الكبت والخوف والكذب
الكبت هو عدم الفعل، وقد كُبتت المرأة وحُرمت من الفعل؛ ولذلك لم تستطع أن تعيش الحقيقة، وعاشت في أحلام وخيالات، وهذا يعرِّضها دائمًا للصدمات النفسية حين يصطدم الواقع بخيالها، فإذا بها تعيش صراع العالمين الحقيقي والخيالي في ذهنها.
ويقول «كير كجارد»: إن الحقيقة لا توجد في حياة الإنسان إلا إذا أوجدها الإنسان من خلال الفعل. ويقول جان بول سارتر: «أفعالنا هي نحن.» ويؤكد وليم جيمس على أهمية اتحاد الفعل والتفكير لسلامة الإنسان النفسية. ويُعَرف «هيدجر» الحقيقة بأنها حرية الفعل. ويقول بول تليش: إن الإنسان لا يصبح إنسانًا حقيقةً إلا في لحظة اتخاذ قرار بالفعل.
لكن الكبت المفروض على المرأة من المجتمع يحرمها من الفعل، أو يسبب انفصامًا بين تفكيرها وفعلها، إنها تفكر في شيء معين ثُمَّ لا تفعله أو تفعل شيئًا آخر قد يكون مناقضًا لما هي تفكر فيه؛ وهذا يسبب لها القلق، هذا القلق الناتج من خوفها من الأفكار، ومن الصراع الدائر على الدوام بين هذه الأفكار وبين أفعالها التي تعبر عن هذه الأفكار أو عن عدم قيامها بالفعل الذي تريده. وكم من فتاة وامرأة قالت لي هذه العبارة: «إذا فعلت أو صرخت بما أشعر به، أو أفكر فيه حقيقة لأصبحت مرفوضة من المجتمع الذي حولي»؛ ولهذا كثيرًا ما كنت أرى اختلافًا كبيرًا بين ما تقوله المرأة بلسانها وبين ما تعبر عنه بعينيها.
إن المرأة من أجل أن تكون مقبولة في المجتمع تُضْطَر أن تكبت حقيقتها. إن عملية التكيف مع المجتمع التي تقوم بها المرأة ليست إلا عملية قتل لوجودها الحقيقي. والمرأة التي تُسمَّى بالمرأة الطبيعية هي المرأة التي نجحت في قتل وجودها الحقيقي، أمَّا المرأة التي تُسمَّى بالمرأة العُصابية، فهي التي فشلت في قتل وجودها الحقيقي؛ ولهذا يقول رولوماي: «كم هو خاطئ تعريفنا للعُصاب على أنه الفشل في التكيف مع المجتمع، إن هذا التكيف هو العُصاب بالضبط، إن هذا التكيف معناه أن يقبل الإنسان قتل الجزء الأكبر من وجوده من أجل الإبقاء على جزء صغير جدًّا من هذا الوجود … وأن ما نراه من أعراض العُصاب ليس إلا أعراض الإنسان الذي يحاول الحفاظ على إنسانيته ووجوده … إن القلق هي حالة الإنسان عندما يصارع تلك القوى التي تحاول تحطيم وجوده.»
وينتج عن هذا ظاهرة الكذب المتفشية في المجتمع، هذا الكذب الذي يُحدث انفصامًا بين حقيقة المرأة (والرجل أيضًا)، وبين ما تتظاهر به أمام الناس. والانفصام يحدث في الأسرة أيضًا، فيصبح للإنسان حياة أسرية ظاهرية هي علاقة الأزواج بالزوجات الظاهرية، ثُمَّ حياة أخرى خفية هي علاقة الأزواج بالعشيقات أو الزوجات بالعشاق. ويحدث الانفصام في المجتمع أيضًا، فإذا بالتناقض الواضح بين القيم الأخلاقية والدينية وبين القيم التِّجارية والاقتصادية.
على أن المرأة أكثر تعرُّضًا لهذا الانفصام من الرجل؛ بسبب المحظورات المفروضة أكثر على المرأة؛ ولهذا تتمزق شخصية المرأة إلى عدة أجزاء، ويتناقض كل جزء من الآخر. إن عقلها يختلف مع مشاعرها، ومشاعرها تختلف مع إرادتها، وإرادتها تختلف مع أفعالها. إن مشاعر الحب والكراهية عند المرأة يجب أن تُكبَت، أو تظهرها على النحو المقبول اجتماعيًّا فقط، إنها يمكن أن تظهر كراهيتها للخادمة التي عندها مثلًا، وأن تعبر عن هذه الكراهية بعدوانية يقبلها المجتمع (ضرب الزوجات للخادمات مقبول اجتماعيًّا)، ولكنها يجب أن تكبت كراهيتها لزوجها أو أبيها أو رئيسها أو أي رجل آخر في موضع السلطة أو في طبقة أعلى. وهذا يحدث أيضًا في حالة مشاعر الحب، فهناك حب محرم على المرأة أن تظهرَه، وهناك حب يجب على المرأة أن تبالغ في إظهاره؛ كحبها لأطفالها، وتفانيها في خدمة زوجها أو أبيها أو أفراد الأسرة.
