المرأة والزواج
الذي يدرس قوانين الزواج في مختلف أنحاء العالم يدرك على الفور أن القهر الأساسي للمرأة ينبع ويصب في هذه القوانين التي تجعل الرجل لا وصيًّا على المرأة فحسب وإنما مالكًا لجسدها ونفسها وكل شيء. إن عَقد الزواج ليس إلا عقد تمليك تفقد فيه المرأة ملكيتها لنفسها وتسلمها للزوج، وفي ظل قوانين الزواج يملك الرجل لا المرأة فحسب، ولكنه يملك أطفالها أيضًا.
ونادرًا جدًّا ما ترفض المرأة الزواج، بل إنها تسعى إلى الزواج لأنه الشكل الوحيد الرسمي والشرعي والقانوني والأخلاقي الذي يمكن من خلاله أن تعيش اقتصاديًّا (إذا لم يكن لها عمل أو إيراد)، وتُحمى اجتماعيًّا (المرأة غير المتزوجة متهمة دائمًا)، وتُرضى جنسيًّا (ولا يُسمَح للمرأة أن تمارس الجنس خارج الزواج إلا إذا كانت مومسًا)، بالإضافة إلى أن الزواج اكتسب نوعًا من الحماية الدينية وأصبح شبه مقدس، ولم يعُد من السهل لأي امرأة أن ترفضه أو تنقدَه.
ومن المعروف أن القانون الظالم يفسد المظلوم ويفسد الظالم أيضًا، إنه يعوِّد المظلوم على الخنوع والذل، ويعوِّد الظالم على القسوة والبطش والعدوان. وهذا هو ما حدث لكل من شخصية المرأة والرجل في ظل قوانين الزواج الجائرة. إن شخصية الرجل لا تُترك لطبيعتها تنمو في مناخ عادل، ولكنها تنمو في مُناخ يفرض عليه أن يكون مسيطرًا، وظالمًا لزوجته أو بناته اللائي هو يحبهن لو تُرك لطبيعته. وفي ظل الزواج يُضحَّى بالزوجات والبنات من أجل طموح الرجال.
وبرغم إدراك المرأة لهذا المصير التعس لها، فإنها تدرك أيضًا أنه المصير الوحيد المقبول لها اجتماعيًّا. إن المرأة لا تختار بين الزواج أو عدم الزواج، ولكنها يجب أن تتزوج، وإلا فإن المجتمع لن يقبلها ولا يحترمها، وفوق كل ذلك لا يعتبرها امرأة طبيعية. ومهما بلغت المرأة من الذكاء وتفوقت في عملها ونبغت ثُمَّ لم تتزوج فلا بدَّ أن هناك عيبًا فيها.
وقد أفسد الزواج مفهوم الرجولة كما أفسد مفهوم الأنوثة. إن مفهوم الرجولة أصبح يعني امتلاك القوة، وما يتبع امتلاك القوة من تميز. إن الزوجة التي تطلب أن تتساوى بزوجها تُتَّهَم بأنها تحاول أن تسلب رجولة زوجها أو تجعله بغير رجولة؛ ولهذا تخشى الكثير من الزوجات المطالبة بهذا الحق، ويصبح الزوج الذي يساوي بين نفسه وبين زوجته أقل رجولة أو تجعله بغير رجولة؛ ولهذا تخشى الكثير من الزوجات المطالبة بهذا الحق. ويُصبح الزوج الذي يساوي بين نفسه وبين زوجته أقل رجولة من ذلك الذي يحكمها ويجعلها خاضعة (يسمونه الرجل الحمش). ويحاول كل رجل أن يثبت رجولته، وذلك بأن يكون «حمشًا»، وأن يحكم زوجته بيد من حديد. وهذه المحاولة تضع على الرجال عبئًا نفسيًّا مستمرًّا؛ لأن عليه أن يقدم الدليل على رجولته عن طريق إظهار قوته وسيطرته. وبهذا يتعلم الرجل كيف يكون ديكتاتوريًّا، تخدش رجولته أي مخالفة صغيرة من زوجته أو أطفاله، ولا يطيق أن يناقشه أحد. ويزيد من بطش الرجل أنه الذي ينفق على زوجته وأولاده، وأنهم (إذا غضب وامتنع عن الإنفاق عليهم) لا يجدون أي مأوًى آخر. كثيرًا ما سمعت من الأبناء والبنات هذه الجملة: «إنه ينفق علينا؛ ولهذا فنحن نطيعه خوفًا من ألا يدفع لنا مصاريف الكلية ويضيع مستقبلنا»، والزوجة التي لا تعمل والتي يعولها زوجها أيضًا تقول لنفسها: «إنه ينفق عليَّ؛ ولهذا أطيعه خوفًا من أن يطلقني، ولا أجد المأوى.»
