سيكولوجية الأب والغيرة من المرأة
«لو أننا قارنَّا طاقة النساء المعنوية بتلك التي للرجال، وراعينا ما تعرضت له النساء من اضطهاد اجتماعي وقانوني وجنسي، وتذكرنا عدد النساء اللائي تعرَّضن للسخرية أو التعذيب أو القتل، وصمودهن وتمسكهن بمبادئهن، وبشجاعتهن وبسالتهن، وعظمة عقولهن، فسوف نجد أننا لا نملك بأي حال من الأحوال أي دليل على أن المرأة أقل من الرجل، وأننا لن نعرف المزيد عن قضية مساواة المرأة بالرجل إلا في ضوء الملاحظات الجديدة.»
هذه كلمات «رجل» كان من أوائل الرجال في العالم الذين استطاعوا — بسبب اتساع أفقهم وعقولهم وصدق أحاسيسهم — أن يدركوا الظلم الواقع على المرأة والفكرة الخاطئة النابعة من الفلسفة الذكورية، والتي تقول بسمو جنس الرجال على جنس النساء، وكان اسمه «جان كوندروست»، وهو أحد رجال الثورة الفرنسية.
ومن رواد الأفكار الجديدة عن المرأة منذ بداية هذا القرن العشرين عالِم عظيم، استطاع بذكائه وملاحظاته وصدق إحساسه ألا يقع في شَرَك الأفكار المتوارثة، وهذا العالم هو «ليستر وورد»، لاحظ أن الظاهرة الاجتماعية التي تقول بسمو جنس الرجال ليست طبيعية في الإنسان، وليست طبيعية أيضًا في حياة الكثير من الفصائل الحيوانية والنباتية، وكتب يقول: «لو لاحظنا بعض النباتات كالمدقة والسداة لوضح لنا أنه في فصائل النباتات العليا عامة لا يكون الذكر إلا مخصِّبًا للأنثى فحسب، أمَّا الأنثى فتظل وتستمر وتنضج الثمرة، إن ذكور هذه النباتات تذبل وتموت بمجرد أن تفرز مادة الإخصاب، فليس لهم وظيفة أخرى.»
ويخرج ليستر وورد من ملاحظاته في عالم النباتات والحيوانات أن الوظيفة الأصلية للذكر في الحياة الأولى كانت مؤقتة وثانوية بالنسبة لوظيفة الأنثى، وهناك بعض أنواع من الذكور لم يكن يحتوي جسمهم إلا على تجويف كبير بداخله الخُصية، وأحيانًا كان يتضاءل الذكر ليصبح مادة الإخصاب فقط، وأحيانًا لا يكون إلا خُصية تعيش طفيليًّا على الأنثى.
ويكوِّن ليستر وورد نظريته من ملاحظاته الطويلة للحياة الطبيعية بين أشكال الحياة الأولى، ويقول إنه نتيجة لعملية الانتخاب الطبيعي فإن عملية جديدة خرجت إلى الوجود، هي عملية الإخصاب، وقد حدثت أول الأمر بواسطة عضو داخل الكائن ذاته (الخنثى)، ثُمَّ انفصل هذا العضو عن الكائن الأساسي وأصبح كائنًا صغيرًا جديدًا يختلف عن الكائن الأصلي، وعاش هذا الكائن الجديد أول الأمر طُفيليًّا على الكائن الأصلي ثُمَّ أصبح ملحقًا به، وحمل في كيس تطور لهذا الغرض.
وعلى هذا يقول «وورد» بعد ملاحظاته في عالم النبات والحيوان الأرقى إن الأنثى في الحياة منذ نشأتها الأولى هي الأصل والذكر فرع لها، وهو يتبنى من بعد ذلك نظرية أن الأنثى في الحياة أسمى من الذكر ودورها أكثر أصالةً وأهمية.
