محكمة الاستئناف
وآن أوانُ الجلسة في الاستئناف، فسرنا في طلب العدل والإنصاف، وكل واحد منا مشغول
بحاجته،
لاهٍ بنازلته، فالباشا يفكر في مصيبته، ويتألم من بليته، والمحامي يدبر في أمره، ويتطلع
لأجره، وأنا أسأل الله لنا النجاة، من مكايد الحياة، ولما وصلنا إلى حيّ «الإسماعيلية»
ورأى
الباشا دورها ومبانيها، وشاهد قصورَها ومغانيها، واستطاب رياضها وحدائقها، واستنشق رياحينها
وشقائقها، استوقَفَنا سائلًا مبهوتًا، واستنطقنا بعد أن كنا سكوتًا، فقال: ألَا تخبراني
عن
موضع هذه الجنة الزاهرة، من مدينة القاهرة، فقلت له: هذه «الإسماعيلية» اختطها إسماعيل،
فيما اختطه لزينة وادي النيل، يسكنها اليوم جماعة من العظماء، ذوي الغنى والإثراء، وقد
كانت
في أيامكم خرابًا قفرًا، لا تحمل بيتًا ولا ترفع قصرًا، ولا ترى فيها من النبات غير الطَّلح
والضال،
١ ولا من الأزهار غير شوك القتاد أو شوك السَّيَال،
٢ ولا من الطير غير البوم والغربان، أو الرَّخم والعقبان، ولا تجد فيها من الإنس
إلا لصًّا سالبًا، أو مغتالًا ناهبًا، أو فاتكًا متأهبًا، أو كامنًا مترقبًا.
الباشا
:
لله در المصريين لقد ابتسم لهم الدهر، فأبدَلَهم من الشوك الزهر، وأسكنهم هذه
القصور العالية، بعد تلك الأطلال البالية.
المحامي
:
أيها الأمير لا تغبط المصري على نعمته، وتعال فابك معنا من نقمته، فليس له في هذه
الجنة من دار، يقر له فيها من قرار، وكل ما تراه من هذا الجانب، فهو ملك
للأجانب.
الباشا
:
لله أبوك كيف يختص الأجنبي دون الوطني بهذه الجنان الناضرة، ويستأثر دونه بهذه
المساكن الفاخرة، ولعلك تُلغز في قولك وتُحاجي، وتعمي في تعبيرك وتُداجي.
المحامي
:
لا تحجية ولا تعمية، بل هكذا قدَّر المصري لنفسه، وتبدل سعده بنحسه، واقتنع من
دهره بالدون وبالطفيف، ورضي بالقسم الخسيس الضعيف … فبات محرومًا تحت ظل إهماله
وخموله، وغدا بائسًا في سباته وذهوله، وما زال الأجنبي يسعى ويكد، ويعمل ويجد،
وينال ثم يطمع، ويسلب ثم يجمع، والمصريُّ يبذر بجانبه ويسرف، ويبدد ويتلف، ويتحسر
ثم يلهو، ويعجز ثم يزهو، ويفتقر ثم يفتخر، فتساوى السيد والمسُود، وتشابه الحاسد
والمحسود، وتعادل الرفيع والمنيع، بالحقير والوضيع، واشتركنا كلنا على السواء، في
منازل الشدة والبلاء، وأصبح نصيب القويّ المكين، مثل نصيب الضعيف المستكين، وكذلك
تكون عاقبة من يُلقي للأجنبي بيديه، ومن أعان ظالمًا سُلّط عليه.
ومن يجعل الضِّرغام بازًا لصيده
تصيَّده الضرغامُ فيما تصيَّدا
قال عيسى بن هشام: وما كاد ينتهي رفيقاي من خطابهما، ويفرغان من سؤالهما وجوابهما،
حتى مر بنا راكب درّاجة تنساب به كالصلال
٣ في بطون الرمال، ويتمايل بها تمايل النشوان مالت به نشوة الخمر، وينثني
انثناء الأغصان، هزها نسيم الفجر، فامتلأ الباشا، تعجبًا واندهاشًا، وسألنا الشرح
والبيان، عن أمر هذا «البهلوان»، فقلت: هذه عجلة حادثةٌ يختارها بعض الناس، على
المركبات والأفراس، ومما يرغبهم فيها أنها لا تأكل ولا تشرب، ولا تَهزَل ولا تتعب، وهذا
الراكب رجل من أهل القضاء، يركبها لرياضة الأعضاء، فأتبعَه الباشا نظره فوجده قد سقط
فجأة من فوق دراجته، فانفرط عقد الهيئة على سطح الأرض إلى ثلاثة أقسام: الراكب والعجلة
والطربوش، ثم رأيناه تماثل للقيام فلم شَعَثَه، وحاول أن يعلو الدراجة ثانية فلم يقدر
عليها فسحبها بيده يجرها ويماشيها، وأخذ الباشا يخاطبنا فيه وفيها.
