غضب المرأة ومرض الاكتئاب
خُدعت المرأة في العصر الحديث أكثر مما خُدعت في العصور القديمة؛ ذلك أن حقيقة وضعها الأدنى وسلبها من حقوقها أصبح مغلَّفًا بالاحترام الظاهري، والإتيكيت والمعاملة الرقيقة أمام الناس؛ وبسبب هذا الغلاف الخارجي لم ترَ المرأة أن وضعها لا زال هو الأدنى، وأن زوجها وإن كان يفتح لها باب العربة أو يجعلها تدخل من الباب قبله فهو لا زال الوصي عليها (كما لو كانت طفلًا قاصرًا) بحكم قانون الزواج، ولا زال من حقه أن يعاشر أي امرأة يشتهيها، ويتزوج غيرها في أي وقت، ويطلقها في أي وقت، ويتحكم في دخولها وخروجها وسفرها وجسدها وكل شيء. أمَّا هي فلا تستطيع أن تفعل أي شيء من هذا، وليس لها أن ترفض أو تتذمر وإنما تطيع وتستكين وتهدأ؛ لأن الطاعة والاستكانة والهدوء صفات الأنوثة الكاملة، أمَّا الرفض والتذمر فهي صفات ذكرية عدوانية تُسيء إليها في نظر الناس، وتشوه أنوثتها، وتجعلها من هؤلاء النساء غير الطبيعيات أو المريضات نفسيًّا؛ ولهذا السبب تستكين معظم النساء، ويكبتن في أعماقهن الكراهية للرجال وللحياة ولكل شيء بما في ذلك أنفسهن، وبسبب كراهية أنفسهن فإنهن يكرهن النساء الأخريات أيضًا، وبالذات أولئك النساء اللائي يكشفن الظلم الواقع عليهن، فكأنهن يكشفن عن الجرح العميق المؤلم الذي ينزف كل يوم وببطء. وبسبب الألم والذعر والكراهية تمقت معظم النساء أولئك القلة القليلة من بنات جنسهن اللائي يرفضن الظلم ويحاولن الإصلاح، أو ينادين بالمساواة والحرية للمرأة.
وإنها لقصة قديمة معروفة في التاريخ، فأصحاب السلطة متى حصلوا على السلطة فليسوا على استعداد أبدًا للتفريط فيها إلا بالقوة والضغط المفروض عليهم من ثورة المحكومين والمظلومين. ولم تمثل النساء أبدًا تلك القوة الثورية التي يمكن بها أن تفرض على الرجال رفع الوصايا عنهن. لماذا لم يصبح النساء قوة ثورية في أي مجتمع من المجتمعات الأبوية الحديثة رغم شدة الظلم الواقع عليهن؟! لماذا لم تصبح النساء قوة رافضة وغاضبة وثائرة؟ … السبب في ذلك ليس هو أن النساء سعيدات راضيات بحياتهن وألمهن، وليس هو أن النساء بطبيعتهن سلبيات عاجزات عن التغيير؛ ولكن السبب الحقيقي هو أن القهر الذي وقع على المرأة لم يكن قهرًا قانونيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وجسديًّا فحسب، ولكنه كان قهرًا نفسيًّا أيضًا.
- (١)
أن يشعر الإنسان بالإساءة.
- (٢)
أن يكره الإنسان الشخص الذي أساء إليه.
- (٣)
أن يعبر الإنسان عن كراهيته بفعل خارجي أو عدواني ضد ذلك الشخص الذي أساء إليه.