ويردُّ «وورد» على حُجة أن بعض ذكور الطيور والحيوانات أكبر حجمًا من الأنثى وأبهى منظرًا وأكثر قوةً أن هذا ليس بسبب سمو الذكر، وإنما هو نتيجة الانتخاب الطبيعي الذي فرض على الذكر بواسطة قوة الأنثى الأصيلة وقدرتها على الانتخاب واختيار الأحسن فالأحسن من الذكور، ولم يكن أمام الذكر أي اختيار سوى أن يصبح أحسن فأحسن؛ ليُرضيَ متطلبات الأنثى المتزايدة. ويكشف «وورد» في حقيقة ما سُمِّيَ بعدوانية الذكر قائلًا: إن المعارك بين الذكور — رغم عنفها — نادرًا ما تُسبب الوفاة، وليس حقيقيًّا أن أقوى الذكور تخضع الإناث، إن الأنثى — حتى وإن كانت أقل من الذكر حجمًا وقوةً — تفرض سيطرتها وتمارس اختيارها بالقوة والإصرار والدقة نفسها كتلك الحالات التي تكون فيها أكثر قوة منه؛ ولذلك فإني أرفض اصطلاح «التفوق الذكري» من أجل تلك الحالات القليلة نسبيًّا التي اكتسب فيها الذكر حجمًا أو قوةً أكثر من الأنثى، أو اكتسب تلك الألوان أو الريشات التي جمَّلته بها الأنثى. وليس هناك ما هو أكثر زيفًا من ترديد ذلك المفهوم الذي أوحت به إلى العالم الفلسفةُ الذكرية؛ وهو أن الذكور الأقوياء يهبون هذه القوة المكتسبة لحماية الصغار وإطعام الأنثى. إن هؤلاء الذكور في الطيور والحيوانات الثديية الذين اكتسبوا قوةً أو جمالًا مثل الطاووس والديك الرومي والدراج وديك الفراخ في الطيور والأسد والغزال والخروف في الحيوانات الثديية، هؤلاء الذكور لا يفعلون شيئًا لأسرهم تقريبًا؛ إنها الأم، والأم وحدها هي التي تحمي الصغار وتطعمهم وتحارب من أجلهم عند الضرورة، إنها هي التي تثبت الشجاعة الحقيقية، الشجاعة في مهاجمة الأعداء الذين يهددون بقاء الفصيلة. إن حيوانات كثيرة مفترسة تهرب من أمام الإنسان، والاستثناء الوحيد هو الأنثى مع صغارها، إنها الوحيدة التي تمثل الخطر للإنسان. إن الأسد الذكر في الحقيقة ليس إلا جبانًا، ويتعلم الصياد الإنسان كيف يحذر خطر اللبؤة … وماذا يفعل الثور أو العجل أو الديك لحماية صغاره؟! ليس عليك إلا أن تقترب من الفرخ الصغير، ولسوف تكون الفرخة الكبيرة هي التي تنكش ريشها تحفُّزًا وهي التي تتجرأ على مهاجمتك.
ويرى «وورد» أنه ليس هناك حتى الآن من سبب علمي لنعتقد أن الإنسان تطور بطريقة أخرى غير الطريقة التي تطورت بها الثدييات والحيوانات، إلى مرحلة تشكل وتطور جنين الإنسان إلى ذكر وأنثى. ولا يعرف العلم إلا قليلًا جدًّا عن تلك المرحلة البيولوجية في بداية ذلك التشكيل؛ لكن «وورد» يقول إن المرأة البدائية كانت تمتلك قوة أكثر من الرجل، بصرف النظر عن حجم الجسم، وإنها هي التي سيطرت على الحياة والنسل لفترات طويلة جدًّا من الحياة البشرية؛ وقد وضح ذلك من الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخ. وقد سَمَّى «وورد» هذه المراحل الأولى باسم «مرحلة البروتوبلازم الاجتماعي». وقد كان اختيار الأنثى للذكر حُرًّا بل هو الأساس وهو النهائي، ولا تزال بقايا هذه المجتمعات الأموية في بعض القبائل الأفريقية حتى اليوم؛ إن المرأة في قبيلة «أويمبا» في شرق إفريقية هي التي تحدد العلاقة بينها وبين الرجل، وهي التي تختاره، وحين تختاره فهو لا يستطيع أن يرفضها، وفوق ذلك فإنها إن لم تنجب منه طفلًا خلال السنة الأولى من علاقتهما فهي تطرده وتختار رجلًا غيره. وهذه السلطة والحرية أيضًا تتمتع بها المرأة في «أوغندة» و«داهومي»، حيث تجلس النساء على مثل العرش الذي تجلس عليه نساء «أويمبا».
