خاتمة
بدأت هذا الكتاب بخير ما يُبدأ به كتاب بعد اسم الله وذكر رسوله: رسالة الحكيم جمال الدين.
لم أَرُمْ في ذلك — علم الله — إلى التنبيه من ذكري والتنويه بقدري، وأستغفره ثم أتوب إليه أن يكون الدافع إلى نشرها هذا الغرض دون سواه، وأنا أعلم أن مثل هذه الرسائل من كبار العلماء إلى تلاميذهم إنما يكون مصدرها حث المتعلم على العلم، والإغراء بالتعمق فيه، كالطفل توضع في يده قطعة العاج المنقشة علالة يتعلل بها لتنبت أسنانه، بل كان نشرها لأنها أثر من الآثار يجب عرضه على النظار، ونفاسة بما يخطه ذلك القلم الجليل في أي قصد من المقاصد، ومطلب من المطالب أن يبقى مطويًّا في أدراج الأوراق وحقه أن ينشر على سائر الآفاق.
وأختتمه على مثل هذه النية بخير ما يختم به القول بعد حمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين: هذه الرسالة التي شرَّفني بها مولانا الأستاذ الشيخ سالم بوحاجب شيخ العلماء وصحاب الإفتاء بالمملكة التونسية بعد أن قرأ هذا الكتاب في طبعته الأولى، وناهيك بقدر هذه الرسالة بركةً ويمنًا وشرفًا وجلالًا ممن يمثل لك بالفعل، ما يُروى عن السلف الصالح بالقول، ويشهد لك بسيرته في هذه الأيام، كيف كان العالم العامل في صدر الإسلام، ويعيد لنا ذكرى البصريِّ في الزهد والتقى، والكوفي في الرأي والحجى، والمكيِّ في الفقه والدين، والمدنيِّ في العلم علم اليقين، هذا إلى سعة في الاطِّلاع وتصرُّف في الأفكار، ودقة في البحث واستنباط للأمور، يؤلف الغابر بالحاضر ويطابق بين أحكام ما قضت به الحكمة في سالف الأوان وما تقضي به قواعد هذا الزمان.
فهو المثال التام الذي ينشده الإسلام، منذ السنين والأعوام، من بين العلماء الأعلام؛ ليعود إليه مجده ويرتد إليه حقه ويعرف بهم قدره، ولو منَّ الله بمن يأخذ بقدوته في سائر الأقطار، ولو جرى العلماء على مثاله في كل مصر من الأمصار، لاستوى الأواخر بالأوائل في العلم والدين، ولعاد الإسلام إلى ذلك العز القديم والنصر المبين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أيها الجهبذ النحرير، المتصرف في أحرار الألباب، ورقيق الآداب بالاسترقاق والتحرير، البالغ من رتب التهذيب أقاصيها، المالك من بدائع التربية نواصيها، أما بعد: تقديم التحية اللائقة بعزة تلك الحضرة المحمدية المويلحية، فقد وصل إليَّ — واصل الله في مدارج الإجادة ارتقاءكم، وأدام لحسن الإفادة إتقانكم وانتقاءكم — كتابكم الجليل الذي يقوم به على تقدمكم في حلبة العرفان، وبراعة البيان، وكمال تربية الإنسان، أوضح دليل، فوالذي علم بالقلم، ومنح خير خلقه جوامع الكلم، إنَّ لقلمكم من السحر المبين ما تخر له سحرة البيان ساجدين، وإنه ليحقق اللطيفة الموسوية التي لمح لتأهُّلكم لها كتاب الأستاذ جمال الدين، كما يتحقق ما يتفاءل به عن إسناد مروياتكم لاسم عيسى، وإحياء موتى الأفكار المؤسَّسة على حياة من كان في اللحد رميسًا، فيا لَه من معلِّم قد علم منه كل أناس مشربهم، ووجد فيه الباحثون عن وسائل الاستقامة مأربهم، فرجال الحكم مثلًا سواء أكانوا من الأمة الإسلامية أم غيرها، يتعرفون منه مِلاك عز الأمة ونمو خيرها، بإسناد الوظائف إلى أهل المعرفة والفضل، والضنِّ بها عن غير الأهل، وإقامة منار العلم والعدل؛ لتدارك ما تخرب بيد الجور والجهل، والعلماء يدركون به طرق النصح في التعليم، وعدم النفرة من الحديث لمجرد كونه لم يعهد في القديم، ومع ما يلزم لهم في اقتياد ذوي الجهالة والعناد من الملاطفات، والتحذير مما يدنس الشريعة المصونة من مُختلق الخرافات، والحاكم الغاشم ينتهي بمطالعته بالكف والإعراض عن كل ما يمس المروءة ويدنس الأعراض، والمنشئ يتعلم منه كيف يسحر العقول بهيمنة لفظه، ويستلب القلوب بحسن إرشاده ووعظه، وكيف ينتحل الأديب مهارة الطبيب، فيشرح النصائح بأسلوب عجيب، لا يتطرقه إنكار أو تكذيب، وقد يجد المريض من حذق الطبيب عذوبة التعذيب، ثم يسترشد به الوالد في تربية أبنائه، ويدعوهم إلى حفظ مجد البيت والثروة بعد فنائه، ويعينهم على استثمار دوحة البذور، وينقذهم مما يُفضي إليه سوء السيرة من الأسواء والشرور.
ملأ اللهُ أوقات الجميع بالسرور، ولا زال يرينا من أعمالكم كل أثر مشكور، وإذا كان لا يتيسر لغيركم رعاكم الله أن يصل بقلمه إلى منتهى آماله، فحسبنا أن نقنع في أداء الواجب بإجماله.
هذا ما حملت عليه محاولة القيام ببعض الواجب، من متيم ودكم وأدبكم.