الأنثى هي الأصل
كنت أندهش كلما أوغلت في قراءة تاريخ البشرية القديم قبل ظهور الأديان، وقبل نشوء الأسرة الأبوية لتلك القيمة الإنسانية الكبيرة التي كانت تتمتع بها أنثى الإنسان (المرأة كما نسميها الآن)، والتي كانت تتزايد كلما أخذتني القراءة بعيدًا عن أقدم عصور التاريخ، في الفترات الأولى من حياة الإنسان الطبيعية البدائية. في تلك العهود كان الإنسان طبيعيًّا، أي إنه كان يعيش حياته كما هي، ويتصرف تلقائيًّا، وفق رغباته ومشاعره وتفكيره. كان الإنسان (ذكرًا أو أنثى) وحدة واحدة، لم يكن هناك انفصال بين جسم الإنسان وعقله أو نفسه، لم تكن الأديان قد ظهرت بعدُ وظهر معه الفلاسفة الذين فصلوا بين الجسم والعقل، ولم يكن علم النفس أو السيكلوجيا قد ظهر بعد، أو تلك العلوم الأخرى كالبيولوجيا والفسيولوجيا، وأحدثت هذه المسافات بين الجسم والنفس.
في تلك العهود البدائية الطبيعية التي لم تؤثر فيها بعد هذه العلوم والفلسفات، والتي لم يكن قد حدث فيها بعدُ انفصالٌ بين عقل الإنسان وجسمه، كان الذكر والأنثى على طبيعتهما، وكان لكل منهما قيمته النابعة من طبيعته أو تكوينه البيولوجي (بلغة عصرنا الحديث).
وقد أدرك المجتمع الإنساني البدائي المكون من الذكور والإناث أن الأنثى بالطبيعة أصل حياة بسبب قدرتها على ولادة الحياة الجديدة؛ فاعتبروها أكثر قدرة من الذكر وبالتالي أعلى قيمة. ومن هنا أدت الفكرة في تلك العهود أن الآلهة أنثى، وأنها آلهة الإخصاب والولادة والخضرة والوفرة والخير وكل شيء مفيد.
استمرت هذه العهود آلاف السنوات، ولا أحد حتى الآن يعرف كم ألفًا من السنوات استمرت؛ لأن علم التاريخ لم يكن قد ظهر بعد، ونشوء علم التاريخ بالنسبة لنشوء أول الحياة الإنسانية يُعتبر شيئًا حديثًا، لكن معظم علماء التاريخ والأنثروبولوجيا في العالم يُجمعون على أنه في المجتمعات الإنسانية البدائية كانت للأنثى قيمة إنسانية واجتماعية وفلسفية أكثر من الذكر، وأن الإله القديم كان أنثى، وأنه قبل نشوء الأسرة الأبوية كان المجتمع البدائي أمويًّا، وكانت الأم هي الأصل وهي العصب وهي التي يُنسَب إليها أطفالها.
وفي التاريخ نجد عهودًا أخرى (غير العهود البدائية الأولى)، حيث ارتفعت مكانة المرأة ارتفاعًا كبيرًا، ونحن — المصريين والمصريات — لا بدَّ أن نكون أكثر شعوب العالم إدراكًا لهذه الحقائق؛ لأن هذه العهود كانت في زمن القدماء المصريين. وإذا كانت شعوب العالم المتقدم الآن تفخر بأنها تساوي بين الرجل والمرأة (وهذا أمر لم يحدث بعد)، فإننا نستطيع أن نفخر بأن هذه المساواة، بل وأكثر منها، كانت سائدة عند قدماء المصريين، وأن تشويه العلاقة بين الجنسين وسيادة جنس على الجنس الآخر لم تكن إلا نتيجة التشويه الإنساني الذي طرأ على الحضارة القديمة بسبب الأطماع الاقتصادية التي أصبحت تتزايد مع تزايد وسائل استغلال الإنسان للإنسان.
والذي يقرأ تاريخ القدماء المصريين يدرك أن هذه الحضارة، التي هي أقدم حضارات البشرية وأعرقها، قامت منذ البداية على المساواة بين الجنسين، وعلى ارتفاع مكانة المرأة الاجتماعية ارتفاعًا كبيرًا. كانت المرأة تصل إلى مرتبة الإله كما يصل الرجل إليها، لم تكن الألوهية منصبًا ذكريًّا فحسب، ولكن تاريخ مصر القديم حافل بالإلهات اللائي كان يُقدَّم إليهن القرابين وتُقام لأعيادهن حفلات رائعة، ومنهن إلهة العدل وإلهة الحقول وإلهة السماء وإلهة الكتابة وإلهة الحصاد وإلهة الحب والجمال والخصب وإلهة السرور والموسيقى وإلهة الولادة.
أمَّا بالنسبة للمرأة من عامة الشعب، فقد كانت المرأة الفرعونية تعمل في المصانع بالغزل والنسيج وصنع السجاجيد، وتعمل بالتجارة في الأسواق، وتشارك زوجها أعمال الصيد. وكانت الزوجة تُرسَم على المقبرة حتى الأسرتين الثالثة والرابعة (٢٧٨٠ قبل الميلاد) بحجم زوجها، كدليل على المساواة في الشرف والمكانة والحقوق والواجبات. وفي تمثال «بانجم» (في معبد الكرنك) تتقدم الزوجة زوجها، وهناك نُصُب تذكاري خاص بالسيدة «بيسيشت» من عصر الدولة القديمة يبين أنها كانت مديرة للأطباء. وقد حوكم أحد الأزواج لأنه سب زوجته؛ فأصدر القاضي حُكمًا بجلد الزوج مِائة جلدة، كما قضى بحرمانه من نصيبه من المال الذي كسبه بالاشتراك معها إذا عاد إلى سبها.