ويتابع العلماء من أصحاب هذه النظرية في تطور الذكر والأنثى في الإنسان أن الرجل ظل يتطور ويقوى من أجل أن تختاره المرأة، إلى أن اكتسب قوة كافية استطاع بها أن يرتكب أول حادث اغتصاب في التاريخ البشري، وكأنما أراد أن ينتقم بشكل ما من المرأة التي يكبت لها منذ زمن تلك الكراهية وذلك الحسد والغيرة. ويعتقد هؤلاء العلماء أن الجريمة الأولى التي وقعت في حياة البشرية لم تكن جريمة قتل الأب، ولكنها كانت جريمة الاغتصاب هذه، وربما اعتقد فرويد ذلك أيضًا حين كتب في ختام كتابه «الطوطم والتحريم»: «في البدء كان الفعل»، ويقول العلماء إنه يرجع إلى ذلك «الفعل الأول»، تلك الحالات المتكررة التي تصادف أطباء النفس حين تسيطر على بعض المريضات تخيلات وأحلام تدور كلها حول اغتصاب الرجل لها. وقد يكون هذا الاحتمال صحيحًا في بعض الحالات، ولكن هناك حالات أخرى من النساء تتخيل الاغتصاب وتحلم به بسبب التخويف الشديد من الذكر الذي ترسِّبه التربية المتزَمِّتة في نفس الطفلة البنت، وكذلك أيضًا بسبب الكبت والحرمان الجنسي الذي قد تعاني منه المرأة طوال حياتها؛ فلا تجد سبيلًا إلى الإشباع الجنسي إلا عن طريق التخيلات والأحلام، ولارتباط الإشباع الجنسي في ذهنها بالإثم منذ الطفولة، فإن الحل الوحيد لا يكون إلا بأن يغتصبها الرجل؛ وبذلك لا يكون لها يد في ذلك الفعل الآثم، وتنام بعدئذٍ مستريحة الضمير.
إن مثل هذه الاجتهادات العلمية وغيرها تلقي بعض النور على تطور علاقة الرجل والمرأة بيولوجيًّا، لكن هذه الدراسات البيولوجية لا يمكن فصلها عن الدراسات الاجتماعية والحضارية والثقافية والاقتصادية التي أثَّرَت تأثيرًا كبيرًا على هذه العلاقة بين الجنسين والتي كان تأثيرها وتطورها يواكب التطور البيولوجي بطبيعة الحال؛ لأن الإنسان حيوان اجتماعي، يؤثر في المجتمع من حوله ويتأثر به على الدوام، ويتشكل بيولوجيًّا ونفسيًّا حسب هذا التأثير من أجل البقاء ومن أجل التطور أيضًا.
ويبدو أنه منذ البداية لم يكن سعي الرجل إلى المرأة لأخذها بالقوة (أو اغتصابها) بسبب حبه لها أو حبه في إنجاب طفل، بل كان رغبة عدوانية (سادية) للانتقام وانتزاع السلطة منها، ومعنى ذلك أن الدافع إليها لم يكن هو الحب، وإنما كان الحاجة إلى امتلاك هذه السلطة، وقد وُجد في الدراسات الأنثروبولجية أن في هذه الآونة بدأت الملكية الخاصة.
ويشرح «وورد» معنى الملكية بأنها امتلاك الإنسان لأشياء تزيد عن حاجته، ولأن حاجة الإنسان تزداد بالتدريج فإن رغبته في امتلاك الأشياء تزداد؛ ولهذا حاول ذَكر الإنسان بعد انتزاعه السلطة من الأنثى وامتلاكه لها أن يمتلك عددًا من العبيد وقطعة أكبر من الأرض، ومن هنا نشأت «الأسرة».
ويكتب «وورد» موضِّحًا هذه الحقيقة ويقول: «وهكذا يتضح لنا مهما بدت الأسرة في البلاد المتحضرة أنها في أصلها ومنشئها لم تكن إلا مؤسسة لاستعباد المرأة والأطفال أكثر فأكثر، ولأنها قبلت الأوضاع الطبيعية التي كانت فيها الأم هي الملكة وهي التي تحدد من يكون الأب، وهي التي تحمي الأطفال بحب الأم الذي وُجد فيها بالطبيعة؛ لهذا الغرض، إن الأسرة البدائية لم تكن إلا عُضوًا ذكريًّا زائدًا ومتطفلًا على المجتمع الإنساني.»
