فاوست في قبضة الشيطان
أحسست من الطريقة التي أعطاني بها الأحدب مذكراته القديمة الممزَّقة، أنه أراد أن يفضَّ الأمر بينه وبيني، فإذا كنت أتعقَّبه لأكشف عن سرِّه، فها هو ذا سرُّه مكتوبًا، ولم يعد بعد ذلك ما يدعو إلى تعقُّبه في وحدته؛ لكنه في الحقيقة قد أخطأ الظن؛ لأن قراءتي لمذكراته تلك لم تزدني إلا رغبةً في معرفة ما بقيَ من قصة حياته؛ لأن تلك المذكرات إنما وقفت عند سن المراهقة أو بعدها بقليل، فماذا كان بعد ذلك حتى بلغ ما بلغه الآن من عمر؟
لقد ختمت مذكراته بذكر أخٍ أصغر أُضيف إلى أسرته، وكأنما أُضيف إليها تعويضًا عمن كانت فقدته قبل ذلك بقليل، فماذا لو بدأت البحث بالسؤال عن بقية أفراد أسرته؟ إنني في الحقيقة لم أكن أسعى إلى تفصيلات حياته في حد ذاتها؛ لأنها لا تثير اهتمامي إلا بمقدار ما تكشف لي عن السر الدفين في أن تكوَّنت له تلك العاهة النفسية التي برزت على ظهره قَتَبًا يكبُر حينًا ويصغُر حينًا، وهي نفسها العاهة — أو لعلها أن تكون — التي مالت به إلى خشية الناس وإلى الانفراد بنفسه في مسكنٍ منعزلٍ أو في ركنٍ من المدينة قصيٍّ بعيد.
ولم يطُل عنائي في السؤال عن أفراد أسرته، والمصادفات في أمثال هذه الأمور تُسعف الباقين أكثر جِدًّا مما يتصور الناس، كأن لهذه المصادفات قوانينها التي تشبه قوانين العلوم، فيندر أن يَتَغيَّا الإنسان في حياته غاية يريد بلوغها، إلا وتُولد له المصادفات مما يشبه العدم أو المحال، فتقدِّم له المعونة وتخلق له الظروف التي تحقق له غايته المنشودة.
جلست على مقهًى في ميدان السيدة زينب بالقاهرة، ولم تكن تشغلني عندئذٍ مسألة الأحدب وأسرته، فما هو إلا أن لمحني في الطريق صديقٌ قديمٌ منذ عهد الدراسة، فضلًا عن كونه منتميًا إلى القرية نفسها التي أنتمي إليها، فجاء مسلِّمًا، ودعوته للجلوس، فنظر في ساعته ليرى إن كان الوقت يسمح له بجلسة قصيرة معي، ثم جلس، ثم لم تكد أطراف الحديث تتصل بيننا حتى ورد ذكر الأحدب ورودًا سريعًا في حديثه، فاستوقفته في لهفة نبَّهته إلى أهمية الأمر عندي، مما دهش له.
قلت: من هذا الأحدب الذي ذكرته الآن؟
قال: هو رجل عرفته منذ سنين، حين تزاملنا في إحدى مدارس الريف، وبيني وبينه قرابة بعيدة.
قال: هلا حدَّثتني بأي شيء تعرفه عن أفراد أسرته؟
قال: وما سر اهتمامك به؟
قلت: لقد عرض لي في طريق الحياة لفترة وجيزة، أثار فيها استطلاعي، ولم أعلم عنه بما يُشبع رغبتي، ولو لم يكن على شيء من الغرابة اللافتة للأنظار، لما عُنِيت به، ولكان واحدًا من ألوف الناس الذين يجيئون في طريق الحياة ويذهبون.
قال: صدقت، إنه على كثيرٍ من الغرابة، ولكني — على كلِّ حال — لا أعلم عنه إلا أقل من القليل؛ بسبب انطوائيته الشديدة في معظم الأحيان، انطوائية لا تشجِّع أحدًا على الاقتحام، ومع ذلك فصلة القربى البعيدة بيني وبينه قد أتاحت لي أن أعلم بأن أباه كان ملحقًا بحكومة السودان، ولقد اصطحب ابنه هذا إلى هناك وهو غلام، ومضت أعوام لا أعرف عددها، ثم عادت الأسرة كلها إلى القاهرة، وكانت عند العودة مؤلَّفة من الوالدين وثلاثة أبناء وبنتين، وهذا الأحدب هو أكبر الأبناء.
قلت: ومن هما أخواه؟
قال: أحدهما قريبٌ من سنِّه، وهو يزامله مزاملةً لم أشهد مثلها في أخوين؛ فلقد كانا على طريقٍ في الدراسة واحد، وتخرَّجا معًا، واشتغل كلاهما بالتدريس أول الأمر، وأظن شقيقه هذا الآن مديرًا للتعليم في منطقة القناة؛ وأمَّا أخوهما الأصغر فأظنه طبيبًا في إحدى عواصم الصعيد.
وتركنا سيرة الأحدب بعد هذه العجالة المفيدة، واستأذن صديقي بعد دقائق قليلة، وتركني على عزيمة بأن أقصد إلى شقيقه مدير التعليم، لعله أن يكون طريق الوصول إلى ما كنت أبتغي الوصول إليه من تفصيلات تُكمل سيرة حياته، ويكون لها عندي دلالتها في تكوينه النفسي.
ولن أطيل في ذكر التفصيلات التي اعترضت طريقي في البحث عن شقيق الأحدب، وهو الذي قيل لي عنه إنه والأحدب بمثابة التوءمين بالروح؛ فهُما وإن يكن بينهما في العمر سنتان، والأحدب يكبُر بها شقيقه ذاك، إلا أنهما بدءا الدراسة معًا وتلازما في كل مراحل الحياة بعد ذلك، حتى لقد تشابها في الفكر وتشاركا في مجموعة الأصدقاء، وتزاملا في كل ما قد عرض لهما أثناء الطريق، ولا يكاد أحدهما يُكِنُّ سرًّا لا يطَّلع عليه توءم روحه، فهُما في الحق — كما قال لي القائل عنهما — قد أوشكا أن يكونا شخصًا واحدًا في جسدين.
وصلت إلى الشقيق خلال إجازة قصيرة كان يقضيها في القاهرة، ولم أُرِد أن ألفَّ معه وأَدُور، بل كاشفته بكل ما جئته من أجله؛ وهو أني رأيت في أخيه الأحدب ما أثار اهتمامي وأردت أن أتعقَّب تاريخه، لا حُبًّا مني في استطلاع غوامض الناس لمجرد الاستطلاع، بل لأني أردت أن أتَّخذ منه موضوعًا للتحليل المفيد؛ فهو بغير شكٍّ يمثِّل نموذجًا صالحًا للدراسة التي نستبين بها مدى ما تفعله عوامل النشأة في تكوين النفوس، ولو كان إنسانًا على الصورة المألوفة للأناسي، لما لفت الأنظار، لكنه هو حبه للعزلة والانطواء على نفسه وخوفه من مخالطة الناس؛ دون أن يكون ذلك صادرًا عن شك في نواياهم بالنسبة إليه، وإنما هي عزلة وانطواء وخوف قد أصبحت جزءًا من كيانه، لا يطمئن إلا بها، ولا يكتمل له وجوده إلا إذا تحققت له، فما الذي ينتهي بإنسانٍ إلى مثل هذا؟ ذلك هو السؤال.
