المحكمة الأهلية
قال عيسى بن هشام: ولما حل يوم الجلسة رافقت الباشا إلى المحكمة فوجدنا في ساحتها
أقوامًا
ذوي وجوه مكفهرَّة، وألوان مصفرَّة، وأنفاس مقطوعة، وأكف مرفوعة، وشاهدنا باطلًا يُذكر،
وحقًّا يُنكر، وشاكيًا يتوعد، وجانيًا يتودد، وشاهدًا يتردد، وجنديًّا يتهدد، وحاجبًا
يستبد، ومحاميًا يستعد، وأمًّا تنوح، وطفلًا يصيح، وفتاة تتلهف، وشيخًا يتأفف، وسمعنا
ألفاظًا متناقضة، وأقوالًا متعارضة، ورأينا المحاميَين، عن الخصمين، يشحذ كل منهما لسانه،
ويقدح جنانه، استعدادًا للنزال في ميادين المقال، وتأهبًا للدفاع، في مواقف النزاع، ليخرج
كلاهما بغنيمة البراءة في الحكم، ورفع التهمة والجرم، فانزويت بصاحبي، ومحامينا بجانبي،
يذكر لنا «أصولًا مرعية»، و«مسائل فرعية» وظروفًا وأحوالًا، وشروحًا وأقوالًا، وموادَّ
وفقرات، في الجنح والمخالفات، ثم يتصفح محاضره، ويقلب دفاتره، ويُقسم لنا بوكيد الأيمان،
أن
الباشا من تهمته في أمان، وأنا أجيب صاحبي عن كل سؤال، بما تقتضيه الحال، ولما سألني
عن هذه
الملحمة قلت له: هي المحكمة.
الباشا
:
قد كان العهد بالمحكمة الشرعية وبيت القاضي على غير ما أرى فهل أصابها الدهر فيما
أصاب بالتغيير والانقلاب؟
عيسى بن هشام
:
هذه هي المحكمة الأهلية لا المحكمة الشرعية.
الباشا
:
وهل للقضاء بين الناس غير المحكمة الشرعية؟
عيسى بن هشام
:
للقضاء في هذه البلاد على ما تَشتهي محاكم متعددة ومجالس متنوعة؛ فمنها المحاكم
الشرعية والمحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة والمجالس التأديبية والمجالس الإدارية
والمجالس العسكرية والمحاكم القنصلية، دَع المحكمة المخصوصة.
الباشا
:
ما هذا الخلط، وما هذا الخبط، وسبحان الله هل أصبح المصريون فرقًا وأحزابًا
وقبائل وأفخاذًا، وأجناسًا مختلفة، وفئاتٍ غير مؤتلفة، وطوائف متبددة، حتى جعلوا
لكل واحدة محاكم على حدة، ما عهدناهم كذلك في الأعصر الأوَل، مع دولات الدول، وهل
انطمست تلك الشريعة الغراء، واندرست بيوت الحكم والقضاء، اللهم لا كفران ولعن الله
الشيطان.
عيسى بن هشام
:
ليس الأمر على ما تتوهم وتتخيل؛ فلم يتفرق المصريون فرقًا ولم يتوزعوا شعوبًا، بل
هم أمة واحدة ولهم حكومة واحدة يقضي نظام الأمور فيها بهذا النسق والترتيب في
القضاء والحكم، وأنا أشرح لك جملة الحال شيئًا قليلًا.
أما المحاكم الشرعية فقد جُرِّدت من النظر والحكم في عامة المخاصمات، واقتصر
العمل فيها على الأحوال الشخصية؛ أعني مسائل الزواج والطلاق وما يدخل في هذا
الباب.
