الافتراء على الوطن
قال عيسى بن هشام: وفيما نحن ندور بين أقسام المعروض ونجول؛ إذ سمعنا صوت مزمار وطبول،
فهاج منا الذكرى والشَّجن، وأذكى فينا الحنين إلى الوطن، حنين أنضاء النُّوق
١ بلامعات البروق، تنبعث من أفق بلادها، وتنازعها الأشواق في أغوارها وأنجادها.
فشخصت إليه الأحداق، ومالت نحوه الأعناق، فقصدنا منبعه، وأممنا مطلعه، عسانا نجد عنده
من
آثار مصر فضلًا، ومن أشكال بلادنا شكلًا، يملأ العين جمالًا، والصدر جلالًا، ويؤنسنا
في
وحشة الفراق، بما يخفف من لواعج الأشواق، ويكون لنا في المعرض موضعًا للفخر والمباهاة،
في
باب المسابقة والمباراة، فوجدنا أخلاطًا من الزُّمَر والجماهير، حول الطبول
والمزامير.
ورأينا في وسطهم رجلًا يعلوهم فظًّا في هيئته، كظًّا في طلعته.
٢ لو استزاد من الغلاظة لم يجد له من مزيد، كأنه جلمود صخر أو قطعة جليد، بوجه
تثور منه السماجة ثوران العجاجة، «وطربوش» عليه طوق مثل الدُّهن من العَرَق والوضر، لو
لَجَّ فيه شعاع الشمس لاحتدم واستعر، وهو يَعجُّ مثل عجيج الإبل في الفلوات، ويصيح بصوت
من
أنكر الأصوات، دُونَه صوت الحُمُر الناهقة، أو الرعد بالصاعقة، وفي يده مروحة يتزود بها
هواء للتنفس، خشية الاختناق من التهيُّج والتحمس، وهو يتمايل عجبًا واختيالًا، ويذهب
في
الحلقة يمينًا وشمالًا، مناديًا في الجمع بألفاظ مكروهة في السمع، ترغيبًا للرائح والغادي
في دخول ذلك النادي؛ ليروا من أسباب الأنس، ومستمتَع الحواس الخمس، ما ينفي بلابل الصدور،
ويُجلِّي بواعث السرور، من كل منظر ليس له نظير، لا يحيط به التخمين والتقدير، مما بَذَّتْ
به مصرُ سائر الأمم، وحلت به في الفخر محل الذُّرا والقمم، ولا غرو فهي لا تزال في مضمارها
منذ القدم، عالية الكعب راسخة القدم، وأن هذه فرصة سانحة لا بد أن تُلتَمس، وخلسة من
الدهر
يعقبها الندم إن لم تختلس، فمن لم يبادر إليها فقد أساء الاختيار، وأوقع نفسه في الخسار،
ولم يقف من المعرض على موضع حسنه وجماله، بعد أن يفقد النفيسين من وقته وماله، ومن لم
يشاهد
صنعة «زُهرة» و«معتوقة»، لم يشاهد في الدهر معشوقة ولا موموقة، ولم يحصل إلا على الخيبة،
في
السفر والأوبة، فدخلنا نستكشف الأثر، ونستشفُّ الخبر، فتلقَّانا بالباب رجل حسن الثوب
والعمامة، في زي أهل التشيُّخ والإمامة، مشغول اللسان بالترحيب واليد بالتسبيح كأنه إمام
مصلَّى أو سادن ضريح، لولا أن تأملته فعرفته رجلًا من ذوي الرتب بين التجار، مشهورًا
بتجارة
الطِّيب والأعطار.
ذئبٌ تراه مصلِّيًا
فإذا مررت به ركع
يدعو وجلُّ دعائه
ما للفريسة لا تقع
فهنَّأنا بالسلامة، وبالغ في الحفاوة والكرامة، وتقدم بنا إلى ساحة من ساحات اللهو
واللعب، و«مرسح» من مراسح الرقص والطرب، وانكشف لأعيننا الستر عن بنات الفجور والعهر،
فأخذن
في «رقص البطن» بتلك الحركات الشنيعة، والأشكال الفظيعة، حتى تخيلنا أننا عدنا إلى أدوار
تلك المدة، في مصاحبة «الخليع» و«العمدة»، فلوينا أعناقنا نحو الباب، ونحن في حزن واكتئاب،
وخرجنا نستر وجوهنا بأيدينا خجلًا، وتمنينا أن لا ننسب إلى بلادنا أصلًا، لنخلص من وصمة
هذا
العار، وما يجره علينا من الازدراء والاحتقار، ورجعنا مهرولين ابتعادًا عن هذا «المعرض
المصري» وما يحويه، من مثل هذا المشهد المعيب والمنظر الكريه، وأقسمنا على أن لا نمر
من هذه
الناحية مرة ثانية، فأخذ «الحكيم» يهوّن علينا من وقع المصاب، ويخاطبنا في معرض
العتاب:
الحكيم
:
لم هذا التسرع والتعجل؟ أما علمتم أن المعرض ينقسم إلى قسمين: قسم الصناعات
والآثار، وقسم المشاهد والمرائي، وقد رأيتم من «المعرض المصري» القسم الثاني فدعوه
إلى سوء أدبه وقبح أثره، ولا يمنعنا ذلك من زيارة القسم الأول منه الذي هو قسم الجد
والعمل، ولعلنا نجد فيه من محاسن الأعمال والآثار ما يصرف عنكم هذا الذي اعتراكم من
الهم والكدر.
