المحامي الأهلي
قال عيسى بن هشام: فسئمت من هذا الكلام الفارغ والحديث المقتضب وانتهزت دخول الحاجب،
فخرجت من مكمني وعدت إلى الباشا صاحبي فوجدت بجانبه أحد سماسرة المحامين قد التصق به
وهو
يحاوره، فوقفت عن بُعْد أسمع ما يدور بينهما:
السمسار
:
اعلم أن المحامي يدير القضاء في يده بما يريد فيعاقب من يشاء ويبرئ من يشاء، وما
أعضاء النيابة وقضاة الجلسات إلا طوع إشارته ورهن كلمته وكالخاتم في إصبعه فلا حكم
إلا بقوله ولا قضاء إلا بأمره، وأنت على ما أراك، رجل غريب حقيق بالرحمة والشفقة
ولا يليق بالمرُوءة أن أدعك طعمة في أيدي بعض المحامين من أهل الطبقة السفلى الذين
اعتادوا سلب أموال الناس بطرق الغش والاحتيال وكاذب الوعود والآمال، ولي صاحب معروف
بين طائفة المحامين بالصدق والأمانة وله مقام سام بين القضاة والحكام، فهو صديق
الناظر وجليس المستشار ونديم القاضي وخدين النائب ووكيل «البرنس»، ولو شاهدتهُ يا
سيدي مرة واحدة في اجتماعه معهم؛ في السهر والسمر ورفع الكلفة بينه وبينهم في ساعات
الأنس وأوقات السرور يشار بهم، ويؤاكلهم ويمازحهم ويفاكههم ويناظرهم ويقامرهم
لأيقنت في الحال أن كل طلب له يجاب، وليس لأمره من راد، فالمجرم بريء والبريء جان
على حسب المراد، فقل لي حينئذ عن مقدار ما تستطيع دفعه من «مقدم الأتعاب» في تبرئتك
من تهمتك والانتقام لك من عدوك.
الباشا
:
أنا لا أعرف المقدم ولا المؤخر ولم يخبرني صاحبي عن هذا الحاكم القادر الذي تصفه
لي فإذا استفهمتُ عنه …
السمسار
(مقاطعًا)
:
لا لزوم للاستفهام من أحد فها هو ذا حضرة المحامي قد أقبل لمقابلة «النائب
العمومي»، فأنا أستوقفه لحظة للنظر في شأنك.
(ويسرع السمسار إلى مكالمة المحامي بعد أن يوسع له في الطريق، ويسلم
عليه بسلام الأمراء حتى يصل به إلى جانب الباشا.)
المحامي
(بصوت عالٍ)
:
أنا لا أستطيع قبول التوكيل عن أحد في هذه الأيام لتراكم الأعمال وتزاحم القضايا،
فلم يبق عندي وقت للطعام وللشراب؛ فكيف تكلفني أن أقبل التوكيل عن صاحبك في هذه
القضية الصغيرة، وقد رفضت في صباحي هذا خمس قضايا لها شأن عظيم.
السمسار
:
سألتك بحق الإنسانية وحرمة المروءة، وبما جبلت عليه من الحنو والشفقة على الضعفاء
أن تأذن لأحد عمال مكتبك بمباشرة هذه القضية إن لم تتنازل لمباشرتها بنفسك؛ فإن
المقصود هو تأثير اسمك وصيتك في المحكمة.
المحامي
:
لا أرى في ذلك بأسًا للعناية بك، والشفقة على صاحبك.
(وينصرف المحامي بعد مصافحته للباشا.)
السمسار
(للباشا)
:
هلمّ فادفع عشرين جنيهًا.
الباشا
:
ليس عندي الآن شيء من الدراهم.
السمسار
:
أعطني تحويلًا.
الباشا
:
أنا لا أفهم لك كلامًا فاذهب عني فقد ضقت بك ذرعًا.
السمسار
:
كيف أذهب عنك وقد تم لك الاتفاق مع حضرة المحامي أمامي؟
الباشا
:
أنا لم أتفق مع أحد فاتركني وانصرفْ.
السمسار
:
كيف تنكر اتفاقك مع المحامي بعد أن وضعت يدك في يده.
الباشا
:
عفوَك اللهم ولطفك! ومَن يصبر على هذه الحال، أشرت بيدي في حديثي مع صاحبي فوقعت
في حادثة المكاري، وصافحت المحامي فصرت مدينًا بعشرين جنيهًا، ففي أي العوالم أنا
وبين أي المخلوقات؟
قال عيسى بن هشام: ولما رأيت لوائح الغضب بدت على وجه الباشا خشيت أن يقع مع السمسار
في
حادثة أخرى، فأدركته ووبخت الرجل على احتياله وتوعدته بالشر ورفع الأمر إلى النائب العمومي
إن لم ينته عنا، فخلَّفنا وانصرف، ونادى الحاجبُ أرباب القضايا فدخلنا فوجدنا النائب
لا زال
لاهيًا في حديثه مع زائرَيه، وأشار لنا بالتقدم إلى الكاتب فتقدمت مع صاحبي وشرعت في
بسط
القضية، وبيان ما قاسيناه من سوء معاملة البوليس وقبح افترائه، فالتفتَ النائب إلى الكاتب
وقال له: لا تقبل كلامًا في البوليس ولا تسمع فيه طعنًا بل خذ بأقواله واستمسك بتحقيقه،
ثم
نظر في الساعة فوجد الميعاد قد حلّ، فأخذ عصاه ولبس طربوشه وخرج يهرول مع صاحبيه، فقلت
لصاحبي: الآن وجب أن أذهب للبحث عن أحد المحامين الصادقين من أصحابي للمدافعة عنك.
الباشا
:
قل لي بالله ما هو المحامي عندكم؟
عيسى بن هشام
:
هو وكيل الحكم والمخاصمة يتكلم مكانك بما تعجز عنه ويدافع عنك بما لم تعلمه ويشهد
لك بما لم يخطر ببالك، وصناعتُه هذه صناعة شريفة يمارسها كثير من الفضلاء اليوم
بيننا، ولكن قد دخل في الصناعة جماعة ليسوا من أهلها، فاتخذوا الخداع والاحتيال
بضاعة للتكسب مثل هذا المحامي وسمساره، وهؤلاء بعينهم هم الذين يعنيهم علاء الدين
الكنديُّ بقوله:
ما وكلاءُ الحكم إن خاصموا
إلا شياطينُ أولو باس
قومٌ غدا شرُّهم فاضلًا
عنهم فباعوه على الناس