ويقول بعض علماء النفس: إن الرجل لم يؤهَّل بطبيعته البيولوجية وبوظيفته الأساسية كمخصب للأنثى فقط أن يرتفع إلى إدراك معنى «الأبوة» نفسيًّا وإنسانيًّا، لقد استطاع باكتسابه بعض القوة العضلية على الأنثى أن يخضعها، ثُمَّ استطاع بطمعه الاقتصادي أن يمتلك العبيد وأن ينشئ الأسرة، وكان مدفوعًا دائمًا إلى كل ذلك بأنانيته ورغبته في السيطرة؛ ولهذا يقول هؤلاء العلماء: إن الرجل منذ البداية لم يكن لديه أي إدراك عاطفي أو نفسي لمعنى «الأبوة» أكثر من إدراك «الجرو» أو «ديك الفراخ» لمعنى الأبوة، بل إن رغباته البيولوجية والجنسية قد فشلت في فتح عينيه على الحاجة إلى الأبوة. إن هذا الأب البدائي صاحب الأسرة البدائية كان يغضب حين تنشغل امرأته عنه بإطعام طفلها، وكان لا يعنيه إلا أن تُرضيَ المرأةُ حاجتَه إلى الطعام أو الجنس، وكان يعتبر الطفل الجديد مخلوقًا مفروضًا عليه، ومعطِّلًا لأمه عن تلبية مطالبه؛ ولهذا أضمر له الكراهية، وفي بعض الأحيان كان يقتله، وعرف التاريخ تلك الفترة حين كان الأطفال يُقتَلون بواسطة آبائهم بسبب عدم حاجتهم الاقتصادية إلى هؤلاء الأطفال.
ولعل هذا هو السبب في تلك الكراهية التي يخفيها أو يظهرها أحيانًا بعض الآباء المتحضرين في عالمنا هذا لأطفالهم، ولا يبدأ الأب في إدراك معنى الأبوة نفسيًّا وعاطفيًّا إلا بعد أن يكبر الطفل ويصبح نافعًا اقتصاديًّا؛ ومعنى هذا أن الأب البدائي لم يكن «أبًا» بالمعنى النفسي والإنساني الصحيح، وأنه تخلف عن المرأة كثيرًا نفسيًّا وإنسانيًّا، وأنه إذا كان هناك من هو «أسمى» من الآخر أو «أكثر تطوُّرًا» نفسيًّا وإنسانيًّا فإنها المرأة وليس الرجل.
لقد كان الرجل بطيئًا في تطوره النفسي كأب، وقد انشغل بنفسه وغرائزه عن أي شيء آخر؛ ولهذا كان يكره أن تكون المرأة أُمًّا، وإنما كان يريدها فحسب لتخدمه وتطعمه وتشبع رغبته الجنسية، على عكس أمومة المرأة التي تطورت منذ البداية كشعور عاطفي إنساني، والتي صمدت طويلًا بقوة وعنف أمام بطش الرجل بأطفاله وعدوانه الأناني المتخلف على الجنس البشري ذاته الذي ينتمي إليه، وربما انقرض هذا الجنس البشري بسبب عدوان الذكر لولا ذلك الصمود من المرأة وقوتها العظيمة السامية في المحافظة على النوع. وهذا هو السبب في تلك الصيحة التي أطلقها العالم الكبير ليستر وورد حين قال: «إن هذه الظاهرة كلها المسماة تفوق الرجل أو سمو جنس الرجل على جنس النساء، ليست إلا وصمة عار في جبين الإنسانية.»
وكان الرجل البدائي بسبب عجزه النفسي وتخلفه الإنساني عن الإحساس بمشاعر الأبوة كان يقتل أطفاله أو يستبعد الذكور منهم ويشغلهم كالعبيد سواء بسواء، أمَّا الإناث منهن فكان يستخدمهن كأدوات جديدة لإرضاء غريزته الجنسية، لكنه ظل رغم كل هذا العدوان الاقتصادي والجنسي والذي أشعره بنوع من القوة على المرأة، ظل يشعر في أعماقه العميقة أن هذه المرأة التي سلبها حريتها وسيادتها السابقة لا تزال هي الأقوى وهي الأسمى، وهي التي تمتلك تلك القوة الفريدة من نوعها على البشرية الإنسانية جمعاء. إنها هي التي تنجب الأطفال وهي التي تحبهم، وهم يحبونها ويتشبثون بها ويكرهون الاقتراب منه. إنه هو، وبرغم أنه «السيد» فقد كان عاجزًا عن أن يكسب ثقتهم أو مشاعرهم أو شيئًا من ذلك الحب العارم الذي يكنُّونه لأمهم. وهكذا فإنه لم يكن غريبًا أن يكره الرجل المرأة ويحسدها على