تشويه حقيقة المرأة
وقد بدأ علماء التاريخ والأنثروبولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين يعيدون دراسة التاريخ بعين محايدة (إلى حد ما) بعد أن أثبتت علوم البيولوجيا والفسيولوجيا والتشريح كذب الافتراضات والنظريات التي تفرِّق بين الرجل والمرأة جسدًا ونفسًا وعقلًا؛ ولهذا السبب تسرب النور بعض الشيء إلى علاقة المرأة والرجل في العصور المظلمة من التاريخ، في العصور الوسطى وما قبلها وما بعدها، وبدأ العلماء يفهمون الأسباب الحقيقية التي شوهت العلاقة بين الرجل والمرأة، وشوهت حقيقة المرأة، سلبت منها مكانتها الأولى الطبيعية حين كانت مساوية للرجل في كل شيء، لها كل حقوقه وواجباته في الحياة، من عمل وإنتاج وعلم وفن ولذة وميراث وتولي عرش الألوهية أو الملوكية، ونسب الأطفال والشرف وغير ذلك من المناصب والحقوق والقيم.
ويسوقنا التاريخ بعد هذا العهد المجيد للمرأة إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية التي قلبت علاقة الرجل والمرأة رأسًا على عقب، وبعد أن كانت المرأة إلهة الإخصاب والخير — والوفرة والخضرة والحياة — أصبحت حليف الشيطان ورمزه الوحيد المجسد على الأرض … وبعد أن كانت المرأة ملكة داخل البيت وخارجه أصبحت خادمة خارج البيت وجارية داخله.
ولم يعد خافيًا الآن على من يُلم إلمامًا شاملًا بالتاريخ أن يدرك الأسباب الاقتصادية التي دعت إلى كل هذا، وكل تلك الظروف التي جعلت الرجل يتعلم الجشع والطمع وملكية الأرض وملكية العبيد وملكية أطفاله؛ ومِنْ ثَمَّ ملكية المرأة وسلب النسب منها والشرف … إلى غير ذلك مما أوضحته كتب التاريخ وغيرها من المراجع الاقتصادية والبحوث المختلفة في هذه الميادين.
وفي تاريخنا المصري القديم تبدو هذه الظروف واضحة للدارسين والدارسات؛ لأن الحضارة المصرية القديمة هي أول الحضارات التي عُرفت، وعرف عنها المؤرخون الكثير. وقد اكتشف علماء التاريخ أن المرأة المصرية القديمة بعد أن كانت تُرسَم على الجدران بحجم زوجها تمامًا دليل التساوي في المكانة والقدر أصبحت تُرسَم بحجم أصغر من زوجها؛ ومعنى ذلك أنها أصبحت أقل قدرًا من زوجها. بدأ ذلك الانخفاض في مكانة المرأة مع بدء ملكية الأرض، واستمر وضعها منخفضًا في عصر الدولة الوسطى، ثم في الأسرة الحادية عشرة حتى الأسرة الثالثة عشرة وعصر الهكسوس بسبب تفشي الإقطاع والظلم، ولم تسترد شيئًا من مكانتها الضائعة إلا في عصر الدولة الحديثة (١٥٨٠ سنة قبل الميلاد) بعد ثورة النساء والعبيد والشعب المصري القديم كله ضد المستعمرين والإقطاع.
واستردت المرأة مكانتها الأولى في تلك الفترة، وعرفنا الملكات الشهيرات من الأسرة الثامنة عشرة كالملكة نفرتيتي، والملكة حتشبسوت ذات الشخصية الفذة القوية والذكاء الشديد، والتي حكمت مصر اثنتين وعشرين سنة (من ١٥٠٤ إلى ١٨٤٣ قبل الميلاد).
حدث ذلك قبل ظهور أول الأديان السماوية، وهو الدين اليهودي، وقد نشأت فلسفة الدين اليهودي وأفكاره من القيم الاقتصادية التي سادت في ذلك الوقت، وهي القيم الإقطاعية القائمة على ملكية الأرض والعبيد والأطفال والنساء. وكان لا بدَّ للرجل الإقطاعي من فلسفة وقيم أخلاقية معينة يدعم بها قيمه الاقتصادية والاستغلالية. وحينما أدرك الرجل أن المرأة بالطبيعة أقدر منه على خلق الحياة الجديدة، وأن هذه القدرة أعطتها مكانة عالية في المجتمع، قال لنفسه: ولماذا أدَّعي لنفسي هذه القدرة رغم أنف الطبيعة؟! وجلس آدم بينه وبين نفسه (وكان فنَّانًا وقادرًا على خلق القصص والروايات)، ثُمَّ خرج إلى العالم بقصة آدم وحواء الشهيرة في التاريخ، وفي هذه القصة سلب آدم من حواء قدرتها على الولادة وخلق الحياة الجديدة، وأعطى نفسه هذه القدرة، قائلًا إنه هو الذي ولد حواء، وإنها جاءت من أحد ضلوعه (لم يستطيع آدم في ذلك الوقت أن يخدع الناس بيولوجيًّا أيضًا ويقول إنها جاءت من رحمه؛ لأن الناس كانت تعرف أن الذكور ليست لها أرحام)، وعلى هذه القصة (وعلى قصص أخرى مماثلة) بدأ الدين اليهودي يكوِّن فلسفته ومبادئه وأخلاقياته؛ ولهذا أصبح الرجل هو السيد في الفلسفة والأخلاق والدين لتدعيم سيادته الاقتصادية والاستغلالية.
والذي يدرس الدين اليهودي كيف نشأ ولماذا، ويتعرف على مبادئه وقصصه، يندهش لكثير من الحقائق التي يطمسها التاريخ عن قصد وعن غير قصد. ونحن نقرأ في التوراة عن قصة «لوط» مثلًا، كيف أنه قدم بناته من أجل حماية رجلين؛ لقد اعتبر كرامة صديقيه من الرجال أعلى من كرامة بناته الأطفال وشرفهن، (كنت لا أفهم لماذا يُسمَّى الرجل الذي يمارس الجنس مع الرجال باسم «اللوطي»، ولكني فهمت ذلك بعد قراءة هذه القصة).
