أبناء الكبراء
قال عيسى بن هشام: فاستغرق الجميع عند ذلك في الضحك واستلقوا من القهقهة، وكلما سألني الباشا عن مكان حفيده، واستفهم مني عما يجري معي من الكلام استمهلته لتمام الحديث حتى لا يقف على شيء مما يقال، ولا يحس بوقع تلك السهام والنبال، ولما انتهى الشبان من ضحكهم نادوا بالخادم ليأمروهُ بطردنا وإخراجنا، وحانت في هذه الأثناء التفاتةٌ من الحفيد بين دورانه وحركاته فلمح أحدَ قرنائه وإخوانه قد انزوى بتلك الخليلة، التي هي عندهم كالحليلة، يلاعبها وتلاعبه، ويغازلها وتداعبه، فانقض عليهما كالصقر الأجدل فاستَعَر بينهم الجدال واشتد الخصام والتفّ حولهم الجمع، وسمعت الحفيد يعتب، والصاحب يعتذر، والمرأة تبكِّت وتؤنِّب وتقول لعاشقها: «ليس لك مثل هذه الجرأة في العتاب والملام، ولا يأتي ما تأتيه من الحدة والتهور في الغيرة إلا مَن كان قائمًا بحاجتي مجيبًا لرغبتي، وقد طلبت منك بالأمس أن تشتري لي ذلك العقد الذي حضر لتاجر الحليّ من أوروبا في البريد الأخير فسوَّفت وماطلت بعد أن أجبت ووعدت، واعتذرتَ بالإعسار والضيق، ثم بلغني اليوم أنك اشتريت فرسًا جوادًا بمقدار عظيم من المال، فكيف تقصر في حاجتي مثل هذا التقصير، وتَبغي مني الاقتصار عليك والاختصاص بك دون بقية من يبذل ماله وروحه في سبيل مرضاتي من أصحابك وإخوانك؟»
ثم سمعتُ الحفيد يجاوبها والعرق يتساقط من جبينه والوجد يقطع أنفاسه: «تالله ما اشتريت شيئًا، ولكن بعت أشياء لأشتري لك العقد بثمنها، ولا يغرّنك ما يقال لك عن ثروة هذا الصاحب الدنيء الخائن وعن قلة أموالي ورهن أطياني، فأنتِ تعلمين بمقدار الأموال التي ستأتيني من اكتساب القضايا المعلقة لي في المحاكم كما ينبئك به المحامي في كل حين.»
وما سمع ذلك الصحاب سبّه بهذين النعتين حتى اضطرم واضطرب، وثارت به سَورة الغضب، فتقدم فَلَعَنَه وشتَمَه، ودفعه ولطمه، فوعده الملعون الملطوم، بالمبارزة في يوم معلوم.
ثم علا هنا صياحٌ أيضًا في مجلس القمار بين صديق وصديق، أحدهما في يسر والآخر في ضيق، وأخ يبغي الاقتراض من أخيه، ومفلسٍ يطالب ميسِّرًا بدين لا يؤديه، وانكشف الجدال كذلك عن الضرب واللكم. وانتهى النزاع بالصفح واللطم.
واشتبك خصام آخر في ركن المكان، بين أهل السبق والرهان؛ هذا يقول: فرسي سابق، وفرسك لاحق، وذاك يقول: «ركبداري» حاذق وابن حاذق، وجوادك قصير وجوادي شاهق، وأنت الآن مقرٌّ معترف، بأن الوزن بينهما مختلف، واشتدت المنافسة والمنابَزَة، وجرى بينهم حديث للمبارزة، كل هذا والمرأة تتسحب من حلقة إلى أخرى، تسحُّبَ الحية والأفعى، فتطفئ نار الجدال مرة على حسب بغيتها، وتشعلها طورًا لخبث نيتها.
ورأيت الأجدر بنا أن نتركهم على هذه الحال، فجذبت بضبع الباشا وخرجنا من ذلك المكان، وأسرعت به منحدرًا إلى الطريق، فسألني عن تفصيل ما كان وجرى، فترجمت لهُ شرح الحال والمآل، فاحتدم غيظه واضطرم حنقه فلم يطفئه إلَّا ما قلته له في آخر الحديث من عزم القوم على المبارزة فيما بينهم بالسلاح، فقال وهو يتابع زفراته: لعل القدرة تكشف عني هذا المصاب، وتُريحني المبارزة من الأبناء والأعقاب، فقلت في نفسي: إن أبناءكم لم يرِثُوا منكم أخلاقكم، كما ورثوا عنكم أموالكم، وليس عندهم من الشهامة ما يدفعون به عن الأعراض والأحساب، ولا مِن الشجاعة ما يؤنسهم بالطعان وبالضراب، ولا يأبهون لكشف العار، وأخذ الثأر، والمبارزة عندهم كلمة تقال بالليل وتمحى بالنهار.
وتذَكَّرَ الباشا في طريقه شدة حاجته إلى وفاء ما عليه من الأجر للمحامي، فالتفت إلى البيطار يسأله:
قال عيسى بن هشام: فسرنا إلى حيث أشار والهموم تَفْرسُنَا، والغموم تُخرسُنا، والأكدار لا تفارقنا، والأقدار لا توافقنا.