هل المرأة تعشق التعذيب
برغم تلك المكانة الرفيعة والسيادة الاجتماعية والجنسية التي كانت تتمتع بها المرأة البدائية، إلا أن الحضارة الذكورية صوَّرت لنا العكس دائمًا، وانطبعت في أذهاننا تلك الصورة عن الرجل البدائي العنيف الذي يشد المرأة من شعرها إلى داخل الكهف ثُمَّ يغتصبها. وقد امتلأت الثقافة الذكورية بصور متعددة ومتنوعة من هذا الاغتصاب، وانتشرت في الأدب والفن وأجهزة الإعلام والأفلام والصور الملونة إلى حد أن جعلوا الاغتصاب حلمًا يراود الفتاة المراهقة في أحلامها، ويصبح هو واللذة الجنسية جزءًا لا يتجزأ.
وقد حاول «فرويد» ومعظم زملائه من أعضاء نظرية التحليل النفسي أن يبحثوا عن سبب هذه الظاهرة في الفروق التشريحية بين أعضاء المرأة والرجل، وخرجوا بالنظرية التي تقول: إن المرأة بطبيعتها الأنثوية تعشق تعذيب الرجل لها، وأن «الماسوشية» إحدى الصفات الأساسية للأنوثة المكتملة. وهكذا لم يختلف هؤلاء العلماء عن كهنة العصور الوسطى حين جهلوا الميكروبات، واعتقدوا أن الذي يسبب الأمراض هو سحر الساحرات من النساء؛ لأن المرأة بطبيعتها الجنسية تميل إلى الشر ولها صلة وثيقة بالشيطان.
ومن المهم هنا أن ألخص نظرية التحليل النفسي فيما يتعلق بما سمَّته ماسوشية المرأة. قال هؤلاء العلماء أعضاء هذه النظرية: إن الرغبة في الإشباع الجنسي عند المرأة، وفي إشباع الأمومة أيضًا، لها طبيعة ماسوشية؛ وذلك لأن الخيالات الجنسية التي تتخيلها الطفلة الصغيرة مع أبيها هي خيالات تنطوي على الرغبة في الإخصاء بواسطة الأب. إن دم الحيض في الأنثى يكتنفه المعنى الخفي بتلك الخبرة الماسوشية، وإن ما ترغبه المرأة «سريًّا» في العملية الجنسية إنما هو الاغتصاب والعنف في المجال الجنسي، أو المهانة والإذلال في المجال النفسي، وإن عملية الولادة المؤلمة تمنحها نوعًا من الرضا الماسوشي غير الواعي، وكذلك أيضًا علاقتها الأمومية بطفلها. إن بعض الرجال أيضًا يمارسون الماسوشية في الخيالات أو في الواقع؛ فهذا ليس إلا لرغبتها في أن يلعبوا دور الأنثى.
ولم يسأل هؤلاء العلماء هل هذه الرغبة للحصول على عضو الذكر موجودة عند النساء غير المريضات بالعُصاب. وليس هناك ردٌّ على هذا السؤال؛ لأن بحوث هؤلاء العلماء النفسيين لم تكن إلا عن الحالات العُصابية. والسؤال الثاني أيضًا هو هل هذه الرغبة للحصول على عضو الذكر متساوية عند كل النساء وفي كل العصور وفي مختلف الظروف الاجتماعية والثقافية؟ وهل كانت المرأة ذات السيادة والمكانة الاجتماعية الرفيعة، والتي كانت تنسب أطفالها إليها وتتحكم في جميع أمور حياتها، ومن بينها علاقتها بالرجل، هل كانت هذه المرأة ترغب في الحصول على عضو الذكر؟ وفي غياب الردود على هذه الأسئلة لا يمكن لأي عقل علمي أن يقول: إن هذه الرغبة في المرأة جزء من طبيعتها، أو أساس تطورها الجنسي الذي آمن به هؤلاء العلماء، والذين تجاهلوا بعض الملاحظات الهامة في الطفلة البنت، وفسَّروها تفسيرًا مُلتويًّا من أجل أن تتفق مع نظريتهم.
