الأشجار والأزهار
قال عيسى بن هشام: ودخلنا معرض الأشجار، وبستان الأزهار، في قصر لم يُبن بناء القصور
والديار، ولم تُشَد أركانه بالشيد فوق الأحجار،
١ ولم ترتفع بالآجر حجره وغُرَفه، ولم تتخذ من الخشب أبوابه وسقفُه، بل عقدت له
القباب والأبراج، من صقيل البلور وسبيك الزجاج، فهو صرح ممرَّد من قوارير،
٢ كأنه لجة يمٍّ أو صفحة غدير، لو دخلته «بلقِيس» صاحبةُ العرش في الأيام
الخالية، لكشفت عن ساقَيْهَا مرة ثانية، جمعوا فيه أشتات النبات الغض، من كل بقعة وناحية
في
الأرض، مما ينبت بين ثنيَّات الجليد، وتنشقُّ عنه صُمّ الجلاميد، وما اخضرَّ في ربا
الصحراء، وأورق في وهاد البيداء، وأزهر في الجمد، وأينع في الومد،
٣ ومن حيث تجري الأنهار والجداول، إلى حيث تعتصم الأراوي والأجادل،
٤ ومن حيث تشدو الحمامة الورقاء، تحت الظلال والأفناء، إلى حيث تدور الحرباء، حول
الغزالة في كبد السماء،
٥ ومن أدنى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن طرف القطب إلى طرف القطب، فما أردت هناك من
جميع الأنواع، في متفرق البقاع، ما بين ملتف ومنتشب،
٦ ومتسلق منه ومتشعب، يفتر بكل محمرّ ومبيض ومذَّهب ومفضَّض، ومشرق ومومض، وأين
ابن الرومي يتأملها فيخلع عنه رداء الفخر والتيه، ويقر بعجزه في الوصف والتشبيه، ويحرق
ديوانه بكبريته المذكور، في تشبيهه المشهور:
ولازروديَّة تزهو بزُرقتها
بين الرياض على حمر اليواقيت
٧
كأنها وضعافُ القُضب تحملُها
أوائلُ النار في أطراف كبريت
هنالك تستبيك ألوان الأزاهر، بما يزري بلَمَعَان الجواهر، فما الياقوت عندها والزبرجد،
وما الفيروز والزمرد، وما العقيق والجُمان وما الدر والمرجان! وكيف يقاس الحجر بالشجر،
وتستوي الحصباء اليابسة بأكمام الأغصان المائسة، وكيف يُقدَّم الجامد الثابت على النَّامي
النابت، وأين الحركة من السكون، والمنشور من المدفون، وأين المنثور على ظهر الروضة الزهراء
من الملحود في بطن الغبراء! ولئن انتظمت القلائد، بجواهر تلك الفرائد، في لبَّات الخرائد،
وكان مكانها من الحور في المعاصم والنحور، لكانت هذه الزهور، بيت الرئات والصدور، وكم
أنعشت
خامد النفوس والأرواح بطيب الأنفاس وشَذَى الأرواح، فوقفنا نستنشق الأريج والنَّشْر،
من
أصناف ذلك الطيب والعطر، لو كان معنا ضرير المعرة رهن المحبسين لانقلب منشرح الصدر قرير
العين، ولأنس من وحشته، وذهل عن فاقته وخلته،
٨ وعلم أن من المسكر ما هو طلق حلال، ولم يتلهف على شرب المعتَّقة حيث
قال:
تمنيتُ أن الخمر حلَّت لنشوة
تجهلُني كيف اطمأنت بيَ الحالُ
فأجهلُ أني بالعراق على شفا
رزيُّ الأماني لا أنيسٌ ولا مال
وما زلنا في هذه الروضة الغناء، والجنة الفيحاء، نردد قول العبد الصالح الأواه: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ
إِلَّا بِالله.