إن القلق لا يحدث للإنسان إلا إذا أصبح واعيًا بوجوده، وأن هذا الوجود يمكن أن يتحطم، وأنه قد يفقد نفسه ويصبح لا شيء. وكلما كان الإنسان واعيًا بوجوده زاد قلقُه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه. وهذا هو السبب وراء انتشار القلق بين النساء المثقفات عنه بين النساء غير المثقفات؛ لأن المرأة المثقفة أكثر وعيًا بوجودها عن المرأة غير المثقفات؛ لأن المرأة المثقفة أكثر وعيًا بوجودها عن المرأة غير المثقفة؛ وبالتالي فهي أكثر قلقًا من أجل حماية هذا الوجود من القوى الاجتماعية التي تبغي تحطيمه. أمَّا الخوف فهو منتشر أكثر بين النساء غير المثقفات عن النساء المثقفات. وهناك فارق كبير بين القلق والخوف، إن الشعور الذي تشعر به المرأة وهي راقدة على منضدة العلميات ليُجريَ لها الطبيب عملية جراحية (فتح خراج مثلًا) هو شعور الخوف، وهو ينتهي بانتهاء العملية وعودتها إلى بيتها، أمَّا القلق فهو شعور آخر، تشعر به المرأة الناجحة في عملها مثلًا حين تدرك أن زوجها يكره نجاحها أو يغار منها. إن شعور القلق يلازمها ليل نهار، وتصبح مهددة في حياتها الزوجية إذا استمرت في نجاحها، أو تصبح مهددة في نجاحها إذا أرادت أن تُرضيَ زوجها وتحميَ حياتها الزوجية؛ ولأن الاثنين هامَّان عند المرأة فهي تشعر بالقلق لا الخوف. إن القلق شعور قوي يتعلق بكيان الإنسان كله، كيانه من خلال عمله وتحقيق ذاته من خلال نجاحه. ولأن الزواج والأمومة لا يزالان في نظر المرأة ركنًا أساسيًّا في كيانها؛ لذلك هي تشعر بالقلق حين يصبح نجاحها في العمل مهدَّدًا؛ وهذا هو السبب وراء انتشار القلق بين النساء المثقفات عن النساء غير المثقفات وعن الرجال أيضًا، فالرجل لا يعتبر حياته الزوجية أو أبوته ركنًا أساسيًّا في كيانه، وهو يشعر بالقلق النفسي حين يصبح نجاحه في عمله مهدَّدًا، أمَّا نجاحه أو فشله في الزواج فليس إلا شيئًا ثانويًّا في حياته بعكس المرأة. وقد استطاعت بعض النساء المثقفات الذكيات أن ينظرن إلى الزواج كشيء ثانوي في حياتهن، وهذا في رأيي ازدياد في الوعي وتقدم فكري ونفسي يمكن أن يحميَ المرأة من مشاكل نفسية عديدة.
وهناك فرق آخر بين القلق والخوف، وهو أن القلق ينطوي دائمًا على صراع داخلي، هو صراع الإنسان بين أن يكون أو لا يكون، أو بين أن يوجد أو لا يوجد؛ ولهذا لا تشعر بهذا الصراع المرأة غير الواعية بوجودها وكيانها، أو المرأة التي حظيت ببعض الحرية والإمكانيات الثقافية والنفسية التي تحقق بها وجودها؛ فإن نجاحها (ولو جزئيًّا) في تحقيق هذا الوجود يتضمن تحطيمًا لذلك الأمن الاجتماعي والنفسي الذي تشعر به المرأة العادية، التي تخلَّت عن وجودها تمامًا من أجل زوجها وأطفالها الآخرين، ومن هنا تشعر المرأة المثقفة الواعية بالقلق، فالقلق هنا قلق إنساني رفيع المستوى، وليس ضعفًا وليس مرضًا، ولكنه نوع من الصراع القوي والصمود الإنساني العنيف في مواجهة القوى المعادية لوجود الإنسان. وكما يقول «رولوماي»: إن القلق يرتبط ارتباطًا عميقًا بمشكلة الحرية، إن المرأة (أو الرجل) التي لا تحظى بأية حرية (ولو ضئيلة) لتحقق شيئًا من وجودها وكيانها فهي لا تشعر بالقلق. وقد وصف «كير كجارد» القلق على أنه «زغللة الحرية»، وأنه يحدث قبل أن تصبح الحرية حقيقة ملموسة وإيجابية.