مثال ذلك أنهم لاحظوا أن البظر عند البنت الصغيرة له نشاط جنسي إيجابي وسادي أيضًا (أي عدواني على نقيض الماسوشية)، يشبه تمامًا نشاط عضو الذكر في الطفل الذكر، وأنها تجد في ممارسة العادة السرية اللذة والأورجازم نفسه الذي يجده الذكر، ولم يكن أمامَهم إزاءَ هذه الحقيقة سوى حلين، إمَّا أن يعتبروا هذا البظر عضوًا ذكريًّا نبت خطأ في جسم الأنثى، أو يعتبروا أن المرحلة البظرية السادية عند البنت تنحرف لأسباب ما بيولوجية (لم يفكروا بالأسباب الاجتماعية والثقافية) لتأخذ طريقها الأنثوي نحو النضوج، أي نحو الماسوشية. وقد جمعت نظرية التحليل النفسي بين هذين الحلين. وتقول هيلين دوتيش ما يأتي: إن هذا النشاط الجنسي العدواني «السادي» للبظر يصطدم بذلك المتراس داخل نفس البنت، وهو اكتشافها لنقص في جسمها بسبب غياب عضو الذكر … ولهذا فإنه ينحرف دائمًا في اتجاه «نكوصي» تراجعي نحو الماسوشية … وإن هذا النكوص نحو الماسوشية جزء من مصير المرأة التشريحي. وقد كان الاعتقاد الفرويدي السائد حينئذٍ أن الفروق التشريحية هي التي تحدد مصير الإنسان.
وقد أثارت هذه الفكرة غير المنطقية دهشة العلماء من ذوي المنطق والذين نقدوا هذه الأفكار بشدة، وأحد هؤلاء هي «كارين هورني»، التي رغم عضويتها لنظرية التحليل النفسي إلا أنها صاحت في دهشة: «وكيف يمكن أن نطبق هذه الفكرة في الحياة اليومية؟! إنها تشبه حالة الرجل الذي يعتقد أن «جريتا جاربو» أكثر جاذبيةً من النساء الأخريات، ولكنه لا يجد الفرصة لمقابلتها، وإنه إزاء «اكتشافه» لجاذبيتها المتفوقة يفقد كل لذة في الاتصال بأية امرأة أخرى يمكنه الاتصال بها.»
ولكن كيف تكون الماسوشية عند المرأة؟ يقول «راديو»: «إن الألم النفسي الشديد الذي يحدث للبنت الصغيرة حين تكتشف غياب عضو الذكر يثيرها جنسيًّا، وهذه الإثارة الجنسية تعوضها عن النقص الذي شعرت به، ولكن حيث إنها حُرمت من الوسائل الطبيعية للإشباع فلا يصبح أمامها إلا طريق واحد للإشباع الجنسي، وهو العذاب، وهكذا تصبح رغبتها الجنسية ماسوشية، وتستمر على هذا النحو طوال حياتها.»
وتنقد كارين هورني بذكاء هذا التسلسل غير المنطقي لهذه الأفكار وتتساءل: كيف يمكن للألم أن يثير البنت جنسيًّا؟ وإذا كان الألم يسبب إثارة جنسية ماسوشية، فلماذا لا يصبح الولد الذكر ماسوشيًّا أيضًا؟ فإن كل الأولاد الذكور يرَوْنَ أن أعضاءهم الجنسية أصغر حجمًا من أعضاء آبائهم الكبار (كما ترى البنت أن بظرها أصغر من عضو أخيها)؛ وعلى هذا فإن هذا الأب يحصل على لذة أكثر منهم، وعلى هذا فإن الألم الناتج عن هذا الاكتشاف يفسد لذة الولد في العادة السرية، فيكف عنها ويشعر بالألم، وهذا الألم يثيره جنسيًّا ويجد فيه تعويضًا، وبهذا تصبح رغبته الجنسية ماسوشية.
لكن هذا التساؤل لم يخطر ببال هؤلاء العلماء الفرويديين؛ لأن أسلوب تفكيرهم فيما يتعلق بسيكلوجية الأنثى يختلف عن أسلوبهم فيما يتعلق بسيكلوجية الذكر؛ وهذا يكشف أنهم لم يسلكوا المنهج العلمي الصحيح في تفكيرهم الخاص بالمرأة، وأنهم لم يحاولوا فهم طبيعتها الحقة، وإنما صنعوا للمرأة طبيعة جديدة تتفق مع وجدانهم الذكري، الذي ورث عن أجدادهم فكرة أن الرجل شيء والمرأة شيء آخر أو جنس آخر، له صفات أدنى وأقل، ولا يخضع إلا بالضرب والتعذيب؛ وعلى هذا فلا بدَّ أن يُفرَض هذا الضرب وهذا التعذيب كرغبة طبيعية في المرأة، وإذا قالت المرأة إنها لا تحب الضرب ولا التعذيب، قالوا لأن هذه الرغبة سرية (أي مدفونة في عقلها الباطن أو اللاوعي)، وإذا قالت المرأة إنها لا تحب الضرب ولا التعذيب لا علنًا ولا سرًّا، قالوا لأنها مريضة نفسيًّا أو منحرفة، أو بسبب عقدة الحسد وكراهية الرجال الدفينة فيها بسبب غياب عضو الذكر من جسمها، وإلا فكيف يمكن لهذه المرأة الشاذة ألا تحب التعذيب وترفض أنوثتها وماسوشيتها الطبيعية؟!