وباستعراض أفكار الدين اليهودي نجد أن أساس هذا الدين يقوم على سيادة جنس الذكور على جنس النساء، وأن عقل الرجل جزء من الذات الإلهية، أمَّا المرأة فهي من سلالة الحيوانات والشياطين.
وهذا هو السبب في أن الرجل اليهودي يقول كل صباح حين يصلي: أحمدك يا رب … لأنك لم تخلقني «امرأة»، بينما تصلي المرأة اليهودية كل صباح وتقول: «أحمدك يا رب … لأنك خلقتني وفق مشيئتك وإرادتك.»
ويمضي بنا التاريخ، ويعرِّفنا كيف بُنيت الديانة المسيحية من بعد اليهودية على أفكار متشابهة، جذورها واحدة. وفي عصر كعصر العصور الوسطى كانت الكنيسة هي السلطة الحاكمة، وقد رأينا كيف كانت النظرة إلى المرأة وكيف كانت تُحرق وتُعذب باسم الدين وباسم المحافظة على القيم والأفكار السائدة. ولم تكن الأفكار السائدة في ذلك الوقت تقنع هؤلاء الذين وُهبوا شيئًا من الذكاء الطبيعي الفطري، فكيف يمكن أن يؤمن شخص ذكي بأن الوقوف أمام باب الكنيسة أو لمس بعض قطرات الماء (كان يُسمَّى الماء المقدس) يمكن أن يشفي جسد الإنسان من الأمراض المعدية أو يمنع ظهور الأوبئة أو العواصف والأمطار؟!
ولكن الويل كل الويل أن يكون الشخص موهوب الذكاء، خاصَّةً إذا كانت امرأة. ولم تكن المرأة التي أطلقوا عليها اسم «الساحرة الحكيمة» في العصور الوسطى سوى امرأة موهوبة الذكاء، أدركت بفطرتها ودقة ملاحظتها وفهمها السريع أن هناك بعض النباتات تشفي بعض الأمراض، واستطاعت أن تشفي فعلًا بعض المرضى، لكن الكهنة الرجال رعاة الكنيسة يغضبون، فكيف تتجرأ امرأة أن تشفي المرضى في حين أن هذه المقدرة من صفات الكنيسة وحدها أو ممثليها من الكهنة الرجال الذين يملكون وحدهم الماء المقدس والقدرة الإلهية؟!
وكان الناس يتجمعون عند باب الكنيسة ليحظَوْا ببعض قطرات من الماء المقدس؛ أملًا في الشفاء من المرض أو الوقاية منه. وكان الكهنة يسيطرون على الناس بهذه الفكرة؛ ولهذا كان ظهور أي ساحرة حكيمة مهدِّدًا لسلطتهم، وكانوا يحكمون عليه بالتعذيب والموت شأن زميلتها الأخرى التي كانوا يسمونها «الساحرة الشريرة» أو المجنونة، وهي المرأة الذكية المتمردة التي اكتشفت بذكائها الفطري ذلك الظلم الفادح الواقع على جنس النساء لمجرد أنهن نساء، ولم يكن لها علاقة بشفاء المرضى كالساحرة الحكيمة، لكنها كانت تُتهم بأنها سبب الأمراض والأوبئة التي يعجِز الماء المقدس عن شفائها.
ويذكر التاريخ أن مصير الساحرة الحكيمة لم يكن أحسن حالًا من أختها الساحرة الشريرة المجنونة، بل إن عقابها في معظم الأحيان كان أشد. وتكتب حشيلية قائلةً: «كانت الكنيسة تعلن — في القرن الرابع عشر — أنه لو تجرأت امرأة وعالجت الأمراض بغير دراسة فهي ساحرة، ولا بدَّ أن يُحكَم عليها بالموت.»
وكانت الدراسة في العصور الوسطى تعني دراسة تعاليم الكنيسة (وأحدها أن الماء المقدس يشفي)، وكان هذا العلم بيد الكهنة وحدهم (خدام الكنيسة)، ولم يكونوا يسمحون لأحد أن ينافسهم في هذه المهنة؛ ومن هنا نشأ حقهم وكراهيتهم لأي شخص يُظهر ذكاءه في علاج الأمراض خاصة إذا كان امرأة. الصفة الوحيدة التي كان يمكن أن تدمر حياة المرأة تمامًا في تلك العصور هي صفة الذكاء وقدرتها على علاج بعض الحالات المرضية. ولقد دهشت حين وجدت في تاريخ تلك العصور ما يثبت أن الساحرة الحكيمة كانت مكروهة من الكنيسة أكثر من الساحرة الشريرة؛ لأنها كانت أكثر تهديدًا لسلطة الكنيسة، وأكثر منافسةً لأعضاء مهنة الطب في ذلك الوقت وهم الكهنة ورعاة الكنيسة.
إن أحد هؤلاء واسمه «وليم بيركنيز» وهو «صياد الساحرات» الإنجليزي الشهير (كان لقب «صياد الساحرات» يُعطى لهؤلاء الرجال الذين كانت مهنتهم اصطياد الساحرات والتفتيش عنهن بين الناس بشتى الطرق). هذا الكاهن كان يقول: «إن شفاء الأجسام والأرواح من اختصاص الإله وحده، وهؤلاء الذين عينهم ممثلين له فوق الأرض، ألا وهم الكهنة؛ لهذا فإن الموت هو الجزاء العادل للساحرة الحكيمة.»
كان هؤلاء الكهنة يعدُّون أنفسهم طبقة الحكام الأسياد، ولم تكن كرامتهم الدينية تسمح بأن يندس بين صفوفهم أحد من الطبقات المحكومة، خاصة إذا كان من جنس النساء الشيطاني.