الباشا
:
تالله لقد فسد الحال وانحل النظام، وكيف يعيش الناس ويستقر لهم حال بغير شرع الله
وسنة نبيه، وهل أصبحتم في الزمن الذي يعنيه القائل بقوله:
قد نُسخ الشرعُ في زمانهم
فليتهم مثل شرعهم نُسِخوا
عيسى بن هشام
:
لم يُنسخ الشرع ولم يرتفع حكمه، بل هو باقٍ على الدهر ما بقي في العالم إنصاف وفي
الأمم عدل، ولكنه كنز أهمله أهله، ودرة أغفلها تجارها، فلم يلتفتوا إلى وجوه تشييده
وتمكينه وتمسكوا بالفروع دون الأصول، واستغنوا عن اللب بالقشور، واختلفوا في
الأحكام وعكفوا على الاشتغال بسفساف الأمور، وتعلقوا من الدين بالأغراض الحقيرة
والأقوال الضعيفة، وتركوا الحقيقة إلى الخيال وتعدوا الممكن إلى المحال، فكان من
أكبرهم العالم العلامة فيهم والحبر الفهامة منهم أن يُبدع في التفنن للإغماض في
الحق الأبلج والتعقيد في الحنيفية السمحة، ولم ينتبهوا يومًا إلى ما تجري به أحكام
الزمن في دورته، ولم يفقهوا أن لكل زمن حكمًا يوجب عليهم تطبيق أحكام الشرع على ما
تستقيم به المصلحة بين الناس، بل ظلوا واقفين عند الحد الأدنى لا يتزحزحون ولا
يتحلحلون، معتقدين أن الدهر دار دورتَه ثم وقف، وأن الزمن تحرك حركته ثم سكن فلا
أمل فيه ولا عمل، فكانوا سببًا في تهمة الشرع الشريف بخلل الحكم ووهن العَقد وقلة
الغَنَاء فيه؛ لإنصاف الناس في معايشهم ومرافقهم على حسب ما تتجدد به حالات الزمن،
وتتخالف عليه أشكال العصور، ومن هنا تولدت الحاجة إلى إنشاء المحاكم الأهلية بجانب
المحاكم الشرعية.
الباشا
:
ما أظن إلا أن يكون لأهل الشرع وأصحاب التفقه في الدين عذرٌ واضح في النزول إلى
هذه الحال السيئة؛ من معارضة معارض ومنازعة منازع أو جور سلطان قاهر وعسف حاكم
قاسر، فصدهم عن سواء السبيل، وأرعاهم هذا المرعى الوبيل.
عيسى بن هشام
:
لم يكن من ذلك شيء على الإطلاق؛ فالإرادات مختارة، والأفكار مطلقة، والنفوس
مطمئنة، والأرواح آمنة، وليس الفساد ناشئًا عن طوارئ الزمان وطوارق الحَدَثان،
ولكنه فساد في التربية عم أمرُه وانتشر، وانحطاط في الأخلاق عظُم بلاؤه واشتهر،
سكنت إليهِ نفوسهم وارتاحت به ضمائرهم، وقد تمكن منهم داء التحاسد والتباغض ودبت
بينهم عقارب التشاحن والتضاغن، واستولى على قلوبهم الجبنُ والخوَر، وعلى عقولهم
الضعفُ والخبل، وعلى نفوسهم الفتور والكسل؛ فوصلوا إلى الحال التي يرون بها السنة
بدعة والبدعة سنة، والفضيلَة نقيصة والنقيصة فضيلة، وأقاموا يتعسفون في الحكم ولا
ينصفون، ويتفكهون في الدين ولا يتفقهون، وصَرَفَهُم حب المال، عن صالح الأعمال،
وألهاهم ما يدخرونه من زخرف الحياة الدنيا، عما يُدخر لهم في الدار الأخرى، فنحن
الذين فعلنا كل هذا بأنفسنا، منا الإثم والوزر، وعلينا الذنب والإصر.
وأما المحاكم الأهلية فهي القضاء الذي يَقضِي على الرعية اليوم في جميع الخصومات
طبقًا لنص القانون.
الباشا
:
القانون «الهمايوني»؟
عيسى بن هشام
:
القانون «الإمبراطوري».
الباشا
:
ما عهدت منك أن تُعجم وتُبهم.