ونكرر النشيد، لبيت التوحيد:
ففي كل شيءٍ له آيةٌ
تدل على أنه واحدُ
حتى إذا آن أوان الانصراف، خرجنا من بين هذه الجنة الألفاف
٩ خروج أبينا من دار الخلود والبقاء، إلى دار الهموم والشقاء، ولما تركناها إلى
نواحي المعروض ضَؤل في أعيننا، ما كان يرُوقُنا ويزدهينا، وصغر في أنفسنا، ما كان يخلبنا
ويُشجينا، وذبل أمامنا ما كان من المناظر ناضرًا، وذال ما كان فخمًا نادرًا،
١٠ وغلب ذلك المنظر على كل بديع رائع، من مختلف الفنون والصنائع، وأين قدرة
الحيوان الناطق، من قدرة المبدع الخالق، وما تسوّيه آلات المصانع، مما تصوره يد البارئ
الصانع، وكاد الباشا يهمُّ بالرجوع من حيث أتينا، ويقتصر في يومه على ما رأينا، لولا
أن
استوقفنا قول «الحكيم» للصديق في عرض كلامه، عن ترتيب المعرض ونظامه:
الحكيم
:
نعم تنقسم أماكن المعرض إلى قسمين: هذا القسم الذي شاهدناه من نفائس الصناعة
والطبيعة، وهو مباح للزائرين بغير أجر، وقسم آخر أقاموه لترويح النفس، واستجلاب
الأنس بالمشاهدات الغريبة والمناظر البديعة يدخله الداخلون بأجر معيَّن.
الصديق
:
لقد قرأت في الجرائد عن هذا القسم الأخير ما يعجب ويدهش، وأشد ما تشتاق نفسي
لزيارته تلك «النظارة المعظمة» الهائلة، التي اخترعوها لمشاهدة القمر على بعد متر
واحد، فتحيط به العين في زعمهم كما يحيط الجالس في الغرفة بأجزاء جدرانها، فأين ذلك
المكان منا الآن؟
الحكيم
:
ليس هو ببعيد، وهم يسمونه «قصر الأضواء والمَرَايا» ولطالما أسهبت الجرائد كما
قلت في وصفه بما يهيج الرغبة إلى زيارته، ولم أزره بعد، فهلم بنا نقصد قصده.
الباشا
:
البدار! البدارَ إلى زيارته، فلو كان ما يقولونه عنه صحيحًا لكان إحدى
المعجزات.
قال عيسى بن هشام: وسرنا جميعًا نلتمس هذا المكان حتى وصلنا إلى قصر مشيد قلَّ أن
يكون
مثله لكبار الأمراء والملوك في فخامته وضخامته، ووجدنا مكتوبًا على بابه بين صور الكواكب
والنجوم هذه العبارة باللغة اللاتينية: «من هنا يصعد الإنسان إلى أجرام الكواكب ويتصل
باللا
نهائية»، ولما دخلناه رأيناه مزدحمًا بالجموع، فبدأنا معهم بالدخول في حجرة واسعة تبلغ
خمسة
عشر مترًا في الطول وعشرة في العرض، وهي مقسمة بالمثلثات والأضلاع من زجاج المرايا القائمة
يبلغ علو الواحدة منها مترين ونصفًا في عرض متر ونصف، وقد تخللتها مصابيح الكهرباء، فإذا
نظر الإنسان بين تلك الأضلاع والمثلثات رأى صورته تتعدد بالمئين، وإذا مشى بضع خطوات
ضل
الطريق ولم يهتد السبيل، وكلما ظن أنه وجد منفذًا للخروج منه اندفع إليه، فيصطدم وجهه
بزجاج
المرايا فتعلو أصوات الضاحكين وهم في حيرتهم وضلالهم، ولا يزال على هذه الحال مدة من
الزمن
حتى يصل إلى نهج الطريق من طريق الاتفاق، وما أوسع مجال الخيال هنا للشعراء في وصف أشكال
الزائرات، وانطباع صورة الواحدة منهن على صفحات المرايا ألف مرة كما تنطبع محبتها، وهي
واحدة، على صفحات قلوب الرجال وهم ألوف.