ويصبح الرجل مطالبًا بأن يكون أقوى من زوجته، وإن لم يكن أقوى منها حقيقة، فلا بدَّ أن يظهر للناس أنه الأقوى بأي شكل. ويتعلم الولد أن يكون أقوى من أخته البنت، فإن لم يظهر أقوى منها فلا بدَّ أن يُظهر للناس أنه الأقوى، لكنه يشعر في أعماقه أنه أضعف، ويعذبه هذا الشعور، ويحاول إخفاءه بجهد نفسي أكبر؛ وبذلك يبالغ في سيطرته وقسوته ليظهر للناس أن له رجولة قوية، لكن هذا المظهر القوي والبالغ في قوته يصبح أكثر تناقُضًا مع حقيقته الداخلية، وهو أنه ضعيف؛ وبذلك يزداد إحساسه بضعفه، ويُضْطَر إلى مضاعفة قوته الظاهرية، وهكذا … حتى يصبح الرجل كالبالونة المنفوخة، كبيرًا من الخارج، ومن الداخل خاوٍ، أو كالديك المنفوش الذي يزيد من حجمه بأن ينفش ريشه. وكثيرٌ من الأزواج يبدون كالديوك المنفوشة، حجمهم أكبر من حقيقتهم، وقسوتهم الظاهرية تخفي رغبة عنيفة للبكاء على كتف امرأة، بشرط ألا تكون زوجته؛ ولهذا يتسلل معظم الأزواج في الليل من جوار زوجاتهم ويلجئون إلى امرأة أخرى. إن الذي يدفعهم إلى ذلك في معظم الأحيان ليس هو الحرمان الجنسي، وإنما هو الحرمان من أن يكون الرجل على طبيعته، وأن يظهر ضعفه الذي يخفيه أمام زوجته إلى الأبد. إن بعض النساء اللائي قابلتهن في سجن القناطر، والمحبوسات في قضايا الدعارة، ويُطلَق عليهن المومسات، بعض هؤلاء النساء اعترفن لي ببعض الحقائق والتجارِب التي مرت بهن، قالت إحداهن لي: إن بعض الرجال كان يطلب منها أن يأخذ هو وضع الأنثى. وقالت أخرى: إن بعض الرجال كان يطلب منها أن تقسوَ عليه ببعض الكلمات القاسية حتى يبكي. وقال أخرى: إن بعض الرجال كان يطلب منها أن تصفعَه أو تضربه، حتى يشعر باللذة.