استمعَ إليَّ شقيقه برحابة صدر، ثم سألني: أين التقيت به، وكيف؟ فقصصت عليه ما كان، وذكرت له شيئًا من مذكراته التي أعطاني إياها عن حياته الأولى، لكنها مذكرات تنتهي عند أول الشباب.
فروى لي الشقيق في إيجاز عن أخيه — وهو لا يُشير إليه باسم الأحدب كما كنت أُشير — بل يسميه باسمه الحقيقي، وهو رياض، فقال: كان أخي رياض لم يزل في سنٍّ باكرة من شبابه حين أوشكت كلية غوردون الثانوية أن تنحرف به إلى عملٍ متواضع يؤديه لحكومة السودان؛ إذ إن تلك الكلية لم تُنشأ أساسًا إلا لتغذية الحكومة بمن تريدهم من العاملين على اختلاف الأنواع؛ من عملٍ فني أو مهني إلى عملٍ كتابي أو غير كتابي؛ فأسرعت الأسرة بإرساله إلى القاهرة ليستأنف دراسته، ولحقتُ به أنا بعد قليل، حيث عُدنا إلى متابعة السير على طريق واحد.
وما هو إلا أن فرغنا من المرحلة الثانوية، وكان علينا أن نختار من المدارس العليا القائمة عندئذٍ ما يطيب لنا أن نختار — وتلك المدارس العليا هي التي تحولت بعد قليل إلى كليات الجامعة — وها هنا لعبت الأقدار لعبتها المألوفة، وهي أن تقذف في طريق الإنسان عندما يكون في مفترق الطرق، ما يميل به إلى هذا الطريق أو ذاك، فترى الإنسان في أمثال هذه المواقف الحاسمة قابلًا للتأثر بأوهى العوامل.
ولقد شاءت المصادفة أن يكون لنا قريبٌ تخرَّج من مدرسة المعلمين العليا ويعمل بالتدريس في إحدى المدارس الثانوية، لكنه كان من ذلك الصنف الذي يجيد حسن المظهر، وكان الوقت أوائل الصيف، عندما انعقدت في القاهرة لجان التصحيح للشهادات العامة، وجاء صاحبنا من مدرسته التي يعمل بها — وأظنها كانت في الإسكندرية — ليشارك في لجان التصحيح، ورأيناه نحن عندئذٍ نزيلًا في فندقٍ ممتاز، ويلفت الأنظار بروعة هندامه، وارتفاع المستوى الذي يتحرك فيه كلما قضى سهرة هنا أو جالَسَ بعض أصدقائه هناك، حتى لقد خُيِّلَ إلينا أنه النموذج الحي لما نريد لحياتنا أن تكون عليه.
وإذن فقد انحلَّ الإشكال وتحدَّد أمامنا طريق الاختيار، وهو أن نسلك الطريق نفسه الذي سلكه صاحبنا؛ فإلى مدرسة المعلمين العليا بغير تردُّد؟
ولم نكن في هذا الاختيار على ضلال؛ لأن طريق المعلمين العليا — بالنسبة إلى طلاب الدراسة الأدبية — لم يكن عندئذٍ ينافسه طريقٌ آخر لمن أراد أن يضمن لنفسه «وظيفة» بعد تخرُّجه؛ ولا غرابة أن كانت «الدفعة» التي شملتنا ممن دخلوا مدرسة المعلمين العليا في ذلك العام (١٩٢٦) تحتوي على نسبةٍ كبيرة جِدًّا من أصحاب المجموعات العالية في امتحان «البكالوريا».
•••
سار شقيق الأحدب بالحديث إلى هذا المدى القصير، ولأمرٍ ما أخذه القلق وأراد أن يترك الرواية للأحدب نفسه، لا سيَّما ومطلب الباحث هو العوامل الداخلية التي عملت على تكوينه؟ فحتى هذا التوءم الروحي له — أعني شقيقه — قد تخفى عليه الخلجات الباطنية ولا يرى من الأمر إلا ظواهره، ولقد تعهَّد لي أن يصلني بأخيه الأحدب على النَّحو الَّذي يشقُّ أمامنا الطَّريق، وذلك ما حدث.
وابتسم لي الأحدب كأنما أراد أن يسألني: أين كنت؟ وفيم اللجوء إلى أخي؟ ولم يكد أخوه يتركنا وحدنا حتى دار بيننا حديثٌ مقتضَبٌ في أمورٍ مختلفة، استطعنا بعدها أن نضع أنفسنا في موقفٍ نستأنف به الرواية عند النقطة التي ختم بها أخوه حديثه، قال: أربع سنوات قضيتها في مدرسة المعلمين العليا. كانت هي التي وضعت لي أساس التحصيل العلمي الغزير، وهي التي أمدَّتني بمجموعة الأصدقاء الذين كانوا هم العالَم الصغير الذي أحاطني بعوامل الحب والتنافس معًا، وهي التي بذرت في نفسي تذوُّق الأدب والفن، وهي التي وضعت أمامي عددًا من النماذج البشرية التي أحتذيها ومن النماذج التي أنفر منها وأجتنبها، وهي التي كانت بمثابة المرحلة التحضيرية الحقيقية لمستقبلي كله قارئًا أو كاتبًا.
كانت الأسرة — والوالد بصفة خاصة — قبل ذلك هي المحيط المؤثر بكل ما فيه من حوافز تحفِّز ومحيطات تؤدي إلى الكساح؛ وأمَّا بعد ذلك فالمحيط المؤثِّر هو تلك المدرسة بما ذكرته عنها؟ ولعلِّي لا أخطئ كثيرًا لو أجملتُ أثَرَ المرحلتين في نفسي فقلت إن عوامل الحفز في المرحلة الأولى كانت على سبيل التحدي؛ وأمَّا عوامل الحفز في المرحلة الثانية فقد جاءت عن طريق التنافس والطموح الإيجابي الذي لا يتحدى أحدًا بذاته، ولكنه يريد المزيد ويريد الصعود لذات الزيادة والارتفاع، وكانت الحلقة الواصلة بين المرحلتين هي أخي توءم الروح — كما قيل لك عنه بحق — فقد كان معي في المرحلة الأولى ونحن نتحدى العوامل التي تحيط بنا معًا، كما كان معي في المرحلة الثانية ونحن نطمع في مزيد ونطمح إلى صعود …
سكت الأحدب، وانقبضت أسارير وجهه وسرح ببصره إلى السماء، وفوجئت بهذا التغيُّر الغريب؛ حتى لقد نظرت أنا الآخر إلى حيث اتجه ببصره لأرى إن كان هناك ما استدعى ذلك التغير، لكن لا شيء، إنها طبيعته المتقلبة بين انبساطٍ سهلٍ وانقباضٍ بائس، ولماذا لا أقول: إن هذه الطبيعة نفسها هي طبيعة المصري، وكل ما في الأمر عند الأحدب أنَّ تلك الطَّبيعة المتأرجحة بين بسطٍ وقبضٍ قد تطرَّفت فوضحت معالمها، إنك لا تدري أين الصواب حين تريد وصف الطبيعة المصرية؛ أتقول عنها إنها سهلة منبسطة ضاحكة في غير تعقيد؟ أم تقول عنها إنها مأساوية حزينة؟ أقول: إنك لا تدري أين الصواب هنا؛ إذ يبدو أن الصواب فيهما معًا. وحسبُك أن تقف أمام التماثيل المصرية القديمة لترى جهامة الجدِّ قد عبست بها الجباه، لكن الشفاه مع ذلك تفترُّ عن ابتسام، هو أقرب إلى ابتسام الساخر من الحياة؟ ألا ما أكثر ما يوصف المصري أو يصف نفسه بالمرح ولذع النكتة، وما أكثر كذلك ما سألت نفسي: أصحيح ما يوصف به المصري من مرح؟ إني لا أراه كذلك؛ وإلا فأين جانِب المرح في نتاج أدبائه؟ وأمَّا النكتة اللاذعة فلا ريبَ في شيوعها، ولكنها على الأغلب نكات المرارة والإحباط.
