير
الخطر: إني لأعجب لأهل «أثينا» يقيمون لمثل هذا الرجل ثلثمائة تمثال بغير حق ولا
يقيمون لك تمثالًا واحدًا، وأنت المقدم المفضل فيهم؟ فقال له: لأن يتعجب الناس مثلك
من أنهم لم يقيموا لي تمثالًا واحدًا أفضل عندي من أن يتعجبوا لماذا أقيمت لي
التماثيل، ولما دخل الدين المسيحي على هذه الحال لم يحظرها ولم يحرمها، فاستمر
الناس على ما ألفوه، وتناولوا الدين المسيحي نفسه بفن النقش والتصوير وصوروا المسيح
وأمه في كثير من أطوار حياتهما، ودونوا به ما شاءوا من روايات التاريخ المقدس،
فبقيت العناية بذلك متصلة قائمة إلى اليوم بخلاف الدين الإسلامي عندكم فإنه حظر
التصوير؛ فكان هذا سبب تقلص هذا الفن بين الأمم الإسلامية، وإلا فهو منتشر في الشرق
انتشاره في الغرب بين الأمم الوثنية كالصينيين واليابانيين والمجوس من أهل
الهند.
قال عيسى بن هشام: وسرنا عن هذين القصرين نقصد سواهما من المعاهد، ونقف على ما اشتهر
في
المعرض من المرائي والمشاهد.