إن الثورة ليست إلا هذا الغضب بصورة جماعية يشترك فيها أغلبية المظلومين أو المقهورين، لكن النساء عجزوا عن الغضب، والسبب في عجزهم عن الغضب ليس لأن النساء بطبيعتهن البيولوجية لا يغضبن، لكن السبب هو أن الرجل حين قهر المرأة لم يسلب منها النسب والشرف فحسب، ولكنه سلب منها الغضب أيضًا، وجعل الغضب من نصيب الرجال، والغضب صفة الذكورة، أمَّا الأنوثة فمعناها أن تظل المرأة باسمة مهما حدث لها. إن المرأة التي لا تبتسم دائمًا يُشكُّ في أنوثتها ورقتها ودعتها، أمَّا المرأة التي تكشر أو تقطب جبينها فهي ليست امرأة. إن التكشيرة أو التقطيبة يجب ألا تظهر على وجه الأنثى، وتتعلم البنت الصغيرة أن تبتسم، وأن يشرق وجهها بالابتسام دائمًا؛ فهذا يزيد من جمالها الأنثوي، أمَّا التكشيرة فهي تعطي وجه الرجل ذكورة ورجولة. وهكذا تعلمت المرأة كيف تخفي غضبها، وكيف حين يُساء إليها تكبت الكراهية في قلبها، وحين تتراكم الكراهية يومًا بعد يوم تتعلم كيف تكبتها أكثر وأكثر، وحين تضغط الكراهية على قلبها وصدرها وأحشائها وتكاد تخنقها فهي تفضل أن تختنق داخليًّا عن أن يخرج جزء من هذه الكراهية على شكل فعل خارجي أو عدواني. إن العدوانية أقبح صفة يمكن أن توصَف بها المرأة، وهي ليست صفة فحسب، إنها مرض أو شذوذ، وإذا أصبحت المرأة عدوانية فهي في حاجة إلى عقاب أو علاج نفسي، أو جلسات كهربية لتعود إلى طبيعتها الأولى الهادئة الراضية المكبوتة.
في مرة من المرات وكنت طالبة بالسنة الأولى بكلية الطب (في السابعة عشرة من عمري تقريبًا)، حين ركبت الأتوبيس كعادتي يوميًّا لأعود إلى البيت، وبينما أنا واقفة في الأتوبيس أحسست برجل يلتصق بي من الخلف؛ فاستدرت ونظرت إليه ليخجل من نفسه، لكنه لم يخجل، فقلت له بصوت سمعه الآخرون أن يكف عن هذه التصرفات غير اللائقة، لكنه لم يكف، وغضبت، ومن شدة غضبي رفعت يدي وصفعته على وجهه صفعة قوية، وكنت في تلك اللحظة أتصرف التصرف الطبيعي لأي إنسان أُسيء إليه. وكنت أتصور أن راكبي الأتوبيس (وكان بعضهم رجال وبعضهم نساء) سوف يكونون معي ضد هذا الرجل، لكن العكس هو الذي حدث تمامًا، لقد حظيَ الرجل بشفقة الرجال وتآزرهم معهم، وقال أحدهم: «لماذا تخرج النساء من بيوتهن إذا لم يعجبهن هذا الحال؟!» وقال آخر: «لم نَرَ في حياتنا امرأة تضرب رجلًا، هذه إهانة لنا جميعًا.» وصوَّب إليَّ الرجالُ عيونهم مليئة بالكراهية والغضب، أمَّا النساء الراكبات فقد انضممن (لدهشتي الشديدة) إلى الرجال، وقالت واحدة منهن بصوت أنثوي ناعم: «كلنا مثلك واقفات في الأتوبيس، فلماذا أنت الوحيدة التي غضبت بهذا الشكل؟» ورد عليها رجل عجوز كان ملتصقًا بإحدى الراكبات: «ومن قال إنها مثلكن، تلك التي تضرب رجلًا، إنها رجل بغير شك!»
وحينما ذهبت إلى بيتي وحكيت لأمي ما حدث نصحتني بألا أصفعَ أي رجل، وأنه الأفضل لي أن أنزل من الأتوبيس وأن أذهب إلى الكلية سيرًا على الأقدام من الجيزة إلى القصر العيني. وتشاء الصدف أن يعود أخي في ذلك اليوم ويحكي لأمي عن أحد زملائه في المدرسة صفعه على وجهه فرد له الصفعة صفعتين وشلَّوتًا بالقدم، وصاحت أمي تشجعه: «برافو، لا بدَّ أن تضرب الذي يضربك وتنتصر عليه.»