وقد وجد كينزي وماسترز وجونسون في بحوثهم عن الحياة الجنسية للرجال والنساء أن الرجال لا يختلفون عن النساء في رغباتهم، ومنها رغبة الماسوشية. وقد لاحظ فرويد وزملاؤه أن كثيرًا من الرجال مُصابون بالماسوشية، لكنهم لم يحاولوا أن يفهموا الأسباب الحقيقية لهذه الماسوشية، وإنما أرجعوها إلى الفروق التشريحية أيضًا بين الجنسين، وإلى عقدة أوديب في الطفولة. وقال فرويد: إن الماسوشية ليست إلا سادية الرجل. وقال إن منبع الماسوشية السادية هو الطفولة التي يعاني منها الطفل من ازدواجية الشعور، وهو الحب والكراهية في الوقت نفسه لأبيه وأمه، وعقدة أوديب في الولد والبنت هي منبع ذلك. لكن أرنست جونز كان متأثِّرًا بأفكار فرويد، ولم يصل إلى الأسباب الاجتماعية التي تجعل الطفل يعاني من ازدواجية الشعور، وتصور أن سبب ذلك هو عقدة الإخصاء في الطفل الذكر أو عقدة حسد عضو الذكر في الطفلة الأنثى، أي إنه عاد مرة أخرى إلى الفروق التشريحية بين الذكر والأنثى.
وقد كان «ألفريد أدلر» هو أول طبيب من أطباء النفس يرفض أفكار فرويد عن الفروق التشريحية بين الجنسين، وأول من ينبه الأذهان إلى الأسباب الاجتماعية في الفروق النفسية بين الجنسين، سواء في مرحلة الطفولة أو مراحل العمر بعد ذلك. وقد كتب أدلر يقول: «إن الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة غير السعيدة (في حياة الأطفال والرجال والنساء) ترجع إلى الأخطاء في حضارتنا.»
إن ما يميز حضارتنا هو الاضطهاد، وهذا الاضطهاد يمتد ويؤثر في جميع نواحي حياتنا. إن هذه الأكذوبة بأن المرأة جنس أدنى، وما يقابلها من أكذوبة أخرى بأن الرجل جنس أعلى، يفسدان على الدوام علاقة المرأة بالرجل، ويشوهان الانسجام بينهما. وقد نتج عن ذلك حدوث توتر غير طبيعي في جميع العلاقات الجنسية، وهذا التوتر يهدد بل إنه يقضي تمامًا على أية فرصة للسعادة بين الرجل والمرأة.
إن جميع أشكال الحب في حياتنا قد تسممت وشُوِّهَت وفسدت بذلك التوتر؛ وهذا هو السبب في أننا من النادر جدًّا ما نصادف زواجًا سعيدًا، وهذا هو السبب في أن كثيرًا من الأطفال يكبرون ويكبر معهم الشعور بأن الزواج شيء كريه بالغ الصعوبة والخطورة … ويكفي أن الأطفال يُجبَرون على أن يتبعوا ذلك السلوك الشائع وهو إلغاء واحتقار الجنس الآخر (النساء).
إن النظرة العلمية الشاملة للحياة والناس هي التي تجعلنا ندرك مساوئ القوانين الظالمة، وندرك آثار هذه القوانين الضارَّة الممتدة إلى مختلف قوانين الزواج في العصور المختلفة حتى عصرنا هذا. وجدت أنه ليس هناك من قانون ظالم على وجه الأرض أكثر من قانون الزواج، وليس هناك من اضطهاد في تاريخ البشرية مثل اضطهاد الرجال للنساء، وإليكم بعض الأمثلة من مختلف العصور ومختلف الشعوب.