وكانت التقاليد الدينية في ذلك الوقت تشيد بالطبقية والإقطاع، وتقول إن الإله هو الرب الإقطاعي صاحب الأرض؛ وحيث إن هذا الإله قد عين الكهنة ممثلين له على الأرض، فإنهم أصحاب الأرض من غير جدال؛ وبذلك انقسم الناس إلى أسياد، وهم أصحاب السلطة والأرض والعلم (تعاليم الكنيسة)، وعبيد من الفقراء والأُجراء، وفي النهاية جنس النساء المنحط؛ ولهذا يشهد التاريخ أن معظم الساحرات الشريرات والحكيمات المجنونات اللائي عُذِّبن وأُحرقن من الفقيرات، وأن الرجال الذين اتُّهِموا بالسحر والشر والجنون (عددهم كان قليلًا بالنسبة لعدد النساء) كانوا جميعًا من الفقراء.
ويعتبر بعض العلماء الآن أن الساحرة الحكيمة التي عُذِّبت في العصور الوسطى هي الأم الحقيقية للطب الحديث، يقولون إنها بذكائها الفطري استطاعت أن تكتشف أنواعًا مختلفة من العلاجات، لكن هذه اندثرت في التاريخ بسبب إهمال المؤرخين لها وعلماء النفس القدامى والمحدثين (ومعظمهم من الرجال) الذين كانوا أنفسهم متأثرين بأفكار من سبقوهم، وألصقوا بها تهمة الجنون، وظلت هذه التهمة تنتقل من عصر إلى عصر دون أن يحاول أحد مراجعتها أو مناقشتها.
وقد ورث بعض رجال العصر الحديث عن رجال العصور السابقة كراهيتهم الشديدة لذكاء المرأة. إنهم يفضلون عليها المرأة الغبية، التي تعتقد أن سيادة الرجل وخضوع المرأة إنما هي أشياء طبيعية لمجرد أنه ذكر وهي أنثى. وهناك كثير من الرجال لا زالوا يعتقدون أن عقل المرأة يشوه أنوثتها، وأن ذكاءها يفسد طبيعتها؛ ذلك أن في أعماقهم تلك الفكرة القديمة منذ العصور الوسطى بأن عقل الرجل إنما هو جزء من عقل الإله، وأن الإله قد اختص جنس الذكور وحدهم بذلك العقل والحكمة، أمَّا المرأة فهي بطبيعتها أقرب إلى الجنون منها إلى العقل.
وقد سيطرت هذه الفكرة على رواد علم النفس القديم سيطرة شديدة؛ والدليل على ذلك أنهم أطلقوا اسم «الهستيريا» وترجمتها الحرفية «رحم المرأة» على حالات الجنون التي صادفتهم، كأنهم بذلك يقولون إن كل امرأة لها رحم فهي حالة من حالات الهستيريا، وإن كل حالة من حالات الهستيريا لا بدَّ أن يكون لها رحم.
وفي القرن السابع عشر حين تضاءلت قوة الكنيسة تضاءلت معها ظاهرة السحر والشيطنة بين النساء، وحلَّت محلها ظاهرة الجنون والمرض النفسي والعُصاب والهستيريا. وتقول سجلات التاريخ إن معظم المرضى بهذه الأمراض العقلية والنفسية كانوا نساء؛ ولهذا أطلقوا اسم «هستيريا» على هذه الأمراض، وقد تصوروا من كثرة حالات النساء أن هذه الأمراض أمراض نسائية لها صلة ما بالرحم.
ويصف توماس زاس هؤلاء النساء قائلًا: «كان لهن عقل يفكر وينتقد كثيرًا، هؤلاء الرافضات غير المتكيفات مع المجتمع ومع قيمه التي تجعل الرجال أسيادًا وعبيدًا وجواري؛ ولهذا كان وجودهم يهدد المجتمع ونظامه القائم. وكان واجب المعالجين النفسيين والأطباء في ذلك الوقت (وهم الذين خلفوا الكهنة في مهنة العلاج والتطبيب) أن يحموا المجتمع منهم ومن تمردهن على الأفكار السائدة.»
ويكتب جريجوري زيلبورج عن (المالياس مالفيكارم)، وهي (الوثيقة التاريخية التي تُعَدُّ المرجع الأساسي لحياة السحر في العصور الوسطى)، يكتب عنها قائلًا: إن هذه الوثيقة (المالياس مالفيكارم) قد تصلح بشيء من التعديل البسيط أن تكون مرجعًا ممتازًا للطب النفسي الإكلنيكي في القرن الخامس عشر، لو أن كلمة «المريضة» استُبدلت بكلمة «الساحرة» واستُبعدت كلمة «الشيطان».
ولو أننا تفقدنا بعض أعمال أطباء النفس ابتداءً من «بنيامين روش» (سنة ١٨١٢) فإننا نجد أن الطب النفسي في ذلك الوقت كان يميل إلى تفسير جميع أنواع السلوك غير العادية على أنها نوع من المرض النفسي. وكان «فيليب بنييل» (١٧٤٥–١٨٢٦) يعتقد أن الساحرات كن مريضات نفسيًّا، وكذلك اعتقد تلميذه «جان إتيان دومينيك إسكيرول» (١٧٧٢–١٨٤٠) الذي كوَّن نظرية أن الساحرات كن مريضات العقول. وجاء «جان مارتن شاركوت» (١٨٢٥–١٨٩٣)، وأكَّدَ أن ظاهرة الساحرات كانت مشكلة عصبية، وحاول أن يوضح أن أعراض «الهستيريا» في تلك العصور هي نفسها أعراض الهستيريا في عهده، وقد فعل شاركوت مثلما فعل إسكيرول، وذلك أنه تلقى صفات الساحرات كما هي. وفعل فرويد الشيء نفسه، لكنه قال: ظاهرة الساحرات مشكلة نفسية وليست عصبية كما قال شاركوت. وقد فاته أن يسأل نفسه أوَّلًا هل هن مريضات أم لا؟ لكنه تسلم التركة ممن سبقه، وتلقى تشخيص كهنة العصور الوسطى لهؤلاء النساء كمريضات، وراح يدرس نوع المرض هل هو عصبي أم نفسي. وقد حاول فرويد أن يعثر على تشابهات بين نظرية الشيطنة أو (الممسوسات بالجان) وبين نظرية التحليل النفسي لمرض الهستيريا.
