لجنة المراقبة
قال عيسى بن هشام: فسرني من الباشا مطاوعته إيّاي وقبوله لنصيحتي ورضيَ بالتوجه إلى
نظارة
الحقانية، فسار معي وهو مختنق بدمعه متعثر بقدمه، ولما وصلنا إليها قصدنا مكان «لجنة
المراقبة» وهممنا بالدخول في حجرة المفتشين فمنعنا الحاجب وطلب منا «الكارت».
الباشا
(مستفهمًا)
:
ما معنى هذا اللفظ الأعجمي؟
عيسى بن هشام
:
«الكارت» بطاقةٌ صغيرة يُطبع عليها الاسم والعمل أو الحرفة والصنعة يقدمها الزائر
قبل الدخول؛ ليكون المَزُور بالخيار في قبول الزيارة أو التملص منها.
الباشا
:
لقد كانت أبواب التظلم مفتوحة في أيامنا لكل من يطرقها، وكيف ينطبق هذا التضييق
على ما تصفه لي من المساواة في الحقوق والإنصاف في الأحكام؟
عيسى بن هشام
:
لا يسلم الحال من زيارة زائر بغير شغل أو من لجاجة صاحب حاجة، فوُضعت هذه الطريقة
ليتفرغ الحكام لأعمالهم.
الباشا
:
ألم تكن هيبة الحكام وعزتهم بكافيةٍ لصد مَن ذَكرت عن الدنو منهم والتجرؤ
عليهم؟
قال عيسى بن هشام: وبادرت إلى القلم فكتبتُ وُرَيقة باسم الباشا وسلمتها للحاجب، فجاءنا
بعد الانتظار بالإذن فدخلنا فوجدنا أمامنا فتًى من أجمل الفتيان، قد أرسل لحيته قبل الأوان،
يتموج تحتها ماءُ الشباب، كما يتموج الضوء وراء السحاب، ولما اقتربنا منه بعض الاقتراب،
رأيت في يده جريدة حساب، يجمع في أرقامها ويضرب في أعدادها، ثم يضع يده على جبهته، كمن
يتذكر رقمًا سقط من حِسبته، وعن يمينه كتابٌ أعجميّ، وعن شماله كتابٌ عربي، فكتاب اليمين
«لفولتير» الفرنسي الملحد، وكتاب الشمال لابن العربي المتصوف الموحد، ولما تقدمنا نحوه
سألنا عن حاجتنا، فذكرت لهُ العريضة التي قدمناها وقصصت عليه القصة وشرحت له ما عاملنا
به
القاضي من سوء المقاطعة في الشهادة والمرافعة، وهنا انبرى الباشا يخاطبه بقوله:
الباشا
:
وأدهى ما في القضية وأمرُّ ما في الأمر أن الذي تسمونه (النائب) اعتبر رتبتي
سببًا لإهانتي، وما كنت أتخيل في الأحلام أن الرتبة التي نلتها باقتحام الأخطار
واحتمال المشاق تكون جريمة لا تغتفر وبرهانًا قاطعًا لديه في تشييد دعواه يَطلب به
تشديد العقوبة، فقولوا لي بالله متى كانت هذه الرتبة الشريفة تستوجب العقاب
والانتقام، ومن أي صنف أنتم بين صنوف الأنام؟
قال عيسى بن هشام: ودخل أحد الزائرين في هذه الأثناء، فحمدت الله على انقطاع الكلام
بسبب
دخوله، وإلا فقد كان الباشا اندفع فيه، بما يتعذر تلافيه، وبعد أن سلم الزائر سأل عما
حدث
من الأخبار في وجه النهار، فناوله المفتش خطبة يتفكه بقراءتها، بعد أن بالغ له في بلاغتها،
وما كاد يلتفت إلينا ثانية حتى وافاه أحد المفتشين من الأجانب فأطلَعه على رسم في ورقة
زعم
أنه نقشه في أثناء مناقشة قانونية اشتدَّ فيها الخصام واحتد الجدال، فنظر الشاب فيه نظرة
وضحك له، ثم تخلص منه للاشتغال بأمرنا، فخاطب الباشا بكلام لطيف عذبٍ ينبئ عن كرم نسبه
وحسنِ أدبه وختم كلامَهُ بقوله:
المفتش
(للباشا)
:
قد اطلعت على ظروف القضية كلها في «مصباح الشرق»، فأما القاضي فقد يكون لهُ العذر
في مقاطعة المحامي؛ لأن منهم من اعتاد أن يأتي في مرافعاته بتاريخ نشأة الخليفة
وتكوين الجمعية البشرية، وما يجري هذا المجرى مما يطول شرحه ويُمل سماعه، ولا يكون
له أقل ارتباط بجوهر القضية، وهم يستعملون ذلك في أيسر القضايا وأدناها؛ ليقتنع
صاحب القضية أن المحامي لم يدخر لديه كلامًا يقال في الدفاع عنه بقطع النظر عن ربح
القضية أو خسرانها، فترى أرباب القضايا يعتقدون أن المحامي لا يستحق أجره من المال،
إلا بكثرة ما يقال، كالسلعة يكون تقدير ثمنها، على كمية وزنها، قد توقف بعضهم مرة
عن دفع المتأخر من الجعالة المحامية بعد أن ربح لهُ القضية بدعوى أنه لم يسمع منهُ
كلامًا مطوَّلًا في المرافعة يستحق عليه الأجر سواء أكان مفيدًا أم مضرًّا بها،
وليس يخفى أن وقت القاضي قصير ثمين فلا يسعهُ إلا المقاطعة على المحامي المكثر في
كلامه، وكذلك تكون المقاطعة على الشاهد لتوجيهه إلى وقائع الحادثة؛ لئلا يفوتها
بالخروج عنها، وحاصل الأمر أن القاضي لم يخالف القانون بشيء فيما أتاه معكم.