وصديقنا الأحدب مصريٌّ صميم، فيه ما في طبيعة مصر التي ربما حددت معالمها خُضرة الزرع في الوادي ملاحِقةً لصُفرة الرمل في الصحراء؛ فبين اللونين خطٌّ فاصلٌ حادٌّ لا يتدرج في هذه الناحية أو في تلك، وبذلك تجاوزت نفس المصريِّ حالة الأمل الضاحك وحالة اليأس العابس، ينتقل من إحداهما إلى الأخرى بغير تمهيدٍ وبلا تدرُّج.
ظللنا صامتين فترة، ثم استدرجته لمتابعة الحديث، فقلت له: قد أفهم أن تمدَّك دراسة المعلمين العليا بالعلم الغزير، ولكن لا أفهم كيف جاءك منها تذوُّق الأدب والفن؟
فأجاب: لعلها مصادفات؛ فلقد شاءت المصادفة أن يبدأ لنا أستاذ الأدب الإنجليزي بشرحه لقصيدة ورد زورث التي نَظَمها عن النرجس الأصفر، والتي يقول في سطرها الأوَّل ما معناه: «تجوَّلت وحدي كالسحابة.» وأخذ ذلك الأستاذ يحلل هذا السطر وحده في درس كامل، مما جعلني أستمع إليه وأنا ذاهلٌ لما يمكن أن يتكشَّف عنه بيتٌ واحدٌ من الشعر لو وجد الناقد الدارس الذي يفجِّر ألفاظه تفجيرًا ليُخرج مكنونها، ولم أكن أعهد فيما قرأناه وحفظناه قبل ذلك من الشعر العربي، لم أكن أعهد مثل هذا التحليل العجيب؛ فلو قلت الآن إن هذا الدرس الأوَّل في النقد الأدبي، الذي تناول به الناقد المعلِّم الشارح سطرًا واحدًا هو فاتحة القصيدة، لو قلت الآن! إن هذا الدرس عن ذلك السطر الأوَّل هو بذرة التحول عندي في قراءة الشعر كله والأدب كله، لما بعدت عن الصواب.
وربما شاءت مصادفةٌ نكِدة أن يجيء مُحاضِر الأدب العربي في إثر ذلك الدرس الأوَّل العجيب في الأدب الإنجليزي، فكان هذا المُحاضر العربي شيخًا يضع أمامنا أبياتًا من الشعر الجاهلي وكأنه يقدِّم لنا أحجارًا خشنة غلاظًا لا تقوى على هضمها أقوى المعدات، ولا هو في وسعه أن يفكَّ تلك الجلاميد لتُخرج مكنونها أمام الأبصار، فبقدر ما كان الدرس الأوَّل طاقةً فتحت أمامي الطريق إلى سماءٍ في الفهم الأدبي تعلوها سماء. كان الدرس الثاني — ولو بالمقارنة بما قبله — صارخًا بأن تراثنا العربي يحتاج إلى أيدٍ أخرى غير الأيدي التي كانت تعبث بذلك التراث وهي عجماء.
وكذلك كان لنا أستاذٌ في الفنون، لا أقول: إنه ذواقة للفن بحيث جاءتني منه العدوى؛ لأنني — حتى في تلك السن — كنت أُدرِك أن تعليقه على أعمال الفنانين ينقصها شيء من الحساسية، لكنني برغم ذلك أشهد له بأنه كان بمثابة مَن فتح أمامنا بابًا وقال: هاكم المروج الفسيحة إذا أردتموها فادخلوا إليها من هذا الباب؛ ومن هنا بذرت في نفسي بذرة ربما كانت ضئيلة ضعيفة مقيسة إلى بذرة التذوق الأدبي؛ أقول: إنَّه من هنا قد بذرت في نفسي بذرة الالتفات إلى دنيا الفنون.
وقد أظلِم نفسي إذا لم أذكر هنا بأنَّ الحاسة الأدبيَّة — متمثلة أوَّل الأمر في الحس بالألفاظ وجرسها — قد انغرست عندي منذ الطُّفولة الباكرة التي قد لا تصدِّقني إذا حددت تلك الطفولة الباكرة بسن التاسعة أو العاشرة، وإنه لمن الأحداث المحفورة في ذاكرتي منذ ذلك الحين البعيد ما حدث لي ذات يوم وقد دعيت مع بقية أفراد الأسرة إلى حفلة زواج، وما كان أشد دهشة الحاضرين جميعًا والحاضرات، وهي دهشة اختلطت معهم بضحكات الهزء والتَّصغير، عندما فاجأت الجميع بأن صعدت على كرسيٍّ في ركن الغرفة وأخرجت ورقةً وأخذت أتلو خطبة التهنئة التي كنت قد أعددتها سِرًّا.
أذكر ذلك لأستشهد به على مَيل مبكر نحو صياغة اللفظ التي قد تكون عتبة الدخول في رحاب الأدب تذوُّقًا وإنشاءً، وربما كان هذا المَيل المبكر عندي هو الذي جعلني ألتقط شعاع النور حين أرسله أستاذ الأدب الإنجليزي وهو يقدم لنا قصيدة ورد زورث، وهو الشعاع الذي أضاء لي طريق الأدب كيف يكون إبداعه وكيف يكون فهمُه وتذوُّقه، فإذا كان جرس اللفظ هو الذي ملأ سمعي قبل ذلك، وهو أيضًا ما أراد أن يؤكده في آذاننا شيخ الأدب العربي يومئذٍ، فإنني بعد ذلك الدرس الأوَّل الملهِم قد أدركت أن الأدب شيء آخر، يستخدم قوة اللفظ والعبارة بما فيها من تنغيم، ليجعلها أداة موصِّلة لذلك الشيء الآخر، وهذا الذي انغرس في نفسي عن الأدب، قد اتسع معي فيما بعدُ ليكون مبدأً عامًّا يشمل جميع الفنون.
ولقد ظهرت معي محاولات أولى منذ ذلك العهد، أمزج فيها بين النغم والمعنى، لعل من أوائلها حادثًا عابرًا كان أقرب إلى اللهو المازح منه إلى الجد البَنَّاء؛ وذلك أن مجلة مصوَّرة في ذلك الحين — أظنها كانت مجلة «اللطائف المصورة» — قد أعلنت عن مسابقة يكتب فيها المتسابقون أسطرًا لا يزيد عدد كلماتها عن أربعين كلمة — فيما أذكر — بحيث يَصِفون في هذه الأسطر القليلة ماذا عساهم صانعين لو علموا أن نهاية العالم ستكون بعد ساعة واحدة، فكتبت مع الكاتبين، وبالطبع لا أذكر ما كتبته، لكنني أذكر أنني قلت إنني لا أعمل شيئًا، وما تزال ترنُّ في أذني إلى اليوم عبارة وردت في أسطري، فقلت فيها: إنني وقد «وجدت الدقائق تمر سراعًا، والقلب يدقُّ تباعًا»، مع ما تكاثر في خاطري مما ينبغي عمله في هذه الساعة الواحدة الباقية، لعجزت عن التنفيذ.