وقد تصور فرويد أن هستيريا هؤلاء النساء أو صراخهن الحاد من الألم والأسى بسبب حزنهن على ضياع عضو الذكر إلى الأبد، ونسي أن هؤلاء النساء كن يصرخن ويولولن بسبب الإبر الطويلة الحادة التي كان يغرسها في أجسامهن صيادو الساحرات بحثًا عن علامة الشيطان، وأن اعترافهن بالجرائم الجنسية علنًا أمام قضاتهم من الكهنة لم تكن بسبب انحرافاتهم الجنسية وإنما بسبب رغبة هؤلاء القضاة في سماع بعض الكلمات الجنسية المثيرة، ولم يكن أمام هؤلاء النساء (إزاء التعذيب الشديد) إلا أن يعترفن بالجرائم التي يلقنها لهن القضاة، والتصريح علنًا أن الأرواح الشريرة والشياطين تسكن أجسادهن. وقد جهل فرويد كل هذه الحقائق؛ لأنه عجز عن فهم الظروف الاجتماعية الحقيقية التي عاشتها هؤلاء النساء؛ وكان لعجزه سببان: السبب الأول أنه رجل متحيز — بحكم نشأته اليهودية — لجنس الذكور الأسمى. والسبب الثاني لأنه بحكم انتمائه لطبقة العلماء والأطباء كان يأخذ بوجهة أصحاب السلطة الحاكمة وينسى وجهة نظر المحكومين من العبيد والنساء. وقد وقع في هذا الخطأ نفسه عدد غير قليل من العلماء والمؤرخين والأطباء وبالذات أطباء النفس.
وقد كان تحيز فرويد (غير الواعي) لجنسه الذكري أحد أسباب عجزه عن فهم حقيقة المرأة؛ ولأن فرويد يعتبر الأب الأساسي للطب النفسي الحديث، ولأن كثيرين من بعده اعتنقوا أفكاره وتأثَّروا به إلى حد كبير، فقد شاعت نظريته المشوهة لسيكلوجية المرأة وطبيعتها النفسية، إلى حد أن المرأة الطبيعية أصبحت هي المريضة والمريضة هي الطبيعية، ولم يعد في إمكان — إلا لقلة من علماء النفس — التخلص من هذه الأفكار الشائعة ومحاولة فهم حقيقة المرأة بروح محايدة وذهن واسع متفتح قادر على التعمق.
وهذا هو الحال في معظم عهود التاريخ؛ فإن الاعتداء والتعذيب والقتل يصبح شيئًا طبيعيًّا وصحيًّا إذا صدر عن أصحاب السمو والمكانة والأرض والسلطة، ولكنه يصبح المرض والجريمة والجنون إذا صدر عن أصحاب الفقر أو العزَّل من السلاح أو جنس النساء الأدنى، بل إن مجرد دفاع هؤلاء عن أنفسهم أو الصراخ من الألم يعتبر المرض والجنون.
إن انتشار ظاهرة الساحرات الشيطانات في العصور المظلمة لا تختلف في أسبابها الجذرية عن انتشار ظاهرة المريضات بالهستيريا في عصر فرويد، ولا تختلف عن انتشار ظاهرة المريضات نفسيًّا وعصبيًّا في النصف الأخير من القرن العشرين.
إنها النتائج الطبيعية للعلاقة بين نوعين من الناس: نوع يملك السلطة والسمو وهم الذكور، ونوع مضطهد بهذه السلطة يصارع من أجل الحرية وهم النساء. ويؤكد هذه الحقيقة أيضًا العالم النفسي الشهير مالينوسكي حين يكتب: «إن الأساطير والخزعبلات لا تحتضن ظاهرة السحر فحسب، ولكنها تحتضن أية قوة في المجتمع تقوم على امتيازات لبعض الناس دون البعض الآخر.»
ولا شك أنه من أجل أن نفهم الخزعبلات التي أحاطت بالمرأة وبعلاقتها بالرجل فلا بدَّ أن ندرك الامتيازات التي حظيَ بها الرجال دون النساء في مختلف العهود البشرية، ومن أجل أن تعود علاقة الرجل والمرأة إلى شكلها الطبيعي غير المشوه، فلا بدَّ أن تحارب هذه الامتيازات في كل مكان وزمان، وتُحارب الخزعبلات في التاريخ وفي كل العلوم. وقد يندهش بعض الناس ويتساءلون: أيمكن أن يحتوي العلم أيضًا على الخزعبلات؟! ولكن ما هو العلم؟ لقد عرفنا أن ورثة الكهنة كانوا العلماء، وكما كان الكهنة خدام الكنيسة في العصور الوسطى كان العلماء خدام الإقطاع ثُمَّ رأس المال (أو السلطة) في القرون التي تلت ذلك. وكما عاشت سلطة الكنيسة في العصور المظلمة على الخزعبلات فقد عاشت سلطة الإقطاع ورأس المال في العصور التي تلتها على بعض الخزعبلات في العلم. وقد كتب دانهام يقول: «إن الخزعبلات سوف تصادفنا، وسوف نجدها منتشرة في عدد من المجلدات الضخمة القيمة، بل وفي قلب العالم ذاته سوف نجدها.»