- (١)
ما هي نسبة أساليب الضغط والقمع والإيلام والتعذيب التي تواجهها النساء في مختلف الظروف الاجتماعية والثقافية؟
- (٢)
ما هي نسبة الماسوشية في كل من النساء والرجال في مختلف الظروف الاجتماعية والثقافية؟
وقد عرفنا من الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة أن المرأة بيولوجيًّا تتمتع بقدرة جنسية ضخمة، وأنه لم يكن في إمكان الرجل أن ينشئ أسرته الأبوية بغير قوانين صارمة تقمع قوة المرأة البيولوجية، وتفرض عليها رجلًا واحدًا من أجل أن يعرف هذا الرجل أنه الأب الحقيقي للأطفال؛ فينسبهم إليه ويورثهم الأرض، وبسبب قوة المرأة وقدرتها اللامحدودة فقد استلزم هذا القمع وسائل متعددة من التعذيب الشديد حتى القتل لكل من وسوس لها الشيطان وخرجت عن النظم الأبوية وقوانين الأسرة.
وكان أحد وسائل القمع هي أن تُجرد المرأة لا من قدرتها البيولوجية فحسب، وإنما أيضًا من قدرتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأن تصبح حياتها تعتمد في كل شيء على الرجل. وهكذا حُرمت المرأة من حقها في أن تعمل فقط داخل البيت (من أجل خدمة الرجل والأطفال)، وبغير أجر، حتى تظل عالة على الرجل دائمًا، ولا تجد لنفسها مأوًى غيره، ولا سبيل للخلاص مهما لاقت من زوجها الهوان والإذلال.
وجُرِّدَت المرأة أيضًا من كثير من حقوقها الاجتماعية والأخلاقية، وضيَّقوا الخناق عليها حتى لم يعُدْ في إمكان المرأة أن تعيش في المجتمع إلا في كنَف رجل؛ ليَعولَها اقتصاديًّا وليحميَها اجتماعيًّا، وليعطيَها الشرف الذي يمتلكه وحده، ولا يمكن لها أن تكون امرأة شريفة إلا إذا اقترنت برجل، ومعنى هذا لا بدَّ لها أن تصبح زوجة، ومعنى هذا أن تصبح خاضعة لقانون الزواج الذي وضعه الرجل، والذي في ظله يقودها زوجها إلى السجن أو العذاب أو الموت إذا خانته بل إذا خالفته الرأي.
ووجدت المرأة نفسها في وضع يفرض عليها الاحتفال بزوجها بأي شكل ومهما كان، حتى وإن كان سِكِّيرًا عربيدًا وزير نساء وله وجه قرد، ويضربها كلَّ يوم بالسوط. إنها تحاول الاحتفاظ به رغم كل هذا، وتخشى أن يتركها ويذهب إلى امرأة أخرى؛ ولهذا فإن المرأة تشعر بما يُسمَّى «الغيرة» أكثر مما يشعر بها الرجل. وقد لاحظ فرويد هذه الصفة في النساء، فقال: إن الغيرة في المرأة كالماسوشية جزء من طبيعتها بسبب الفروق التشريحية بينها وبين الرجل، وبسبب عقدة الحسد وعقدة الإخصاء … إلخ.
لكن «غيرة» المرأة على زوجها ليست إلا محاولة واعية منها للاحتفاظ بذلك الزوج، الذي لو تركها فقد انتهت حياتها الاقتصادية والاجتماعية والجنسية والأخلاقية؛ لأنها خارج الزواج لا تستطيع أن تعيش اقتصاديًّا، ولا تستطيع أن تُرضيَ رغبتها الجنسية، وإذا تشجعت ومارست الجنس خارج الزواج فإنها لا تستطيع أن تنسب طفلها إليها، وعليها أن تقبل الموت أو العار أو العذاب، أو تعود مرة أخرى إلى جحيم أشد خارج الزواج؛ فهي تفضل الجحيم داخل الزواج …
ويلتقط فرويد (وزملاؤه) هذه العبارة (المرأة تفضل الجحيم …) فلا يحاولون أن يعرفوا أول القصة، بل يحاولون أن يعرفوا آخرها أيضًا، وهي كلمة «داخل الزواج» التي تكمل العبارة، لكنهم رغم كونهم علماء، والعلم يفرض على العلماء تقصي الحقائق من أولها إلى آخرهم، رغم ذلك فإنهم يكتفون بذلك الجزء الصغير من القصة الطويلة، ويخرجون بنظرية علمية تقول: «إنه حيث إن المرأة تفضل الجحيم؛ فمعنى ذلك أنها تفضل العذاب؛ فمعنى ذلك أنها تعشق الألم؛ فمعنى ذلك أنها ماسوشية. وهذه الماسوشية من أين جاءت؟ من أين جاءت؟ آه! لا بدَّ أنها جاءت من عقدة الحسد الذي تُكِنُّه المرأة للرجل بسبب امتلاكه العضو الذكري.»