حصان من الحلوى
أخذت أحفر تحت هذه النبتة الملتوية لأتعقبها إلى جذورها العميقة الدفينة في تربة الأرض، لعلِّي بذلك أُصِل الخيوط بين الأوَّل والآخر، بين البداية والنهاية، بين البذرة والثمرة، بين الجرثومة والمرض، بين ظروف النشأة الأولى وهذا القَتَب فوق كتفَيْ صديقنا الأحدب المسكين.
فربطت أواصر الصداقة بيني وبينه، أزوره كلما واتتني الظروف، ويأنس لزيارتي ولصحبتي، ولم تكن الصحبة إلا إلى ذلك الملاذ الهادئ، خارج المدينة بعد الغروب، وتركت الحديث بيني وبينه يجري مجراه الطبيعي ليُخرج لي بعض المعالم التي كنت أستند إليها في متابعة بحثي بعيدًا عنه: فأين كان مولده، وأين نشأ وتربَّى، ومن هما والداه، ومن هم الذين أحاطوا به في مراحل حياته؟ وكنت خلال ذلك كله أتلمَّس اللحظات التي ظننتها تكوِّن من حياته معالمها.
فليست اللحظات في حياة الإنسان كلُّها سواءً من حيث فعلها في توجيه الأحداث؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بُعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثر في مجرى الحياة إلى ختامها، وإن النظر إلى حياة الإنسان بمجموعة أحداثها لكالنظر إلى مشهدٍ طبيعيٍّ أو إلى صورة فنية؛ فالعين لا تبدأ النظر من حافة الإطار اليمنى ثم تسير في خط أفقي مستقيم حتى تنتهي إلى حافة الإطار اليسرى، بل إنَّها لتقع أوَّلًا على نقطة بارزة هنا أو هناك، كشجرةٍ على يمين الصُّورة أو جبلٍ على يسارها، أو قمر ساطع في وسطها، ثم من هذه النقطة ينساب البصر في مختلف الاتجاهات؛ فكأنما هذه النقطة البارزة ينبوعٌ تفجرت منه بقية الأجزاء، وهكذا يكون النظر إلى حياة إنسان بمجموعة أحداثها، فعندئذٍ أيضًا يتجه الانتباه إلى لحظات بارزات. كانت حاسمة في توجيهها، ومن تلك اللحظات ينساب البصر إلى سهول تلك الحياة ووديانها.
ولم تكن لحظة الميلاد — بالنسبة لصاحبنا الأحدب — واحدة من لحظاته الحواسم، فكأنما هي جزء من حياة غيره أكثر منها جزءًا من حياته، إنه يحددها بشهادة الميلاد، مفترضًا الصدق فيمن كتبها ومن أملاها؛ لأنه لا يملك في دخيلة نفسه دليلًا على صدقها أو على كذبها، ولو احتكم إلى حياته الباطنية لَمَا وجد فرقًا بين أن يكون قد عاش على ظهر الأرض خمسين عامًا أو خمسة آلاف عام، فكل الشواهد التي يُستَدَلُّ بها على مدى ما قد عاشه من سنين، شواهد خارجية ليس فيها شاهد باطني واحد؛ إنَّ ذاكِرَته لا تقفل راجعةً إلى ساعة ميلاده.
وإذن فالأمر كله مرهون بشهادة غيره، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تُثبت دفاتر الحكومة.