إن الذي يدرس التاريخ ويتتبع تطور الزواج في المجتمعات المختلفة يندهش لهذا الظلم الذي وقع على المرأة لسنوات طويلة ممتدة، منذ أنشأ الرجل أسرته الأبوية. وفي تاريخنا المصري القديم كان الزوج والزوجة متساويين تمامًا، وفي الأسرتين الثالثة والرابعة كانت المرأة في ذلك الوقت تنسب أطفالها إليها. وعندما سيطر الحكم الإقطاعي على الحكم في عهد الأسرة الخامسة فرض الرجل نظامه الأبوي ليرث الأب أبناءه. وبدأ مع النظام الأبوي تعدد الزوجات ثُمَّ نظام التسرِّي (الْمَحْظِيَّات)، ويبدأ الأطفال غير الشرعيين. وقد حدثت أول ثورة اشتراكية في التاريخ البشري ضد الإقطاع، وذلك سنة ٢٤٢٠ قبل الميلاد، في عهد الأسرة السابعة، وهي عهد الثورة التي عُرفت باسم ثورة «منف» ضد الإقطاع والملوك. وقد حرق المصريون القصر الملكي نفسه، ونادَوْا بتكافؤ الفرص في الامتيازات الجنائزية، ونادَوْا باحتقار الملكية. لكن بعض المؤرخين صوَّروا هذه الثورة بشكل مُعادٍ، وصوروا الأزمة على أنها مجرد تغيير الأيدي القابضة على الثروات. وقد كتب بعض هؤلاء يقول: «إن أولئك الذين لم يكن في مقدورهم أن يأمروا بصنع صندل لأقدامهم قد استولوا على الكنوز.»
وقد عاد الإقطاع مرة أخرى، وثار الشعب مرة ثانية سنة ٢١٦٠ قبل الميلاد ضد الإقطاعيين من الفراعنة، وجاءت الأسرة العاشرة ونظام «الرودو» وقُضي على نظام التسَرِّي، واختفت ظاهرة الأطفال غير الشرعيين. ثُمَّ عاد الإقطاع في عهد الإقطاع الثاني عام ١٠٩٤ قبل الميلاد، حين استولى «حرحور» الكاهن الأعظم على السلطنة، وعاد نظام التسَرِّي، وأصبح للرجل وحده حق الطلاق.
وفي عهد الملك بوكخوريس من الأسرة ٢٤ بعد القضاء على العهد الإقطاعي الثاني عام ٦٦٣ق.م، تحرر الأبناء من سلطة الأب، واستردت المرأة حقوقها، وتحرر الزواج من سلطة الكهنة؛ فلم يعد الزواج ذا قدسية دينية. وقد اتضح أنه مع النظام الأبوي فلا بدَّ من وجود نظام تعدد الزوجات والتسري (المحظيات).
وقد قال خطيب اليونان الشهير «ديموستين»: نحن نحتفظ بالعشيقات لمتعتنا، وبالمحظيات ليقمن على خدمتنا اليومية، أمَّا الزوجات فلكي يكون لنا الأبناء الشرعيون، وليكن مدبرات أمينات لبيوتنا.»
وفي الأسرة العبرية الأبوية كان من سلطة الأب أن يقتل أبنائه. وقد خضع إسحق لأبيه إبراهيم عندما أراد أن يذبحه للإله «يهوه» (أو يهودا)، أمَّا الملك سليمان (كاتب نشيد الإنشاد) فقد كان له ٧٠٠ من النساء و٣٠٠ من السراري.
وقد كان أخناتون (١٣٧٢ق.م) هو أول من بدأ شريعة توحيدية، واتخذ معبودًا واحدًا هو رع حاراختي الذي يتألق في الأفق بمظهره «شو» النور، ويكمن في قرص الشمس.
وقد تولى على المجتمع المصري بعد حضارة الفراعنة حضارات الإغريق، ودخول الإسكندر المقدوني عام ٣٣٢ق.م، ثُمَّ الرومان قبل الفتح الإسلامي. وقد كان للعرب حضارة قبل الحضارة الإسلامية، ويقول المؤرخون: إن المرأة في العصر الذي سُمِّيَ بعصر الجاهلية كانت هي التي تختار زوجها وتحادثه في أمر الزواج، وكان الأطفال يُنسَبون للأم في بعض القبائل. والمرأة العربية في البادية لم تعرف الحجاب، وكانت تخالط الرجال بعكس حياة المرأة في المدن. ومن ملوك العرب قبل الإسلام من نسب لأمه كعمرو بن هند، ومنهم من نُسب إلى أبيه. وكان نظام القرابة في تلك القبائل يقوم على أساس الأم لا الأب، وتبقى المرأة بعد زواجها فردًا في عشيرتها، وينتقل زوجها للعيش معها، وكان لها الحق في اختيار زواجها وتطليقه. ويكتب أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني يقول: «والبدويات منهن حين يطلقن أزواجهن يحولن خيامهن إن كانت إلى الشرق فإلى الغرب، أو كانت إلى الجنوب فإلى الشمال.» وكان الطلاق يتم بمجرد أن تحول المرأة باب خيمتها، أمَّا في المدن فلم يكن للمرأة حقوق نساء البادية، وكان الزواج عقد بيع وشراء.