الباشا
:
يا حبذا لو عُدنا من حيث أتينا، وكنا مُطلقين لا لنا ولا علينا، وكيف يكون شأن
القاضي أو الحاكم إذا كان هذا منظره وذاك مركبه أمام أعين العامة، وهل حُكِم الناس
يومًا بغير أبهة الحجاب وعظمة المناظر وفخامة المواكب، وقد كان الحاكم أو القاضي لا
يركب في عصرنا إلا في موكب تحف به الحشم والأعوان، وتتقدمه الجنود والفرسان، فترتجف
منه القلوب رعبًا، وتخر له الأعناق رُهبًا، وقلَّ من يجترئ من الناس على ارتكاب ما
يَقفه أمامه يومًا موقف التهمة والارتياب.
عيسى بن هشام
:
ذاك عصر مضى وحكم انقضى، ولقد تفنن أهل العصور الماضية في وصف ما تذكره من منظر
الأبهة والجلال وهيئة العزة والوقار؛ حتى أدخلها الشعراء في مخالصهم البديعة، كقول
أبي الطيب في ممدوحه مثلًا:
جَمحَ الزمانُ فما لذيذٌ خالصٌ
مما يشُوب ولا سرورٌ كامل
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ
يته المُنَى وهي المقام الهائل
المحامي
:
قد آن أن نفرغ من هذا الحديث فقد اقتربنا من المحكمة.
عيسى بن هشام
:
ولعلنا نجدها بإذن الله في مكانها، فقد تعودت التنقل من مكان إلى مكان حتى أشبهت
خيام العرب:
يومًا بحزوَى ويومًا بالعقيق وبالـ
ـعُذيب يومًا ويومًا بالخُليصاءِ
ثم اقتربنا فوجدناها، وأقمنا في ساحتها ننتظر نوبتنا بين أرباب القضايا حتى نودي
علينا، فتقدمنا للجلسة أمام ثلاثة من القضاة، فأخذ الأجنبيُّ منهم يقرأ «ملخص
القضية» بلهجة أعجمية، وحروف لم تستوف مخارجها فقال: «إن هذا الرجل متهم بالتعدي
على فلان العسكري بالضرب في أثناء تأدية وظيفته في يوم كذا من شهر كذا والمتهم
أنكر، وشهد المجنيُّ عليه ودل الكشف الطبيُّ على وجود علامات فيه للضرب، والمحكمة
الابتدائية حكمت عليه بالحبس سنة ونصفًا بالتطبيق على مادتي ١٢٤ و١٢٦، عقوبات
فاستأنف المحكوم عليه.»
ولما سألت المحامي عن هذا التلخيص الغريب قال لي: هكذا تجري العادة هنا، فيأخذ
مثل هذا القاضي الأجنبي عبارة الديباجة المذكورة في الحكم الابتدائي، فيجعلها
تلخيصًا للقضية، ثم يكتبها بعربيتها بحروف أجنبية ليقرأها أمام الجلسة على نحو ما
رأيت.
ثم التفتَ رئيس الجلسة إلى الباشا وسأله عن اسمه وسنِّه وصناعته ومحل إقامته، وأشار
إلى
النيابة بالكلام فشرع النائب في شرح القضية على ما يوافق هواه، ولم نسمع من الرئيس مقاطعة
له في كلامه كما يكون في المحاكم الابتدائية «والسر في ذلك أن بعض القضاة الذين لم يكونوا
اطَّلعوا على أوراق القضية في الاستئناف هم في حاجة إلى العِلم بها من أقوال النائب فيتركوه
وشأنه في التطويل والإسهاب»، ثم أذِنَ الرئيس بالكلام للمحامي مع الإيجاز، فابتدأ المحامي
بسرد أقواله في أوجه الدفاع عن المتهم، وكلما وصل إلى النقطة المهمة في دفاعه قال له
الرئيس: «الموضوع» «طلباتك»، ولما تكرر منه وقوع ذلك رأيت أحد القضاة ينبه الرئيس إلى
أن
كلام المحامي في عين «الموضوع» «وللرئيس العذر؛ لأنه لم يطلع على تفصيل القضية ولم ينصت
لأقوال النيابة»، ثم نطق الرئيس بعد ذلك بقوله: «سمعت القضية والحكم بعد المداولة»، فانتقلت
الجلسة إلى حجرة المداولة، وخرجنا ننتظر، وسألت المحامي عن المدة التي تنقضي في المداولة
فأجابني:
المحامي
:
لا تزيد مدة المداولة في الغالب عن ساعة واحدة.