•••
إن ساعة الميلاد الحقيقية هي أول ما تستطيع الذاكرة أن ترتدَّ إليه، ولقد جعلتُ «الأحدب» يكدُّ الذاكرة كَدًّا راجعًا القهقرى، لعله يظفر بأُولى لحظات خبرته الحية، فوقفتْ به عند ليلة مظلمة شديدة الظُّلمة، حين عاد به أبوه من القاهرة إلى بلده في الريف، وهو بلد يقع في شمالي الدلتا بالقرب من البحر، وكان المسافر إليه يركب القطار إلى أقرب محطةٍ في البر الغربي من فرع دمياط، ثم يستقل مركبًا يعبُر به النيل إلى ضفته الشرقية منحرفًا بعض الشيء إلى جنوب، حتى إذا ما رَسَا أمام القرية المطلة على النيل صعد جسرًا، وفي صعود صديقنا الأحدب ذلك الجسر مع أبيه في تلك الساعة المُعْتِمة من جوف الليل. كان الطفل — وهو عندئذٍ في الرابعة من عمره — يحمل ربطةً فيها حصان من حلوى المولد النبوي، اشتراه له أبوه أثناء الطريق، صعد الصبيُّ الجسر مع أبيه، حلواه في يُسراه وأبوه يجذبه من يُمناه، وكلاهما يتعثر في الصعود وتنغرس قدماه في الحصى والتراب، فقال له أبوه — وهما في طريق الصعود يتعثَّران ويلهثان — كأنما أراد بقوله أن يخفف من حدة الصمت ومن شدة المجهود: «أريد أن أراك رجلًا عظيمًا»، ولم يكد ينطق بحرف الميم في آخر عبارته حتى سقط الصبي على وجهه، فانفلتت يده اليمنى من قبضة أبيه، وانفلتت ربطة الحلوى من يده اليسرى وتهشَّم ما فيها، فأنهضه أبوه والتقط له الحلوى المهشَّمة التي كان غلافها الورقيُّ قد تمزَّق من بعض جوانبه، فتسرَّب شيء من التراب والحصى إلى داخل، وتسرَّب شيء من الحلوى إلى خارج.
قصَّ عليَّ «الأحدب» هذه القصة، وأردف يقول: «لست أدري ما الذي دار في رأسي عندئذٍ، لكنني حتى هذه الساعة لا أقرن الكثير الذي رجوته لنفسي أيام الصبا، بالقليل الذي حقَّقته منه في الواقع، إلا وأذكر على الفور تلك الحادثة، تُرى هل كان هذا هو الخاطر الذي طرأ لي عندئذٍ — ولو بصورةٍ مبهَمَةٍ غامضة — أعني هذه المفارَقة المؤسفة بين الأمل الذي عبَّر عنه والدي، وهو رغبته في أن يراني رجلًا عظيمًا، والخيبة العاجلة التي جاءت كالإجابة الهازئة من قدَرٍ ساخر، أقول: تُرى هل كانت هذه المفارقة الحادة بين الرجاء المأمول والخيبة الواقعة هي البذرة الأولى التي منها انبثقت على مدى حياتي هذه الرغبة الملحة في الوصول ثم هذا الشعور القوي بأنني لم أصل؟»
قلت للأحدب: ليست هذه حالة خاصة بك أنت وحدك، برغم هذه القصة التي قصصتها، فمن خصائص الطَّبيعة الإنسانيَّة كلها هذا التطلُّع الذي يتشوَّف وراء الكائن الفعلي المحصَّل إلى ما هو غائب مجهول مرتقَب، نعم إن من خصائص الطبيعة الإنسانية كلها هذا القفز من المتحقق بالفعل إلى ما يجب أن يتحقق، هذا القفز من الواقع إلى الممكن، من المكسوب إلى المأمول؛ فهذا التطلع من الإنسان، تطلُّعًا يجاوز به دائمًا حدود الواقع إلى عالم الممكن، هو الذي يدفع به من حالة النقص إلى حالة الكمال.
قال: لكني ما زلت أتساءل: لماذا كلما رأيت الفرق شاسعًا بين ما رجوته لنفسي وبين ما حققته، وثبت إلى ذاكرتي عبارة أبي في تلك الليلة التي طمست بظلامها معالم الأشياء على مُرتقى الجسر، مصحوبة بعثرتي التي عفرت وجهي وهشمت حلواي؟
كنت عندئذٍ في زيارة «الأحدب» عصرَ يوم من أيام الجمعة، ولما كانت نافذة غرفته مطلة تجاه الغرب، فإن أشعة الشمس قد سبقتني إلى غرفته، وفرشت له الأرض بمستطيل من ضوئها، دخلها خلال الستارة الرقيقة فكان رماديَّ اللون إلا عند بُقَع صغيرة تقابل خروق الستارة، وكان الشهر في أوائل الصيف، فلم تكن حرارة الشمس من الضعف بحيث تحتمل الجلوس في مستطيل الضوء، كما لم يكن في الغرفة إلا تلك النافذة الغربية فكان لا بُدَّ من تركها مفتوحة؛ ولذلك فقد جلسنا على كرسيَّين متباعدَين بعض الشيء، يقع مستطيل الضوء بينها، فكان وهو يقصُّ عليَّ قصة الحصان المهشَّم، يميل على كرسيِّه أحيانًا ويُشير بذراعيه، فيُحدث ظلًّا على مستطيل الضوء كثيرًا ما كان يتخذ أشكالًا غريبة، حتى لقد جعلت أُنصِت إليه بنصف انتباهي، وأتتبع تلك الأشكال الغريبة بالنصف الآخر؛ فالظل أحيانًا على شكل بجعة تمطُّ عنقها الطويل، وأحيانًا أخرى على شكل أرنب مُقْعٍ، وأحيانًا ثالثة يصبح كالطائر الذي نشر جناحيه.