إن التشويه لحقيقة المرأة وطبيعتها الجسمية والنفسية حدث في التاريخ في عهود مختلفة متعددة، وهو لم يحدث للمرأة فحسب، ولكنه حدث لأجناس مختلفة من البشر عوملوا كفصائل أدنى من الإنسان لأسباب اقتصادية واستغلالية، لكن الإنسان (لكونه إنسانًا له عقل قادر على التحليل والتبرير) استطاع أن يبرر أسباب الاستغلال (كي يستريح ضميره) بأسباب أخرى، استطاع أن يغلفها بالعلم تارة وبالأخلاق تارة أخرى. الأشياء التي لم يستطع أن يثبتها بالعلم أثبتها بالأخلاق، وما عجز عن إثباته في علم الأخلاق أثبته في الفلسفة وهكذا. ولا يسع الباحث أو الباحثة في علوم الطب (جسدًا أو نفسًا) إلا أن يندهش لتلك المحاولات العلمية التي أراد بها الإنسان الأبيض أن يثبت بيولوجيًّا أن مخ الإنسان «الأبيض» أكثر تطوُّرًا ورُقِيًّا من مخ الإنسان «الأسود»، وأن يثبت نفسيًّا أن «العبد» له نفسٌ تختلف عن نفس «السيد»، وعرفنا في علم النفس ما يُسمَّى «بسيكلوجية العبد». وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة، وكم من محاولات علمية في مختلف العلوم الطبية والبيولوجية والنفسية لإثبات فروق (لصالح الرجل) بين مخ الرجل ومخ المرأة، وبين أعضاء الرجل وأعضاء المرأة، وبين نفس الرجل ونفس المرأة، وعرفنا في علم النفس ما يُسمَّى «بسيكلوجية الأنثى» على غرار ما سُمِّيَ «بسيكلوجية العبد».
وحينما ثار العبيد وأصبحت ثورتهم قوة اجتماعية تهدد السلطة والنظام الاقتصادي السائد بدأ العلم يهتم بهم، وبدأ العلماء (بوحي أو بأمر من السلطة الحاكمة) يراجعون الحقائق العلمية التي وصفوا بها العبيد جسدًا أو نفسًا، وظهرت حقائق علمية جديدة تلغي الفروق البيولوجية بين مخ السيد ومخ العبد، وتلغي الفروق النفسية بين نفس العبد ونفس السيد، واكتشف العلم أن العبد لا يولد بنفس خانعة، وأن النفس الذليلة ليست نفس العبد الطبيعية، ولكنها تصبح نفسه من أثر الاضطهاد الاجتماعي الطويل.
انتقلت ثورة العبيد إلى غيرهم من الفئات المضطهدة من البشر، وبدأت النساء في أنحاء مختلفة من العالم تثور ضد الوضع الأدنى الذي فُرض عليهن، وبدأ العلماء (بسبب قوة النساء المتزايدة) يراجعن الحقائق العلمية التي وصفوا بها النساء جسدًا ونفسًا.
وظهرت حقائق علمية جديدة تلغي الفروق البيولوجية بين مخ الرجل ومخ المرأة، وتلغي الفروق النفسية بين نفس المرأة ونفس الرجل، واكتشف العلم أن المرأة لا تولد بنفس خاضعة، وأن الخضوع والسلبية والضعف والماسوشية ليست صفات نفسية المرأة الطبيعية، ولكنها تصبح صفاتها من أثر الاضطهاد الاجتماعي الطويل.
لكن الثورات لا تبدأ في أول أمرها قوية؛ لأنها في البداية لا تشمل أعدادًا كبيرة من الفئة المضطهدة، إن الذي يبدأ دائمًا أفراد قلائل يرفضون الظلم ويثورون، وتنتقل الثورة منهم إلى غيرهم شيئًا فشيئًا حتى تشمل الجميع، وحينئذٍ تصبح الثورة قوة اجتماعية ضاغطة تستطيع أن تغير النظم والمفاهيم والحقائق العلمية أيضًا. هناك إذن فترة يكون فيها الثائرون أو الثائرات قلة قليلة، بلا حول ولا قوة أمام القوة الاجتماعية والعلمية القائمة؛ ولأنهم يرفضون القيم السائدة، ولأنهم يثورون على المفاهيم المنتشرة، ولأنهم أفراد قلائل بلا قوة ولا سلطة، فإن مصيرهم معروف في كل عهود التاريخ، القتل أو السجن أو الاتهام بالجنون، ومن الذي يستطيع أن يتهمهم بالجنون سوى الطبيب النفسي أو من يقوم مقامه، حسب اختلاف العهود.
في العصور الوسطى كان الكاهن أو رجل الدين هو الذي يشخص جنون الرجال أو النساء الذين يرفضون القيم السائدة في ذلك الوقت. كان معظم هؤلاء من النساء، وكانوا يُسَمَّوْنَ الساحرات الشريرات، ويُعاقبن بالقتل أو الحرق أو السجن في مستشفى الأمراض العقلية. وقد كتب «جيكوب سبرنجر» و«هنريك كرامر» في أهم وثيقة تاريخية «مالياس مالفيكارم» عن السحر في العصور الوسطى: «إن السبب في أن السحرة الأشرار كانوا غالبًا من النساء أن عملية السحر تأتي من الشبق الجنسي، والذي هو في النساء لا يرتوي أبدًا. أمَّا الرجال فإنهم في مأمن من هذه الجريمة الشنعاء لسبب واحد، هو أن المسيح كان رجلًا … تبارك في علاه، هو الذي حمى جنس الرجال من مثل هذه الجريمة الكبيرة؛ لأنه طالما سمح لنفسه بأن يُولَد وأن يتعذَّب من أجلنا؛ فهو قد ضمن إذن للرجال هذه الميزة على النساء.» ويقول توماس زاس: إن هذه الوثيقة التاريخية «مالياس مالفيكارم» ضمن أشياء أخرى اعتُبرت في العصور الوسطى نظرية دينية علمية تثبت سمو جنس الرجال على النساء، وتبرر — بل تطلب — تعذيب النساء لأنهن أعضاء الجنس الأدنى، الجنس الخطر وصاحب الإثم والجريمة الشنعاء.