الباشا
:
ليت شعري إذا اعتذرت عن القاضي في مقاطعته، فما العذر في وضعه لي في «قفص
المتهمين» وتقييده لي بالقيام عند كل سؤال، وأنا رجل شيخ معمر، وقد قضيت عمري في
المناصب العالية بالحكومة المصرية، وبذلت دمي في خدمة الأسرة الخديوية؟ فهلا كان
وقرني لسني واحترمني لقدري، وأي قانون في الدنيا يمنعهُ من ذلك، وتوقير السن طبيعي
واحترام المقامات أمر أصليّ، والله تعالى يقول: وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.
المفتش
:
ذلك ما يقضي به القانون أيضًا؛ فإنه قائم على المساواة بين الناس، ولا فرق عنده
في المقامات والأعمار، وهذا عين ما يأمر به الشرع الشريف وعين ما يجري على أعضاء
الأسرة الخديوية، وخاصة الحكام إذا ارتكب أحدهم ما يؤاخذه القانون عليه، ولا معرة
عليك ولا غضاضة في وقوفك أمام القاضي، فإنما تقف أمام النائب عن الحضرة الخديوية
وهي أكبر الدرجات.
الباشا
:
إن كان هذا حكمكم في القاضي، فما الحكم في عضو النيابة الذي عيرني بشرف
رتبتي؟
المفتش
:
أنا لم أطلع بعدُ على أوراق القضية وتفصيل المرافعة، ولكن ما انتشر في «مصباح
الشرق» من كلام (النائب) لا يؤخذ منهُ معنى التعيير بالرتبة، بل كان غرضه أن يثبت
أن الرتبة مهما عظُم شأنها لا يكون من حقها هضم حقوق الضعفاء والامتيازُ بها على
الناس أمام القانون، فإنها قاصرة على صاحبها لا تجعل لهُ سبيلًا على محروم منها،
ولا بأس عليكم من كلام النائب في هذا الباب، فإنه جرى بيننا مجرى العادة في هذا
العصر.
الباشا
:
إذا كان للقاضي العذر وللنائب الحق، فما فائدة تظلمي لكم وحضوري أمامكم؟ أفما كان
من اللائق أن تزجروا القاضي وتؤنبوا النائب وتفحصوا القضية، وتتثبتوا من بطلان
التهمة وتنقضوا ذلك الحكم أمامهما؟
المفتش
:
ليس ذلك من اختصاصنا، وإذا وقع من أحد رجال المحاكم ما يخالف واجب وظيفته، فالنظر
في أمره موكول إلى «مجلس التأديب» ولا سبيل لرئيس على مرءوس إلا بحكم من المحكمة،
وأنا آسف غاية الأسف لعجزنا عن التصرف في قضيتك، والحكمُ فيها راجعٌ إلى محكمة
الاستئناف وحدها.
قال عيسى بن هشام: وكنت أشاهد في أثناء هذه المحاورة شابًّا آخر بجانبنا من المفتشين
يسطع
«طربوشه» احمرارًا، ويقلب طرفه ازورارًا، تلوح على وجهه مخايل الإمارة، ولا تنفك يدُهُ
في
رفع وخفض «للنظارة» وتشهد عليه سيماهُ بالتفنن في التدبير، وتدل على قوة الدَّهاء والتفكير،
فلما وصلنا إلى حيث وقف بنا الكلام رأيناه يُنادي الحاجب ويقول له:
المفتش الثاني
:
عليَّ «بدللوز» و«وجارو».
الباشا
(لعيسى بن هشام)
:
هل هذان الاسمان يُطلقان على القاضي والنائب؟ وهل ترى هذا الشاب هبَّ للانتصاف لي
منهما؟
عيسى بن هشام
:
هذان اسمان لكتابين في فقه القانون بدل «ابن عابدين» و«الهداية» في فقه
الشرع.