ولعلِّي قد تعمَّدت أن ألهوَ بهذا الظل وأشكاله حتى لا أُربكه بتركيز انتباهي كله فيما يقول، فينطلق مُرَّ العبارة، ناضحًا ذكرياته البعيدة من أعماق نفسه، ولقد اعتقدت أني بهذه القصة الصغيرة التي رواها، وقعتُ على مفتاح شخصيته التي أردت فتح مغاليقها والكشف عن أسرارها.
كان عند «الأحدب» جهاز صغير يصنع فيه الشاي وهو في غرفته، وهو إناء ذو قابس كهربائي، يضع فيه الماء فلا يلبث أن يغلي بحرارة الكهرباء، ولم يكد ينتهي من قصة الحصان، حتى نهض فملأ الإناء من صنبور في البهو، ووضع القابس في مقبسه من الحائط، وراح يُخرج فنجانَيِ الشاي من خزانتهما الصغيرة، ومعهما سائر الأدوات، حتى إذا ما أعدَّ كل شيء وجلس على مقعده، نظر إليَّ فكأنما راعه صمتي وتصويب نظري إلى مستطيل الضوء لا أتحول عنه؛ لأنني كنت لا أزل أراقب ظِل الأحدب وهو يعبر الغرفة، لأستخرج منه بخيالي كل ما استطعت من صنوف الحيوان.
ناولَني فنجاني، وراح يقول استئنافًا لحديثه السابق: إني لأذكر الآن موقفًا آخَر في طفولتي، وكنت عندئذٍ في الخامسة من عمري …
قلت في هدوء: وكيف عرفت أنك كنت في الخامسة؟
قال وهو يبتسم: إنني أعتمد في تحديد مراحل عمري بالنسبة إلى الحوادث الباكرة في حياتي على المساكن التي سكنَّاها؛ فالحادث الفلاني قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، والحادث الآخر قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، وهكذا، ثم أحدِّد تواريخ سُكنانا في هذا المنزل أو ذاك مستعينًا بشواهدَ معيَّنة من تاريخ أسرتنا.
فقد كُنَّا — وأنا في نحو الخامسة — نسكن منزلًا في حي المنيرة بالقاهرة، أَذْكُره الآن جيِّدًا، وأذكر «خالتي أم محمد» — صاحبة المنزل وصديقة الأسرة — وهي تسكن منزلًا على السطح، وأمام منزلها مسطح كبير مفتوح إلى السماء، فيه يُنشر الغسيل، وفيه دكة خشبية كبيرة مشقَّقة الألواح من لفحة الشمس، وتحتها تربض سلحفاة كبيرة، ولكَمْ دخلتُ تحت هذه الدكة أمدُّ ذراعي بين إقدام وإحجام حتى ألمس ظهر السلحفاة لمسةً خفيفة ثم أُسرِع خارجًا وأنا أقهقه قهقهة الغازي المنتصر.
