مشكلة الذكورة والأنوثة
لو عاد كل مِنَّا بذاكرته إلى الوراء، حين كان طفلًا، كيف عرف لأول مرة في حياته أنه ذكر أو أنثى، أنه ولد أو بنت، ربما نسي الكثيرون مِنَّا كيف حدث ذلك بالضبط أو متى، وقد يتصور البعض أن الطفل يعرف ذلك تلقائيًّا دون أن يعرِّفه أحد، ودون أن يعرف أن ذلك العضو هو عضو الذكر أو عضو الأنثى.
وقد وصل إلى هذه النتيجة نفسها «ماسترز وجونسون» في بحثهما في تلك الحالات من النساء اللائي أُجريت لهن عملية استئصال المهبل (لمرض ما بالمهبل)، وقد وجدا أن المرأة في تلك الحالات تظل أنثى طبيعية من النواحي البيولوجية والفسيولوجية، بل إنها تصل إلى الأورجازم الطبيعي حين يعمل لها مهبل جديد من قطعة من الجلد.
- (١)
موقف الوالدين والإخوة والأسرة تجاه هذا الطفل كذكر أو كأنثى.
- (٢)
أعضاء هذا الطفل الجنسية من الناحيتين التشريحية والفسيولوجية.
- (٣)
القوة البيولوجية داخل هذا الطفل والتي تشكل إلى حد ما الآثار المترتبة على موقف الأسرة والأهل.
وقد خرج ستولر من أبحاثه بأنه: حتى البنت التي ليست أنثى بيولوجيًّا (وتُسَمَّى «المعادل» بيولوجيًّا)، هذه البنت تنشأ وتكبر كامرأة إذا عوملت كامرأة بواسطة أهلها، ولم يتشكك أحد من نوع جنسها، إنها تعرف أن هناك نقصًا عضويًّا فيها، لكن شخصيتها تتشكل كأي أنثى أخرى، وتتصرف وتلبس، وتحاول أن تبدوَ جذابة في عيون الرجال، وترغب في الزواج وإنجاب الأطفال كأية امرأة أخرى.
وبرغم أن فرويد لاحظ أن القوة الليبيدية (الجنسية) عند الأطفال متساوية في الذكور والإناث، إلا أنه عجز عن تفسير ذلك، وإنما قال: «لقد وجدنا أن القوى الليبيدية نشطة في الطفلة الأنثى تمامًا كما هي في الطفل الذكر، وقد استطعنا أن نقنع أنفسنا أن هذه القوى تتبع الطريق نفسه في الولد والبنت لفترة من الوقت، لكنها تنحرف عند البنت عن أهدافها الأساسية بسبب عوامل بيولوجية، وتسبب ذلك النشاط الذكري الجنسي الذي يسري في جسم البنت.» ومن الواضح أن فرويد لم يكن محايدًا في ملاحظاته؛ لأنه لاحظ حقيقة معينة أولى حين قال: «لقد وجدنا أن القوى الليبيدية نشطة في الطفلة الأنثى تمامًا كما هي في الطفل الذكر.» لكنه لم يحاول فهم هذه الملاحظة الصحيحة فهمًا علميًّا محايدًا، وإنما استطاع أن يقنع نفسه بشيء آخر حين قال: «وقد استطعنا أن نقنع أنفسنا …» ومعنى ذلك أنه لاحظ شيئًا لكنه تجاهله وأقنع نفسه بشيء آخر.
وقد أراد فرويد أن يقول بنظرية الدائرة الملتوية عن بلوغ المرأة أنوثتها: إن أنوثة المرأة ليست أصلية، وقائمة في ذاتها في الأنثى منذ الولادة، (بل قبل الولادة حين كانت جنينًا)، بل إنها ثانوية للذكورة، وناتجة عن إحساس الأنثى بأنها ذكر ينقصه العضو.
وقد اتضح للعلماء أن أول وأهم عامل يحدد إحساس الشخص بكونه ذكرًا أو أنثى هو نظرة الأسرة (ومن حوله) إليه كذكر أو أنثى، ووضح لهم من البحوث العلمية أن الولد أو البنت (رغم سلامة الأعضاء التناسلية كلها بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا) يتغير إحساسهما بالذكورة أو الأنوثة حسب نظرية الأسرة، وقد يكتسب الولد صفات أنثوية لأن أسرته تنظر إليه كأنثى وليس كذكر، وقد تكتسب البنت صفات ذكورية لأن أسرتها تنظر إليها كذكر وليست كأنثى.