إن النساء كأفراد وجماعات يتنازلن عن الحرية من أجل التخلص من القلق غير المحتمل، إن الإحساس بالقلق في حد ذاته دليل على أن المرأة تشعر بإمكانية وجودها وكيانها، وأنها مهددة بالحرمان من هذه الإمكانيات، وبأن تصبح لا شيء أو بغير وجود مستقل.
هذا الوجود المستقل يتحقق للإنسان (امرأةً أو رجلًا) بالعمل الخلاق المنتج والحب، وهما لا يتحققان إلا في ظل الحرية المسماة بالحرية الإيجابية، وهي ليست مجرد غياب القيود (الحرية السلبية)، ولكنها حركة إيجابية نحو الخلق والإبداع في العمل وممارسة جميع الطاقات الإنسانية من خلال الحب الحقيقي.
إن الطموح الفكري والرغبة في الإبداع والخلق والتجديد معناه أن يكون المستقبل أفضل من الماضي، هذا الطموح والتطلع نحو مستقبل أفضل من الماضي صفة إنسانية. إن الحيوانات لا تعرف المستقبل، وهناك بعض حيوانات تستطيع أن تتوقع حدوث عقاب لها مثلًا في الدقائق العشر المقبلة، والكلاب تستطيع أن تتوقع ذلك لا في النصف ساعة فقط، وإنما لأسابيع وسنوات. إن هذه القدرة على اجتياز فواصل الزمن التي تفصل الماضي عن الحاضر عن المستقبل، وهذه القدرة على رؤية المستقبل في ضوء أحداث الماضي، وهذه القدرة على التعلم من الماضي والتخطيط للمستقبل وتطويره، هذه القدرة إنما هي ميزة للوجود الإنساني.
وكم تُحرَم أغلبية النساء من هذه الميزة حين يُفرَض عليهن أن يكن بلا ماضٍ وبلا مستقبل، وأن يعِشْن كحيوان يأكل ويشرب ويتناسل ويدور في الساقية، أو يحمل الأثقال فوق ظهره.
إن التخويف والكبت والقمع، وغيرها من العمليات التي تسد منافذ الوعي عند المرأة، ليست في حقيقتها إلا محاولات لقطع أواصر تلك الحلقات الزمنية المتصلة في حياة الإنسان، وفصل الماضي عن الحاضر عن المستقبل، ويصبح من الخطر على المرأة أن تحتفظ بماضيها كجزء متصل بحاضرها ومستقبلها؛ ولهذا تبتر المرأة ماضيَها من حياتها، وإن عجزت عن بتره تمامًا فهي تحمله لا كجزء منها وإنما كجسم غريب عنها، تُضْطَر لحمله معها أو فوق كاهلها كالعبء؛ ولهذا كثيرًا ما تسبب أحداث الماضي في حياة الفتيات والنساء مشاكل نفسية وعُصابية، وبالذات تلك الأحداث الجنسية التي تحدث في طفولة معظم البنات (الاعتداءات من الرجال الكبار بسبب الكبت الجنسي الذي يعانيه الرجال الكبار)، وأيضًا العادة السرية التي تمارسها معظم البنات في الطفولة والمراهقة كمرحلة طبيعية من مراحل النمو الجنسي، وأيضًا المداعبات الجنسية التي تحدث بين الجنسين قبل الزواج. كل ذلك تُضْطَر الفتاة أن تسلخَه عنها وتبترَه كأنما لم يحدث، وهي عملية نفسية شاقة تترك آثارها بطبيعة الحال في نفسية المرأة؛ فهي تعيش في قلق دائم بسبب ذلك الماضي الذي قد يؤثر في حياتها الحاضرة أو المستقبلة، إنها تشعر بالقلق خشية أن يحدث شيء في المستقبل بسبب ذلك الماضي. وكما يقول فرويد: إن القلق ليس إلا التخوف من حدوث شيء في المستقبل.