عيسى بن هشام
:
وما هو متوسط عدد القضايا في الجلسة؟
المحامي
:
متوسطها عشر قضايا.
عيسى بن هشام
:
وهل تكفي هذه المدة للاطلاع على ما تحتويه القضايا الجنائية من كثرة
الأوراق؟
المحامي
:
نعم تكفي عندهم، وطالما اطلعنا على القضايا التي تعود من عند القاضي «الملخص» إلى
قلم الكتاب لاطلاع المحامين، فنجد عليها رمزًا بأحد هذه الأحرف: «ب» «ع» «ت»،
فالباء إشارة إلى البراءة، والعين إشارة إلى العقوبة، والتاء إشارة إلى تأييد الحكم
الابتدائي، وإنما يضع القاضي هذه الرموز حتى لا ينسى رأيه في القضية عند عرضه على
زملائه في المداولة، فإذا عرضه عليهم لم يَضِع الوقت بينهم سدى في البحث والمناقشة،
ولكن لما كان القاضي الجنائي له الاستقلال المطلق في الحكم بما يرتاح إليه ضميره
وتطمئن به نفسه كان من الواجب عليه أن يسلك غير هذا الطريق، ويفحص أدلة الثبوت
وأدلة البراءة بنفسه، فيعرضها على ضميره وهو خالٍ من كل اعتقاد خاص للبراءة
وللتهمة، حتى إذا استقامت لديه الأدلة حكم بما يغلب عليه منها، لا أنه يجري في طريق
التسليم لرأي غيره، ولا أن يكون الحكم مبتوتًا في القضية بأحد هذه الأحرف الثلاثة
التي عنت للقاضي الملخص وهو يمر عليها في انفراده ببيته مر السحاب.
قال عيسى بن هشام: وبينا نحن في هذا الكلام؛ إذ عادت الجلسة إلى انعقادها فدخلنا لسماع
الحكم فنطق الرئيس ببراءة الباشا؛ لأن التهمة وإن كانت ثابتة عليه إلا أنه قد حالت دونه
ودون دعوة القانون قوة قاهرة، فخرجنا مسرورين بهذه النعمة، وخرج الباشا وهو يقول:
الباشا
:
لا أنكر اليوم أن العدل موجود ولكنه بطيء، لا يتحمل أعباء بطئه البريء، وكان
الأولى في هذه المحاكمات أن تكون النهاية في البداية، فلا يَلحق من كان مثلي هذا
الهوان والصغار، ويقع به ما وقع من الحبس والعار، بعد أن يقف موقف التهمة والإجرام،
ويحل به ما يحل من التعذيب والإيلام.
المحامي
:
إني أهنئك بهذه البراءة وأسأل لك دوام العافية من مصائب الاتهام، ولا زلت تخرج من
كل قضية خروج السهم من قوسه، والسيف من غمده، وقد مضى مني الدفاع وبقي عليك
الدفع.
قال عيسى بن هشام: وما زال المحامي عاكفًا علينا يطالبنا بالأجر، والباشا يعده لآخر
الشهر، حتى يأتيه بعض خدمه وأتباعه، بمال من عقاره وضِياعه، والمحامي يأبى التسويف
والإمهال، وإلا الدفع في الحال.
المحامي
(للباشا)
:
أتظن أن هذه الوعود، تقوم لدينا مقام النقود، في بلد كثُر فيه الإنفاق وزادت
الضرورات، وقلَّ فيه الربح كما قلت المروءات، وصار الدرهم أعز عند الأب من بنيه،
وعند الابن من أبيه، ولقد تعبتُ في القضية تعَبَين باللسان وبالجنَان، ولا أستريح
منهما إلا بنقد الأصفر الرنان، وإنك لا تصرفني — وإن كنت محمود الخلق — بالوعد،
ولكنك تصرفني — وأنا أحمد — بالنقد، وإني لا أريد أن أسكن في بيت المتنبي: أنا
الغني وأموالي المواعيد.