وكم يندهش الباحث في التاريخ والعصور الوسطى حين يقف على أنواع العقاب والتعذيب التي تعرضت له أذكى نساء تلك العصور لمجرد رفضهن التسليم ببعض الخزعبلات السائدة، وفي بعض الأحيان لمجرد اختلاف المرأة مع زوجها، وفي أحيان أخرى دون أن تفعل شيئًا، وإنما اتهمت بواسطة الكهنة أنها السبب في حدوث وباء من الأوبئة التي لم يكن الطب بعد قد اكتشف أسبابها الحقيقية، أو لأنها سبب تغير شديد في الطقس أو هبوب عاصفة.
كان هناك مواطن محترم من «سبايرز»، له زوجة، من ذلك النوع من النساء العنيد، كان يحاول إرضاءها بشتى الطرق، لكنها لم تكن تخضع في معظم الأيام لرغباته، وفي يوم من الأيام كان يدخل بيته حين قابلته زوجته كالعادة بكلماته التي تضايقه؛ فأراد أن يخرج مرة أخرى، لكنها أغلقت الباب المفتوح وصاحت بأنه لن يكون مخلصًا لها إلا إذا ضربها، وإزاء كلماتها هذه رفع الزوج يده، ولم يكن يتعمد إيلامها، وضربها برقة بكفه على عَجُزِها. وفي هذه اللحظة سقط على الأرض فاقدًا الوعي، وظل ملازمًا الفراش أسابيع طويلة بسبب المرض الخطير الذي داهمه فجأة. وإنه لواضح الآن أن هذا المرض لم يكن مرضًا طبيعيًّا، ولكن سببه المرأة الساحرة الشريرة. وقد وقعت حوادث كثيرة من هذا النوع، ويعرفها الكثيرون مِنَّا.
من هذه القصة يتضح لنا كيف كان الرجال في العصور الوسطى يفهمون النساء، ويفهمون سبب الأمراض المفاجئة، وكيف توصف العلاقة بين الزوج وزوجته، فالزوج (كما يصفه المؤلفان) حملٌ وديع بريء براءة الملائكة أو القديسين، حتى إنه حين رفع يده ليضرب زوجته (بِناءً على رغبتها هي) فإنه لم يكن يقصد إيلامها، وضربها برقة، ومع ذلك فقد سقط مريضًا ضحية سحر هذه المرأة الشريرة.
وقد ذكَّرتني هذه القصة حين قرأتها بقصص مشابهة (مع بعض الاختلاف الشكلي بسبب تغير العصور)، عشتها مع بعض المريضات نفسيًّا اللائي قابلتهن خلال هذا البحث، وحين كنت أجلس مع بعض أزواجهن وأسمع رأيهم في زوجاتهم، أندهش لعقلية بعض الرجال في الثلث الأخير من القرن العشرين التي لا تختلف كثيرًا عن عقلية رجال العصور الوسطى. أحد هؤلاء الأزواج قال لي: إن زوجته مريضة نفسيًّا لأن روحًا شريرةً ركبتها، وقال لي زوج آخر: إن زوجته على صلة بالشيطان.
إن ارتباط المرأة بالشيطان فكرة سادت في العصور الوسطى بسبب النظرية الدينية العلمية (كما وردت في المالياس مالفيكارم) التي تقول: يسمو الرجل لمجرد أنه ذكر، وأن المرأة حليفة الشيطان والجريمة الشنعاء، وكأن «القديس» هو الرجل الآخر المناقض للشيطان، و«القديس» هو حليف الله، يمثل الله، ويمثله على الأرض الرجال القديسون، وهم مسئولون عن تنفيذ أعمال الله الخيرة، وأولها معاقبة حلفاء الشيطان، ألا وهم النساء الساحرات الشريرات.
وكانت إحدى هؤلاء النساء الساحرات الشريرات هي «جان دارك» التي أحرقوها حتى أصبحت رَمادًا سنة ١٤٣١ بسبب اتهامها في ذلك الوقت بالسحر والشر والجنون والشيطنة. ولم تكن جان دارك إلا واحدة من هؤلاء النساء الذكيات اللائي رفضن الاستسلام للقيم والخزعبلات السائدة، وكانت على قدر من الشجاعة؛ فأعلنت رفضها وحولت الرفض إلى ثورة إيجابية، سجلها التاريخ فيما بعد، لكن جان دارك عُذِّبَت واتُّهمت بالجنون وأُحرقت، ولم يفهمها الرجال على حقيقتها إلا بعد موتها بحوالي خمسمائة عام سنة ١٩٢٠، حين كُرِّمَت واعتُبرت شهيدة قديسة.
ولعل أعجب ما صادفني وأنا أقرأ عن هذه العصور الوسطى هو تلك الطريقة التي كان يتبعها الكهنة، (وكان الناس في ذلك الوقت تقول عنهم الأطباء أيضًا) لتشخيص السحر أو الشر أو الجنون؛ وذلك باكتشاف بعض مظاهر معينة على جسم المرأة. ويكتب «روبينز» يصف عملية فحص سيدة اسمها ميشيل شاندرون من جنيف اتُّهمَت بالسحر، يقول: «كان الأطباء يفحصون جسمها بحثًا عن علامات الشيطان، فتُغرَس في جسمها إبر طويلة، وتبكي وتصرخ ميشيل من الألم وينزف الدم من الثقوب التي أحدثتها الإبرة، وحين لا يعثر الأطباء على علامة واحدة من علامات الشيطان (كانوا يعتقدون أن هذه العلامة جزء في جسم المرأة إذا غُرست فيه الإبرة لا ينزف دمًا ولا يسبب لها ألمًا)، يأمر القضاة بتعذيب المرأة حتى تعترف بذنبها؛ فتثبت عليها التهمة قولًا بعد أن عجزوا عن إثباتها جسدًا بعلامة الشيطان، وبعد اعترافها (كان معظم هؤلاء النساء من شدة الآلام يعترفن بكل ما يُطلَب منهن الاعتراف به)، يأخذ الأطباء المرأة مرة ثانية ويبحثون بالإبر الطويلة في جسمها عن علامة الشيطان، وحينئذ يعثرون على دائرة صغيرة فوق فخذ المرأة تُغرَس فيها الإبرة، فلا تصرخ المرأة من الألم ولا يظهر الدم الأحمر (وهذا طبيعي لأن المرأة بعد هذا التعذيب تفقد الإحساس بالألم، وقد تموت بعض أجزائها فعلًا فلا تنزف الدم)، ويأخذون المرأة بعد ثبات الاتهام إلى حيث تُشنَق أو تُحرَق.»