عيسى بن هشام
:
لا إعجام ولا إبهام، فهو قانون نابليون إمبراطور الفرنسيين.
الباشا
:
وهل عاد الفرنسيس فأدخلوكم تحت حكمهم وسلطانهم مرة أخرى؟
عيسى بن هشام
:
لا، وإنما نحن الذين أدخلنا أنفسنا في حكمهم فاخترنا قانونهم ليقوم عندنا مقام
شرعنا.
الباشا
:
وهل هذا القانون ينطبق حكمه على حكم الشرع الشريف والسنة المطهرة، وإلا فإنهم
يحكمون فيكم بغير ما أنزل الله؟
عيسى بن هشام
:
المسألة فيها خلاف، فالإجماع تام عند علماء الشريعة في السر والنجوى على أنه
مخالف للشرع، وأن كل من يقضي به داخلٌ تحت نص الآية الشريفة: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُولٰئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ولكن يظهر أنه مطابق عندهم للشرع في حالة الجهر والعلن؛
بدليل ما أعلنه أحد كُبرائهم عند نشر هذا القانون، وهو يومئذٍ مفتي نظارة الحقانية،
فقد أقسم الأيمان المغلظة على فتواه التي أفتاها بأن هذا القانون الفرنسيَّ غير
مخالف للشرع الإسلامي، وإن كان لا عقاب في هذا القانون على الفسق واللواط مع رضا
المفسوق به إن تجاوز عمرُهُ الثانية عشرة بيوم واحد، ولا عقاب فيه على من يزني بأمه
إذا هي رضيت وكانت غير متزوجة، وهو الذي يعد الأخ مجرمًا جانيًا إذا تعرض لحماية
عرض أخته والمدافعة عنه، وكذلك بقية أهلها ما عدا زوجها، وهو الذي يقبل شهادة
المرأة الواحدة على الرجل، وهو الذي لا يعاقب الزوج إذا سرق من امرأته، ولا المرأة
من زوجها، ولا الولدَ من أبيه ولا الأب من ابنه.
وأما المحاكم المختلطة — وقضاتها من الأجانب — فهي تختص بالنظر فيما يقع من
الخصومات بين الأهالي والأجانب وبين الأجانب وبعضهم في الحقوق المدنية؛ أعني في
قضايا المال، ولما كان الأجانب هم أحق وأولى بالغنى لسعيهم وجدِّهم، وكان المصريون
أخلقَ بالفقر وأجدرَ لإهمالهم وتوانيهم، كان معظم القضايا التي تحكم فيها هذه
المحاكم لا بدَّ أن تنتهي بسلخ المصري من ماله وعقاره.
وأما المجالس التأديبية فهي تختص بالنظر في عقاب الموظف الذي يخل بتأدية وظيفته —
وهي تتألف في الغالب من نفس الرؤساء الذين يتهمونه — وحدُّها في العقاب الرفت
والحرمان من المعاش، وما بقي من درجات العقاب فالنظر راجعٌ فيه إلى المحاكم
الأهلية.
وأما الجالس الإدارية فهي تختص بعقاب من يخالف اللوائح والأوامر والمنشورات،
وشرحُ ذلك يطول.
وأما المحاكم العسكرية فهي تختص بالنظر في عقاب المتهمين من الضباط والجنود،
وتحكم أيضًا على الأهالي في مسائل القرعة وما شاكلها.
وأما المحاكم القنصلية فهي تختص بالنظر في الجنح التي تقع من الأجنبي على المصري
ومن الأجنبي على الأجنبي من جنس واحد، فإذا وقعت جناية من أجنبي على مصري فليس لها
في مصر من حكم أو عقاب، ولا تختص أي محكمة من كل هذه المحاكم التي عددتها لك بالنظر
فيها، بل يرتد الجاني بالقضية إلى وطنه ومسقط رأسه وديار قومه، فينظر قضاته هناك في
أمره، والغالب في مثل هذه الحال عندهم أن ينتهوا بتبرئة المجرم بعلل معلومة مثل:
«عدم ثقتهم بتحقيق البوليس المصري، وضياع معالم القضية، وعدم توفر الشهود».