فلا تجعل الخلاص من قضية بقضية، والفكاك من بلية ببلية، فذلك ما لا يأتيه
العقلاء، ولا يرتضيه الأمراء.
قال عيسى بن هشام: ولما رأيت الباشا لم يقدر على التلفظ، من شدة الحنق والتغيظ، وقفت
بينهما وقفة الأريب، وتوسطت توسط اللبيب، فنلت بلطف الالتماس والرجاء، رضاء المحامي بالمهلة
والإرجاء، إلى أن ينتقل الباشا من العوز والعسر، إلى الغنى واليسر، وقلت له ما يقال له
في
باب المروءة والهمة، من وجوب الحنو على من يقع في مصيبة أو مُلمة، وأن من تذكَّر الدهر
وغِيره، والزمان وعبره؛ لانت عريكته، وطاوعت شكيمته، وليس بين صعود المرء ونزوله، وإشراق
سعده وأفوله، وبين غناه وفقره، وصفوه وكدره، إلا مسافة انقضاض القضاء، من رب السماء،
فنظر
إليّ الباشا نظرة الاحتقار والازدراء، وخاطبني بالأنَفة والكبرياء:
الباشا
:
لبئس الخدينُ أنت والقرين، كيف تسِمُني بسمة الفقراء، وتستعطف عليَّ قلوب
الضعفاء، وأنا الأمير السَّري والغني المثري، وأين ما ادخرته في عمري، واكتنزته في
عصري، من مال وعقار، وفضة ونُضار، وقصور وضياع، وزخرف ومتاع، ولقد كان يضرب بغناي
المثل، فإن كنت جاهلًا بي فَسَلْ، اذهب فأتني بخبر ما خلَّفت وأبقيت، وأثر ما جمعت
واقتنيت، وكيف يخفى عليك وعلى المحامي ما لي من الأموال والعقار، وما قضيت فيه
العمر من الجمع والادخار؟ فإني يشهد الله ما تركت حيلة، ولا أغفلت وسيلة، في الحصول
على الإثراء والغنى، حتى جمعت منه كثيرًا مما تفرَّق على الورى، فجعلتُه عدة لشد
أزري، وأمانًا لي من مصائب دهري، وتركته ذخيرة لأبنائي وحفدتي، وميراثًا لأعقابي
وذريتي؛ ليكونوا من ذل الحاجة في جُنة،٤ ومن نعيم العيش في جَنة، وتركتهم على ذلك مطمئن القلب مستريح الفؤاد،
رفيع الذكرى رفيع العماد.
المحامي
:
إنَّا لنعلم، يا معشر الأمراء والحكام، أنكم قضيتم الأعمار في جمع الحطام واتخذتم
الحكم والسلطان تجارة من التجارات وبضاعة من البضاعات؛ تربحون منها الغنى والثروة،
ولم تكونوا تعلمون للحكم من مزية سوى اكتناز الأموال، واستلاب الحقوق، وابتزاز
الدراهم من دماء الأرامل والأيامَى، وانتزاع الأقوات من أفواه الأطفال واليتامى،
وكنتم سواء عليكم أحُزْتم المال من حِلِّه أم غير حله لم تبالوا بالضعيف المسكين،
ولم تَرثوا للعاجز المستكين، بل ظلمتم البريء وبرأتم الظالم فجمعتم لديكم من أثر
ذلك ما لا يقدَّر من الأموال، ورضيتم بالوزر وطوقتم أعناقكم بالإصر، ثم حرَّمتم بعد
ذلك على أنفسكم التمتع بما جمعتموه وحَرَمتموها من كل ما حزتموه، ولم تكونوا من
الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، ولم تؤدوا ما فرضه الله عليكم فيها من
الحقوق، ولم تطهروها بزكاة، ولم تزكّوها بإحسان، وأطربكم رنين الدرهم فوق الدرهم،
وصمتُ الدينار مع الدينار، وأبدعتم ما شئتم في وسائلَ وطرائق يأباها الله لعباده
ويمقتها، ويستبشعها الإنسان ويستفظعها، لسلب ما سلبتموه وكنز ما كنزتموه بالإثم
والعدوان ومعصية الرسول، واجترأتم على الله في أوامره ونواهيه، وكلفتم العلماء