وكان هناك طريقة أخرى لإثبات مثل هذا الاتهام على المرأة، وكان تُسمَّى «طريقة السباحة»، وتتكون من ربط المرأة المتهمة بالحبال بحيث يكون إبهامها الأيمن فوق إصبع قدمها اليسرى، وإبهامها الأيسر فوق إصبع قدمها اليمنى (على شكل صليب)، ثُمَّ يُلقون بها في حوض ماء عميق القرار كالبئر، ثلاث مرات إذا لزم الأمر، فإذا طفت فوق سطح الماء فهي مذنبة، وإذا لم تطفْ وبقيت في القاع فهي بريئة، وفي هذه الحالة الأخيرة يحاولون انتشالها من الماء لإنقاذها، لكنها تكون في أكثر الحالات قد غرقت فعلًا.
وقد كتبت كريستينا هول تقول: «لم يكن أحد يعرف عن يقين من هي المرأة الساحرة الشريرة.»
وهذا القول يمكن أن ينطبق أيضًا على الأمراض النفسية، فلا أحد يعرف عن يقين من هي المرأة المريضة نفسيًّا ومن هي المرأة غير المريضة نفسيًّا؛ فإن معظم وسائل وطرق الفحص النفسي لا تختلف كثيرًا عن البحث عن علامة الشيطان … إنها أكثر تهذيبًا ورُقيًّا بلا شك (بسبب التقدم التكنولوجي)، ولكنها كإبرة طبيب العصور الوسطى تُضرَب في الظلام مهتدية في طريقها بتعاليم الأب «سجموند فرويد» الذي قال بأن المرأة الطبيعية هي ذكر بغير عضو تناسل، وإن جميع النساء يعشن حياتهن بحثًا عن استرداد ذلك العضو الضائع بلا جدوى؛ فالإحباط مصيرهن وقدرهن المحتوم. تمامًا كما قال كهنة وأطباء العصور الوسطى بأن جميع النساء باعوا نفوسهن للشيطان، وأن الإنسان يكفيه أن يكون امرأة ليصبح شريرًا. ويكفي قولهم: امرأة بتلك اللهجة التي تعني قولهم الشيطان! وقولهم: رجل! ومعناه العظيم الشجاع القوي. وقد ورث العهد الجديد كل هذه المعاني التي ترجع إلى فكرة رجال العصور الوسطى، الذين اعتبروا أنفسهم ممثلي الله والخير والحق، والنساء يمثلن الشيطان والضلال والشر، وأنهن أعداء الله، اللائي يتمردن ويخرجن عن طاعته، وطاعة الله معناها طاعة الزوج؛ لأن الزوج هو ممثل الله؛ ولهذا كان يكفي أن تخالف المرأة زوجها في تلك العصور لتُتَّهَم بالسحر والشر أو الجنون، وتُعذَّب وتُحرَق أو تُسجَن في المستشفى العقلي، بل لم يكن الأمر يستدعي أحيانًا أن تخالف المرأة زوجها، كان يكفيها أن تكون امرأة متزوجة.
ويمكن أن نتصور كيف انتقلت هذه الأفكار عبر العهود المختلفة، حين نعلم أنه حتى سنة ١٨٦٠ لم يكن ضروريًّا للإنسان أن يكون مجنونًا ليوضع في أحد المستشفيات العقلية الأمريكية، بل كان يكفيه أن يكون امرأة متزوجة، وحينما حُبست السيدة باكارد (الشهيرة في التاريخ الأمريكي) في مستشفى «جاسونفيل» العقلي؛ لأنها اختلفت في الرأي مع زوجها القس أو راعي الكنيسة؛ فإن هيئة المحكمة في ولاية إلينوي أوضحت بصريح العبارة قائلةً: إنه يمكن في حالة النساء المتزوجات أن يُحبَسن في المستشفى العقلي إذا طلب أزواجهن ذلك (أو ولي أمرهن) دون حاجة إلى إثبات مظاهر الجنون أو أعراضه التي يجب أن تثبت في الحالات الأخرى.
ولعل من أهم ما جعلني أهجر قسم الأمراض النفسية منذ ثمانية عشر عامًا هو رغبتي في الفرار من منظر هؤلاء المرضى والمريضات الذين كان يُسلط على رءوسهم كل يوم تيار كهربي عنيف، وتدوِّي الصرخة الحادة في الجو، ثُمَّ تتقلص عضلات الجسد والعنق تقلُّصًا شديدًا، وتضغط الأسنان على اللسان (إذا نسي التمورجي أن يضع بين الفكين قطعة كوتش) وينزف الدم. كنت أقرأ عن فوائد الصدمة الكهربية في الكتب، وحين أرى هذا المنظر أدرك أنني غير مقتنعة على الإطلاق بهذا النوع من العلاج، وحينما كنت أصرح بذلك للأستاذ ينظر إليَّ من علياء كما ينظر معظم الأساتذة إلى طبيب أو طبيبة الامتياز، ويقول بصوت مليء بالزهو والكبرياء: هذه الجلسات الكهربية مفيدة جِدًّا، وتأثيرها على كيمياء المخ ثابت في المراجع الطبية.