وأما المحكمة المخصوصة فهي تختص بمعاقبة الأهالي عند تعديهم على الجنود
الأجنبية.
الباشا
:
ما زلتَ تسمعني الغريب وتفهمني غير مفهوم، ومن أعجب ما سمعت أن المصريَّ يتعدى
على الجندي.
قال عيسى بن هشام: وبينا نحن في هذا الحديث إذ ارتجَّ المكان وتماوج الزحام، وأقبل
القاضي
وهو في عنفوان شبابه وصبا أيامه؛ يتألق وجههُ حسنًا، ويشاكل في القد غصنًا، وكأنه طائر
في
مشيته، من نشاطه وخفته، ولما دخل الجلسة ذهبتُ أسأل عن نوبة القضية ثم عدت إلى صاحبي،
ومكثنا في الانتظار زمنًا طويلًا إلى أن جاء وقتنا ونُودي الباشا فدخل مع المحامي في
الجلسة، وقام النائب فطلب الحكم على المتهم بمقتضى مادتي ١٢٤ و١٢٦ عقوبات لتعديه بالضرب
على
أحد رجال «الضبطية القضائية» في أثناء تأدية وظيفته، وبالمادة ٣٤٦ مخالفات لتعديه على
المكاري بالإيذاء الخفيف.
القاضي
(للمتهم)
:
هل فعلت هذه التهمة؟
المتهم
:
لم أفعل.
قال عيسى بن هشام: وجاؤوا بي شاهدًا فسألني القاضي عما أعلمه في هذه الواقعة
فأجبتُه:
عيسى بن هشام
:
إن لهذه الحادثة قصة عجيبة وحكاية غريبة وهي أنهُ …
القاضي
(مقاطعًا)
:
لا لزوم لتفصيل القصة والحكاية، قل لي «معلوماتك» فيها.
عيسى بن هشام
:
«معلوماتي» هي أنني كنت أزور المقابر ذات ليلة وقت الفجر أبغي الموعظة وأنشُد
الاعتبار …
القاضي
(مستثقلًا)
:
لا لزوم لكثرة الكلام، أجبني عن النقطة التي سألتك عنها فقط.
عيسى بن هشام
:
ذلك ما أفعله من حكاية الواقع وهو أني رأيت
رجلًا خرج من …
القاضي
(متململًا)
:
قلت لك: إني لا أقبل التطويل ولا الشرح في الواقعة، ولكن هل ضرب المتهمُ
العسكريَّ والحمَّار.
عيسى بن هشام
:
ما ضرب المتهم الحمار وإنما دفعه عنه من شدة إلحاحه، وما ضرب العسكريَّ وإنما سقط
عليه مما غشيهُ بغير عمد ولا قصد وهو يجهل …
القاضي
:
يكفي، يكفي، هلم «النيابة».
النائب
:
إن هذا الباشا متهمٌ بتعدِّيه بالضرب على أحد رجال البوليس في أثناء تأدية وظيفته
بالقسم ومتهم بالتعدي بالإيذاء على مرسي الحَمَّار، والتهمة ثابتة من شهادة الشهود
التي في الأوراق، واطلاع المحكمة عليها كافٍ وبناء عليه النيابة تطلب الحكم على
المتهم بالمادة ١٢٤ و١٢٦ عقوبات، وبالفقرة الثانية من المادة ٣٤٦ مخالفات وتطلب من
عدالة المحكمة التشديد في العقوبة؛ لأن حالة المتهم تستدعي ذلك، فإنه يتخيل أن
رتبته تجعله خارجًا عن سلطة القانون، وتخوِّله الحق في اعتباره بقية الناس أصغر منه
شأنًا فيؤدبهم بنفسه مع عدم مراعاة حقوقهم وحرمة القانون، ولا شك أن تشديد العقوبة
عليه واجب لاعتبار أمثاله به وللمساواة في العدالة، وأفوض الأمر إلى
المحكمة.
