المرأة والأنا العليا
كشفت الحقائق العلمية عن أن الإنسان — ذكرًا أو أنثى — له عقل يفكر، وله قدرات ذهنية تزداد أو تقل حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتربوية التي يعيشها، وأن الفروق التشريحية بين الرجل والمرأة لا علاقة لها بالقدرات الذهنية لكل منهما، وأن الرجل العبد أو المستعبد يُظهر غباءً لا يقل عن غباء المرأة المستعبدة. وهناك أحدث المعلومات البيولوجية التي تقول إن المخ البشري في بداية تكوينه الجنيني داخل الرحم يكون أنثى، وأن مخ الرجل ليس في أصله إلا مخ أنثى، ثُمَّ حدثت له عملية تذكير طارئة بفعل الهرمون الذكري. والحال نفسه في الجنين كله الذي ينشأ أصلًا أنثى، وليس مزدوج الجنس، كما عُرف سابقًا في علم الأجنة.
ولا يمكن لأحد من العلماء حتى اليوم أن يدَّعي أنه وصل إلى فهم حقيقة المخ البشري أو عمليات مراكزه العليا، فلا يزال هذا المخ الصخرة العاتية التي تواجه الطب والعلم، هذا المخ الذي لا زال سِرًّا مُغلَقًا ولم يُعرَف من مفاتيحه إلا الشيء الضئيل.
وحيث إن «النفس» مركزها المخ، فلا زال فهم الإنسان «لنفسه» لا يزيد وضوحًا عن فهمه «لعقله»، وإن كان هذا التقسيم للإنسان كجسم وعقل ونفس ما هو إلا تقسيم نظري فحسب من أجل الدراسة والتخصص الدقيق، الذي يقود إلى معلومات أكثر وأوضح، وإن كان هذا التخصص الدقيق كالسيف له حدان؛ فهو يوضح بعض التفصيلات الدقيقة، لكنه يطمس المعنى الكلي الشامل، ويمزِّق الإنسان إلى علوم منفصلة، تزداد بينها المسافات كلما زاد العلم تقدُّمًا وزادت معه التخصصات. وهذا التمزيق والفصل بين العلوم قد يقود إلى جهل أشد بالإنسان ما لم يذكر المرء دائمًا أن الإنسان وحدة كاملة لا تتجزأ.
إن وحدة الإنسان (كحيوان اجتماعي) تتكون من الجسم والنفس (أو العقل) والمجتمع؛ ولهذا فإن النظرية العلمية الصحيحة للإنسان لا يمكن أن تتجاهل أثر المجتمع على الإنسان بمثل ما لا يمكنها أن تتجاهل أن له جسمًا أو له نفسًا أو عقلًا، وأن كل هذه العناصر تكون وحدة واحدة لا انفصام فيها.
إن الباحث (في أي علم من العلوم الإنسانية) الذي يتجاهل المجتمع في بحثه يصبح كمن يهبط فجأة فوق جزيرة من العبيد الأغوات (الذين بُترت خُصاهم بواسطة أسيادهم المماليك)، وحين يفحصهم ولا يجد الخُصيتين يصرخ قائلًا: إن كل العبيد يولَدون بغير خُصيتين، ويتصور أن هذه هي طبيعة العبيد.
ولا يمكن لأحد أن يقول: إن هذا الباحث قد أخطأ حين لاحظ ظاهرة اختفاء الخُصيتين عند هؤلاء العبيد، إن ملاحظته صادقة وحقيقية، ولكن الاستنتاج الذي خرج به من هذه الملاحظة هو الخطأ؛ لسبب بسيط، ذلك أنه لم يلاحظ القهر الواقع على العبيد من أسيادهم في المجتمع.