هذا الحب الذي يحوطها وتلك المشاعر الدافئة والأمان والطمأنينة ومشاعر الإنسانية والحنان والنفس المعطاءة القادرة على أن تحب وعلى أن يحبها الآخرون. لقد ظل الرجل عبر العصور المتتالية يحسد المرأة على كل هذا السمو النفسي والإنساني الذي عجز عن الوصول إليه رغم كل ما بذله من جهد وقوة وسيطرة وعلم وحضارة وتكنولوجيا، ولم يكن في إمكان الرجل أن ينزع من نفسه ذلك الإحساس تجاه سمو جنس المرأة، وإن حاول بمختلف العلوم والفنون أن يثبت العكس أحيانًا، أو يقلب الأوضاع ويجعل من هذه القوة الأنثوية ضعفًا، ويغير مسارها الطبيعي، فبدلًا من أن تكون مصدرًا لحرية المرأة وسيادتها تصبح عليها قيدًا وعبودية، ولعل هذا هو السبب في تلك العبارة الشهيرة في تاريخ البشرية: «ستلدين في الألم والأسى»، ولعل هذا أيضًا هو سبب محاولة الرجل لانتزاع صفة الولادة والإنجاب من المرأة، فهو تارة يلد المرأة من ضلعه (حواء من ضلع آدم)، وهو تارة يلدها من رأسه: «أتينا من رأس زيوس»، ولعل هذا يفسر شيئًا من تلك الهلاوس التي يراها بعض الرجال المرضى بالعُصاب أو الشيزوفرينيا حين يُخيل إليهم أن الجنين يولد من رأسهم أو من عضو التناسل. وقد نستطيع في هذا الضوء أن نفهم كثيرًا من الأساطير التي سادت عبر العصور والتي نبعت من خيالات ذكر الإنسان بسبب الكراهية والغيرة والعجز النفسي عن الوصول إلى مرتبة المرأة.
وقد صدق العالم النفسي الشهير «جريجوري زيلبورج» حين قال: إن هذه الحقيقة — حقيقة سمو جنس المرأة على جنس الرجل — غير قابلة للشك، وإنه لا يستطيع إدراك ذلك إلا أصحاب العقول المتحررة المتفتحة والذين ألموا بالكثير من المعلومات البيولوجية … وإنه إذا كان هناك بين الجنسين من هو شعر يومًا بأنه الجنس الأدنى بيولوجيًّا ونفسيًّا فهذا هو الرجل وليس المرأة.
وبهذا المفهوم يعيد «وورد» و«زيلبورج» وغيرهم من أصحاب هذا الرأي، يعيدون الأوضاع إلى طبيعتها بين الجنسين سواء بيولوجيًّا أو نفسيًّا، وينقدون الأساس العلمي والفكري الذي بنى عليه «فرويد» نظريته في سيكلوجية المرأة؛ إذ بنى فرويد هذه النظرية على ما سماه «الغيرة من عضو الذكر»، فالحقيقة هي أن المرأة لا تغار من عضو الذكر، ولكن غيرة الرجل من المرأة هي التي كانت الأساس التي بُنيت عليها سيكلوجية الرجل، ويمكننا أن نتصور كيف تنهار بذلك نظرية فرويد عن المرأة وعن ضعفها النفسي وصفات السلبية والماسوشية التي ألصقها بها. لقد عجز «فرويد» عن أن يفرق بين صفات المرأة الطبيعية وبين الصفات التي فُرضت عليها بواسطة الرجل ليخضعها ويضمن بقاءها تحت سيطرته، وربما أيضًا ورث «فرويد» شيئًا من تلك الكراهية والغيرة من المرأة؛ ولأنه كان ذكيًّا فقد صنع من كراهيته وغيرته نظرية علمية. على أنه من الإنصاف أن أذكر أن «فرويد» لم يدَّعِ أن نظريته هي الحقيقة، واعترف أكثر من مرة في أعماله أنه لا يفهم المرأة بدرجة كافية، وأن أفكاره عنها ليست نهائية، وهو مستعد لتغيير أفكاره دائمًا بتغير ملاحظات ومشاهدات وأفكار الآخرين وملاحظاتهم. وقال إن الباحث العلمي لا بدَّ أن يغير أفكاره بالسهولة نفسها التي تغير بها الحرباء لونها حسب لون الأرض التي تقف عليها. ولعل هذه عبقرية فرويد أو أي عالم عبقري آخر؛ فالعبقرية (في رأيي) هي تلك القدرة العقلية المستمرة على نفض القديم وتقبل الأفكار الجديدة إذا كانت أكثر اقترابًا من الحقيقة.