وهذا هو ما يحدث دائمًا، إن البنت منذ صغرها تُدرَّب على ألا تغضب، ولا تعبر عن غضبها بفعل ظاهر، وعليها أن تتفادى الإساءة بقدر الإمكان، وإذا كانت هذه الإساءة قد فُرضت عليها بالزواج أو النظام أو القانون، فعليها أن تكتم غضبها وانفعالها وتبتسم لتكون أنثى كاملة، بعكس الرجل الذي يُربَّى على أن الرجولة هي القوة ورد الإساءة بأشد منها. إن الإنسان الطبيعي هو الذي ينفعل حين يُسيء إليه أحد، هذا الانفعال يُسمَّى بالكراهية، وهي في الإنسان السليم نفسيًّا توجه إلى الخارج كرد فعل، ولكنها عند المرأة تُكبَت، أو ينقلب مسارها إلى الداخل، إلى النفس؛ ولهذا تُصاب النساء (بالاكتئاب) أكثر من الرجال. إن «الاكتئاب» وليس «العدوانية» هو رد الفعل الأنثوي للتعبير عن الكراهية أو خيبة الأمل في شيء من الأشياء، هذا الاكتئاب ما كان ليحدث للمرأة لو أنها وجهت انفعالها إلى الخارج كما يفعل معظم الرجال، ولكن الخارج هذا (بعبارة أخرى المجتمع) يرفض انفعالات المرأة الطبيعية سواء كانت كراهيةً أم حُبًّا، ويفرض عليها أن تكون مخلوقًا بغير انفعالات، إذا أساء إليها أحد وانفعلت بالكراهية عليها أن تكبت هذه الكراهية ولا تحولها إلى عدوان مماثل، وإلا اتُّهِمَت بالرجولة والانحراف عن المرأة الطبيعية.
المرأة الطبيعية إذن هي المرأة المكبوتة، ولا أريد أن أقول إن الرجل أيضًا لا يُكبَت، ولكن المجتمع بصفة عامة يسمح للرجال (خاصةً إذا كانوا من الطبقة العالية) بحريةٍ أكثر من النساء؛ وبذلك يتمتع الرجل بإمكانية التعبير عن انفعالاته، حُبًّا كانت أو كُرهًا، دون أن يتعرض للعقاب أو النقد الذي تتعرض له المرأة.
وقد أوضحت الدراسات الخاصة بسلوك الأطفال أن الأولاد الذكور يحوَّلون إلى العيادات النفسية بسبب ميولهم العدوانية ونزعتهم إلى التحطيم والتنافس، أمَّا البنات فيحوَّلن بسبب اضطرابات الشخصية مثل الخوف والخجل والجبن وعدم الثقة بالنفس والإحساس بالنقص، وكذلك الحال بالنسبة للكبار أيضًا.
إن أعراض الرجال تعكس في معظم الأحيان كراهية مدمرة للآخرين واستغراقًا وتعلُّقًا شديدًا بالذات، أمَّا أعراض النساء فهي تعكس نزعة قاسية لنقد الذات وإنكار الذات وتحطيمها.
لقد وُجد في معظم البحوث النفسية أن مرض الاكتئاب النفسي بين النساء منتشر بنسبة أكبر من الرجال، ومنتشر بين النساء المتزوجات أكثر من النساء غير المتزوجات. واتضح أن هذا الاكتئاب ليس إلا تلك الكراهية، المتراكمة المكبوتة التي توجهها المرأة إلى الداخل بدلًا من أن توجهها إلى الخارج على شكل فعل عدواني.