وجاءت نتيجة المسابقة بفوزي بجائزتها الأولى، وكانت جنيهين! لا، إنه لمن أفدح الخطأ ألا تقيس هذه الأمور بما يصاحبها من مشاعر وبما يحيط بها من ظروف، فأنا الآن حين أقول: إنِّي كسبت جنيهين لا يسعني إلا الضحك كما أراك أنت الآن ضاحكًا مما سمعت …
أردت الاعتذار فقاطعني الأحدب قائلًا: لا تعتذر؛ فهو أمر طبيعي لا غرابة فيه، لكنَّه هو نفسه الأمر الذي يميل بأبناء الحاضر أن يظلموا أسلافهم عند الحكم عليهم؛ فقد يقيسون أعمالهم بمقاييس عصرنا فيجدونها ضئيلة نحيلة فيهزءون! ما علينا من هذا الآن، كسبت ذينك الجنيهين من تلك المسابقة، فقل ما شئت عن فرحتي التي أحسستها بالفوز في ذاته أوَّلًا، وبالمال نفسه ثانيًا.
ماذا تظن من موقفنا عندئذٍ من المال؟ بضعة قروش نتحرك في مجالها! وجاءني صديقان ممن كانت الصلة قد توطدت بيني وبينهم، يُلحَّان في نزَقِ الشباب وخفَّته أن نذهب جميعًا، أنا وأخي والصديقان، لنُنفق هذين الجنيهين في «فسحة» نخططها لتستوعب كسبي كله، وكانت أول الخطة أن نذهب إلى مسرح يوسف وهبي.
وذهبنا، وكانت المسرحية القائمة تلك الليلة هي «كرسي الاعتراف». لم أكن قد شهدت قبل ذلك في حياتي مسرحًا، ولا عرفت كيف يكون! كنت أسمع عن دنيا المسارح، لكني كنت أحسبها بديهية من بديهيات الرياضة أنها لم تُخلَق لي ولا خُلِقت لها، أمَا وقد ذهبنا، وأمَا وقد رأيت ما رأيت، فلست أدري بأي لغة أستطيع أن أصوِّر لك الهزة العميقة العميقة العميقة التي اهتزَّت بها نفسي لما رأيت؛ فكل ما رأيته جديد، وكل ما سمعته جديد، وعدت إلى داري ذلك المساء لأحلم بما قد رأيت وسمعت، والحقُّ أنه كان فتحًا جديدًا في حياتي، لا لأن المسرحية والتمثيل يستحقَّان كل هذا الثناء؛ فأنا لم أكن ليلتها على أدنى درجة من العلم بدنيا المسرح؛ فقد تكون تلك المسرحية جيدة وقد لا تكون، وقد يكون الممثلون أجادوا أو لم يجيدوا، لم يكن ذلك هو مدار انتباهي، بل كان المدار هو هذه الدنيا الجديدة نفسها حين انكشف عنها الستار.
•••
نهض الأحدب واقفًا بغير تمهيد، ودون أن تبدو على وجهه معالم الضجر المألوفة عنده حين يضيق صدره، قال: لماذا لا نخرج في الهواء الطلق ساعةً أو ساعتين، وقد نكمل الحديث هناك؟
– أنت وما تريد.
وخرجنا معًا، وكأني بالأحدب قد استقام ظهره بعض الشيء، لكنني لم أُمعِن النظر حتى لا أعكِّر عليه الصفو الذي هو فيه، وسِرنا في الطريق لا يبدو على سيرنا أنه هادفٌ إلى مكان بعينه؛ فلم أكن من ناحيتي أريد التدخل، وتركت له القياد، قانعًا بأن يكون الحديث بيننا في أثناء الطريق مسترسلًا في مجراه الطبيعي الهادئ، على أنني ما لبثت أن تبيَّنت خطة سيره؛ إذ أراد لنا الجلوس في مكان يقع على النيل في مكانٍ قصيٍّ شماليَّ القاهرة، كثيرًا ما مررت به وسألت نفسي: تُرى أيُّ مجنون تحدِّثه نفسه بالجلوس في هذا المكان البعيد عن كل عمران، ومع ذلك فلا بد أن يكون له زائرون وإلا لأغلق صاحب المكان أبوابه وانصرف إلى سواه.
جلسنا هناك وكُنَّا وحدنا؛ فقد يكون زبائن مكانٍ كهذا من ذوي المزاج الشاذ الذين إذا اختار سائر الناس ساعات النهار اختاروا هم ساعات الليل، ولم نكد نستوي على مقاعدنا ونطلب شراب الليمون، حتى حرَّكت في صديقي شهوة الحديث فيما كان بصدده ونحن في غرفة مسكنه.
قال: الذكريات حلوة حتى وإن كانت في حينها مصدرًا للمرارة والألم، وإنَّ حياتنا في تلك السنوات الأربع التي قضيناها — أخي وأنا — في مدرسة المعلمين العليا، لهي في الحق حياة لم تخلُ من ضنكٍ وضيق، لكننا برغم ذلك لم نكن نُحِس مما نحن فيه إلا بالحيوية الدافقة تدفعنا إلى العَبِّ من ثقافة أيامنا عبًّا ليمتلئ الإناء! كُنَّا نجمع كل ما كان يُخرجه أعلام الفكر والأدب من كتبٍ خلال العام الدراسي لنجعله زادنا في أثناء إجازة الصيف، على أن كل ما كانت تُخرجه المطابع عندئذٍ خلال العام كله لم يكن ليجاوز أصابع اليدين، ولم تكن أثمان الكتب بحيث نعجز عن الشراء.
كان أحمد حسن الزيات قُبيل ذلك الزمن بقليل، قد أخرج كتابَيه المترجَمَين: «آلام فيرتر» لجيته، و«رفائيل» للامارتين، فكم مرةً تظنني قد قرأت هذين الكتابين؟ لو قلت إنني قرأتهما على الأقل ثلاث مرات متوالية لما بالغت؛ لأن لغة الترجمة سحرتني إلى حدِّ الفتنة! وإن لم تكن هي فتنة المسحور، فماذا تُسَمِّي هذا السلوك الآتي: أردت أن أكتب خطابًا إلى أبي، وكان لم يزل في منصبه في حكومة السودان بالخرطوم، وكنت قد عدت من إجازة قصيرة قضيتها معه هناك، وكان طريق السفر تتخلله مرحلة بالسفينة البخارية فيما بين أسوان ووادي حلفا، وفي هذه المرحلة النهرية كان يحدث للسفينة أن تقف بركَّابها عند أبي سمبل، ليستطيع من أراد أن يزور ذلك المعبد القديم المنحوت في حجر الجبل، فلما أردت الكتابة إلى أبي بعد عودتي إلى القاهرة، أغرتني صفحاتٌ جميلة في «رفائيل» يتحدث فيها الكاتب عن معبدٍ قديم، فانتحلتها لنفسي وكتبتها خطابًا مستفيضًا لأبي، دون أن أذكر له شيئًا عن حقيقة ما كتبت، لأَدْهَمَه بأنني صاحب هذا الإبداع، ومن الفتنة نسيت أن أضع في الخطاب — لا في أوله ولا في آخره — التحية المألوفة في الخطابات يرسلها ابنٌ إلى أبيه فأرسل إليَّ يعاتبني على إهمال تحيته في الخطاب، ولم يذكر لي شيئًا عما ورد في الصفحات الطوال التي نسختها وبعثت بها إليه.