ولما اهتدينا للخروج من هذه الغرفة التي يضل الداخل فيها كما يضل الراكب في الفيافي
والقفار، سرنا نقصد غيرها، و«الحكيم» يقول «للصديق» في حديثه:
الحكيم
:
إن الفكرة في إقامة الأماكن والأبنية على أوضاع وأشكال، يضل الداخل فيها ولا
يهتدي للخروج سبيلًا شيءٌ قديم في الوجود، وقد علمنا أن قدماء المصريين هم أول من
شيد الأبنية للضلال والتيه، منها الهيكل الذي رآه «هيرُودوتُس» في زمانه ووصفه في
تاريخه، وكان يحتوي على ثلاثة آلاف حجرة بعضها متداخل في بعض، فمن دخل هذا المعبد
ولم يكن معه دليله ضل فيه حتى يهلك جوعًا، ولا يزال أثره باقيًا عندكم إلى اليوم
بقرب بحيرة «موريس» أمام المدينة القديمة المعروفة بمدينة «التمساح»، وقد حذا قدماء
اليونانيين حذو المصريين، فأقاموا في مدينة «كريد» معبدًا يماثله، ومما يذكر عنه في
أساطيرهم أن غُولًا من الغيلان كانت تفسد في الأرض وتعبث ثم تلجأ إليه فلا يدركها
أحد، وصمَّم أحد المشهورين من شجعانهم على اتباع أثرها والفتك بها، فلم يتوصل إلى
ذلك إلا بالحصول على خيط معلوم دلَّته عليه عشيقته، فربط طرفه عند الباب قبل دخوله
وسار به في طريقه فأدرك غايته وفتك بالغول واهتدى به في رجوعه، والفرق بين ما صنع
القدماء في السالف وما صنعه المُحدِّثون في الحاضر كما ترى أن بناء المتقدمين من
الحجر وبناء المتأخرين من الزجاج.
قال عيسى بن هشام: ودخلنا بعد ذلك غرفة في إثر أُخرى، وكلها على هذا النمط من انعكاس
الأضواء في المرايا وتعدد الصور، فتتخيل هنا بئرًا وهناك بحرًا إلى غير ذلك من وجوه
التخييل، ثم انتهينا إلى تلك الغرفة المنشودة التي يُرصد فيها القمر على بُعد متر واحد،
فما
جاوزنا بابها حتى أطفئت في وجوهنا المصابيح وتخبَّطنا الظلام الدامس، ثم سلطوا أشعة
الكهرباء على قسم من الحائط فأضاءت عليها خريطة القمر مصنوعة بكيفية تتبين فيها مرتفعات
كرة
القمر ومنخفضاته، فتتراءى لك الأولى بمقدار قُلَّامة الظُّفر والأخرى بمقدار خروق الغربال،
ووقف هناك رجل كالمرشد يشرح للناس ما يشرحه عن هذا الرسم، ويزعم أنه صورة القمر بعينه
على
بُعد سبعين كيلومترًا كما يُرى في «النظارة» التي انتشر الإعلان عنها بأنها تُريكَهُ
على
بعد مترٍ واحد، وأسهبت فيها مقالات الجرائد العلمية والسياسية مدة من الزمن قبل افتتاح
المعرض، ثم خرجنا و«الصديق» يقلب كفًّا على كف من شدة الدهش والعجب، ويسأل صاحبنا «الحكيم»
عن كُنه هذا الغش والكذب:
الحكيم
:
خَفِّض عليك، فإن أكثر ما تقرأ من التفخيم والتهويل لمثل هذه المسائل في الجرائد
لا يُعوَّل عليه، فإنها تتعمد ذلك لمصلحتها الخاصة لما تتناوله عليها من الأجور،
ولمصلحة أبناء البلاد في ترغيب الناس إلى زيارة المعرض، وهي تستحل الغش والكذب في
سبيلهما، ولا تعجب إن قلت لك: إن الذي باشر هذا المشروع هو أحد مشاهير المستعمرين
من النواب عندنا؛ فقد قام في المجلس خطيبًا وطلب منه الموافقة على إقامة المعرض
العام، وأعلن أنه وجد عنقاءَ المعرض والآية الكبرى في ارتقاء الصناعة بإنشاء «نظارة
معظمة» يرى الناظر فيها القمر عن بُعد متر، وما زال يحكي والجرائد تكتب حتى أنشأ
شركة من بعض الفلكيين لعمل هذه «النظارة»، التي يقولون عنها: إنها تُري القمر على
بعد سبعين كيلومترًا، وأقاموا هذا القصر بمناظره لاجتناء الربح من تهافت الزائرين
وإقبالهم عليه لرؤية المعجزة الكبرى، وعلى هذا تدور أكثر الأمور بين الناس في
العالم من التهويل الباطل في أقوالهم، والغلو الفاضح في وصف أعمالهم بمقدار الفرق
ما بين المتر الواحد والسبعين كيلومترًا، والرابحُ فيهم من كان ماهرًا في الغش
والخداع، والفائز فيهم من كان سبَّاقًا في المكر والاحتيال.
قال عيسى بن هشام: وانصرفنا ونحن نعجب من هذا النائب الذي لم يكفه الغش من طريق السياسة
والاستعمار، حتى ترقى فيه إلى طريق الكواكب والأقمار.