وفي شقةٍ من ذلك البناء كانت تسكن الأسرة، وقد حدث ذات يوم أن زارنا رجلان من الأهل أو من الأصدقاء لا أدري، لكن أحدهما ما تزال صورة شاربيه عالقةً بذاكرتي، لا لكِبَرٍ فيهما، ولكن لاهتزازٍ في أطرافهما غريبٍ كلما حرَّك الرجل شفتيه بالكلام أو بالضحك، ودعاني أبي من الداخل لأُحَيِّيَ، وكان قد حفَّظني عن ظهرِ قلبٍ ماذا أقول عند التحية وبماذا أردُّ التحية، وكثيرًا ما كنت أخطئ فألقى اللوم إما ساعتها أو على انفراد، كما حدث يومًا حين ناولني أحدُ أصدقائه شيئًا قائلًا: تفضَّل، فأجبته بكلمة «العفو»، وأعاد الرجل قوله «تفضَّل» وهو يضحك، فأعدت جوابي بكلمة «العفو»، فأمهلني أبي حتى انفرد بي وأخذ يُقرِّعني على هذا الخلط المعيب الذي خلطت به كلمة «العفو» بكلمة «متشكر».
دعاني أبي يومئذٍ من داخل البيت لأُحَيِّيَ ذينك الرجلين، وحيَّيتهما بما حفظت من عبارات التحية.
فقال صاحب الشارب الراقص: هل تذهب إلى المدرسة؟
قلت: نعم.
قال: اتَهَجَّ اسمك.
قلت: ر ي ا ض: رياض.
قال: ما شاء الله.
فأراد أبي أن يزيد الصورة جلاءً، وسألني سؤالًا في الحساب، لكني لم أُسرع له بالجواب، فضربني بكتابٍ ضخم على رأسي، فقال صاحب الشارب الراقص وهو يضحك: «أهكذا تضربه بالدنيا كلها على رأسه؟» ولم أفهم لهذه العبارة معنًى ساعتئذٍ، لكني أذكر كيف عزَّ على نفسي أن أُضرَب بالدنيا كلها على رأسي، فانفجرت باكيًا، كما يحدث كثيرًا للطفل أن يبكي مؤخَّرًا؛ فقد يُصاب ويُجرَح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء؛ ودارت الأيام، وجاء يومٌ كنت فيه تلميذًا بالمدرسة الابتدائية، وتسلَّمت الأطلس الجغرافي بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلِّب صفحاته وأُدير فيها البصر معجبًا بألوانها، فإذا جاري يهمس لي: «هذه هي الدنيا كلها في هذا الكتاب بين يديك»، فعندئذٍ فقط فهمت الجملة التي قالها صاحب الشارب الراقص. انفجرت باكيًا لتلك الجملة ولم أفهمها، فطلب مني والدي أن أكفَّ عن البكاء، ولمَّا عجزت عن طاعته، صفعني وأعاد لي أمره بأن أكفَّ عن البكاء، ولست أدري الآن كيف استطعت أن أقف البكاء، لكني فعلت، وأعاد والدي سؤاله الحسابي من جديد وأراد الجواب السريع، لكني كنت في هذه المرة أعجزَ عن الجواب مني في المرة الأولى، فحملني بين ذراعيه حملًا، وقذف بي خارج الغرفة كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال متجهًا نحو صاحب الشارب الراقص في نغمة هادئة: لن يعيش لي ولد خائب، فإمَّا أن يُفلح أو يموت.
كنت والأحدب يقصُّ عليَّ هذه القصة الثانية أَشْخَصُ له ببصري، وأتتبَّع انفعالاته على وجهه، والابتسامة الخفيفة لم تزل على شفتيه، لكنه كان يروي ويمثِّل الأحداث بيديه وذراعيه ولفتات وجهه، وفنجان الشاي في يدي، وفنجان الشاي في يده، فلا شربتُ ولا شربَ، حتى فرغ، وضحكنا معًا، وأخذنا نشرب لا أتكلم ولا يتكلم، وأبصارنا مُرسَلة خلال النافذة، ووجهانا مبتسمان، وكان مستطيل الضوء قد امتدَّ حتى أخذ طرفه الداخلي يصعد على الجدار المقابل، وزحزحنا كرسيَّينا قليلًا لنكون في الظل، فبعدت المسافة بيني وبينه، لا أدري ماذا كان في رأسه عندئذٍ؛ وأمَّا أنا فقد ازددت يقينًا أنني وقعت على المفتاح، فها هو ذا رجل قد شدَّ بصره منذ الطفولة نحو الممكن لا نحو الواقع، فكلَّما حدث واقعٌ وتحقق، توقَّع ما وراءه وهو يائس، وكلما قصُرت قدرته مرةً دون بلوغ الممكن — ولا بد أن تقصُر؛ إذ «الممكن» ما ينفك يتراجع أُفُقه خطوةً فخطوةً إلى الوراء — تكونت على ظهره طبقة رقيقة من الهم؛ ولبثت الطبقات تتراكم على مرِّ السنين، فإذا هذا القَتَب الذي يحمله فوق ظهره، مشحونًا بهموم حياته كلها، لا يخفف منه ما يصيبه من نجاح؛ لأن عينيه لا تنظران أبدًا إلى ما قد تحقق، إنما تمتدان إلى ما لم يتحقق والذي كان من الممكن أن يكون.