القاضي
(للمحامي)
:
المحاماة، مع الاختصار.
المحامي
(بعد أن يتنحنح ويقلب في أوراقه)
:
إننا نتعجب من أن النيابة العمومية استحضرتنا اليوم بصفة متهمين، ونقول: إن أصل
وقوع الجرائم يا حضرة القاضي في وضع الشرائع والقوانين في هذا العالم منذ البداوة
وعصور الهمجية كان يُقصد منه …
القاضي
(مشمئزًّا)
:
اختصر يا حضرة المحامي وادخل في الموضوع.
المحامي
:
… ومن المعلوم أن نظام الترتيب يا حضرة القاضي في طبقات الهيئة الاجتماعية يقضي …
القاضي
(متضجرًا)
:
اختصر يا بك.
المحامي
:
الموضوع يقتضي ذلك.
القاضي
(متأففًا)
:
لا لزوم له.
المحامي
(متحيرًا)
:
قالت النيابة العمومية (ويسرد شيئًا من
أقوالها) ونحن نقول: إننا لو سمحنا جدلًا …
القاضي
(مغضبًا)
:
يكفي يا بك، الموضوع.
المحامي
(متلعثمًا مضطربًا)
:
إن هذا المتهم يا حضرة المحكمة الواقف الآن بين يدي القضاء هو رجل عظيم وأمير
خطير من أهل العصر القديم، وله حديث منشور في الجرائد — وهذه أعداد جريدة «مصباح
الشرق» تطلعون عليها — وقد اعترضه في طريقه أحد المكارين، فدفعه عن نفسه والناس
يعلمون إلحاح الحمَّارة وسوء أدبهم، ومثل هذه الطبقات التي ليس فيها تربية …
القاضي
(نافدًا صبرُهُ)
:
قلنا: اختصر يا بك.
المحامي
(وهو يتصبب عرقًا)
:
… ولما توجه المتهم إلى القسم أغمي عليه فسقط بدون تعمد على عسكري كان يكنس أرض
القسم بغير ملابسه الرسمية، وعدالة المحكمة تقضي بعدم الالتفات إلى دعوى البوليس
ولا عقاب على المتهم البتة؛ لأنه كان في عصر غير عصرنا وفي نظام خلاف نظامنا، ولم
تبلغه دعوة القانون فهو يجهل أحكامه وحضرة القاضي الفاضل أدرى بالأحوال، وإن …
القاضي
(منفعلًا ضاربًا بيده على المكتبة)
:
المحكمة تنورت يا بك ولا لزوم للكلام مطلقًا فهلم طلباتك.
المحامي
(ساخطًا في نفسه)
:
طلباتنا هي «أننا نطلب من باب أصلي الحكم ببراءة المتهم، وإن رأت المحكمة غير ذلك
فنرجو استعمال الرأفة بالمادة ٥٣٢ عقوبات.
قال عيسى بن هشام: وبعد ذلك نطق القاضي بالحكم فحكم على الباشا بالحبس سنةً ونصفًا
بمقتضى
المادتين المذكورتين من قانون العقوبات، وبخمسة قروش والمصاريف بالمادة المذكورة أيضًا
من
المخالفات، فضاقت الأرض بي وأظلمت الدنيا في عيني، وكدت أشترك مع صاحبي في الذهول والإغماء
لولا أن المحامي أكد لي كل التأكيد أنهُ لا بد من البراءة في محكمة الاستئناف لعدالة
رجالها، ولكن يجب مع ذلك أن نرفع عريضة شكوى إلى «لجنة المراقبة» لحسن التأثير في القضية
عند نظرها في الاستئناف، ثم قال لي: اعلم أن السبب في كل ما صدر عن هذا القاضي من المقاطعة
والمعاكسة والاستعجال هو؛ لأنهُ مدعو في وليمة بعض رفاقه عند الظهر تمامًا، وأمامه في
جدول
القضايا ثلاثون قضية يريد أن يأتي عليها كلها حكمًا قبل حلول الميعاد.