والعكس صحيح، فإن غياب بعض الأعضاء الجنسية من الذكر أو الأنثى لا تمنع تطور كل منهما نحو الأنوثة أو الذكورة، طالما أن الأسرة لم تتشكك في حقيقة كونهما ذكرًا أو أنثى؛ وعلى هذا فإن العوامل الاجتماعية والثقافية والتربوية تحدد أنوثة المرأة أو ذكورة الرجل.
•••
وقد تحير فرويد طويلًا أمام هذه الحقيقة البيولوجية، واعترف أنها تقف «كالصخرة» أمام أفكاره، وأن جميع أنشطته الذهنية تقف أمام هذه الصخرة وتنتهي عندها، وهذه هي كلماته: «كما نشعر دائمًا أننا بوصولنا إلى «الرغبة في الحصول على عضو الذكر» (في الأنثى) «ورفض الأنوثة» (في الذكر) قد اخترقنا كل الطبقات النفسية وأصبحنا أمام الصخرة، وهكذا فإن جميع أنشطتنا تنتهي.» وهذا قد يكون صحيحًا؛ لأنه في المجال النفسي فإن المجال البيولوجي يلعب في الحقيقة دور الصخرة الراكدة في القاع. ولم يستطع فرويد أن يقول إن رفض الذكر للأنوثة أو رغبة الأنثى في الحصول على عضو الذكر لهما أساس بيولوجي؛ لأنه لم يستطع أن يبرهن على ذلك. وقد اعتنق فرويد هذه الأفكار حين لاحظ أن هذه الظواهر موجودة في كل الحالات، وبسبب عجزه عن علاجها بالتحليل. ويقول ستولر: إن معظم المحللين النفسيين ومنهم فرويد حين يواجَهون بظاهرةٍ ما موجودة في الكل وغير قابلة للتحليل فإنهم يفكرون الفور فيما هو «ميتابيولوجي»، أو فيما هو «فوق البيولوجي» (على شاكلة الميتافيزيقي أو ما فوق الطبيعة)؛ مثال ذلك تفسير «لاماركين» للازدواجية الجنسية في الإنسان على أنها بقايا موروثة من العصر الثلجي، وأن المعامل الميكانيكي وغريزة الموت يفسران ماسوشية المرأة، وأن الذكورة تساوي الحركة والأنوثة تساوي السلبية؛ لأن الحيوان المنوي يتحرك لكن البيضة تنتظر في سكون.
- (١)
في حالة الأطفال الذين يولدون بغير جنس محدد (خنثى)، فإنهم يكتسبون شخصية الخنثى إذا نظر إليهم الأهل على هذا النحو، وتشككوا في كونهم ذكورًا أو إناثًا، ولكن حين لا يكون لدى الأهل هذا الشك فإن هؤلاء الأطفال رغم وضوح نوع أعضائهم الجنسية فإنهم يكتسبون الذكر إذا نظر لهم الأهل كذكور، أو يكتسبون الأنثى إذا نظر إليهن الأهل كإناث.
- (٢)
إن الذكور الذين يتحولون إلى إناث (بعمليات جراحية أو بسبب حوادث معينة كتلك التي تحدث حين يُبتر عضو الذكر خطأ أثناء طهارته أو لأسباب أخرى)، فإن التحول من الذكورة إلى الأنوثة يتم كاملًا، ويعيشون كنساء طبيعيات، ويطلبون تغير أجسامهم لتصبح كأجسام النساء تمامًا، وهم رغم كل هذا طبيعيون بيولوجيًّا.