فُتنت بأسلوب الزيات يومها، فلا هو الأسلوب الذي يفوح بالقِدَم لما يَرِد فيه من لفظٍ غريبٍ وسجعٍ أغرب، ولا هو الأسلوب الذي يخلو من العناية باختيار اللفظ وبصقل العبارة صقلًا يعطيك شيئًا من التوازن بين أجزائها؟ نعم كانت كتب المنفلوطي هي الأخرى أمرًا يُشبه أن يكون واجبَ الأداء؛ فليس قارئًا بين الشباب من لم يقرأ «العَبرات» و«النَّظرات» للمنفلوطي، ولكن كان شائعًا بين هؤلاء الشباب من الكاتبين أن يستخدموا كثيرًا من «لوازم» المنفلوطي في التعبير. ولست أقول: إنَّي نجوت من هذه العدوى، لكنني أقول: إنني أضفت إلى ذلك ما لم يُضِفه كثيرون غيري، وهو الإعجاب بأسلوب الزيات إعجابًا تمنيت أن يكون له أثرٌ عندي وصدى.
وكانت «للمطالعات» و«المراجعات» وغيرهما مما أخرجه العقاد في ذلك الحين أو قبله بقليل، أثرٌ في عقولنا أكثر منه أثرًا في قلوبنا أو في أسلوبنا! فعند العقاد وجدنا زادًا فكريًّا غزيرًا، لقطناه ووعيناه وردَّدناه في أحاديثنا إلى حد الإسراف؛ فمن ذلك مثلًا أننا حين عرفنا فكرة العقاد عن الجمال بأنه هو الحرية؛ بمعنى أن الشيء يكون جميلًا بمقدار ما يتغلب على القيود وينساب في حركة سهلة، كالنهر الجاري بالقياس إلى الماء الآسن، وكالبدن الراقص بالقياس إلى البدن الثقيل البطيء، وكالزهرة الطبيعية التي تشف عما يجري في أوراقها من عصارة الحياة بالقياس إلى زهرةٍ شبيهة بها صُنعت من ورق … وهكذا وهكذا؛ أقول: إننا حين عرفنا فكرة العقاد هذه في إرجاعه صفة الجمال في الشيء إلى ما يكون في ذلك الشيء من حرية الحركة وعفوية الحياة؛ ملكت علينا عقولنا إلى الحد الذي جعلنا — أخي وأنا — حين ذهبنا في إجازة الصيف إلى الريف، واعتدنا الجلوس أمام دكانٍ لبقالٍ كان يرحِّب بأمثالنا من طلبة العلم يجلسون للمناقشة أمام دكانه، يسمع منهم معجبًا وهو صامت؛ إلا ذات مرة طرقنا نحن فيها فكرة العقاد في الجمال! ففي هذه الحالة لم يستطع البقال الريفي — وكان على شيء يسير جِدًّا من العلم الأزهري — أن يمسك لسانه بالصمت، فتدخَّل في حديثنا ساخرًا من هذا الكلام الفارغ الذي نقوله أو يقوله العقاد عن الجمال، ثم زعم لنفسه المعرفة العملية — لا النظرية — بالموضوع، وهي عنده معرفة تَرْجُح ألف مرة ما ينقله القارئون من الكتب؛ فهو — كما قال متحمِّسًا — متزوج من أربع زوجات، ولم يكن للعقاد زوجة واحدة؛ فمن حق أمثاله أن تكون لهم كلمة في طبيعة الجمال أكثر جِدًّا مما يكون ذلك من حق رجلٍ كالعقاد، أو من حق شباب مثلنا لم يكن لهم بدُنيا النساء عِلم! قال ذلك جادًّا، فلئن كان الرجل عجيبًا في انعراجه بالحديث إلى ما لم نكن نعنيه، فذلك مفهومٌ من رجلٍ مثله لم يتسع أفقه لأمثال هذه الأفكار النظرية في علم الجمال؛ أقول: إن كان هذا الرجل عجيبًا، فنحن كنا أعجب منه وأغرب؛ لأننا قابلنا جدَّه بجدٍّ مثله، وأخذنا بكل الحرارة المشتعلة ندافع أمامه عن فكرة العقاد تلك، بأن الجمال كائنٌ في الحرية من القيود والمعوقات مهما يكن نوع الشيء الجميل، ومهما تكن ضروب القيد والتعويق.
وكان سلامة موسى داعيًا آخر من دواعي انشغالنا الفكري في تلك السنين، خصوصًا حين نشر كتابه عن «الحرية» وكتابه عن «التطور». وسأقص عليك القصة الآتية: إنني حين قرأت كتاب «حرية الفكر» — وهذا هو عنوان الكتاب كاملًا — وجدت فيه قصة الإمام ابن حنبل وما تعرَّض له من محنة يقشعر لها البدن لما فيها من قسوة فظيعة بالرجل، لمجرد أنه خالَف رأي الخليفة المأمون في مسألة القرآن: أهو قديم أم حديث مخلوق؟ فالخليفة يريد للناس أن يقولوا عن القرآن إنه مخلوق، والإمام أحمد بن حنبل يصرُّ على أنه قديم، فكان ما كان من تعذيب له حتى يغيِّر رأيه، لكنه لم يغيره.
لم أكن قبل ذلك سمعت بهذه المشكلة الغريبة، ولم أفهم شيئًا من هذين المصطلحين «مخلوق» و«قديم» بالنسبة للقرآن، فانتهزت فرصة في أول محاضرة في التاريخ الإسلامي — وكان هو مقرَّرنا في التاريخ لذلك العام — وسألت الأستاذ المُحاضِر عن المشكلة وما أصلها وفصلها؟ وكان الأستاذ قد عاد لتوِّه من بعثته بإنجلترا، وكنا قد لاحظنا عليه نواحي كثيرة من ضعف الشخصية ومن الخصائص التي تبعث على الاستخفاف به والسخرية منه، حتى لسرعان ما أصبحت نوادره حديث مجالسنا، لكن لم يكن لأي شيء من ذلك دخلٌ في جدِّية سؤالي، وفي جدية المأخذ الذي توقعت أن أُجاب به، فما كان أشد دهشتي حين ثار الأستاذ ثورةً صبيانية، وأمرني بالخروج من قاعة الدرس، وبينما كُنَّا نتجادل في عنفٍ دقَّ الجرس، فأسرعت لأشكو إلى العميد هذا التصرُّف من الأستاذ، وخصوصًا وقد قضى بحرماني من حضور محاضراته إلى آخر العام؛ فلكم دُهشت مرةً أخرى حين رأيت الأستاذ يجري جريًا في فناء المدرسة ليصل إلى غرفة العميد قبل أن أصلها، ودخل هو وأُمرت أنا بالانتظار، حتى إذا ما خرج سُمِحَ لي بالدخول، ولم أبدأ الحديث إلا وقد تلقَّيت اللعنات والشتائم، والأمر بألا أحضر محاضرات التاريخ الإسلامي إلى أن يأذن لي الأستاذ بذلك.