بتأويلها على أهوائكم فأوَّلوها لكم لانحصار الأرزاق في أيديكم واحتياجهم إلى ما
يقتاتون به من فضلات عيشكم، فالوزر عليكم وعليهم، ولكنه عليكم أعظم وفوقكم أثقل،
حتى إذ انقضى العمر وحلَّ الأجل تركتم ما خلفتموه لغلمة من أولادكم وصبايا من
جواريكم نشأوا بينكم على الحرمان، ولم تُثقفوهم بالتعليم، ولم تتركوهم للزمن
يؤدِّبُهم، وللأيام والليالي تهذبهم، فكنتم في أعينهم كالرَّصد الذي يكون على باب
الكنز — كما يقال في الأقاصيص — يحتالون لنقله بقتله، فإذا استراحوا منكم بالموت أو
القتل مزقوا أموالكم انتقامًا منها ومنكم، وفرقوا شملها في أدنى من لمحة؛ جهلًا
منهم بوجوه التصرف وأبواب التمتع، فما هو إلا أن يتسابق الدودُ والورثة في أحشائكم
المدفونة، وأحشائكم المخزونة، فيسبق الورثةُ الدود، في الصدور والورود، فتذهب
البَدْرة وراء البدرة، والضيعة بعد الضيعة، والدار عقِب الدار، حتى إذا لم يبق إلا
بيت السكن أتوا على ما فيه من الأثاث بيعًا وما في أعناق الجواري من الجواهر
والقلائد رهنًا، ولا يزالون يُخلُون من البيت حجرة إثر حجرة، والدائنون يدخلون فيه
خطوة إثر خطوة، إلى أن يندكَّ بناؤه ويعفو أثره ويزول اسم بانيه الذي ارتكب ما
ارتكب من الذنوب لتشييده ودوامِ بقائه، وهو يشيع منهم باللعنتين في الحالتين حالة
الخلاص منه بالتشييع إلى القبر، وحالة أسفهم على إهماله إياهم من تثقيف العلم بما
كان ينفعهم في خشونة الفقر.
هذه أيها الأمراء عاقبة ما صارت إليه أموالكم ومقتنياتكم من بعدكم، ويا ليت
أولادكم وأحفادكم خففوا عليكم من الإثم في جمعها من دماء المصريين بإنفاقها بينهم،
وتبذيرها فيهم، فيكون ذلك منهم كَرَدِّ بعض الحق إلى أهله، ولكن البلاء كل البلاء
أنها ذهبت جميعًا إلى أيدي الأجانب والغرباء، وكأن الدهر سلط المماليك على المصريين
ينهبون أموالهم، ويسلبون أقواتهم ثم سلطكم الله عليهم لسلب ما جمعوه، ثم سلط عليكم
أعقابكم، فسلموا مجامع ذلك للأجانب يتمتعون به على أعين المصريين، والمصريون أولَى
بالقليل منه، وما دفع بأعقابكم إلى هذا الليان والتسليم، إلا ما ورثوه عنكم من
الاحترام لشأن الأجنبيِّ والاحتقار لجانب المصريِّ، وأنكم لم تكتفوا بأن تكونوا
أربابًا للمصريين حتى شاركتم معكم الأجنبي في تلك الربوبية، فغَلَبَكم عليها
وأشرككم مع المصريين في العبودية وتشابهت الموالي بالعبيد، وقد آن أن تعلم أيها
الأمير بأن جميع أقرانك وإخوانك من ذوي الثروة واليسار في أيامكم قد أصبحت بيوتهم
خاوية على عروشها، وأبصار أعقابهم شاخصة إليها، فإن أردت أن تبحث عن أموالك وضياعك
اليوم فابحث عنها تحت ثفال تلك الرَّحَى،٥ وقُل معي ما يقوله الشاعر الحكيم:
يقول الفتى: ثمَّرتُ مالي وإنما
لوارثه ما ثمَّر المالَ كاسبُه
يُحاسب فيه نفسه في حياته
ويتركه نهبًا لمن لا يحاسبه
فيا عَبَث المدخر الجامع، ويا غبن المكتنز الطامع، ما كان أغناكم عن الجمع
والادِّخار، وعن الحرمان في الدنيا والخلود في النار.