وأطعنا إشارة المحامي فقدمنا عريضة إلى «لجنة المراقبة»، ولما طلبنا منه أن يتوجه
معنا
للسؤال عمَّا تَمَّ في أمرها تنحَّى عن استصحابنا، وقال: إنه كان يود مباشرة ذلك بنفسه،
ولكنه يمنعه أن يعلم القاضي بسعيه في التظلم منه فيتعمد في المستقبل أذاهُ، وينصرف همه
إلى
نكايته بسبب شكايته، والمحامي في حاجة دائمة إلى اجتلاب رضاء القاضي واجتناب غضبه، فقبلتُ
عذره، ودعوت الباشا إلى التوجه والسؤال، فأعرض ونأى بجانبه وخاطبني وهو يشتد في الإباء
ويلجُّ في الامتناع بقوله:
الباشا
:
يكفيني ما قد وصلت إليه من الذل والهوان وما قاسيته من نزول القدر، وحلول الضيم
بحكم القضاء من رافع السماء، وأنا أربأ بنفسي أن يجتمع عليها ذلَّانِ في سلك واحد؛
ذل المتحمل للظلم المستكنِّ للجور، وذل المشتكي الضارع والمتظلم الخاضع، فإليك عني
لا تكن عونًا للخطوب، ومفتاحًا للكروب، وصدَقَ ابنُ يعقوب رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، ويعلم
الله لولا عذاب النار، لفرَّجت عن همي بالانتحار، وبودِّي لو يبدل حكم الحبس
بالإعدام لأخلص من هذه الأوصاب والآلام، وقد عشت دهري ما علمت أن السجن يكون في
عقاب الكبراء والأمراء، وإنما هو يجري عندنا في عقاب الغوغاء من الناس والسفلة من
العامة، وللأمراء الامتياز على كل حال، فإن كان ثمَّ لنا عقاب، فضرب الرقاب، وعندنا
أن لقاء المنون، أليق بنا من ظلمة السجون.
عيسى بن هشام
:
ما كنت أعهد من مثلك هذا الجزع والفزع، ولا أتوقع منك مثل هذا الخوَر والهلع،
وأنت البطل الجريء والشجاع المقدم، وما الشجاعة إلا في التصبر على المكروه والتجلد
للخطوب تتلقاها بوجه طلق وصدر رحب، وتترقب الفرج منها بعد الضيق.
ربما تجزع النفوسُ من الأمر له فُرجةٌ كحلِّ العقال.
وأنت عندي الحازم الأرشد، والعاقل المُسَدَّد، وما العقل إلا نفاذ الرأي في كشف
الملمة، وتسديد الحيلة في إزاحة الغُمة، وأمامنا اليوم طرق مسنونة ووسائلُ مشروعة
لا غضاضة علينا في وُلوجها ولا مضاضة في سلوكها، واعلم أن تبدل الأزمان وتقلب
الحدثان يغيِّر من مباني الأمور ويكيف في اعتبار الأشياء فما كان يُعتبر بالأمس
فضيلة يعتبر في الغد رذيلة، وما كان يعده الناس في الزمن الماضي نقيصة يعدونه في
الحاضر كمالًا، وإن كان الشرف فيما مضى يستمد رونقه من السطوة والمَنَعة ويقوم ركنه
على البأس والبطش، فإن الشرف اليوم كل الشرف في الاستكانة للأحكام والخضوع للقانون،
فهلم نسلك سبيله ونأخذ طريقه عسانا أن ننتهي بالخلوص والنجاة، ومن القواعد المقبولة
لدى العقلاء والحكماء أن يقبل الإنسان نظام الأحكام في البلد الذي اتخذه دارًا
واختارهُ مقامًا.
الباشا
:
لطعمُ الموت الزُّؤَام١ أهون من هذا الكلام، وللشربُ من حميم آن،٢ آثر من احتمال هذا الهوان.