- (٣)
في تلك الحالات التي يظهر بها الذكر على أنه أنثى (يُسمَّى بالمخنث) في ملابسه وحركاته وصوته كنتيجة لمواقف معينة وسلوك الأب والأم، فإنه يسلك بطريقة تمزج بين صفات الأنوثة والرجولة، أو الصفات المخنثية؛ من أجل الدفاع عن ذكورته المهددة (القلق الناتج عن الخوف من الإخصاء). هذه الحالات أمثلة لما أطلق عليه فرويد اسم «العامل الطارئ»، لكنه أدرك بعد ذلك أن هذا العامل الطارئ ليس طارئًا في الطفولة، وأنها ظاهرة في جميع الأطفال ذكورًا أو بناتًا؛ وعلى هذا كان الحل الوحيد هو نظريته (الرغبة في الحصول على عضو الذكر (في الأنثى) ورفض الأنوثة في الذكر)، وأخذ فرويد يبحث عن أسباب ذلك ويتساءل مثلًا: لماذا يشعر الولد برفضٍ للأنوثة؟ هل لأنه يحاول التخلص من صورة أمه التي تمثلها وهو طفل؟! ولكن لماذا يحاول الذكر التخلص من صورة أمه؟! هل هي صورة قبيحة؟! والبنت؟! لماذا ترغب في الحصول على عضو الذكر؟! هل لأنها عرفت أنها ناقصة بيولوجيًّا وأنها الجنس الأدنى؟! وهكذا يعكس فرويد شعوره الداخلي للمرأة على نظريته ويغرق في تعقيدات لا طائل وراءها لمجرد أنه عاجز عن اجتياز تلك الصخرة التي تقف في وجهه، والتي تقول له ببساطة ووضوح: إن البنت والولد كلاهما مزدوج الجنس بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا؛ ولأنه عاجز أيضًا عن التخلص من نظرته غير المحايدة للمرأة.
وقد أوضحت الدراسات البيولوجية والفسيولوجية الأخيرة بعضًا من الغموض الذي كان يكتنف هذه الازدواجية الجنسية. هذا وإن البحوث الجديدة على الحيوانات وعلى الإنسان تنبئ بأن المستقبل يحمل الكثير من الحقائق التي تجعل الإنسان يعرف المزيد عن نفسه؛ أي عن الأنوثة وعن الذكورة، كذلك البحوث الجديدة عن مخ الإنسان، والبحوث عن ظواهر الازدواجية الجنسية في السلوك الطبيعي، وتلك الاكتشافات الجديدة عن التشابهات الكيميائية للهرمونات المؤنثة والمذكرة، واكتشاف علماء الغدد بأن كثيرًا من أنسجة الذكر تتفاعل مع الهرمونات المؤنثة (مثل الثديين والجلد والشعر والمناطق الدهنية)، وأن كثيرًا من أنسجة الأنثى تتفاعل مع الهرمونات المذكرة.
وقد بدأ علماء فسيولوجيا المخ يصلون إلى فهم العمليات المركزية للسلوك في الحيوانات، بما في ذلك السلوك الخاص بالأنوثة، والسلوك الخاص بالرجولة. وهذا لا شك يمزق الحجُب عن تلك القوى (الخفية سابقًا) والتي تتألف من خلايا مخية مرتبة ترتيبًا تصاعديًّا، وتتأثر بالهرمونات، والمؤثرات الخارجية والداخلية على حواس الإنسان، والمراكز المخية الأخرى، وخلايا أرشيف ذكريات التجارِب السابقة، وخلايا التجارِب النفسية الجديدة.
وهذا يتفق مع الحقيقة التشريحية التي تقول بأنه في تطور الجنين فإن عضو الذكر يتطور من بظر الأنثى، أي أن عضو الذكر ليس إلا بظرًا مذكَّرًا. وقد أوضحت الدراسات الفسيولوجية للجهاز العصبي حقيقة أن مخ الذكر ليس إلا مخ الأنثى بعد أن أصبح مذكَّرًا بفعل الهرمون الذكري.
- (١) فحصت بعض الحالات المُصابة بما يُسمَّى أعراض تيرنر Turner Synchrome، وفي هذه الحالة فإن الإنسان يكون ناقص الكروموسومات، وليس لديه إلا الكروموسومات المؤنثة، وكذلك ليس لديه مبيضان ولا خُصيتان. ومن المعروف أن الإنسان طبيعيًّا يملك نوعين من الكروموسومات: الإناث عندهن كروموسومات مزدوجة من الكروموسومات x، والذكور لديهم كرومسوم واحد x وكروموسوم آخر y (هذه الحروف أُخذت من شكل الكروموسوم تحت الميكروسكوب). بالرغم من أن هؤلاء الأشخاص يفتقدون الكروموسوم الذكري، وكذلك يفتقدون المبيض والخُصيتين التي تفرز الهرمونات الجنسية، فإن نموهم التشريحي يقودهم إلى أن يصبحوا إناثًا، كما أن سلوكهم في الحياة يكون أنثويًّا، ولكنهم يميلون إلى الجنس الآخر كاختيار جنسي heterosexual.
