خبز المدنية
قال عيسى بن هشام: وانتهى بنا التجوال في المعرض إلى «أقسام الدول»، فرأينا فيها من
مفاخر
الأواخر ومآثر الأول، ما يشهد لهن بالعلو والارتقاء في أبواب الإبداع والإنشاء، وقد تبارين
في ميدان المناضلة، وتسامين في مضمار المفاضلة، بما لا يُشق لهن فيه غبار، وتقصر دونه
الأنباء والأخبار، وكانت الدولة الألمانية من بينهن أسبقهن قدمًا، وأرفعن علمًا وأعز
مكانًا، وأعظم شأنًا، كأنها لم تقنع بالسبق عليهن في ميادين الحرب والطعان، فأرادت أن
تسبقهن أيضًا في حلبة العلوم والعرفان، وأن تبذهن في حالتي الحرب والسلم، بشدة البأس
وقوة
العلم.
وبينا نحن نمتع النظر بحسن الصنع، وجمال الوضع؛ إذ شعرنا بضجة والناس يتقاذفون بعضهم
على
بعض كالبحر اللُّجي، في الليل الدَّجوجي
١ قد ركبوا رءوسهم من شدة الفزع، وطارت عقولهم من الهلع والجزع، وانتشر بينهم
الصراخ والصياح، واشتد فيهم العويل والنواح.
فسألنا عن الخبر فقيل لنا: إن القنطرة القائمة على رأس المعرض هَوَت بمن فوقها على
من
تحتها، فتوجهنا ناحيتها، فوجدنا من المنظر الشنيع ما تنقبض له النفوس وتذرف العيون، فمن
جثث
هامدة وأجسادٍ دامية؛ ما بين فتاة وصبي وشاب وكهل من زوار المعرض يزيدون على المائة،
والدماء تجري كالسيل والناس يترامون على الأرض؛ ليتعرفوا بمن عسى أن يكون بين المصابين
من
أقربائهم وأصدقائهم، وما فيهم إلا كل متوقع للمصيبة ومترقب للمكروه، فالبكاء شامل والأنين
عام، والأطباء يضمدون ورجال الصحة يحملون.
واشتد علينا الحال باشتداد الهول، وتكاثر الزحام فضاق علينا التنفس كما ضاقت النفس
عن
احتمال هذا المشهد الفظيع، فجذبني «الباشا» إليه لنخرج من هذا المأزق، فأسرعنا إلى مطاوعته
وسار بنا وهو يقول:
الباشا
:
تالله ما يفي كل ما رأيناه في هذا المعرض من بهجة وسناء في ترويح النفس بمقدار ما
اعترانا من الضيق والكرب أمام هذا الموقف الهائل، حتى لقد تخيلت أنني أشاهد يومًا
من أيام الحرب تتمزق فيها الأعضاء وتتناثر الأشلاء.
الصديق
:
صدقت ويزيد على ذلك أن هول الوقائع الحربية قد يكون أقل في النفس وقعًا؛ لأن
للحروب رجالًا استعدوا لها واستأنسوا بها وغلظت أكبادهم، ولست ترى من حولهم مثل
هؤلاء الصبية والأطفال وهاته النسوة اللواتي رقق النعيم أديمهن، ورفَّهَ الرغد
أجسادهن، يفزعن من مس الإبرة، ويذعرن من لمس الوبرة، فأصبحت الأوصال ممزقة تحت
الردم والأعضاء، مدكوكة في الأنقاض، وهكذا صارت وقائع المدنية في سلمها أشد من
الوقائع في حربها.
الباشا
:
لقد آن لنا أن نغادر هذا المعرض ولا نعود إليه مرة أخرى، فقد قطعناه طولًا وعرضًا
واستوفيناه بحثًا وتدقيقًا، وبدأ فينا الملل من طول التردد عليه.
الحكيم
:
إن كنتم عقدتم العزم على الانتهاء من زيارات المعرض بعد اليوم، فلا يفوتنكم أن
تختموها فيه برؤية العجيبة التي هي في الحقيقة أم العجائب، ومصدر هذه الطرائف
والغرائب، والأصل الذي تتفرع منه الفنون والصنائع، والمنبع الذي تسيل منه مظاهر
المدنية، والمطلع الذي تشرق منه شمس الرفاهة والحضارة.