وحضر خازن الكتب بالكتابين فردَّ المفتش لهُ أحدهما وقال له: ما طلبت «بودري» بل طلبت
«جارو»، ولما جاءه به أخذ يبحث في الكتابين طويلًا ثم نظر للخازن نظرة اليائس وقال: ائتني
«بفوستن هيلي» فأتاهُ بكتاب آخر فخرج منهُ بعد النظر الطويل إلى المناقشة مع زميله باللغة
الفرنسية، وانتهى الأمر بينهما أن قالا للباشا معًا: لعل لك عذرًا في القانون يمكنك أن
تدلي
به إلى الاستئناف في قضيتك، وأما ما يختص بالقاضي والنائب فسنضع لهُ «نوته» (مذكرة) ونقدمها
إلى اللجنة عند انعقادها، فإذا تبين لها أقل خلل في تصرفهما أصدرت منشورًا إلى جميع المحاكم
بعدم اتباع ذلك في المستقبل.
ثم ودعانا بالاحترام والتعظيم وخرجنا والباشا يقول:
الباشا
:
قد كتب عليَّ أن لا أخرج من هم إلا إلى هم، ولا أنتهي من كدر إلا إلى كدر حتى كاد
يصفو بالي ويخلو خاطري لكثرة ما تراكم عليَّ من الهموم والأحزان:
فإني رأيت الحزن للحزن ماحيًا
كما خُطَّ في القرطاس رسمٌ على رسم
ومن البديع الغريب في أمر هذه الحكومة الحاضرة أنني ما وضعت قدمي في دائرة من
دوائرها إلَّا رأيت أمامي غلمانًا وفتيانًا يتولَّون أمورها ويتصرفون في أعمالها،
فهل خُلِقَ المصريون خلقًا جديدًا أم صاروا في الجنة استوت فيها الأعمار؟
عيسى بن هشام
:
لا تعجب من تقلد الشبان لمناصب الحكومة؛ فإن نظام هذا العصر يقضي بذلك، وهم
يزعمون أنه ليس في استطاعة الكهول والشيوخ أن يقوموا بأعباء المناصب لخلوهم عن
علومها الجديدة، وجهلهم بفنونها الحديثة.
الباشا
:
كيف يدعون أن العلم ينحصر في الشبان دون الشِّيب، وما عهدناه إلا في مَن أحنت
السنون ظهورهم، وبيضت التجاربُ مفارقهم فابتسم فيها بياض الرأي والأدب.
عيسى بن هشام
:
هم يقولون إن العلم والمعرفة لا يختصان بسن دون سن ولا عمر دون عمر، وربما كان
الشاب أنفذ سهمًا في حلبة العلوم وأجمع لشتات الفنون لما يختص به من حدة الذهن
وسرعة الإدراك، فإذا انصرف بهمته إلى الدرس كان نصيبه منها أبلغ من نصيب الكهول
والشيوخ، وأغناه ذلك عن طول الممارسة وكثرة التجارب التي يمتاز بها ذوو الأسنان
والأعمار.
ليس الحداثةُ عن علم بمانعةٍ
قد يوجد العلم في الشبان والشِّيب
الباشا
:
ولنرجع إلى شأننا فقد اتبعت آراءك وامتثلت نصائحك، وعرضنا أمرنا للجنة المراقبة
فخرجنا منها بالخيبة كما ترى، فليس لنا بعد هذا التعب إلا الركون إلى راحة اليأس،
ولم يبق لك بعد اليوم وجه في أي احتجاج وجيه توجهني به، وتسحبني معك للسعي والتظلم
أمام الحكام.
عيسى بن هشام
:
لا تيأس ولا تقنط فإن أمامنا محكمة الاستئناف ولي اعتماد عظيم على إنصافها في
الأحكام، ولو خاب فيها الأمل، على الفرض والتقدير، فلا يزال عندنا باب العفو
مفتوحًا نلتمسهُ بوساطة ناظر الحقانية.
الباشا
:
لا تذكر لي من الآن حاكمًا ولا ناظرًا، فقد سئمت وقوفي أمام هؤلاء الغلمان
والشبان مهما بالغت لي في الوصف واستشهدت فيهم بالشعر.
عيسى بن هشام
:
ليس ناظر الحقانية الذي أذكره لك من صف هؤلاء الشبان وطرازهم، بل هو رجل كهل عاكف
على العبادة منكبُّ على الأوراد منصرف إلى الأذكار، يمسي ليلهُ قائمًا، ويصبح نهاره
صائمًا، فبين السُّبحة وأصابعه عهد وميثاق، وبين السجادة وجبهته ارتباط
والتصاق.
وبالجملة فهو يذكِّرنا في هذا العهد الجديد بعهدكم القديم، وأبوه رجل من أكابر رجالكم
اسمه حسن باشا المناسترلي.
الباشا: حسن المناسترلي! ذاك خليلي وقريني، وصاحبي وخديني، ورفيقي في الخدمة وأخي في
الحكومة، ولماذا لم تخبرني عن ابن أخي هذا من أول الأمر فتكون قد حقنتَ ماء وجهي،
وأنقذتني من كل هذه الإهانة وذلك التحقير؟
عيسى بن هشام: ما غاب عني أن أذكِّرك به؛ فإنه لم يكن له أقل نفع يدفع عنا ما تقلَّبنا فيه من
المصائب، وإنما نفعه يكون في آخر الدرجات ولا عمل نرجوه منه في مساعدتنا إلا بعد
صدور حكم الاستئناف والسعي في التماس العفو من وليّ الأمر.