•••
كانت الشَّمس قد دنت من الغروب، وزيارتي قد طالت عند الأحدب أكثر مما قد عوَّدته وتعودت، لكني وجدتها فرصة سانحة أن يستطرد في ذكريات طفولته، فتذرَّعت بذريعة الشمس الغاربة ورغبتي في أن أرى الشفق من سطحه ذاك الذي تقع فيه غرفته، فسألته هلَّا أَذِن لي في أن أقف معه قليلًا خارج الغرفة حتى نشهد غياب الشمس وراء الأفق؟ وخرجنا معه من غرفته، فحانت مني التفاتةٌ إلى جلدة كتابٍ مُلقاة كما اتفق، كُتب عليها «رياض عطا» فعرفت بذلك اسمه كاملًا؛ إذ لم يتبرع هو قبل ذاك أن يذكر لي اسمه ولا طلب مني أن يعرف اسمي، كأنما نحن فكرتان مجرَّدتان التقتا في ذهن إنسان، أو كأننا شبحان من الأشباح التي تُذكَر بنوعها لا بأفرادها التي تعيِّنها الأسماء، وحتى تلك الساعة لم أكن قد عرفت ماذا يعمل هذا الأحدب، ومم يكسب قوته وأين يقضي بياض نهاره.
وما كدنا نقف على السطح المكشوف متكئين على حافَّته التي تعلو إلى نصف إنسان واقف، حتى أَثَرت حديث طفولته من جديد، حافزًا له أن ينطلق في ذكرياته، بأن أخذت أمدح فيه هذه الذاكرة التي ما زالت تعي حوادث كهذه قد طال عليها الأمد، مع أنني مهما كددتُ الذاكرة إلى ذلك العهد البعيد فما تعود إليَّ بشيء ذي بال.
فأحسَّ بشيءٍ من الزهو بنفسه، واستطرد يقول: إن من الأحداث التي وقعت لي وأنا في نحو الخامسة — وأستطيع تحديد هذه السن بتاريخ سُكنانا عند مدخل درب الجماميز من ناحية قسم بوليس السيدة زينب — حادثَ سرقة، اشتركتْ فيه معي ابنة عمي — وكانت في مثل سنِّي — فقد كان أبي وعمي وأسرتاهما يسكنان شقة واحدة، ولبثا حريصَين على هذه المشاركة في السكن الواحد أعوامًا طويلة، وساعدتهما ظروف الحياة على أن ينتقلا معًا كلما انتقلا، وأن يستقرَّا في بلد واحد كلما استقرَّا.
كان على ناصية الشارع والميدان بقَّال يرصُّ أكياس الحلوى على نضدٍ رخامي سميك يمتد ما امتدت فتحة الدكان إلا منفذًا صغيرًا على يمين الداخل، ولو وقف الصغير ذو الأعوام الخمسة ملصقًا جسده بالنضد الرخامي من جانبه الخارجي في الطريق، لما رآه صاحب الدكان من داخل، ثم لو رفع مثل هذا الصبي ذراعه، ومد أصابعه وشبَّ على أطراف قدميه، استطاع أن يمسك كيسًا من أكياس الحلوى المرصوصة عند حافة النضد، فيجذبه ولا يراه صاحب الدكان، خصوصًا إذا أحسن الصغير اختيار اللحظة الملائمة.