وكان في العصر الجاهلي نوع من الزواج يُسمَّى ﺑ «زواج المشاركة»، وهو صورة من نظام تعدد الأزواج، حيث تتزوج المرأة بعدد من الرجال بشرط ألا يزيد عن عشرة رجال وإلا اعتبرت من البغايا.
وعن حديث للسيدة عائشة عن الجاهلية تقول: «أن يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة فيصيبونها، فإذا حملت ووضعت تُرسل إليهم فلا يستطيع واحد منهم أن يمتنع، فإذا اجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان … تسمي من أحبت باسمه … فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع عنه الرجل.»
وكان عند العرب أيضًا نوع من النكاح يُسمَّى نكاح الاستبضاع، وصفته السيدة عائشة في حديثها؛ بأن الرجل كان يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: «أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه»، ويعتزلها زوجها ولا يمسُّها حتى يتبينَ حملها من ذلك الرجل الذي تستمتع منه (غالبًا رجل عظيم؛ لأن الزوج يريد ابنًا من نسل ممتاز، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب)، وكان الطفل المولود يُعتبَر ولدًا للزوج الشرعي وليس للرجل العظيم الذي جاء من صلبه. ونكاح الاستبضاع صورة أخرى من نظام تعدد الأزواج، ولا زال أثره واضحًا في حالات بعض النساء العاقرات حتى يلدن.
وكانت الأسيرات تعتبرن كما اعتبرهن الإسلام فيما بعد ملكًا لليمين. وقد عرف العرب نوعين من الزواج: بالشراء وزواج الصديقة. وكان الزواج بالشراء هي أن تصبح الزوجة جارية لزوجها لا يطلق سراحها إلا حين يبيعها لسيد آخر لو أراد. أمَّا زواج الصديقة فهو ألا تكون المرأة جارية، وإنما زوجة صديقة لزوجها. وقد أخذ الإسلام بالنظام الثاني فقط وهو زواج الصديقة؛ ولذلك سَمَّى المهر «بالصداق». وقد أباح الإسلام معاشرة الزوج الجنسية للرقيقات (ما ملكت أيمانكم) الجواري، دون أن يسمي ذلك زواجًا، بل سماه «تسريًّا»، والسيد ليس ملزمًا مُطلَقًا بأن يعترف بالولد الذي تلده إحدى جواريه، وإذا اعترف يصبح الولد حُرًّا، وتصبح أمه حرة بعد وفاة سيدها.
وقد أباحت المسيحية أيضًا للزوج أن يحتفظ بنساء أخريات في منزله مع زوجته، وسمى هؤلاء النساء بالسراري. ولا زال المجتمع الحبشي المسيحي حتى اليوم يبيح للزوج أن يحتفظ بهؤلاء السراري في بيته. وقد أُلغي نظام السراري أو التسري في مصر في نهاية القرن العاشر (في عهد الأنبا أبرام بطريق الإسكندرية، الذي قُتل بسبب ذلك سنة ٩٧٠).
وينص قانون نابليون (عنه أُخذ القانون المصري) على حق الرجل في خيانة زوجته ما دام لا يُحضر عشيقته إلى منزل الزوجية، أمَّا الزوجة فإنها عرضة لأشد العقاب إذا قدمت على خيانة زوجها.