ووُجد أن هذه الكراهية حين توجهها المرأة إلى داخل نفسها فهي تشوه نفسها وتضعفها، وتجعلها أكثر عجزًا عن التعبير عنها؛ وبالتالي تتراكم الكراهية داخلها أكثر وأكثر، وتصبح المرأة أضعف فأضعف عن التعبير عنها، ويأتي يوم تنظر فيه المرأة إلى وجهها الباسم الهادئ في المرآة فإذا بها ترى في أعماقها ذلك الوجه الأسود المكفهر الطافح بالكراهية المتراكمة، وتذعر المرأة ذُعرًا شديدًا، وقد تكسر المرآة بيدها دون أن تدري. وحين يأخذها زوجها إلى الطبيب النفسي يدرك أنها كانت تريد أن تصفع وجه زوجها وليس وجه المرآة، وقد تحاول أن تصفع زوجها لتشفى من مرضها، وليزول عنها الاكتئاب إلى الأبد، لكن الطبيب النفسي يمنعها (الطبيب النفسي بالطبع رجل كزوجها)، وبدلًا من العلاج الصحيح يعطيها الطبيب أقراصًا مهدئةً وأقراصًا منومةً، وينصحها باحترام زوجها وطاعته. وهكذا تدور الدائرة، وتعيش معظم الزوجات في حالة من الاكتئاب شبه الدائم.
وقد أدركت أخيرًا لماذا كنت دائمًا أشعر بالحيرة حين أرى تلك الابتسامة الغريبة على وجوه معظم الزوجات، لم أكن أعرف سر غرابتها في عيني، ولكني أصبحت أفهمها الآن، إنها تلك الابتسامة الحزينة، تلك الابتسامة الرقيقة التي تشف من تحتها الشقاء (الذي تدركه المرأة بوعي أو بغير وعي)؛ ولأنها متناقضة فهي تبدو أحيانًا مخيفةً، كوجه طفل باسم من تحته وجه عجوز مجعد.
وقد أدرك الطب النفسي الحديث أن علاج الاكتئاب لا يمكن أن يتحقق إلا بعلاج السبب الحقيقي فيه؛ أي بعلاج الكراهية المتراكمة داخل النفس، وتوجيهها إلى الخارج على شكل فعل.
لقد أصبح الطبيب النفسي المتنور الآن ينصح المرأة بالانفصال عن زوجها الذي تكرهه، والانفصال عن أي حياة تكرهها، والإقبال على الحياة التي تحبها والأشخاص الذين تحبهم وتختارهم. أصبح علاج الاكتئاب هو أن تغضب المرأة من الإساءة، أن تغضب علنًا لا سِرًّا، وتعلن عن غضبها بفعل قوي يراه الآخرون واضحًا أمام عيونهم، وإذا فتح الآخرون عيونهم في دهشة واستنكار وصاحوا: «هذه امرأة عدوانية فاقدة الأنوثة»، فلتفتح المرأة ذراعيها للشفاء في شجاعة وجرأة، ولتقل لنفسها: «مرحبًا بالصحة النفسية ولتذهب تلك الأنوثة إلى الجحيم.»
ولكن هل كل امرأة قادرة على الغضب، إلى الإساءة والانفصال عن زوجها الذي يُسيء إليها، أو اختيار الحياة أو الشخص الذي تريده؟
إن الاختيار والإرادة في حياة أي إنسان لا يمكن تحقيقها إلا إذا كان الإنسان مستقلًّا، واستقلال الإنسان له دعامتان: الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي، والاستقلال النفسي والعاطفي والشخصي، فإذا اعتمدت المرأة على الرجل (اقتصاديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا وشخصيًّا)، فلا يمكن لها بحال من الأحوال أن تفكر في الانفصال عنه؛ وعلى هذا فلا يمكن لها بحال من الأحوال أن تغضب إذا أساء إليها، وليس أمامها إلا كبت الغضب وتجميع الكراهية في أعماقها، وبمعنًى آخر ليس أمامَها إلا الاكتئاب النفسي كمرض لا شفاء لها منه إلا إذا كافحت من أجل أن تحصل على الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والعاطفي والشخصي، وحينئذٍ تستطيع أن تعلن عن غضبها، وتتخذ فعلًا قرارًا، وتغير حياتها الشقية بحياة أخرى أفضل.