قال عيسى بن هشام: فشوقنا بكلامه إلى متابعته، وسرنا وراءه إلى حيث يريد، فانتهى بنا
إلى
بناء فخم من أبنية المعرض لم يكن وصلنا إليه من قبل، ولما دخلناه وقف بنا عند فوهة هاوية
عميقة مظلمة يضطرب البصر عند رؤيتها، وتختلج النفس من هيئتها، فدعانا للنزول فيها ودفعنا
لركوب آلة هناك للهبوط والصعود كأعظم ما يكون من الدِّلاء، فهوت بنا إلى قرار بئر عميق،
وجُبّ سحيق، فتولاني من الهلع والذهول ما أنساني كل شيء في ذاكرتي مما يحفظه أهل الدنيا
إلا
ثلاثة أبيات، لم يُبق لي سواها ما أنا فيه من هذا الانحدار والهُويِّ في ظلمات بعضها
فوق
بعض، قالها الفرزدق لما تعلق بحبال الغواني من أعلى الجدران، فرارًا من صولة الثائر
والغَيران:
فلما استوت رجلاي في الأرض نادَتا
أحيٌّ يرجى أم قتيلٌ نحاذره
فقلت: ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا
وولَّيت في أعجاز ليلٍ أبادره
هما دلَّتاني من ثمانين قامةً
كما انقضَّ باز أقتم الريش كاسره
ولولا أن حسن العشرة وطول الخلطة مكن الثقة من نفوسنا بالحكيم الفرنسي، لقلنا: إنه
كاد
لنا وأراد أن يجدد في عصرنا الحاضر ما فعله أبناء يعقوب بأخيهم في عصرهم الغابر، ولما
أفقنا
من الإغماء في بطن الأرض سألناه أين نحن من الآخرة، أو في أي طبقة من الطباق السبع، فعلمنا
أننا في مكان صوروه على نمط معادن الفحم الحجريّ تحت الأرض، وكيف يستخرجه العمال في غياهب
الجب، فأخذنا نحدق العيون في حنادس الظلماء عسانا نبصر شيئًا، فتمثل أمامنا العمال يدأبون
في عملهم على ضوء سراج معقود بناحية كل عامل، كأنه نار الحُباحب تنقدح بين الأشجار في
ظلمات
الليل البهيم، وأنَّى لأضواء السرج الكهربائية أن تشق عباب هذا الظلام الدامس، وهو يكاد
من
تكاثفه يُمسك باليد ويقبض بالراحة، وحسبك أنها لا تفيد في كشف الظلام وإضاءته، وإنما
تزيد
في بيانه وإراءته، ثم خطونا قليلًا وعثرنا كثيرًا، فرأينا من السرادب والكهوف ومن الأخاديد
٢ ما تضل فيه الصلال بالتوائها وتنكمش دون انسيابها، ونظرنا في كل فجوة أشباحًا
يتشكلون بأجسامهم على كل أشكال الصراع الذي يتفنن فيها المصارعون للتمكن من العمل في
ثنايا
الفجوات والمنعطفات، وفي أيديهم ما ثقل ودق من أدوات القطع والحفر وأخشاب الإسناد يقيمون
بها ما يريد أن ينقض من جدران المغائر والكهوف، فمنهم الواقف في عمله على أصابعه والمضطجع
على جنبه والجاثي على ركبتيه والمنكب على وجهه، والمياه تسيل عليهم من الثنايا والشقوق،
هذا
بعض ما تقاسيه الأجسام من المتاعب والمشاق، والله العليم بما يدور في القلوب والرءوس
من
توقع الخطر، وترقب الهلاك بما شئت من أنواعه المتعددة انهيالًا واندفاقًا، وانفجارًا
وانبثاقًا، وغرقًا واحتراقًا، وارتدامًا واختناقًا، وهمُّهم الأكبر أن يراقبوا ما على
نواصيهم من السرج خشية أن تصاب برضَّة تنثلم فيها ثلمة، فتتصل بغاز الفحم المتسرب في
المعدن
تسرب الهواء، فتميد الجدران وتندك الأحجار وتخسف بهم الأرض.
واهتدينا آخر الأمر إلى منفذ فخرجنا منه، وتركناهم يعملون في ظلمات ثلاث بعضها فوق
بعض:
فالفحم ظلام جامد، والظلام فحم سائل، وعيشهم أسود حالك، وكفانا الله شر المهالك.
ثم درنا قليلًا في «معدن الذهب» بعد أن انتهينا إليه من «معدن الفحم»، فلم نجد أرباب
العمل فيه أسعد حالًا، ولا متاعبه أهون احتمالًا، لا نصيب لهم من الأصفر الرنان، مما
يجلو
عنهم صدأ الكروب والأحزان، سوى أنهم صُفر الأيدي من الفضة والذهب، صفر الوجوه من النصب
والتعب.