ومن كثرة الخيانات الزوجية قضت المادة ٣١٢ قانون نابليون، على أن الطفل الذي يولد أثناء الزواج يُعتبَر ابنًا للزوج. وقال الإمام أبو حنيفة: إن عقد الزواج الصحيح وحده سبب في ثبوت نسب الولد لأبيه.
وكانت مصر تأخذ بهذا الرأي حتى سنة ١٩٢٩، ثُمَّ أخذت برأي أحمد بن حنبل والشافعي ومالك الذين يقولون: إن الدخلة أو الدخول لا بدَّ أن يكون ممكنًا ليثبت النسب. والشريعة اليهودية تجرد المرأة من جميع حقوقها في مختلف مراحل حياتها، وتجعلها تحت وصاية أبيها وأهلها قبل زواجها، وتُنزلها في كلتا الحالتين منزل الرقيق، وتبيح الديانة اليهودية للأب الفقير أن يبيع ابنته بيع رقيق لقاء ثمن من المال، وإذا مات شخص دون أن ينجب ذكورًا تصبح أرملته (تُسمَّى عند اليهود «ياباماه») زوجة لشقيق زوجها أو أخيه لأبيه، سواء رضيت بذلك أم كرهت.
والمرأة في القانون الروماني ليست أحسن حالًا منها عند الشريعة الهندية البرهمية، بل يزيد على ذلك أن الأب ليس له حق بيعها كالرقيق فحسب، ولكن له حق قتلها أيضًا، وبعد الزواج يحل الزوج محل الأب في السيطرة عليها وامتلاكها. وقراءة تاريخ العرب إبَّان العصر الجاهلي تقودنا إلى أن ندرك أن العبيد والإماء (الرقيق) كانوا قوام الحياة الاجتماعية في ذلك الوقت، وأنهم كوَّنوا من كثرتهم طبقة اجتماعية كبيرة. وكانت الإماء (العبيد من النساء) يُستخدمن بواسطة مالكهن في الخدمة بالبيت والطهي وجمع الحطب والغناء والرقص وإشباع رغبات الرجل الجنسية أيضًا، وفي بعض الأحيان كان المالك يشغلهن بالبغاء من أجل كسب المال من ورائهن.
ويكتب الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه عن القيان والغناء في العصر الجاهلي يقول: «ولم يكن هؤلاء السادة يكتفون بأن تكون إماؤهم القوَّامات على شئون منازلهم ورعاية أمورهم، وأن يكُنَّ في الوقت نفسه متاعًا فنيًّا لهم أو متعة جسدية، بل تجاوزوا ذلك كله إلى أن اتخذوهن متجرًا ومكسبًا ومأكلةً، يُدِرُّون عليهم الربح كما تُدِرُّه أنواع المعايش الأخرى. ذكر ابن حبيب أن من سننهم في الجاهلية: «إنهم كانوا يكسبون بفروج إمائهم، وكان لبعضهم راية منصوبة في أسواق العرب، فيأتيها الناس فيفجرون بها» (المحبر: ٢٤٠)، وكانوا يُكرهون فتياتهم على البغاء، وقد روى عن ابن عباس (تفسير الطبري — الميمنية بمصر ١٨: ٩٢-٩٣)، أنه قال: كانوا في الجاهلية يُكرِهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن، فجاءت الآية الكريمة في القرآن: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وذكر النيسابوري (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) على هامش الطبري (١٨: ٨٧) أنه: «كان لعبد الله بنِ أُبَيٍّ رأسِ النِّفاق ستُّ جَوَارٍ: مُعاذَة وأُمَيْمَة ومسكية وعَمْرة وأَرْوَى وقتيلة، يُكرهن على البغاء؛ أي الزنا، فشكَت اثنتان منهن: معاذة ومسكية إلى رسول الله.» ويحكى التاريخ عما كانت تتعرض له هؤلاء الجواري من تنكيل وتعذيب وقتل إذا تمردن على أسيادهن، أو خالفنهن، أو إذا تغنين بأشعار تهجو عظماء القوم أو زعماء القبائل. وكان بعض هؤلاء الجواري من الجرأة والتمرد أنهن كن يتَغَنَّيْنَ بهجاء المسلمين ورسول المسلمين. ويقول ناصر الدين الأسد: إن ممن أمر الرسول بقتلهم يوم دخل مكة هي «سارة»، تلك الجارية المغنية التي كانت تهجو المسلمين. وقال البلاذري (فتوح البلدان — أبريل سنة ١٨٦٦ — ١: ١٠٢): «وكان بالنجير نسوة شَمَتْنَ بوفاة الرسول ﷺ، فكتب أبو بكر رضي الله عنه في قطع أيديهن وأرجلهن، منهن: الشبجاء الحضرمية وهند بنت يامين اليهودية.» ويصف الطبري (تاريخ الطبري ٤: ٢٠١٤-٢٠١٥) كيف كان مثل هؤلاء الجواري تُقطع أيديهن وتُنزع أسنانهن وثَنِيَّاتهن. وكان نزع الثَّنِيَّة رمزًا لعقاب الغناء. ويَرْوُون أن هؤلاء النسوة كن يخضبن أيديهن ويظهرن محاسنهن ويضربن بالدفوف جرأةً منهن على الله، واستخفافًا بحقه وحق رسوله؛ ولهذا كان لا بدَّ من قطع أيديهن وثنيتهن.
وكان نظام العرب في الجاهلية يعطي الرجال الوصاية على النساء والتحكم فيهن، وكان الأب يزوِّج ابنته على كره منها من أجل المال. وكانت الزوجة إذا مات زوجها جاء أخوه أو عمه وألقى ثوبه على زوجة المتوفَّى وقال: أنا أحق بها. ثُمَّ إن شاء استبقاها لنفسه، وإن شاء زوَّجها غيَّره وقبض ثمنها، رضيت بذاك أم كرهت، وإن شاء حَرَمها من الزواج تمامًا لتفتديَ بما ورثت من زوجها من مال.
وكانت المرأة عند بعض قبائل العرب تؤخذ بالقوة، ويُباح للرجل الذي يستولي عليها بالقوة وينتصر على غيره من الرجال في الاستيلاء عليها بالقوة، وأن يعاشرها معاشرة الأزواج، سواء حدث ذلك السبي في حرب نظامية أو عن طريق المباغتة والخطف. ويكتب حاتم الطائي يصف هذا في شعره:
وكان النساء يبذلن ما ملكْنَ من جهد وحيلة للخلاص من هذا السباء ولو إلى الموت؛ أنفةً واستحياءً على ذِكْرِ آلِهِنَّ وذَوِيهِنَّ. ومن أمثلتهن في ذلك: «الْمَنِيَّة ولا الدَّنِيَّة.» كما حدثوا أن فاطمة بنت الخرشب لما أسرها جمل بن بدر رمتْ بنفسها من الْهَوْدَج منكسة فماتت (الأغاني، ج١٦، ص٢١).
وكان الأب يقتل ابنته المولودة، وسُمِّيَ ذلك بوأد البنات، وكانت هناك قبائل تمارس وأد بناتها مثل ربيعة وكندة وتميم.
وللعرب في الجاهلية غير السباء والوأد حالات أخرى اضطهدوا فيها المرأة في نواحٍ أخرى من الحياة، لكن المرأة كأم كانت لها قيمتها، وكان الأطفال يُنسَبون إلى الأم وليس إلى الأب في قبائل مثل خندق وجديلة، وكان رسول المسلمين يُنسَب إلى أمه، ويُقال عنه محمد بن آمنة، وكان يقول عن نفسه: أنا ابن العواتك من سليم (عاتكة بنت هلال، وعاتكة بنت مرة، وعاتكة بنت الأوقص).