- (٢) في حالات الذكور ذوي الكروموسومات xy فإن الشخص ينمو ويتطور ويصبح امرأة طبيعية المظهر رغم نقص الهرمونات الجنسية. وهذه الحالات من الصعب شرحها بالتفصيل هنا حيث إن الكروموسومات الذكرية y والأنثوية x موجودة، وكذلك كمية من الهرمونات الذكرية في الدم، ولكن يبدو أن أنسجة الجسم لا تتأثر التأثر الكافي بالتنشيط الذكري الذي يحدث في الذكور الطبيعيين. وتحتاج مثل هذه الحالات إلى دراسات أكثر لمعرفة هل هذا التطور الأنثوي بسبب عدم تأثير المخ (الأنثوي أصلًا) بالهرمون الذكري.
- (٣)
هؤلاء الذكور الذين يظهرون عند الولادة بأجسام طبيعية، ثُمَّ في المراهقة يُكتشف أن الخُصيتين تفرزان هرمون الذكورة بكميات قليلة جدًّا منذ كان الشخص جنينًا. ومعظم هؤلاء يكتسبون صفات أنثوية منذ الطفولة أو بعدها، ويقولون إنهم يفضِّلون أن يكونوا بناتٍ.
- (٤)
في حالات اضطراب الفص الصدغي للمخ، فإن عددًا من التقارير التي تتضمن اضطرابات في الشخصية الجنسية (الذكورة أو الأنوثة) لم تحدث إلا في الرجال (ويكون السلوك عادة تشبه الرجل بالأنثى في الملابس)، ويحدث هذا السلوك بسبب موجات كهربية معينة تنبعث من الفص الصدغي للمخ.
وقد وُجد أنها تعالج أو تتحسن بأثر بعض الأدوية التي تُعطى للشخص وتؤثر على هذه الموجات الكهربية.
- (٥) في الحالات التي تتلقى الجنين الأنثى تنشيطًا ذكريًّا شديدًا حين تتناول الأم أثناء الحمل كميات كبيرة من هرمون البروبترون (للوقاية من الإجهاض) فإن هؤلاء الإناث يأخذن سلوك الذكور، ولكنهن يفضلن الجنس الآخر كاختيار جنسي heterosexual.
- (٦) إن الغدد الفوق الكلوية adrenal التي تفرز عددًا من الهرمونات تفرز أيضًا جزءًا صغيرًا من الهرمون الذكري، وهي مصدر الهرمونات المذكرة في الأنثى. وفي هذه الاضطرابات التي يزداد فيها نشاط هذه الغدد، فإن كمية كبيرة من الهرمون الذكري يُفرَز، وقد يحدث ذلك للجنين قبل ولادته؛ فيتسبب في تذكير أعضاء الجنين الأنثى، ويسلكن سلوكًا ذكريًّا وإن كن يحتفظن برغبتهن في الجنس الآخر heterosexual.
ولا شك أن هذه الملاحظات في الإنسان ليست بقوة التجارِب التي أُجريت على الحيوانات، ولكنها توصي ببعض الحقائق التي نتجت من تجارِب الحيوانات، وهي أنه في حالة الذكر فإن الازدواجية الجنسية يمكن أن تُعزى إلى التذكير (بفعل الهرمون الذكري) الذي حدث للمخ الأنثوي أصلًا، ولكن هل معنى ذلك أن مخ الأنثى ليس مزدوج الجنس كمخ الرجل؟! وهذا هو السؤال الذي لم يستطع «ستولر» أن يجيب عليه، ولم يستطع أحد من علماء البيولوجيا أن يردَّ عليه. ويعترف هؤلاء أن هذا البحوث والاكتشافات الجديدة ليست إلا ضوءًا خافتًا في ذلك الخِضَمِّ الكبير المظلم المُسَمَّى بالبيولوجيا، وبالذات بيولوجيا الجنس، أو الازدواجية الجنسية، أو الذكورة أو الأنوثة، وعملياتها المعقدة في المراكز العليا للمخ والجهاز العصبي.
لكن الذي يتفق عليه معظم العلماء المحدثين الآن هو أنه فيما يختص بالإنسان، فليس هناك جنس يعتبر أسمى من الجنس الآخر، وأنه إذا فُرض وكان هناك جنس أسمى من جنس، فإن الجنس الأسمى ليس هو الجنس الذكري بالتأكيد، وإنما قد يكون هو الجنس الأنثوي بسبب تلك الحقائق البيولوجية والفسيولوجية السابق ذكرها، وكذلك الحقائق التاريخية منذ قديم الأزل، والسبق التطوري الذي أحرزته الأمومة على الأبوة بيولوجيًّا ونفسيًّا وإنسانيًّا.