وأمَّا طه حسين فقد كان هو الذي ملأ خيالي في تلك الأعوام، ليست المسألة هنا متعلقةً بالمادة المكتوبة نفسها؛ وإلا فلست أظن أن طه حسين بما كان ينشره عندئذٍ أغزر فكرًا من سواه، لا بل ربما كان العقاد أو سلامة موسى أو الدكتور محمد حسين هيكل أوفر محصولًا من محصوله، لكن المسألة متوقفة على الروح التي يبثُّها في النفوس؛ ولذلك فقد كان طه حسين دون هؤلاء جميعًا هو الذي انشقَّت له جماعة المثقفين معسكرَين: معسكر معه يؤيده ويسانده، ومعسكر ضده يعارضه ويحاربه، ولقد كنت بغير شكٍّ من المؤيِّدين المسانِدين. إنك تظلم طه حسين لو وزنت مقداره بوفرة المحصول الفكري الذي قدَّمه للناس في كتبه؛ لأنه استمد معظم قيمته من قدرته على تغيير الاتجاه، إنه لم يكتب ما كتبه لمجرد الرغبة في الكتابة أو الرغبة في اكتساب الرزق، بل ولا مجرد عرض الأفكار المنقولة أو المبتكَرة، وإنما كان يكتب ليغيِّر وجه الثقافة في الأمة العربية، ومِنْ ثَمَّ جاءت خطورته، إنه لم يتحرج ذات يوم أن يقول عن مراكز التقليد الثقافي في مصر التي كانت عقبةً كأداء في سبيل التغير المطلوب؛ أقول: إنه لم يتحرج ذات يوم في أن يعلن في الناس عنها، إنه لا بُدَّ من هدم قرطاجنة ليستقيم لنا السَّيْر.
لست أمدح نفسي ولا أذمُّها حين أصِفُها أمينًا فأقول: إن لديها استعدادًا قويًّا؛ لا بُدَّ أن تكون له جذوره البعيدة في طفولة لم تجد فرصتها في نموٍّ حرٍّ طليق؛ استعدادًا قويًّا لتلقُّف كل فكرة تراها مؤدِّية إلى تقويض ما هو شائع مقبول، لتقيم مكانه جديدًا مأمولًا؟ إنني لأتصيَّد الأفكار التي يثور بها أصحابها على التقاليد المستقرَّة الراسخة تصيُّدًا، وأخرج كلما وقعتُ منها على شيء يغذي هذا الميل في نفسي، فلو كان مجموع الناس على اتفاقٍ بأن الشيء الفلاني صحيح، ثم ظهر كاتب يقول إنه خطأ لم أجد في نفسي رادعًا يصدُّني عن تأييد هذا الكاتب الخارج على الإجماع، فأنا أؤيد خروجه أوَّلًا، ثم أنظر بعد ذلك في صدق حجته، ولكي أنصف نفسي لا بُدَّ أن أضيف أن هذه الرغبة القوية في تأييد الخارج على التقليد الشائع، إنما هي رغبة في التحطيم حين يكون البناء المراد تحطيمه قد أكله البلى ولم يعد صالحًا إلا للعناكب تعشش في سقوفه وجدرانه، وللعفن يسري في أجوائه فيزكم الأنوف.
لقد كتبت بعد تلك السنوات الأربع التي أضع معالمها الآن على الورق؛ أقول: إني كتبت بعدها بأكثر من ربع قرن، في مقدمة كتابي عن فلسفة برتراند رسل؛ أقول: إنني وإن لم أكن تابعًا كل التبعية لبرتراند رَسِل في فلسفته، ولا رافضًا كل الرفض لها، إلا أنني مع ذلك أشعر برباط قوي بينه وبيني، وهو الدفاع الحارُّ الذي ينهض به رَسِل في سبيل حرية الفرد من كل طغيان؛ طغيان التقاليد الاجتماعية وطغيان الحكومات؛ فإني لأوشك أن أرى الصدق كل الصدق في دعوى «رَسِل» بأن النظم الاجتماعية والسياسية كلها — في أرجاء العالم أجمع وعلى اختلاف العصور — مؤامرة كبرى يُراد بها الحدُّ من حرية الفرد التي كان ينبغي أن تكون هي الأساس وهي المدار لكل نظام في اجتماع أو سياسة، وإن شئت فانظر في أي بلد من بلاد العالم إلى ما يسمُّونه «التربية» تجدها تسابقًا من الهيئات ذوات السلطان للاستيلاء على عقل الناشئ ومشاعره! واستمع إلى رجال «التربية» يسألون: ما الغاية من التربية؟ ثم يجيبون: هي إنتاج «المواطن الصالح». وصلاحية المواطن هي دائمًا — كما ينبهنا «رسل» — الموافقة على النظم القائمة، ويستحيل عندهم أن يكون معنى «الصلاحية» هو الثورة على تلك النظم، وإنه لمن العجب كما يقول رَسِل «أنه بينما تستهدف الحكومات جميعًا إخراج رجالٍ من طرازٍ يؤيد الأنظمة القائمة، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجالٌ من الطراز نفسه الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر».
وكذلك بيني وبين برتراند رَسِل رباطٌ آخر يقرِّبه من نفسي، هو تلك الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك والجدل، وربما قيل إن مثل هذه النزعة انقلابية هدامة خطيرة، وإن صاحبها يكون في شخصيته شبيهًا ﺑ «مفستوفوليس» شيطان فاوست، لكني أراها برغم ذلك ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغير الأوضاع الاجتماعية والأفكار والمعتقدات التي قد تتحجر على مر الزمن، فيظن الناس أن صلابتها تلك هي صلابة الصواب واستحالة الخطأ، إن أصحاب هذه النزعة هم دائمًا بمثابة الفدائيين الذين يتسللون إلى حصون العدو فيمهِّدون الطريق إلى دكِّها وتخريبها، والفرض هنا — بالطبع — هو أن ما يُراد دكُّه وتخريبه ومحوه، بناءٌ فاسد يستوجب التغيير والإصلاح.
وهكذا كان طه حسين فيما كتب يومئذٍ، وهكذا كنت حين تابعته بقلبي وبعقلي معًا.
•••
وفي تلك السنوات الأربع التي هي فترة الدراسة في المعلمين العليا، نشأت مجموعة الأصدقاء التي منها تكوَّن النسيج الاجتماعي الذي لبثت أتحرَّك بين لُحْمَتِه وسَدَاه حينًا طويلًا من الدهر، فهي المجموعة التي كان يُقاس إليها كم حقق أفرادها من النجاح ومن الفشل، مَنْ مِنْ هؤلاء الأفراد كان سابقًا ومن كان مسبوقًا. كانت تلك المجموعة الصغيرة التي لم يتجاوز عدد أفرادها عشرة، هي المناخ الاجتماعي الذي أتنفَّسه، بقدر ما كان في ذلك المناخ من نقاءٍ استنشقت الصحة، وبقدر ما كان منها من عكر استنشقت المرض. كانت من التجانس بحيث لا أغلو إذا قلت إنها إذا اجتمعت في مكان، جعلت لنفسها لغةً خاصةً يفهمها أفرادها ولا يفهمها سواهم، بما ملأت به تلك اللغة من إشاراتٍ مختصَرة إلى خبرةٍ مشترَكة ماضية، وأكاد أقرر كذلك بأن كانت لتلك المجموعة نكاتها الخاصة بها، تضحك لها وقد لا يضحك لها غيرها.