الباشا
:
ما أظن هذا القسم إلا عنوانًا للقسم الآخر، ومن أساء الاختيار في قسم المشاهدات،
فجدير به أن لا يحسن الاختيار في قسم الصناعات، ومن بلغ به الانحطاط في انتخاب
مشاهد بلاده ومرائيها إلى عرض بطون النساء وفحش العاهرات للرائح والغادي من أطراف
المسكونة في هذا المعرض، فلا يُرجَى منه حسن الاختيار في آثار البلاد وأعمال
صُنَّاعها.
الصديق
:
لقد أعمى الطمع في الربح مثل هؤلاء التجار عن قبح هذه المشاهد، وغرهم ولع السفهاء
بها في مصر فحسدوا عليها أصحاب الحانات، ولم يكن من اللائق بهم أن يزاحموهم فيها
ببلادهم فانتهزوا هذه الفرصة للتفرد بها في بلاد الغربة، وظنوا أن الغربيين يقبلون
عليها إقبال الشبان في بلادهم، فيفوزون بالربح، وليس من يعير بقبيح وجهه في بلاد لا
يعرفهم بها أحد، فإن فيهم مثل هذا التاجر الوجيه ذي الرتبة الثانية الذي لو دعوته
لرؤية الرقص في مصر لغطَّى وجهه بجُبته، ولوى عنقه يستعيذ ويستغفر من الإثم الذي
ينهاه عنه دينه وأدبه، ولكن جاء الأمر على خلاف ما قدروه فلم ينالوا ربحًا ولم
يستروا قبحًا، فإن أدب زوار المعرض على اختلاف أجناسهم ينهاهم عن مشاهدة هذه
الفضائح، فلم يقبل عليها أحد، ولم يبق لأصحابها إلا سخط المصريين عليهم جزاء تعيير
الأمم لنا بسوء رأيهم وقبح اختيارهم.
قال عيسى بن هشام: ولما جاوزنا باب الملهى قليلًا انثنينا إلى القسم الأول من هذا
المعرض
المصري مطاوعة لرأي صاحبنا، فوجدنا بناءً مشيدًا مثل أبنية الجوامع والمساجد يفاجئك مَدخله
بحانة للخمر ذات اليمين تتخطر فيها شمطاءُ من عجائز باريس ومن حولها بناتها وحفدتها،
وعن
ذات الشمال رجل معمم قد جلس متربعًا، عريق في القبح والدمامة تنطبق عليه القبعة دون
العمامة، وأمامه منضدة عليها دواة وقرطاس، وقد التف عليه جماعة من أجناس الناس، يتقدم
إليه
الواحد بعد الآخر فينقده بعض الدراهم فيسأله عن اسمه واسم أبيه وأمه، ثم يخط له بالعربية
في
ورقة معصفرة مزعفرة بعض الدعوات الصالحات، وسمعنا بعض النظارة من الغربيين يقولون في
انكبابهم عليه: هلم إلى شيخ المسلمين ليكتب لنا شيئًا من «قرآن محمد»، فَحَزَبنا الأمر
وانتظرنا قليلًا حتى انفض الجمع عنه، وأقبلنا عليه نسائله فانفضح لنا أمره عن لهجة سورية،
فزجرناه قيامًا بواجب الدين الإسلامي الذي ينكر مثل هذه البدع السافلة على أبنائه، فأخبرنا
أنه استأجر هذا المكان من «شركة المعرض المصري» للارتزاق بهذه الوسيلة التي دفعته إليها
ضرورة العيش، فتركناه وتوغلنا في داخل المكان، وإذا برجل آخر معمم ومن حوله صبيان في
أزياء
المصريين التفُّوا حلقة على الأرض كحلقة أولاد الكتاب حول الفقيه، وهو يقرئهم آيات الكتاب
بصوت عال، ويروضهم على اهتزاز الجسم في أثناء التلاوة، وفي يده قطعة من جريد النخل يهددهم
بها ويُؤَدبهم، والجمع من حولهم يسخرون ويضحكون من شكل التدريس في مصر، وتعليم الدين
بين
المسلمين، ولما سألنا هذا الفقيه عن أمره أيضًا وما فيه من المنكر تبين لنا أنه رجل مسلم
من
عامة المصريين اجتلبه أعضاء الشركة مع صبيانه؛ ليمثلوا به هذا المنظر، ولم يستنكروه وفيهم
بضعة من صلحاء المسلمين، وأن طمع الربح سهَّل عليهم هذا الموقف، فكان إنكارنا لأمر هذا
المسلم المتعبد، أعظم من إنكارنا لحال ذلك المسيحيِّ المتصيِّد.