وتنجو من القلق والعُصاب هذه المرأة الشجاعة التي استطاعت أن تجعل ماضيَها جزءًا لا ينفصل عن حياتها، تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها؛ فالماضي لا يمثل لها عبئًا أو جسمًا غريبًا عنها تُضْطَر لحمله، وإنما هو جزء منها يفيدها ويغذي حاضرها ومستقبلها بالتجارِب والخبرات الضرورية لنضج الإنسان، لكن هذه الشجاعة لا تصيب المرأة غير الواعية بحقوقها الإنسانية. إن إدراك المرأة بأن خبرة الماضي ميزة إنسانية وحق من حقوق الإنسان هو الذي يمنحها الشجاعة في الاعتراف بأن هذا الماضي وهذه الخبرة جزء منها يضيف إليها الكثير، وليس عيبًا أو عاهةً يجب عليها إخفاؤها، لكن هذا الإدراك لا يحدث لكل النساء المثقفات في مجتمعنا، إنه يحدث لبعض المثقفات فحسب، هؤلاء البعض اللائي حظين بقدر أكبر من الوعي والاستقلال في الشخصية والنجاح في العمل بحيث تصبح الواحدة منهن قادرة على أن تعترف بماضيها، وتعتز بكل تجرِبة مرَّت بها لأنها جزء منها، وتفرض على الآخرين احترامها. وهذا هو الصدق الشجاع الذي يمنح الإنسان مقومات الصحة النفسية؛ لأن الإنسان في تلك الحالة (امرأة أو رجل) يصبح متصالحًا مع جميع أجزاء حياته (الماضي والحاضر والمستقبل)، ويستفيد بكل منها على التوالي دون أن يضع الحواجز بين كل منها، أو يلغي أحدها؛ فيصبح كالبناء الذي انهار منه أحد أركانه.
إن المرأة المثقفة التي تتمتع بصحة نفسية هي المرأة المتكاملة البناء في شخصيتها، ومعنى ذلك أنها المرأة التي استطاعت أن تحطم التقاليد داخلَها وخارجَها التي تفرض عليها أن تكذب على نفسها أو على الآخرين، واستطاعت بذلك أن تؤسس مستقبلها على أساس متين هو ماضيها، الذي تعتز بكل ما فيه، وهذا ينطبق على الرجل.
إن الأفراد هنا كالشعوب؛ فالفرد القوي الصحيح نفسيًّا هو الذي تتصل جميع حلقات حياته (الماضي والحاضر والمستقبل)، ويكون تراثه جزءًا منه، يستفيد في تخطيط المستقبل، وليس جسمًا غريبًا عنه يحمله رغم أنفه ويخجل منه، أو يبتره وينساه ويهمله. إن نسيان الماضي أو إهماله أو بتره يعني أن المستقبل يُبنى على غير أساس متين؛ ولهذا يضعف مستقبل الأفراد والشعوب التي تستأصل ماضيَها. وقد أدرك الاستعمار (في مختلف أشكاله وفي جميع الأزمنة) هذه الحقيقة، وكان الاستعمار العسكري أو الاستعمار الاقتصادي يحتاج دائمًا إلى الاستعمار النفسي، ويبذل المستعمرون جهودًا مضنية لطمس ماضي الشعوب التي يستعمرونها، أو وضع الفواصل بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بحيث يصبح المستقبل مُعلَّقًا في الهواء، فما هي إلا هزة حتى يسقط.
وكم تعرَّض مجتمعنا المصري على مر العصور والأزمنة لهؤلاء المستعمرين الأجانب الذين أرادوا الفصل بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا؛ لنعيش حياة مفككة الأوصال والحلقات، ونصبح شعبًا ضعيف البناء، غير متماسك القوى، مما يسهل على الاستعمار إخضاعه واستنزاف موارده.
وما يحدث للشعوب يحدث للأفراد، إن علاقة الأسياد بالعبيد كعلاقة الاستعمار بالمستعمرات، كعلاقة أي فرد يريد استغلال الفرد الآخر، كعلاقة الرجل بالمرأة.