ولم أكن بطبيعتي ممن يقدسون الكلمات المطبوعة في الكتب، وقرأت شيئًا عن أثر الصدمة الكهربية على المخ وتحسن بعض الحالات بعدها، لكني ظللت غير مقتنعة بهذه الوسيلة البربرية في علاج هؤلاء المرضى والمريضات، ومعظمهم لا يمرض إلا من فرط حساسيته وفرط رقته وإنسانيته، فإذا به يُربَط بالحبال أو يقيد التمورجي ذراعيه وساقيه ثُمَّ يُسلَّط على رأسه التيار الكهربي العنيف.
وظللت أختزن كراهيتي لهذا النوع من العلاج النفسي طويلًا، وكلما وقع تحت يدي كتاب جديد في الطب النفسي أخذت أبحث فيه عن رأي يُدين الجلسات الكهربية، وكم كانت فرحتي منذ خمس سنوات تقريبًا، حين كنت أحضر أحد المؤتمرات النفسية في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك، وسمعت أحد الحاضرين يدين الجلسات الكهربية، وصفقت طويلًا حتى كدت أمزق يدي، وحين صافحت الأستاذ كدت أعانقه، وعرفت بعد ذلك أن كثيرين غيره أدانوا هذا النوع من العلاج، واستطعت أن أحصل على عدد من الكتب والأبحاث الجديدة التي جعلتني أومن بأن إحساسي كان صادقًا منذ ثمانية عشر عامًا.
وقد شعرت بنوع من الراحة حين قرأت هذه الكلمات على لسان البرفسور «يوجو سيرليتي»، وهو الرجل الذي بدأ الصدمة الكهربية كعلاج نفسي، لكنه حين نظر في أواخر أيام حياته إلى الأثر الذي صنعته يداه قال لأحد زملائه: «حين أتذكر ما كان يحدث للمريض أفكر بيني وبين نفسي أن هذا العلاج يجب أن يُمحى من الوجود.»
وقد أصبحت أحب قراءة التاريخ (رغم أن الطريقة التي تعلمت بها التاريخ في المدرسة الابتدائية والثانوية جعلتني أكره التاريخ سنوات طويلة)، وسبب حبي للتاريخ أنني وجدت فيه تفسيرًا لكثير من الظواهر الحاضرة التي لا أقتنع بها؛ فالتاريخ يصل الماضي بالحاضر في ظاهرة ما من حولي، أعود إلى التاريخ وأبحث عن أصلها وجذورها، فإذا بالشيء غير المفهوم يصبح مفهومًا، والشيء المجهول السبب يُعرف سببه الحقيقي البعيد.
عدم التكيف مع المجتمع كان يعتبر مرضًا مُعديًا كالدرن والزُّهري، يمكن أن ينتقل بسرعة إلى الآخرين ويهدد النظام والسلطة القائمة بالانهيار؛ ولذلك كان لا بدَّ من عزل هؤلاء غير المتكيفين في مكان بعيد عن الناس أو علاجهم بالكهرباء أو الحقن أو الأقراص؛ ليصبحوا متكيفين مع المجتمع متقلبين مع القيم والأفكار السائدة.
ولأن القيم والأفكار السائدة تتغير من عهد إلى عهد باختلاف السلطة، فإن عدم التكيف أيضًا يختلف من عهد إلى عهد، ويوضح لنا التاريخ أن القيم والأفكار السائدة ليست بالضرورة هي الأفكار الحقيقية أو الأفكار الصحيحة، ولكنها أفكار السلطة الحاكمة في ذلك العهد، وكم تصبح الحقيقة أحيانًا مخيفةً إلى حد اتهام قائلها بالجنون، وكما يقول كيركجارد: «الحقيقة … لا …» إن الإنسان بطبيعته يخشى الحقيقة أكثر مما يخشى الموت، وهذا شيء طبيعي تمامًا؛ لأن الحقيقة مفزعة للإنسان أكثر من الموت.
إن الصراعات الأساسية في الحياة البشرية ليست صراعات بين نوعين من الأفكار، أفكار حقيقية وأفكار غير حقيقية، ولكنها صراعات بين نوعين من الناس، نوعه معه السلطة ونوع مضطهد ينشد التحرر من السلطة، ومن الطبيعي أن يحمي أصحاب السلطة سلطتهم بأفكار معينة ويضربون بيد من حديد كل من يهدد سلطتهم بتشكيك الآخرين في حقيقة تلك الأفكار السائدة.
وقد اكتشف علماء التاريخ والنفس والأنثروبولوجيا في السنوات الأخيرة أن من سبقهم من العلماء وقعوا في الأخطاء نفسها التي وقع فيها من سبقهم، وأولئك وقعوا في أخطاء من سبقوهم، وهكذا … انتقلت الخزعبلات والأفكار الخاطئة من عصر إلى عصر؛ وبسبب قِصر عمر الإنسان الفرد بالنسبة لعمر الإنسانية، وبسبب السرعة والسطحية وتحيز الرجال لأنفسهم (معظم العلماء من الرجال)، فقد ضاعت الحقائق في ظلام أحقاب الماضي والتاريخ، وأصبح على العلماء الجدد من ذوي النظرة المحايدة إلى الرجل والمرأة أن ينقبوا تحت ركام التراب والزمن عن جذور الحقائق الضائعة.
لقد اتضح لنا الآن أن الرجال (قليلي الحظ) الذين عاشوا في الماضي قد اعتنقوا أفكارًا مضحكة، ولكننا ننسى أن علماء التاريخ في المستقبل سوف يشيرون إلينا ويقولون: إننا أيضًا عشنا أفكارًا وخزعبلات مضحكة.