ولما توسطنا ساحة البناء وجدنا بها سوقًا تشبه أسواق الموالد وحوانيتها، فعن اليمين
بائع
«لب وحمص» و«فول وترمس»، وعن الشمال بائع «عرقسوس وسحلب»، وفي هذا الجانب بائع «حراير
شامية»، وفي الجانب الآخر بائع «حلوى استامبولية» ومن دونهما بائع «أحذية صفراء وطرابيش
حمراء»، ولما استخبرنا: أهذه كلها آثار مصر والمصريين؟ قالوا: نعم ويزيد عليها «معروضات
المصنوعات والمزروعات» في داخل هذا المكان، وأشاروا إليه، فدخلناه فإذا هو مكان متسع
على
شكل معابد القدماء من المصريين، ووجدنا حوانيته أشبه شيء بحوانيت العطارين انتقلوا منها
إلى
سواها، وتركوا في أنحائها وزواياها بقايا من صنوف تجارتهم، فهنا صرة فيها بذرة قطن، وهناك
قطعة بها حبوب حلبة وذرة، وفي صدر المكان صُوان
٣ من زجاجة به كسوة مطرزة بالذهب مما يلبسه العداءون «القمشجية» أمام الخيول
بمصر، فانقلبنا خارجين من «قسم المزروعات والمصنوعات» على حال من الغم والحزن أشد وأدهى
من
الحال التي خرجنا عليها من ملعب المغنيات والراقصات.
وفزعنا إلى الهرب من هذا المعرض المصريّ وسيئاته، فعارضنا أحد المروجين له، واستحلفنا
ألا
نتركه من غير أن نشاهد أعجوبة العجائب فيه، فطاوعناه فدخل بنا غرفة محجَّبة وانكشف لنا
الستار عن فتاة مقطوعة الذراعين تغزل برجليها، وتستعملها استعمال اليدين في كثير من الشئون،
فخرجنا لا نلتفت وراءنا وقد حان وقت الغروب حتى صرنا في الشارع، فرأينا مثل القطيع من
النساء المصريات وبأيديهن الدفوف والشموع وفي وسطهن امرأة عليها زينة العرائس، وهن يُنشدن
حولها أناشيد الأعراس في زفاف المصريات، فعجبنا من تركهن لمكان اللعب والرقص إلى خارجه
في
وسط الشارع، وبينا نحن كذلك؛ إذ بصر «الصديق» بأحد المصريين من أصحابه، فاستوقفه يطارحه
الحديث عن خبث ما رأى وسمع، وينعى على المصريين سوء سمعتهم بين الأمم بهذا «المعرض
المصريّ»:
الصديق
:
ألا تخبرني عن سر هذا التفضح، فإنهم لم يكفهم ما يدور في داخل المعرض من كل مخجل
معيب حتى انتشروا به في الشوارع على نحو ما تراه، لو قلنا: إن جماعة من أعداء
المصريين تألبوا على النكاية بهم؛ ليظهروهم بأسوأ المظاهر بين الأمم فانتهزوا هذه
الفرصة لتنفيذ مكيدتهم لَمَا أخطأنا الصواب.
المصري
:
ليس الأمر كما ذهبت إليه، وإنما دفع أهل الشركة الشره والطمعُ، واستجلاب الربح
بكل سبيل كما تراه في تسيير موكب الزفاف في أنحاء الشوارع للإعلان والترغيب في
زيارة المعرض بقطع النظر عما يجلبه من العار على أهل مصر جميعًا، ولكن الذي يقف على
حقيقة هذا المعرض وتأليف شركته لا يلبث أن يهون عليه الأمر شيئًا ما؛ لأنه لا ينتسب
للمصريين بنسبة رسمية، فقد امتنعت الحكومة المصرية عن إجابة الدعوة التي أرسلتها
الحكومة الفرنسية إليها، ولم تشترك فيه رسميًّا، كما أعلنته الجرائد، وليست شركة
المعرض بالشركة المصرية؛ لأن الجانب الأعظم فيها من الشرقيين المقيمين بمصر مع بعض
من لا خلاق لهم من المصريين.
الصديق
:
وهل تظن أنهم يربحون الشيء الكثير من هذا المعرض، وهو على ما تراه من حال الكساد
والبوار؟
المصري
:
ما أظن الربح على هذه الحال بميسور، ولكن الشركة لا تخسر شيئًا وإنما الخسارة على
الذين اكتتبوا فيها، وهم يقدرون الخسارة إلى اليوم بثمانين ألف فرنك، وعسى أن
يستمروا على هذه الخسارة عبرة لهم وتأديبًا؛ حتى لا يقدموا مرة أخرى على مثل هذه
المشروعات التي لا يسلمون فيها من الخسارة، ولا يسلم المصري فيها من وصمة
العار.
قال عيسى بن هشام: وزوَّدَنَا الرجل بالتحية والسلام، بعد أن خفف علينا بعض ما بنا
من
الآلام.