قال عيسى بن هشام: فاعتلت عليَّ وجوه الآراء، في صرف صاحبي عن الامتناع والإباء، وكدت
أيأس من بلوغ الغاية في باب النصيحة والهداية، لولا أن سمعنا مناديًا من باعة الجرائد
يُنادي في طريقنا بصوت نكير، دونه صوت الحمير:
المؤيد والمقطم! الأهرام ومصر الأربعة بقرش!
الباشا
:
ماذا أسمع من الأعاجيب! أأصبحت المساجد والجبال والآثار والبلاد تُباع في الأسواق
بالمزاد؟
قد اختل الأنام بغير شكّ
فجدُّوا في الزمان أو العبوه
عيسى بن هشام
:
ما هي بالآثار ولا بالبلاد، ولكنها أسماء انتُحلت أعلامًا لهذه الجرائد
اليومية.
الباشا
:
لعلك تعني «جرائد الصيارفة ويومياتهم» أو «جرائد الالتزام» ولكن ما وجه هذه
التعمية في التسمية؟
عيسى بن هشام
:
ليس الأمر كما ذهبت إليه، ولكن الجرائد هي أوراق تُطبع كل يوم أو كل أسبوع أو كل
شهر تجمع وتسرد فيها الأخبار والروايات العامة؛ ليطلع الناس على أحوال الناس، وهي
أثر من آثار المدنية الغربية انتقل إلينا منها فيما انتقل، والأصل في وضعها انتشارُ
الحمد للفضيلة والذم للرذيلة، والنقد على ما قبح من الأعمال، والحث على ما حسن من
الأفعال، والتنبيه على مواضع الخلل، والتحضيض على إصلاح الزلل، وتعريف الأمة بأعمال
الحكومة النائبة عنها حتى لا تجري بها إلى غير المصلحة، وتعريف الحكومة بحاجات
الأمة لتسعى في قضائها، وبالجملة فإن أصحابها هم في مقام الآمرين بالمعروف والناهين
عن المنكر الذين أشارت الشريعة الإسلامية إليهم.
الباشا
:
قد كنا نسمع في زماننا بشيء من هذا القبيل يقال له: «غازيته» وكانت تصدر عندنا
واحدةٌ منها بالتركية اسمها «روزنامه وقائع» وأخرى بالعربية اسمها «الوقائع
المصرية» تدون فيهما المدائح والتهاني ويذكر فيهما انتقال الركاب العالي، ولكن إن
كانت الجرائد قد ارتفعت اليوم إلى ما تزعم، فلا بد أن يكون قد اشتغل بها واهتم
بأمرها كبراء العلماء الأعلام وعظماء المشايخ الكرام، ولنعمتِ الوسيلة وحسُنت
الطريقة في تبليغ الناس ما يصلحهم في معاشهم وينفعهم في معادهم، فعليَّ بواحدة
منها.
عيسى بن هشام
:
علماؤنا ومشايخنا، يغفر الله لهم، هم أبعد الناس عن اجتياز هذه الطريق وممارسة
هذه الصناعة، وهم يرون الاشتغال بها بدعة من البدع ويعتبرونه فضولًا تنهى عنه
الشريعة وتداخلًا فيما لا يعني، فلا يأبهون بها، وربما اختلفوا في كراهة الاطلاع
عليها أو إباحته، وقد مارس هذه الصناعة قوم آخرون غيرهم فيهم الفاضل وغير الفاضل،
واتخذها بعضهم حرفة للتعيش بها والتكفف على أية حالة كانت، فلا تجد بينهم وبين أهل
الحرف وباعة الأسواق فرقًا في الغش والخداع والكذب والنفاق والمكر والاحتيال
للاستلاب والاغتيال.