أما وقد مضى على تلك الصحبة ما يقرُب من نصف قرنٍ كامل، فإنني لأتساءل الآن عن الصفة أو الصفات المشتركة التي وحدَّت بينهم، ولا أجد الجواب عن هذا التساؤل حاضرًا مُيَسَّرًا؟ فهم بغير شك يختلفون فيما بينهم أبعَدَ اختلافٍ يَفْرِق بين إنسانٍ ولا إنسان؟ وليست أهدافهم في الحياة موحَّدةً ولا متقاربة؛ فمنهم من كان هدفه الصعود في مناصب التعليم ولا زيادة، ومنهم من كان هدفه تحصيل العلم ومع العلم تحصيل الشهادات الدالة عليه، ومنهم من كان هدفه جمع المال، هكذا تفرقت بهم السبل حتى لقد كان بعضهم يَسْخَر من أهداف بعض، لكنهم مع ذلك كانوا هم الصحبة الحميمة التي لم يكن ليستغنيَ أحدٌ منهم عن أحد!
ولعلَّ الرباط الوثيق الذي وحَّدَ بينهم جميعًا، وجعل بعضهم لبعضٍ رفيقًا أقرب رفيق، هو التواضع الاجتماعي الذي ينطوي بصاحبه على خُلَصَائه ولا يريد أن ينشر أجنحته عِرَاضًا على رقعةٍ أوسع؛ ولقد حدث خلال السنين أن تمرَّد مَن تمرَّد من تلك المجموعة على انطوائها الضيق فأخرجته المجموعة من حسابها أو أخرجها هو من حسابه، كما حدث خلال السنين كذلك أن أضيف إلى المجموعة من وجد بينه وبينها صلة القربى النفسية على أساس التواضع الاجتماعي الذي يؤدي إلى كثير من الانكماش والتخفي.
ولما كان هذا التواضع والانكماش والتخفي جذورًا راسخةً في نفسي — هكذا قال الأحدب ضاغطًا على حروف الكلمات ليؤكدها — فقد كانت تلك الصحبة أنسب مناخ عشت فيه على طبيعتي، فلم أكن في تلك المجموعة أقل من حقيقتي ولا أكبر من حقيقتي، ولئن باعدت بيننا السنون بعد ذلك، فلست أظنها قد استطاعت أن تمحو ما كان بيننا من صلة نفسية وثيقة، فيها الازدواجية العاطفية التي لا بُدَّ من وجودها بين الأصدقاء أو الأقرباء؛ وأعني بها ازدواجية التجاذب والتنافُر في آنٍ معًا.
كانت مجموعة من الأصدقاء، لكن كان بين أفرادها اختلافات بعيدة المدى؛ فمنهم من كان شديد الاهتمام بالحياة الثقافية — وكنت أنا واحدًا من هؤلاء — ومنهم من لم تكن له بالحياة الثقافية صلة، كأن تلك الحياة في وادٍ وحياته هو في وادٍ آخر، ولقد حدث لنا نحن الذين مالت بهم الرغبة نحو الحياة الثقافية، أن تنشأ لدينا فكرة الالتحاق بالصحافة نُشبِع فيها هوايتنا في أوقات فراغنا، وكنا بالفعل قد بدأنا نكتب مقالات أدبية في المجلات الأسبوعية، وهي مجلات كانت تكون يومئذٍ ركنًا هامًّا من أركان الثقافة؛ فمنها «السياسة الأسبوعية»، التي كانت تُصْدِرها جريدة السياسة المعبرة عن حزب الأحرار الدستوريين (وهم أقرب إلى من نسمِّيهم اليوم بحزب اليمين)، كما كان منها «البلاغ الأسبوعي» الذي كانت تُصدِره جريدة البلاغ الناطقة بلسان حزب الوفد، وهو حزب تقدُّمي بالنسبة إلى الأحرار الدستوريين.
وكان الأغلب على السياسة الأسبوعية أن تنقل عن الثقافة الفرنسية، كما كان يغلب على البلاغ الأسبوعي أن ينقل من الثقافة الإنجليزية، أو هكذا كان انطباعنا بحكم أن الأولى كانت تنشر لطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهما من الذين تلقَّوا العلم في السوربون، وأن الثانية كانت تنشر للعقاد الذي وإن لم يتلقَّ العلم في إنجلترا، إلا أن مصادره الرئيسية كانت من الأدب الإنجليزي.
بدأنا نحن نكتب المقالات في هاتين الصحيفتين، وأذكر أن أول مقالة كتبتها في حياتي الأدبية كانت تعليقًا على الأغاني التي شاعت في ذلك الحين وامتلأت أصواتها — ولا أقول كلماتها؛ لأنَّها كانت في بعض أجزائها أصواتًا بغير كلمات — أقول: إنَّ مقالتي الأولى كانت تعليقًا على تلك الأغاني التي امتلأت أصواتها بما يوحي بالدعارة؛ ونُشرت لي تلك المقالة الأولى في السياسة الأسبوعية سنة ١٩٢٧ فيما أذكر.
أقول: إنَّنا أحسسنا برغبةٍ قويةٍ في أن نتصل بالصحافة، أنا وأخي ومعنا ثلاثة من مجموعة الأصدقاء ذوي الهواية الأدبية، واتفقنا بادئ الأمر على تكوين جمعية أدبية تنمو مع الزمن، وأقمنا عليها من بيننا رئيسًا وسكرتيرًا وأمينًا للصندوق؛ أي إنه لم يبقَ مِنَّا إلا عُضوان فقط بغير ألقاب، كنت أنا أحدهما، وقررنا في أول جلسة من جلساتنا التي كنا نعقدها في منزل الرئيس، أن يكون الاشتراك الشهري عشرة قروش — وهو كل ما كُنَّا نستطيع الاستغناء عنه — كما قررنا أن نبدأ في تكوين مكتبة للجمعية تنمو هي الأخرى مع الزمن، وبدأنا بشراء كتاب كان قد صدر حديثًا وارتجَّت له الصحافة الأدبية، هو كتاب «عصر المأمون» للدكتور فريد الرفاعي، ثم ماذا؟ ثم حزمنا أمرنا ذات يوم، وصمَّمنا على أن نعرض أنفسنا للخدمة مجَّانًا في الصحيفة التي تقبل العرض.
وبدأنا بجريدة الأهرام، ودخلنا نحن الخمسة على رئيس التحرير، يقودنا رئيسنا ونتبعه في صف كأننا جماعة من الطلاب جيء بها أمام ناظر المدرسة مشكوَّة، ويُراد بها التحقيق فالعقاب، فكان هذا الدخول المتعثر المتخاذل الضعيف كفيلًا وحده بأن يوحي إلى رئيس التحرير بالرفض السريع: ماذا تريدون؟
– نحن جمعية أدبية تريد الاشتغال بالصحافة (وكان المتحدث هو الرئيس)، وهو أجرأنا في توجيه نظره نحو من يحدثه في غير خجل، ولا عجب أن كان هو الوحيد من مجموعة الأصدقاء كلها، الذي صعد فيما بعد إلى مناصب الوزارة أكثر من مرة، وعمل في منصب من أعلى المناصب في منظمة العمل التابعة لهيئة الأمم المتحدة لفترة دامت عدة سنين)، ونحن لا نريد أجرًا على عملنا — هكذا مضى رئيسنا في توجيه الخطاب إلى رئيس التحرير — وكل ما نريده هو أن يُؤذَن لنا بالاشتراك مع هيئة التحرير، نطيع ما نؤمر به، لتكون لنا بذلك فرصة للتدريب حتى إذا ما تخرجنا جعلنا الصحافة مهنتنا عن خبرة ودراية.
فقال رئيس التحرير في نغمة العطف، لكنها في الوقت نفسه نغمة المستخف بأحلام شباب نمر ساذج: أتمنى لكم التوفيق، لكن يحسُن أن تنصرفوا إلى دروسكم، وأن ترجئوا هذا الحديث إلى ما بعد التخرج.