إن المرأة القوية الصحيحة نفسيًّا المتكاملة البناء في شخصيتها تمثل صعوبة أمام الرجل الذي يريد أن يستغلها لصالحه؛ ولهذا تفشل النساء القويات الواعيات الذكيات في الزواج، وتنجح النساء الضعيفات غير الواعيات في الزواج. وترتفع نسبة الطلاق بين النساء القويات الواعيات الذكيات عنه بين النساء الضعيفات غير الواعيات. ويمجد الرجل في المرأة الضعف وعدم الوعي والغباء والسذاجة، ويلعن الرجل في المرأة الذكاء وقوة الشخصية وتكاملها. ويصبح على المرأة أن تخفي ذكاءها ووعيها إذا أرادت النجاح في الزواج؛ وهذا يسبب لها صراعًا نفسيًّا، قد تعالجه بالطلاق أو عدم الزواج (إذا استطاعت)، أو تعالجه بالأقراص المهدئة (إذا لم تستطع). ولا يمكن أن أنكر أن هناك بعض الرجال الذين لا يريدون استعمار زوجاتهم أو استغلالهن، وإذا حظيت المرأة المثقفة الواعية الذكية برجل من هؤلاء فهي تُعفى من هذا الصراع، ولا تكون مضطرة إلى إخفاء ذكائها ووعيها من أجل إنجاح زواجها، ولكن هذا النوع من الرجال قليل ونادر، والأغلبية الساحقة من الرجال لا تزال تفزع من ذكاء المرأة ووعيها، وتفضل المرأة التي يسهل استغلالها، والتي تستسلم لحياة العبودية دون تذمر أو مقاومة.
إن العُصاب هو الثمن الذي تدفعه المرأة المثقفة الذكية من أجل أن تظل زوجةً وأُمًّا، وهي لا تستطيع أن تنجوَ من العُصاب إلا في حالتين اثنتين: إمَّا أن تستغنيَ تمامًا عن الزواج والأمومة، وهذا أمر غير سهل على عدد غير قليل من النساء، وإمَّا أن تحظى بزوج متفتح الذهن لا يريد استغلالها، وهذا أمر نادر؛ ولهذا تُصاب معظم النساء المثقفات الذكيات بالعُصاب.
وكلما نضجت المرأة المثقفة الذكية أصبحت أقل عرضةً للإصابة بالعُصاب؛ لأن النضج يجعلها أقل حاجة إلى الزواج وأكثر قدرة على مواجهة أي مشاكل فيه. وقد وجدت أن المرأة المثقفة الذكية المتمتعة بصحة نفسية هي تلك المرأة التي أصبح الزواج في حياتها شيئًا ثانويًّا، ولم يعُد الرجل يمثل لها كل حياتها، وإنما جزءًا فقط من حياتها، والأجزاء الأخرى من حياتها لعملها وإنتاجها في المجتمع. إن المرأة لا تمثل إلا جزءًا من حياة الرجل، والأجزاء الأخرى من حياته لعمله وإنتاجه في المجتمع؛ ولهذا لا يُصاب الرجل بالعُصاب حين تفشل علاقته بالمرأة، إنه قادر في معظم الأحوال على بدء علاقة جديدة وتخطي العلاقة القديمة. وهذا ما تفعله المرأة المثقفة الذكية التي لم يصل وعيها بعدُ إلى تلك الدرجة التي يصبح فيها الرجل جزءًا من حياتها وليس كل حياتها. وعلاج العُصاب في تلك الحالة ليس هو خفض درجة الوعي عند المرأة (بالأقراص أو الكهرباء) لتتكيف مع زوجها، ولكن العلاج هو رفع درجة وعيها أكثر؛ لتصبح قادرة على رفض الزواج الفاشل واختيار الرجل الأصلح لها، وإن لم تعثر عليه فأمامَها حياتها الواسعة الأخرى في العمل والإنتاج في المجتمع.
ومن هنا أهمية العمل في حياة المرأة، ليس أي عمل، ولكن العمل الخلاق الذي تحبه وتستطيع أن تخلق فيه وتبدع؛ ولهذا تنجو من العُصاب المرأة التي تمارس عملًا فنيًّا خلَّاقًا، إنها تحقق ذاتها من خلال فنها وعملها الخلاق، وتجد في هذا الفن معنًى لحياتها ووجودها؛ وبذلك تقف صلبة قوية متماسكة الشخصية في وجه مشاكلها الأخرى المتعلقة بالزواج والأطفال والبيت، ولا تُصاب بالعُصاب، ولا تشعر بحاجة إلى أقراص مهدئة.
ولكن كم من النساء المثقفات الذكيات يخترن العمل الذي يحبونه، وكم منهن اللائي يمارسن عملًا فنيًّا خلَّاقًا مبدعًا؟! إن معظم الناس (نساءً أو رجالًا) لا يختارون العمل الذي يحبونه، ولا يمارسون أعمالًا فنية خلاقة ومبدعة، ولكن معظم الناس يُفرَض عليهم العمل، ومعظم الناس يمارسون أعمالًا روتينية غير خلاقة؛ ولذلك لا يكون العمل في معظم الأحيان متعة تقبل عليها النفس وتثرى به، ولكنه يكون عبئًا تتحمله النفس من أجل الأجر المالي أو لأسباب أخرى متعددة، منها التحكم في بعض المرءوسين أو شغل الفراغ.