والعيس أقتل ما يكون لها الصَّدى
والماء فوق ظهورها محمول
وكادت الرطوبة في المعدن تعقد دماءنا في مجاريها، فأسرعنا إلى مكان الصعود فانتشرنا
من
بطن الأرض إلى ظهرها، وأقمنا هنيهة نعالج بأيدينا غشاوة الظلماء عن الأبصار، عند مفاجأة
ضوء
النهار، وسرنا نتمتع بفضاء الأرض لا ننطق حرفًا ولا نحسن خطابًا، وإذا بصاحبنا «الحكيم»
يستوقف أنظارنا إلى «مسبك المدافع» الذي يمثل أعظم المسابك في فرنسا تُطلُّ منه أعظم
أسطوانة للمدفع في العالم، ويخاطبنا بقوله:
الحكيم
:
وهذا هو الثالث من أمهات المدنية وأقانيم الحضارة، فقد رأيتم الأقنوم الأول وهو الفحم،٣ والأقنوم الثاني وهو الذهب، وهذا الأقنوم الثالث وهو الحديد.
الصديق
:
وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ.
الحكيم
:
نعم إنهم يستخرجون الذهب ليشتروا به الفحم؛ ليصهروا به الحديد، فيصنعوا منه ما
شاءوا من آلات السلاح وأدوات الصناعة، فيخرجوا للناس ما تشاهدونه من عجائب الصنع،
وإن كل ما ترونه مما يبهر الأنظار ويستهوي القلوب راجع في الأصل إلى ذلك الفحم
الأسود الذي هو اليوم الخبز الثاني للإنسان في عالم المدنية، منه نعيمها ورفاهتها،
وبه بأسها وقوتها، تبًّا للإنسان فما أعقَّ عمله وأقبح صنعه! يهوي بالملايين من
العمال إلى أسفل طبقات الأرض، فيخربون باطنها ليستخرجوا منه ما يخربون به ظاهرها،
وتعسًا له يزعم أنه يعمل لسعادة الحياة وراحة العيش، وهو يقضي عمره في الشقاء
والبلاء حتى يأتيه حمامه، فيخرج من الدنيا باكيًا كما دخلها باكيًا، بعد أن قضى
فيها لحظة العمر على حال تفضُلُها حال الحيوانات والحشرات، وهو بزعمه أفضل
المخلوقات!
الباشا
:
كم يكون عدد العمال الذين يستخرجون الفحم في فرنسا، وما مقدار أجرة العامل في
اليوم؟
الحكيم
:
يشتغل في معادن الفحم مائة ألف عامل، ويبلغ ما يستخرجونه منه سبعة وعشرين مليونًا
من الأطنان تباع بمائتين وستين مليونًا من الفرنكات، ويعمل العامل منهم في جوف
الأرض على عمق المئات من الأمتار، وفي وسط الأخطار التي لا تقل حوادثها في العام عن
ألف وخمسمائة حادثة، فتذهب بالعدد الجم من القتلى والجرحى، هذا غير ما يصيب العمال
من الأدواء الصدرية والأمراض الرئوية لاستنشاق «الكربون» وفاسد الهواء، ومنهم من
يشتغل بالليل ومنهم من يشتغل بالنهار، ومعهم أولادهم ونساؤهم، كل هذا بأجرة تختلف
من اثنين إلى خمسة فرنكات في اليوم!
الباشا
:
وأين تذهب هذه المئات من الملايين من أثمان الفحم التي هي ثمرة كدهم ونتيجة
تعبهم؟
الحكيم
:
تذهب إلى فئة معيَّنة من أرباب الشركات والامتيازات، فينفقونها على شهواتهم أو
يدخرونها في صناديقهم، ولا تظنن أن هذه الفرنكات التي يأخذها العامل أجرًا له في
اليوم تصل إلى يده، فإن أكثر الشركات تبتني بيوت السكنى للعمال في أحياء بجوار
المعدن، وتقيم بجانبها الأسواق، فيشتغل العامل في معدن الشركة، ويسكن في بيت
الشركة، ويشتري طعامه ولباسه من سوق الشركة، والشركة تحسبه عليه من أجرته، فإذا خرج
آخر الشهر لا عليه ولا له كان رضيّ الحال، رخيّ البال!
الصديق
:
من هنا نشأت المذاهب الاشتراكية ونحوها، فإنه كيف يصبر الإنسان على هذه الحال
يعمل عمل الحشرات في باطن الغبراء؛ ليغني المقعدين في قصور العز والهناء.
قال عيسى بن هشام: ووصلنا في مسيرنا إلى البرج الشهير، برج «إيفل» المهندس القدير،
فأسندنا إليه ظهورنا نتفكر في أعمال الإنسان، وما يأتيه من فنون الجنون في كل زمان، وهو
يدعي أنه المخلوق الكامل، والحكيم العاقل.