ولم تكن المرأة الفرنسية بأحسن حالًا من العربية أو الرومانية أو الهندية، ويجعل القانون الفرنسي من الرجل وصيًّا على المرأة، وتنص المادة ٢١٧ من قانون نابليون على أن: «المرأة المتزوجة لا يجوز لها أن تهب، ولا أن تنقل ملكيتها، ولا أن ترهن، ولا أن تملك بعِوَض أو بغير عِوَض، بدون اشتراك زوجها في العقد أو موافقته عليه موافقة كتابية.»
ومعظم القوانين في الغرب والشرق تسلب من المرأة حقها ليس في مالها فحسب، وإنما في جسدها أيضًا؛ فهذا الجسد ملك لزوجها وليس ملكها، والزوج لا يعاقَب على خيانة زوجته إلا إذا أتى بعشيقته في بيت زوجته (نص قانون العقوبات المصري)، والرجل لا يعاقَب قانونًا على ممارسة البغاء، لكن المرأة هي التي تُقاد إلى السجن وحدها، والزوجة التي تخون زوجها في أية حالة تُحبس سنتان، والزوج الذي يأتي بعشيقته إلى بيت زوجته ويمارس معها الخيانة لا يُحبَس إلا ستة شهور فقط على الأكثر.
وفي معظم القوانين في أوروبا وأمريكا حتى اليوم تفقد المرأة اسمها بمجرد الزواج، وتحمل اسم زوجها رسميًّا؛ وهذا يدل على إلغاء المجتمع لشخصية المرأة، ولتضيع شخصيتها في شخصية زوجها.
ولعل من نواحي التقدم في المرأة العربية أنها لا تفقد اسمها بالزواج، ونبع ذلك من أن زوجات المسلمين في عهد الرسول لم يحملن أسماء أزواجهن، بل إن زوجات محمد نفسه لم يحملن اسمه، وظلت عائشة هي عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وغيرهن، منسوبات إلى الأب وليس إلى الزوج.
وكم ابتسمتُ بسخرية حين كنت أحضر حفلًا في القاهرة يضم عددًا من نساء الطبقات الراقية، وأسمعهن يسمين أنفسهن وصديقاتهن من الزوجات بأسماء الأزواج، وتنطق الواحدة منهن عبارة: «مدام مصطفى» مثلًا بفخر وكبرياء، متصورة أن قمة التحضر للمرأة المصرية هي أن تفقد اسمها وتُسَمَّى باسم زوجها كما يحدث في أوروبا وأمريكا. وتتسع ابتسامتي الساخرة بالطبع حين أسمع هذه السيدة نفسها تتحدث بحماس عن حرية المرأة، وقد يعتبرها من حولها إحدى زعيمات حركة تحرير المرأة في مصر والعالم العربي.
ولست بصدد مناقشة البنود الخاصة بالمرأة في مختلف القوانين، وبالذات قانون الأحوال الشخصية في مجتمعنا، ولكني أود أن أشير فقط إلى ذلك الظلم الفادح الذي لا زال واقعًا على المرأة حتى اليوم، والذي يقرأ البند «٦٧» من قانون الزواج والطلاق عندنا يستطيع أن يرى نموذجًا واضحًا بواسطة زوجها.
نص المادة ٦٧: «لا تجب النفقة للزوجة إذا امتنعت مختارة عن تسليم نفسها بدون حق، أو اضْطُرَّت إلى ذلك بسبب ليس من قِبَل الزوج، كما لا تستحق النفقة إذا حُبست ولو بغير حق أو اعتُقلت أو غضبت أو ارتدت أو منعها أولياؤها، أو كانت في حال لا يمكن الانتفاع منها كزوجة.»
وليس أدل على أن قانون الزواج لا زال ظالمًا في مجتمعنا من تلك الصيحات العالية التي يطلقها في كل العهود أصحابُ وصاحبات الفكر المتنور، وأصحاب الضمير الإنساني الحريص على العدالة والحق والشرف الحقيقي.