ويُصاب الرجال بالعُصاب أيضًا بسبب عدم تحقيق ذواتهم في العمل الذي يمارسونه، ولكن نسبة العُصاب بين الرجال أقل من النساء؛ لأن الرجل يستطيع أن يعوض بعض فشله في العمل عن حقوقه الممنوحة له وحده داخل الزواج وخارجه، أمَّا المرأة فهي محرومة من جميع هذه الحقوق، بل إن أطفالها الذين تلدهم لا يحملون اسمها مهما بلغت من النجاح في عملها، ويحملون اسم الرجل مهما بلغ من الفشل في عمله.
ومن العوامل الهامة التي تسبب العُصاب للنساء الكبت الجنسي وعدم الإشباع الجنسي، ويؤدي إلى هذا الكبت وعدم الإشباع أسباب متعددة تبدأ منذ طفولة البنت وبسبب التربية والختان والتخويف والتفرقة بين البنات والذكور، واعتبار اللذة الجنسية إثمًا، والزواج بغير حب وأنانية الرجل وعدم مساواة المرأة بالرجل، وجهل الرجال والنساء بالحب والجنس عامة. ويمثِّل عدم الإشباع الجنسي ظاهرة تكاد تكون عامة بين النساء، لكنها لا تظهر بوضوح في النساء اللائي نطلق عليهن الطبيعيات أو المتكيفات مع المجتمع؛ وذلك لأن المرأة من هؤلاء قد استسلمت للكبت ولفكرة الإخصاء، ولم تعُد تشعر برغبات جنسية، أو برغبات جنسية ضعيفة جدًّا يمكن أن ترضى بفُتات رجل، أمَّا المرأة الواعية بحقوقها كإنسانة لها عقل وجسم فهي تشعر بالاكتئاب أو القلق، والمرأة الواعية الذكية لا تفصل بين الحب والجنس، ويصبح على الرجل أن يقنعها فكريًّا وعاطفيًّا وجسديًّا معًا؛ ولذلك لا يمكن لها أن تُشبَع جنسيًّا مع رجل لا تحبه مهما بلغت قوته الجسدية. والمرأة الواعية الذكية أقل كبتًا لرغباتها من المرأة الأقل وعيًا وذكاءً؛ ولذلك فهي أكثر عرضة للعُصاب إذا لم تُشبع رغباتها؛ ولذلك أيضًا هي أكثر ممارسة للعادة السرية أو العلاقات خارج الزواج، وكلها محاولات للإشباع وعدم الاستسلام للكبت والتكيف مع المجتمع.
ويعالج أطباء النفس مثل هذه الحالات بطرق مختلفة حسب المدارس النفسية التي ينتمون إليها، ومعظمهم يساعدون المرأة على إطفاء البقية الباقية من رغباتها الجنسية، وإقناعها أن المرأة المثالية هي التي تضحي بكل شيء من أجل الأمومة والأطفال (لا يمكن أن يحاول طبيب نفسي منهم أن يقنع رجل بأن يضحيَ برغباته الجنسية من أجل الأبوة والأطفال)، وقلة قليلة من أطباء النفس المتنورين الذين يقنعون المرأة بحقها في الإشباع الجنسي والعاطفي، ويشجِّعونها على تغيير حياتها الزوجية إذا كانت خالية من الإشباع العاطفي والجنسي.
وقد اعترفت لي بعض الحالات من الفتيات والنساء أن الطبيب النفسي في بعض الأحيان كان يتصرف كأي رجل آخر محروم جنسيًّا، ويحاول أن يُشبع رغبته مع إحدى مريضاته، منتهزًا فرصة تلك العلاقة الحميمة التي تنشأ بين المريضة نفسيًّا وطبيبها، موهمًا إياها أنه يحبها أو يعالجها. وقد اطلعت على بعض القضايا التي رفعتها بعض الأسر ضد الطبيب النفسي الذي مارس الجنس مع ابنتهم المريضة. هذا وإن بعض المريضات لا يعترفن لأسرهن بهذه الممارسات؛ باعتبار أنها تُسيء إليهن قبل أن تُسيء إلى الطبيب، كما أن كثيرًا من الأسر يحجمون عن رفع قضايا في مثل هذه الحالات حفاظًا على سمعة الأسرة وسمعة ابنتهم؛ ولهذا لا يمكن لنا أن نحكم على عدد هذه الممارسات بعدد القضايا التي تذهب إلى المحاكم. والحال نفسه ينطبق على الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها البنات في طفولتهن من الرجال الكبار، إن البنت الصغيرة من شدة الخوف والخزي تكتم الأمر كسرٍّ دفين في نفسها، ثُمَّ في الحالات التي تصرخ فيها البنت، أو ينكشف الرجل ويُضبَط أثناء الاعتداء فإن كثيرًا من الأسر يحجمون عن إعلان الأمر والذهاب في قضية إلى المحكمة، بل إن القضية حين تذهب إلى المحكمة فإن المحكمة ذاتها أحيانًا ما تحفظ القضية حفاظًا على سمعة البنت الصغيرة وأسرتها؛ وبذلك ينجو الرجل من العقاب.