وكان للمرأة المصرية القديمة حظ كبير من الثقافة، ويَحكي موظف اسمه «خنوم ردي» أنه كان أمينًا لمكتبة سيدة عظيمة تُدعى «نفرو كابيث»، ويقول إن هذه السيدة قد عيَّنتني في دندرة مشرفًا على خزائن الكتب الخاصة بأمها، وكانت تحب العلوم والفنون.
ومارست المرأة الرياضة والسباحة والأعمال البهلوانية كالرجل سواء بسواء، وكان النساء كالرجال يشربن الخمور في الحفلات، بل ويُسرفن في الشرب ويقرعن كئوسهن مع الرجال، وتقول إحداهن: ناولني ثمانية عشر قدحًا من النبيذ، إنني أريد أن أشرب حتى أنتشي، إن داخلي مثل القش.
وكان للمرأة نصيب كبير في تولي العرش، وإذا مات الملك عن ذريةٍ أكبرها بنت أصبح العرش من نصيبها.
ويعتقد بعض علماء الآثار المصرية مثل «أرمان» و«موريه» و«برستد» أن الابن الشرعي كان يُنسَب إلى أمه أكثر مما يُنسَب إلى أبيه في معظم الأحوال؛ وهذا يدل على سيادة الأمومة على الأبوة في نسب الأبناء، وهي امتداد للعصر الذي كان يُعَدُّ فيه نسب الأم أقوى من نسب الأب. أمَّا الطفل غير الشرعي فكان يُنسَب إلى أمه في جميع الأحوال، وكان للمرأة حق الملكية وحق البيع والشراء وأداء الشهادة في المحاكم، وكانت تتساوى مع الرجل في الميراث، بل إن نظام التوريث في أسر النبلاء في عصر الدولة الوسطى (٢٦٤٠ق.م) كان يأتي عن طريق الإناث لا الذكور، فلم يكن الابن هو الذي يرث، وإنما كانت كبرى البنات. واشتغلت المرأة بكل الأعمال، كانت حامية وحاكمة وملكة وكاهنة وإلهة. الإلهة «ماعت» كانت ربة الحقيقية، و«نات» إلهة الحرب. وكذلك الإلهة سخمت والإلهة حتحور إلهتان للحرب، وكانت الإلهة «نايت» تتقدم الملك في المعارك الحربية، وتضع على رأسها تاج الوجه البحري، كما سموها أيضًا إلهة الفيضان التي تسكن شواطئ النيل. ومن الملكات المصريات القديمات الشهيرات: حتب، حرس، وخنت، كاوس، كليوباترة، وأماح، وحتشبسوت، وتي، ونفرتيني، وغيرهن ممن لعبن أدوارًا بارزةً في التاريخ المصري القديم.
كانت المرأة المصرية القديمة تعرف قيمة نفسها كإنسانة لها عقل وذكاء، ونظر إليها المجتمع نظرة متساوية مع الرجل، فساهمت في الحضارة الفرعونية وشاركت في أول حضارة إنسانية ظهرت على وجه الأرض، وحاربت في أول حرب لتحرير البلاد من المستعمرين، واشتركت في تأسيس أول إمبراطورية عرفها التاريخ القديم قبل ظهور الأديان بآلاف السنين.
ولم تعرف المرأة المصرية القديمة الحجاب، وكانت تختلط بالرجال، وتشاركهم العمل والإنتاج والحرب والتجارة والعلوم والفنون والأفراح والسهرات والشراب وكل شيء، وكانت أيضًا سيدة البيت في أسرتها لها مكانتها العالية داخل البيت وخارجه.
والذي يدرس شخصية الملكة المصرية حتشبسوت يدرك قوة المرأة النابعة من شخصيتها وذكائها وقدرتها على القيادة والحكم؛ ولهذا ظهرت تماثيلها على شكل أبي الهول، لها رأس إنسان، وُجد رمزًا للعقل والقوة معًا. وكان عصر حتشبسوت يتميز بالازدهار والتعمير، وأثبتت كفاءتها كحاكمة وملكة أكثر من ملوك كثيرين، لكنها بعد أن ماتت خلفها تحتمس الثالث، وأمر بتدمير تماثيلها وتشويه رسومها ونقوشها، وكأنما أراد أن يمحوَ من التاريخ السنوات الاثنتين والعشرين (من ١٥٠٤ إلى ١٤٨٣ قبل الميلاد) التي حكمتها.
ويمثل تحتمس هنا بوضوح انتقام الرجل من المرأة بسبب تفوقها وذكائها وقوتها، وكما حاول تحتمس أن يشوه حقيقة حتشبسوت وينكر ذكاءها وقوتها حاول من بعده رجال كثيرون تشويه حقيقة المرأة وإنكار قوتها، فكيف كان ذلك؟!