فقال لأنها تدخل المرحلة الأوديبية بعد أن تقبل حقيقة كونها قد خُصيت (بسبب عدم وجود عضو الذكر في جسمها)؛ ولذا فهي لم تعد تشعر بالخوف الذي يدفعها إلى أن تكبت عقدة أوديب وإلى تكوين الأنا العليا. وقد انساق العلماء الآخرون (من أعضاء نظرية التحليل النفسي) مع تحليل فرويد هذا، واستنتجوا أن الأنا العليا عند النساء ضعيفة التكوين؛ ولهذا فإن ضمير النساء أضعف من ضمير الرجال، واعتقاداتهن الفكرية أضعف، ومبادئهن أضعف؛ ولذلك تميل المرأة دائمًا إلى تغيير رأيها واعتناق رأي الرجل زوجها، أو رأي أي رجل آخر تعتمد عليه في معيشتها.
وكم تبدو هذه الأفكار بعيدة كل البُعد عن العلم حين تصدر هكذا وحدها بمعزل عن الظروف الاجتماعية التي تدفع المرأة إلى تملق زوجها مثلًا، واعتناق رأيه عملًا تتعيش منه إلا الزواج؟ وما رأي «فرويد» (وزملائه) في العبيد الذين كانوا يموتون دفاعًا عن آراء أسيادهم دون أن يؤمنوا بها، ورغم أن هذه المبادئ كانت تظلم هؤلاء العبيد؟ بل ما رأي فرويد في موظف الحكومة الذي يعتنق رأي رئيسه في العمل حتى لا يُفصَل أو يُنقَل أو يُضطهَد؟ بل ما رأي «فرويد» في آلاف أو ملايين الرجال الذين يُحكَمون أحيانًا بواسطة حاكم ديكتاتوري، فإذا بهم جميعًا — خوفًا على وظائفهم وأرزاقهم — يعتنقون رأي الحاكم، بل ويمجِّدونه تمجيدًا عظيمًا ويكبتون في أعماقهم آراءهم الحقيقية!
وإذا كان هناك حاكم ديكتاتوري في التاريخ، فليس هنا من نظام أكثر ديكتاتورية من نظام الزواج، إن الزوجة تفقد ملكيتها لجسمها وشخصيتها واسمها وحريتها في الخروج والتنقل والسفر، وفي بعض المجتمعات تفقد ملكيتها لأموالها التي ورثتها عن أسرتها، وفي بعض قوانين الزواج تفقد حقها في الحياة، ويصبح هذا الحق بيد زوجها فيقتلها حين يشاء كما يقتل الدجاجة أو القطة. هذا وإن معظم قوانين الزواج تعطي للزوج حرية تطليق زوجته متى شاء، وله الحق في أن يتزوج عددًا من الزوجات في وقت واحد، لكن فرويد لا يلاحظ كل هذا، ويتصور أن المرأة تغير رأيها وتعتنق رأي زوجها؛ لأن الأنا العليا عند المرأة أضعف، أو لأن عقلها أقل؛ وكل ذلك بسبب غياب عضو الذكر من جسمها.
ويضيف «فرويد» أيضًا (فيما يتعلق بقدرات المرأة الذهنية) أن المرأة فقدت قدرتها الذهنية مبكِّرًا عن الرجل، ويقول: إن المرأة حين تصل إلى الثلاثين تصبح قدرتها الذهنية عاجزة عن التطور، في حين أن هذا السن يعتبر عند الرجل بداية ازدهاره العقلي. ويحاول فرويد أن يجد تفسيرًا لهذا في أعضاء المرأة الجنسية أو تطورها الجنسي، لكنه لا يجد شيئًا علميًّا يمكن أن يستند عليه؛ فإذا به يقول: «إن هذه العملية وكأنها توقفت وعجزت عن التطور نحو المستقبل، ويبدو أن ذلك الطريق الطويل الشاق الذي تتطور به الأنوثة يستنفد كل إمكانيات المرأة.»