وقد اطلعت على بعض قضايا من هذا النوع، والتي تصل إلى الطب الشرعي حين يفحص الطبيب البنت الصغيرة، ويقرر ما إذا كان الاعتداء قد أفقدها غشاء البكارة أم لا. وقد علمت من إحدى الباحثات الاجتماعيات في الطب الشرعي أن مُدرِّسًا بإحدى مدارس البنات مارس المداعبات الجنسية بل الجنس ذاته مع تلميذات فصله جميعًا. وإن معظم أسر هؤلاء البنات يُفضِّلون كتمان الأمر عن إعلان الفضيحة، وكذلك المجتمع أيضًا، وعلمت أن قضايا هتك العرض غير قليلة كما نتصور، وأن الأطفال البنات في سن مبكرة جدًّا يتعرضن للاعتداءات من الرجال الكبار.
قال لي الباحثة الاجتماعية: إن في سجلاتها حوادث لأطفال بنات في سن الثالثة من العمر تعرضن لمثل هذا الاعتداء، وقرأت لي الباحثة عن حالة أم جاءت إليهم مذعورة تشتكي أن طفلتها التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات قد اعتدى عليها بواب العمارة (بأصابعه) حين كان يحملها على كتفه ليداعبها. وفي زياراتي للمستشفيات النفسية طلبت الاطلاع على بيانات جرائم هتك العرض، وتحدثت مع بعض الرجال نزلاء المستشفى الذين هتكوا أعراض بنات صغار، ثُمَّ حُوِّلوا إلى المستشفى النفسي لاشتباه إصابتهم بمرض نفسي، واتضحت لي حقيقة غريبة، إن معظم هؤلاء الرجال شديدو التدين، وبعضهم طلاب بالمعاهد الدينية أو مُدرِّسون للدين. وفي قسم المذنبين بمستشفى الخانكة قال لي أحد المرضى الذي حُوِّلَ إلى المستشفى بسبب هتكه لعرض طفلة صغيرة: «تربيت في جو ديني، ونشأت طفلًا خجولًا متديِّنًا، منطويًّا على نفسي، كنت تلميذًا متفوِّقًا في دراستي، وكانت حياتي عبارة عن مثلث (منزل – مسجد – مدرسة)، تخرجت مدرِّسًا ابتدائيًّا، وأنا أشعر أنني ناقص، وأنني لم أتعلم شيئًا رغم تفوقي الدراسي، كنت آمل أن أدخل الجامعة لأكمل تعليمي لكن الظروف حالت دون ذلك، وفجأة دون مقدمات وقعت الكارثة، أمسكت طفلة عمرها ست سنوات واعتديت عليها، وفي قسم البوليس حُرِّرَ لي محضر واتُّهمت من النيابة العامة بهتك عرض الطفلة الصغيرة، واعترفت بما فعلت، وقلت لهم إنني تعبان نفسيًّا، وأن اليوم الذي حدثت فيه الجريمة — وقتَها — كنت خارجًا من المسجد بعد صلاة الظهر، وانتهى كل شيء بالكشف عليَّ، وحُوِّلت إلى مستشفى الأمراض النفسية بالخانكة قسم المذنبين، وأنا الآن بالمستشفى منذ سنة تقريبًا، ولا أعرف ما هو مرضي، فأنا أحمد الله طبيعي جدًّا، لست مريضًا ولا أعرف كيف سأخرج من هذا المستشفى، أنا إنسان متدين جدًّا حتى الآن، وأنا سريع الإحساس، وأبكي كثيرًا لسوء حظي، ولا يهمني الناس بقدر ما يهمني حكم الله؛ فأنا اعتديت على الطفلة ولكن من الخارج فقط، واتضح من فحص الطبيب الشرعي لها أنها لا تزال عذراء، أنا لم أمارس العادة السرية في حياتي كلها، وأعلم أن الكبت الجنسي الشديد هو الذي دفعني إلى هذه الكارثة التي حطمت مستقبلي، أنا أخاف الله كثيرًا، وأخفي وجهي حينما أرى فتاة جميلة حتى لا ينتقض وضوئي، وهذه هي أول غلطة في حياتي ارتكبتها، ولكن سوء حظي هو الذي جعلها تنكشف بهذا الشكل، وكل إنسان يخطئ، ولكني أدفع ثمن هذه الغلطة بكل مستقبلي وحياتي، وأصبحت أعيش كشخص مجنون، وينظرون إليَّ كمجنون مع أنني عاقل ومتدين وأعترف بخطئي، ولكن لم يعد أحد يسمعني، ولا أعرف كيف أو متى سأخرج من هذا المستشفى؟!»