الباشا
:
أراك قد تجاوزت أيها المرشد الواعظ حدَّك في اللوم والتعنيف، وخرجت عن طورك في
العذل والتعزير، وكان بودي أن أعطيك أجرك مضاعفًا، ولا أشاهد منك هذه الجرأة علينا
بسوء التقريع والتوبيخ، وربما قلت حقًّا في بعض ما تقول، والرجاء في غفران الله
عظيمٌ وفي رحمته متسعٌ، ولعل ما تخلل أعمالنا في أيامنا من الحسنات يشفع لنا فيما
اقترفناهُ من السيئات، ولكن كيف التدبير الآن في اكتساب المعيشة، والاحتيالُ
لالتماس الرزق، بعد أن ضاعت الأموال وذهبت من أيدينا الأحكام على نحو ما تروي
وتحكي، وما أرى لضيقي من الفرج إلا أن أورد نفسي حتفها، وأعيد لها حمامها، فما
أروَحَ ما كنت فيه من ظلام الرمس،٦ وما أقبح ضياء هذه الشمس.
عيسى بن هشام
:
ليس لمثل حالتكم غير الأسف منا والتوجع لكم؛ فقد تمكن الاعتقاد في رءوس الحكام أن
ما يقع بالاتفاق لهم أحيانًا من ولاية الأحكام هو قياس مُطَّرد وصراط مستقيم لا
ملجأ لكم سواهُ في وجوه المساعي وممارسة مطالب الحياة، وقامت الولاية عندكم مقام
بقية الآلات والصناعات التي يجتنِي أهلُها منها ثمر الارتزاق والتكسب، فإذا خلَت
أيديكم منها واعتزلتم الأحكام تقطعت بكم الأسباب وضاقت بكم السبل في وجوه المعايش
كما تصاب يد الصانع بالشلل، فيتعطل عن العمل، ويصبح كلًّا على كاهل الجميع، يرجو
الموت كما رجوت، ويتمنَّى راحة العدم كما تمنيت، وكأنكم أيها الحكام صنف فوق أصناف
الخلقة، لكم نصيب من العيش دون سائر الخلق، فلا تكونون إلَّا فوق ذهب العرش أو فوق
خشب النعش، وقد قال مسكين من رؤساء صناعتكم هذه، وهو في ضيق الحبس، وضيق
النفس:
ونحن أناسٌ لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ومعلوم لك ما في هذه الصناعة، صناعة الولاية والحكم، من قلة ما يرفعه الصدر،
وكثرة ما يضمه القبر، وكان الأولى بكم أن تكونوا كالناس في معايشهم لكل إنسان آلة
بينة من صناعة أو حرفة أو مهنة يُحسن بها التعيش والارتزاق حتى إذا أنتم نزلتم عن
تلك العروش دخلتم في بقية الأحياء من أفراد الجمعية تنفعون وتنتفعون.
الباشا
:
تالله إن ما قاسيتُه من الآلام أمام البوليس والنيابة والمحكمتين واللجنة كان أقل
همًّا، وأدنى شجنًا من مرارة هذا النصح والوعظ، وما الرأي عندكما وقد فات وقت
التحصيل والطلب، ولم يبق وقت للصناعة والعمل، والموعظة صالحة نافعة ولكنها لمن يجيء
لا لمن يمضي.
قال عيسى بن هشام: فأحزنتني حالة الرجل وأشفقت عليه، فأخذت أتدبر له وأتفكر في طريقة
يتعيش بها، وكلما خطر لي في ذلك خاطر خاب رجائي فيه، حتى كدت أيأس من الحيلة، والباشا
ينظر
إليَّ وأنا في تفكري تارة ويُطرق للتفكير في نفسه تارةً أخرى، ثم رأيتهُ قد انتفض من
مكانه
وأخذ بيدي يقول لي:
الباشا
:
قد وجدت والحمد لله بابًا لسد العوز وكفاف العيش.
عيسى بن هشام
:
ماذا وجدت؟
الباشا
:
كان من عادة الحكام أمثالنا في الأزمان السالفة أن يأتوا فيما يأتونه من أعمال
الخير التي تقرِّبُهم من الله وتعتق رقابَهم من النار بعمل صالح اتفقوا عليه كافةً،
وهو إقامة بناء لجامع أو كُتَّاب أو «سبيل» وكانوا يخصصون له أرضًا أو ضيعة وقفًا
عليه للإنفاق من ريعها على طول الزمان، وقد سلكتُ مسلكهم واتبعت سُنتهم وخلَّفت
لذلك وقفًا عظيمًا؛ لا تناله أيدي الأعقاب بالإتلاف والتبذير، فهلمّ معي نبحث على
ما شيدتهُ ووقفتهُ.