ولست أدري كم مرةٍ وقع مِنَّا هذا الاختلاس، لكن المرة الواحدة التي أذكرها ذكرًا ناصعًا، قد كانت ذات صباح — ولا بد أن قد كان الوقت صيفًا؛ لأن خلفية الصورة التي أذكرها الآن مليئة برجال الشرطة وقد لبسوا بَدْلاتهم البيضاء، وقوفًا أو سائرين في حركته بطيئة عند مدخل قسم البوليس القريب من ذلك الدكان، فما كدنا في تلك المرة نجذب الكيسين بأصابعنا كما كنا نفعل، حتى نزلت عليها يدان كل يد منهما تُمسِك بواحد منا، وقبضتا على أعناقنا قبضًا وأخذتا ترجَّاننا رجًّا، ونصعد بوجهينا إلى أعلى لنرى ما الخبر وكيف حُمَّ هذا القضاء، فإذا عينان تلفظان الشرر وشاربان يهتزَّان على شفةٍ راجفةٍ من شدة الغضب، وفي أحرف متقطعة من شدة الانفعال، قال الرجل — وهو صاحب الدكان — إنه لبث أيَّامًا طويلة يَعجب بأيِّ أيدٍ خفية تختفي أكياس حلواه، حتى قبض علينا متلبِّسَين، فأخذنا نستعطف الرجل ونَعِدُه بالثمن، زاعمَيْن له أن لم يسبق تلك المرة مرَّاتٌ ماضية، وأننا كنا نأخذ ما نأخذه عندئذٍ شراءً لا سرقة، فأطلق سراحنا متوعِّدًا أن يُبلغ الأمر إلى والِدَيْنا، وقد كان بيتنا مجاورًا لدكانه، فكان يرى الوالدين وهما يخرجان من البيت ويدخلان فيه.
إذن فقد قُضي الأمر ونزلت الصاعقة! فما الفرق بين أن يعلم أبي بالأمر وبين الموت؟ تسلَّلت إلى البيت خفيةً كأني الظل، وزحفت تحت السرير حيث قبعتُ هناك من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل. كانت الشقة التي نسكنها مُظلمة، وكانت غرفة السرير أشد ظلامًا، ثُمَّ كان ما تحت السرير كأنه الليل الدامس، وحسبت أني قد أصبحتُ من الخطر في مأمن، وإذا كنت أذكر جيِّدًا، فإني أذكر أنني في مخبئي ذاك لم أشعر بخوف، كأنما الطَّامَّة قد بلغت بهذا الملاذ ختامها، لكن لم يمضِ طويل وقتٍ حتى سمعتُ أصوات المتحدثين في غرف الدار وفي بهوها، من أبٍ وأم، إلى عمٍّ وامرأة عم، يسألون: أين رياض؟ ثم يتوجهون بالسؤال إلى ابنة عمي مرةً بعد مرةٍ بعد مرة، كأنما المرة الواحدة أو المرتان لا تكفيهم سؤالًا: لقد كان رياض معك في الصباح فأين ذهب؟ فتجيب ابنة عمي قائلة في كل مرة يوجهون إليها السؤال: تركته أمام الباب في الشارع، ولا أدري بعد ذلك شيئًا.
إنني لا أزال أذكر حتى هذه الساعة، أذكر كيف أخذ الفزع يزداد بهم شيئًا فشيئًا، فتارة تسكت الأصوات كلها وتخلو الدار من ساكنيها جميعًا؛ لأنهم خرجوا يبحثون عني في مظانِّي، كلٌّ يذهب في طريق، وتارةً تعود الدار فتعجُّ بأصواتهم يتساءلون في فزعٍ جازعين، وجاء الليل واشتدت عتمته واشتد معها خوفهم، حتى شاء الله لذراعٍ أن تمتدَّ تحت السرير لتجرَّ قفصًا صغيرًا مخزونًا هناك، وراحت الذراع الممدودة تتحسس حتى أحسَّت حركةً خفيفة، هي حركة جسمي يزحزح نفسه قليلًا إلى ناحية الجدار، فرفعتِ الذراعُ ملاءة السرير المدلَّاة، وإذا بالشارد الضالِّ مختبئ هناك في كهف! فصرخت صاحبة الذراع — ولا أذكر من هي — صرخةً امتزجت فيها الفرحة بالدهشة بالترحيب بالوعيد بكل العواطف الإنسانية حين تمتزج في خليط واحد، وأُخرِجتُ من مكمني جرًّا إلى البهو، يسألونني ولا أجيب، وأخيرًا جاء أبي من دورة بحثه عني، فإذا هو يلقاني فيدهش فيسأل، ولا جواب إلى هذه الساعة.