وبينما أنا أسمع إلى كلام هذا الشاب التفَّ حولَنا عدد كبير من نزلاء هذا القسم (قسم المذنبين)، وقال شاب ريفي بلهجة ريفية: إن الله غفور رحيم، ولكن الناس لا ترحم، أنا مثلًا كنت جالسًا في الحقل تحت شجرة، وجاءت البنت الصغيرة تلعب معي، ووضعت أصبعي دون أن أقصد أي سوء، ولم تصرخ البنت، كانت مسرورة من ذلك، ولم يحدث لها أي شيء، ولكنهم ضربوني واتهموني بهتك العرض، وسلطوا على رأسي الكهرباء.
وتنافس زملاؤه الواقفون حولنا على الكلام، وكلٌّ يريد أن يحكي قصته، وكلهم يُطلَق عليهم اسم المذنبين، بعضهم متهم بجرائم جنسية معظمها هتك عرض بنات صغيرات، وبعضهم متهم بقتل زوجته أو قتل شخص آخر. وقد حصلت على معلومات كثيرة من هؤلاء النزلاء بالمستشفى، كما حصلت على بيانات أخرى من إدارة المستشفى، ولكني أحتفظ بكل هذا لكتاب آخر، حيث إن المجال هنا لا يتسع لكل هذا.
ولكن ما أريد توضيحه هنا هو علاقة التدين الشديدة بالكبت الشديد، وعلاقة الكبت الشديد بالانفجار أو التعب النفسي، كما حدث في حالة الشاب الذي لم تكن حياته إلا المسجد والمدرسة والبيت، وأنه اعتدى على الطفلة بعد خروجه من الصلاة. وهذه الحالة في حاجة إلى شرح وتوضيح أعمق، خاصة أنه يقول إنه يخاف الله كثيرًا، ويخفي وجهه عندما يرى أية فتاة جميلة حتى لا ينتقض وضوءه. وتذكرني هذه الحالة بتلك الحالات الأخرى المتعددة، كحالة الشاب الجامعي الذكي الذي كان يرفض مصافحة زميلاته في الكلية لأن ذلك حرام، ثُمَّ إذا به يقع في حب زميلة له، وحين يدرك أن لها خطيبًا آخر يُصاب بانهيار نفسي. وأيضًا تلك الطالبة الذكية المتدينة جدًّا والتي تعتقد أن صوت المرأة عورة، وحينما تفاجأ برغبتها الطبيعية الصادقة في الحب، ويفرض عليها أبوها زوجًا آخر تُصاب بانهيار نفسي بسبب تمزقها بين الرغبة في طاعة أبيها والرغبة في الحب الصادق. إلى غير ذلك من الحالات التي تعيش صراعًا يمزِّقها بسبب التناقضات الموجودة في المجتمع وداخل النفس، والتي سبق عرضها.
والسؤال الذي لا بدَّ أن يُسأَل: ما هي علاقة الدين بالصحة النفسية؟ هل التدين والتمسك بمبادئ الدين يقود إلى الصراعات الداخلية في النفس، وإلى الإصابة بالأمراض النفسية؟ هل هناك تعارض أو تناقض بين المبادئ الدينية (والأخلاقية) وبين الرغبات الصحية الصادقة للجسم وللنفس والعقل؟! وللإجابة على هذا السؤال أخصص الفصل الأخير من هذا الكتاب، وهو فصل يخاطب الإنسان سواء كان امرأةً أو رجلًا، ولا يخاطب النساء وحدهن. وقد يتصور البعض أنه بعيد بعض الشيء عن موضوع المرأة، ولكني أعتقد أنه لا يمكن الفصل بين مشاكل الإنسان النفسية بصفة عامة ومشاكل المرأة؛ لأن المرأة إنسان أوَّلًا وأخيرًا.