عَمَروا موضع التصنع فيهم
ومكان الإخلاص منهم خرابُ
فذهب منها الغرض المقصود وسقط شأنها بين العامة بعد أن سفل قدرها عند الخاصة،
وأصبح ما كان يُرَجى فيها من النفع دون ما تجلبه من الضرر، ومن العقلاء من لا يزال
يرجو من الأيام أن تدور يومًا بتهذيب هذه الحال ورفعِ هذه الصناعة إلى الدرجة
اللائقة بها من الشرف وعلو القدر، والحكم كله للقارئين في الإقبال على ما ينفع
والانصراف عما يضر فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ
وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، ثم ناديت
البائع فاشتريت منه أربعًا، وفتحت واحدة أقرأ على صاحبي نُتفًا من أخبارها فوقع
نظري فيها على كلام طويل عن الحكم على أحمد سيف الدين، فأسمعتُه ما جاء فيه من وصف
ما يُقاسيه هذا الأمير من خشونة العيش في سجنه، واستدرار الدموع لما يلاقيه هذا
الغلام من ضيق السجن وهو من سلالة الولاة والأمراء، ثم قلت له بعد أن انتهيت من
أقوال الجريدة في استعطاف القلوب والتماس العفو.
انظر أيها الباشا كيف وصلت بنا الحال في المساواة وقد علمت ما أصاب «البرنس» أحمد
سيف الدين من حكم المحاكم عليه، فكيف تترفع نفسك بعد ذلك، وتأبى الخضوع للقانون
والامتثال لأحكامه والتوسل بطرقه للخلاص مما وقعت فيه.
الباشا
:
ما «البرنس» ومن أحمد سيف الدين؟
عيسى بن هشام
:
أما «البرنس» فهو لقب أجنبي قديم كان يتلقب به رؤساء الدولة الرومانية قبل أن
يجترئوا على الأمة بانتحال لقب «إمبراطور»، ثم صار يُطلق بعدهم في أوروبا على أعضاء
بيت الملك وعلى رؤساء الحكومات الصغيرة، ويطلقه اليوم على أنفسهم أعضاء «العائلة
الخديوية» ذكورًا وإناثًا، وإن كان لا ذِكر له بين الألقاب الرسمية في الدولة
العلية، وأما أحمد سيف الدين هذا فهو أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن محمد
علي جد الأسرة الخديوية وعميدها، وقد ارتكب جناية فسحبوه إلى المحاكم، واستحق
العقاب الذي يقضي به القانون فحكمت عليه المحكمة الابتدائية بالسجن سبع سنين،
فاستأنف يلتمس الشفقة والرأفة من قضاة الاستئناف، فأنقصوا المدة إلى خمس، ثم استغاث
بمحكمة النقض والإبرام فلم تُغثه، وقد انصرفت المساعي لاتفاق أعضاء الأسرة الخديوية
على التماس العفو عنه، وذهبت أمه يمينًا وشمالًا فلم تبق وسيلة من وسائل الاسترحام
إلا سلكتها، ولكن لا وسيلة مع القانون؛ فإن سيفه ماضٍ في كل الرقاب وسلطانه نافذ في
كل الرءوس، فهل يليق بك حينئذ أن تتكبر وتترفع عن التوسل والتظلم وتأنف نفسك من
السعي وراء «لجنة المراقبة» و«محكمة الاستئناف»، وقد علمت من تاريخ الأمراء وأولياء
النعم ما علمت؟
الباشا
:
نعم كيف لا تخر الجبال الشم، إذا استنزلوا منها الأروايّ العصم،٣ وكيف لا تنشق القبور، ويُنفخ في الصور، وقد انحط المقام وسفل القدر،
وحقت كلمة ربك على مصر: «فجَعلنا عاليَهَا سافلَهَا»، وما دام حفيد محمد علي في
السجن على ما تَروي يخضع لحكم القانون، ويتوسل بتلك الوسائل وتتشفع أمه بتلك
الشفاعات، فما عليَّ من عار فيما تدعوني إليه، فاذهب بي إلى حيث تريد، وليتهم كانوا
يقبلون مني أن أكون فداءً لابن سادتي وأولياء نعمتي فتضاف عقوبتهُ إلى
عقوبتي.