وضحك الأحدب ضحكةً صافيةً من كل شوائب السخرية التي كثيرًا ما يمزج بها ضحكاته، وقال: أحسب أن صاحب الدكان لم يقل شيئًا لوالدينا، وأن ابنة العم كتمت أمرها وأمري، فلم يزد أهلي عندئذٍ على أن أضافوا هذا «الفصل» إلى فصولٍ أخرى كانوا يُحْصُونها عليَّ ولم أكن أدري من أمرها شيئًا، مما كانوا يتخذونه دليلًا على زَعْمٍ لهم عني ثبت عندهم ورسخ، وهو أني «عبيط»، وها هو ذا شاهِدٌ على «عبطي» جديد، فكان مما يتندَّرون به دائمًا أني وأنا صغير — الظاهر أن سن الخامسة عندهم كانت سنًّا كبيرة — كنت آخذ منهم خمسة القروش أو عشرة القروش، لأشتري لهم شيئًا من الطريق، فأغيب عنهم قليلًا ثم أعود لأقول: لقد أكل الحمار قطعة النقود، فيذهب منهم ذاهبٌ ليجد قطعة النقود موضوعة في فجوة كانت بين أحجار الحائط عند مدخل البيت.
فرغ رياض عطا من ذكرياته، وهو منبسط النفس، منشرح الصدر، معتدل القامة، حتى كدت لا أرى على ظهره قَتَبًا، وكأنما النشوة التي شاعت في أساريره قد قللت من عمره فجأةً عشرة أعوام كاملة، وكانت الشمس قد غابت وبقايا الشفق القرمزي منتثرة في الأفق، حين حيَّيته وانصرفت إلى مدخل الدرج، ونزلت أتحسس الطريق بقدمي درجةً درجة حتى كنت في الطريق أسير الهُوَيْنَا من عمق انشغالي بالأحدب وقصته.
أيَّ مفتاح تريد لشخصيته أجلى وأوضح من هذا الذي ذكره الآن؟ إن اختفاءه في الظلام اتقاءً لشر مرتقب، ثم إرهاف الحس ليتتبع مجرى الحوادث من حوله دون أن يغادر مخبأه، فيهما محور حياته كلها؛ انطواء من ناحية، وتسلُّلٌ بالسمع والبصر في الخفاء إلى ما يدور في العالم من وقائع وأحداثٍ من ناحيةٍ أخرى، إنه كمن يريد أن ينظر إلى العالم من ثقب الباب، يريد أن يرى ولا يُرى، إنه ليُخيَّل إليَّ أن شخصيته نسيجٌ من ثلاثة خيوط، يأس أكثر من الرجاء، وانطواء أكثر من الظهور، ورغبة في إقامة البرهان على قدراته ليمحو به تهمة «العبط» والتي اتهموه بها وهو صغير؛ أمَّا اليأس فقد كانت بداية خيطه حادثة الحصان المهشم، وهي الحادثة التي تَلاحَق فيها الأمل والخيبة تلاحقًا مباشرًا؛ وأمَّا الانطواء فقد كانت بداية خيطه حادثة كيس الحلوى حين أحس الطمأنينة في مخبئه تحت السرير؛ وأمَّا تهمة «العبط» فقد بدأت قبل أن تعي ذاكرته أُولى الحوادث التي كانت تسوغها.
وبالإضافة إلى هذه الأضواء التي بدأت تكشف لي عن سرِّه الدفين، فكأنما انفتحت لي طاقة في السماء ليلة القدر حين نظر إليَّ بعينٍ فيها النفاذ وفيها طيبة القلب، وقال مبتسمًا: كأني بك تريد عني مزيدًا من علم! ونهض بحركة سريعة واستخرج لي من خزانة ملابسه كراسةً ممزقةً وقال: هاك مذكرات كنت كتبتها من سنين وهممت بتمزيقها، ثم عُدت فأبقيت على ما بقي منها، فلعلها تشفي عنك غليلًا.