والحقيقة أن الذي يستنفد إمكانيات المرأة ويعطل قدرتها الذهنية عن النمو الطبيعي ليس هو طريق فرويد الطويل الشاق، ولكنه طريق المجتمع والأسرة والقوانين التي تمنع المرأة من التعليم، أو تَحُول بينها وبين التعليم المستمر، وتَحُول بينها وبين تنمية قدرتها الذهنية بحبسها في البيت زوجة وخادمة لزوجها وأطفالها، ومنعها من العمل والمساهمة في الأنشطة العامة. إن نجاح المرأة في المجتمع معناه أن تنجح في غسل الصحون، ورتق الجوارب، والطبخ، وكيفية الاحتفاظ بالزوج. إن النجاح الفكري للمرأة أو الذكاء أو التفوق كلها تُعتبَر عيوبًا بالنسبة للمرأة المكتملة الأنوثة، فكيف يمكن إذن للمرأة أن تنمي قدرتها الذهنية؟ بل كيف يمكن لها أن تُظهر ذكاءها أصلًا؟! إن ذكاء الزوجة يخدش رجولة الزوج، ولا بدَّ للمرأة أن تخفي ذكاءها لتحافظ على حياتها الزوجية من الانهيار، وهكذا تصبح كل الزوجات غبيات؛ فالغباء مرادف للنجاح في الزواج.
لكن المرأة في السنوات الأخيرة (عن طريق عملها خارج المنزل واستقلالها الاقتصادي) لم تعُد تقبل الخضوع للزوج؛ لأنه لم يعُد المأوى الوحيد لها؛ إنها تجد مأوًى لها في عملها وفي أجرها الذي تناله عن هذا العمل. وقد ساعد الاستقلال الاقتصادي المرأة على أن تستقل نفسيًّا واجتماعيًّا عن الرجل، وفي كثير من المجتمعات الآن أصبحت المرأة تملك جسدها أيضًا وتتمتع بالحرية الاجتماعية والشخصية والجنسية التي يتمتع بها الرجل، بل ولها أيضًا الحق في نسب أطفالها إليها.
وقد لاحظ العلماء أن صفات هؤلاء النساء الجدد تختلف تمامًا عن الصفات التي وصفها فرويد وزملاؤه عن المرأة؛ فالمرأة من هؤلاء قوية الشخصية، شجاعة، تعتد برأيها، إيجابية في العمل والحياة والجنس، لا تحب الإهانة ولا الإذلال ولا الضرب، أي لا تعاني الماسوشية، وقدرتها الذهنية لا تضعف بعد سن الثلاثين، وطموحها في الحياة لا يقل عن طموح الرجل، والأنا العليا عندها لا تقل عن الأنا العليا عند الرجل.
وعلى هذا لم يكن أمام هذه الظاهرة الجديدة في النساء إلا شيئان، إمَّا أن نظرية فرويد (وزملائه) في المرأة خاطئة، وعجزت عن فهم طبيعة المرأة الحقيقية، وإمَّا أن هؤلاء النساء غير طبيعيات وشاذَّات ومنحرفات. وقد كان الرجال (وما زال الكثيرون منهم) يميلون إلى اعتناق الرأي الثاني؛ لأنه الرأي الذي يتمشى مع مصلحتهم، (فكل واحد منهم رئيس أسرة أبوية، ويحتاج إلى زوجة خاضعة ومطيعة لتخدمه)، ولكن كان هناك دائمًا أيضًا هؤلاء الرجال (رغم قلتهم) الذين ارتفعوا بمنهجهم العلمي وتفتحهم الذهني والإنساني فوق مصالحهم الخاصة، وقالوا بصدق وعلم: لقد أخطأ فرويد، وصدقت النساء.
لقد أدركوا أيضًا أن مصالحهم كرجال متنورين لا تكون إلا مع المرأة الجديدة القوية، المستقلة، الشجاعة، الذكية، الإيجابية، الحرة.
فإن هذه المرأة هي التي تستطيع أن تتفهم معنى الحب الحقيقي، ومعنى العمل، ومعنى الحياة، ومعنى التبادل، ومعنى الجنس، ومعنى الأمومة، ومعنى الأبوة، ومعها يستطيع الرجل المتنور أن يتذوق طعمًا للحياة أكثر عُمقًا وأكثر لذةً وأكثر إنسانيةً، ومعها يدرك الرجل المتنور أن الرابطة التي تربطهما رابطة حرة صادقة أساسها الاختيار، وليست تلك الرابطة القديمة الإجبارية التي كان أساسها الخوف من الجوع أو البحث عن مأوًى.