من الغرب إلى الشرق
قال عيسى بن هشام: وأقمنا مع صاحبنا «الحكيم» نهتدي في سيرنا بهديه، ونستضيء بنور
فكره
ورأيه، ونتبعه اتباع الإبل لحاديها، والرفقة لهاديها، ونحمد القدر الذي ساقه لمرافقتنا،
وأنزله على موافقتنا، وقضينا معه الليالي والأيام، منذ انتهينا من المعرض العام وكأنها
حلم
من الأحلام، يتنقل بنا في الأندية الحافلة، والمجالس الآهلة، ويدور بنا في اختبار الأخلاق
والصفات، بين مختلف أهل الطبقات، فيعلو بنا تارة إلى مراتب الخاصة والحامَّة،
١ ونسفل معه أخرى إلى أدنى منازل السوقة والعامة، فاليوم مع كبار الرجال
والأمراء، وغدًا بين شراذم الصناع والأجراء، ثم نتحول من محادثة أرباب القصور العالية،
إلى
محاورة أصحاب الأكواخ البالية، ومن منابر الوعظ والخطابة، إلى مجامع ذوي الدعارة والدعابة،
ومن أروقة العلماء والفضلاء، إلى أزقة الأوباش والسفهاء، ومن جمعيات العلوم والمعارف،
إلى
حانات المراقص والمعازف، حتى لم يبق مجتمع تُختبر فيه الفضائل والرذائل، وتسبر فيه الطباع
بين الأعالي والأسافل، إلا لدينا طرف من خبره، وعلم من أثره، باحثين في العلل والأسباب،
مُستشفِّين لما وراء الحجاب، إلى أن أدركنا الشتاء بخيله ورجله، وجليده ووحله، ورعوده
وبوارقه، وعواصفه وصواعقه، وتوارت الشمس عنا الأيام بعد الأيام، وانسدل على العالم ستر
الظلام، وأصبحنا نستضيء بمصابيح الكهرباء، من الصباح إلى المساء، وانطلقت في الجو مداخن
المعامل ومداخن الاصطلاء، فعقدت سحبًا أخرى تحت سحب السماء.
وتدفقت السيول والأمطار، طول كل ليلة وكل نهار، حتى أغرقت الغدران والأنهار، فطغى
الماء
بمثل الطوفان وسال في الأودية والبلدان، وامتد نهر المدينة فوصل إلى أرض المنازل والمساكن،
وقد يعلو إلى الأدوار والأماكن، فانزوينا في الغرف والحجرات، نقضي بها جميع الأوقات،
وكأنما
نحن في العذاب نُعذب تارة بنار الاستدفاء، وتارة بزمهرير الشتاء، وأقمنا عاكفين على الحديث
والسمر، بما وعيناه عن هذه المدنية من كل خبر وأثر، وكان «الصديق» بيننا كعهده يرسل علينا
القول إرسالًا، ويذهب في حدة انتقاده يمينًا وشمالًا.
ويذكر من أسواء المدنية الغربية ما يهول السمع، ويذرف الدمع، حتَّى استفز «الحكيم»
للرد
عليه، وتهوين ما ذهب إليه:
الحكيم
(للصديق)
:
لقد أسرفت أيها «الصديق» في القول، وغاليت في الوصف وإن كان في بعضه الجانب
الصحيح والحق الصريح، ولكن لهذه المدنية الكثير من المحاسن كما أن لها الكثير من
المساوئ، فلا تغمطوها حقها ولا تبخسوها قدرها، وخذوا منها معشر الشرقيين ما ينفعكم
ويلتئم بكم، واتركوا ما يضركم وينافي طباعكم، واعملوا على الاستفادة من جيل
صناعاتها، وعظيم آلاتها، واتخذوا منها قوة تَصُد عنكم أذى الطامعين، وشره
المستعمرين، وانقلوا محاسن الغرب إلى الشرق، وتمسكوا بفضائل أخلاقكم وجميل عاداتكم،
فأنتم بها في غنى عن التخلق بأخلاق غيركم، وتمتعوا في رخاء بلادكم، وسعة أرزاقكم،
واحمدوا الله على ما آتاكم.
قال عيسى بن هشام: ولم يبق لنا بُدٌّ في هذه الحال، من السفر والانتقال، فاستخرنا
الله في
العودة إلى ديارنا، والأوبة إلى أوطاننا، والحمد لله باطنًا وظاهرًا، أولًا وآخرًا.