أجاب رئيسنا: ولكننا لو تركنا أمورنا تجري مجراها الطبيعي، فقد يجرفنا التيار، ونشتغل بالتدريس الذي نُعَدُّ من أجله، مع أننا ذوو ميول أدبية واضحة، وربما ضاعت هذه الميول إذا نحن وأَدْناها في براعمها.
فأجاب رئيس التحرير بلهجة حاسمة: لا، لا، معاذ الله أن تفهم مني إنني أدعوكم إلى إهمال مواهبكم العظيمة، لكن صحيفة الأهرام تعتذر لأنها لا تستطيع قبول ما تعرضونه عليها.
وخرجنا من عنده صفًّا متعثِّرًا متخاذلًا ضعيفًا كما دخلنا، وكل ما هنالك من فرقٍ بين الحالتين، هو أن رئيسنا هذه المرة كان في مؤخرة القافلة، وما كدنا نخرج من دار الأهرام إلى الطريق حتى وقفنا قليلًا إلى جوار الجدار، ونظر بعضنا إلى بعض ثم انفجرنا ضاحكين، إلا الرئيس فلم يضحك، بل قال في عزم: هلمُّوا إلى صحيفة أخرى، تعالوا نذهب إلى جريدة السياسة.
وتبعناه إلى جريدة السياسة في شارع المبتديان، وطلبنا مقابلة رئيس التحرير، فلم يكن في مكتبه ذلك المساء، ولكنَّ أمرًا حدث لم نتوقعه؛ وذلك أن الدكتور حافظ عفيفي أرسل إلينا من يستوقفنا ونحن نهبط السلم خارجين، وعُدنا لنجده يستقبلنا استقبال الرائد للمسترشد، وأمر ففُتحت لنا الغرفة المقابلة لغرفة رئيس التحرير، ودخلناها لنجدها «صالونًا» فاخرًا فُرش كلُّه بالقطيفة الحمراء؛ بساط وستائر وكراسي وأرائك، وجلسنا على أطراف المقاعد، وجلس أمامنا حافظ عفيفي، فقال في صوت هادئ: ماذا تريدون؟
فأجاب رئيسنا: نحن جماعة أدبية … إلى آخر القصة.
قال حافظ عفيفي بصوته الهادئ: الدكتور هيكل غائب هذه الليلة، وسأرتِّب معه لقاءً بكم، لكني أحب أن أوجِّهكم منذ الآن بنصيحة: إن جريدة السياسة — كما أرجِّح — ستقبل تدريبكم كما تريدون، لكن فلتعلموا منذ الآن أن الصحافة لم تعُد كلامًا يُستقطع من رءوس الكُتَّاب بغير اطِّلاع ولا دراسة؛ فمهما يكن الموضوع الذي قد يَرِد على خواطركم لتكتبوا فيه، فسوف تجدونه موضوعًا قد سبقكم إلى الكتابة فيه من هو أعلم منكم وأوفى بحثًا ودراسة. وإذن، فالنصيحة الواحدة التي سأكتفي بها الآن هي: ألَّا كتابة بغير درس وقراءة تسبقها.
شكرناه على عطفه الأبويِّ، وانصرفنا على أن نعود في مثل هذا الوقت من الليلة التالية. ففعلنا، وكان الدكتور هيكل عندئذٍ في مكتبه، وكان قد سمع بأمرنا، فلم يسأل: ماذا تريدون؟ لأنه يعلم ما نريد، بل أخذ يوزِّعنا من فوره على أقسام الجريدة؛ فاذهب أنت إلى فلان في القسم الفلاني، واذهب أنت إلى فلان في الغرفة الفلانية، واذهب أنت إلى مصححي التجارب في المكان الفلاني … ثم أردف يقول: إن أماكنكم هذه ستتبدَّل مرة كل أسبوعين.
لكن الأسبوعين الأوَّلَين لم ينقضيا، حتى دعانا الدكتور هيكل لتناول الشاي ذات مساء في داره — وكانت عندئذٍ شقةً من عمارةٍ في جاردن سيتي — وقولوا ما شئتم عن مشاعر الغبطة التي ملأتنا. وذهبنا في الموعد لنستويَ بعد قليل إلى مائدة مُثْقَلَةٍ بأصناف الفطائر والفاكهة إلى جانب الشاي، وبدأ الدكتور هيكل حديثه معنا قائلًا: لقد فكرت في أفضل طريقة يُستفاد بها من ميولكم الأدبية، فوجدت أن تعاونوني على إخراج كتيِّبات صغيرة تُباع مع الصحف بأثمان رخيصة، كل كتيِّبٍ منها يبسِّط موضوعًا مما يتصل بتاريخنا وأدبنا، وبخاصةٍ القديم منها، حتى نذيع أصولنا الثقافية في أوسع دائرة ممكنة، وسأخصص لكلٍّ منكم موضوعًا، يجمع لي ما استطاع جمعه من مادة فيه ومهمتي أنا هي الإخراج والخلق والصياغة، فما رأيكم؟
– رأينا هو ما ترى.
وأذكر أن نصيبي في هذا التوزيع كان موضوع «سميراميس» كما ورد في الأساطير. وبعد عدة أسابيع من تجميع للمادة والتقاء مع الدكتور هيكل كلما تجمَّع لدينا من المادة ما يستحق العرض، صدر الكتيِّب الأول، ولا أذكر ماذا كان موضوعه.
وبِيعَ عند باعة الصحف، وكان أول همِّنا نحن أن نُسرع لنرى كيف وردَ ذِكْرنا في هذا المشروع، وأظن — لأني قد نسيت — أننا لم نُذْكَر بالاسم، بل وردت في المقدمة عبارة تنوِّه بجماعةٍ من الطلاب يعاونون في جمع المادة من المراجع. ولا أدري إن كان شعورنا بخيبة الأمل، أو كان اقتراب موعد الامتحان في آخر العام الدراسي، هو الذي حتَّم علينا أن ننفض أيدينا، وبذلك انتهى الأمر مؤقتًا؛ وأعني أن ذلك المشروع المعيَّن قد أخفق لساعته، وأما النشر الأدبي في الصحف فقد لبث قائمًا في صدري، حتى ألحَّ عليَّ آخِر الأمر فجعلته مدار عملي.
فرغ الأحدب من هذه الرواية الطويلة، وكأنما أحس بشيء من التعب، فأسند ظهره إلى مقعده، ونظر إليَّ نظرةً تكاد تسألني: ماذا تريد مني بعد ذلك؟
سألته: وماذا جرى للجمعية الأدبية بعدئذٍ؟
فقال: مات أمين الصندوق بعد بدء تكوينها بشهور قليلة، وانقطع بموته دفع الاشتراك، وأصبحت كما كانت في البداية مجموعة أفراد أصدقاء، ضمن المجموعة الأشمل، يلتقون حيثما تيسَّر لهم اللقاء … وأمَّا المكتبة التي أردنا تكوينها، فلم يدخلها إلا كتاب واحد، هو «عصر المأمون»، ولا أدري إلى أينا ذهب.
وبابتسامةٍ خفيفةٍ على شفتيه، استأنف الأحدب حديثه عن جماعة الأصدقاء في تلك السنوات الأربع من حياته، قال: لا تنسَ ما قلته لك، وهو أن تلك الجمعية الأدبية لم تكن تمثِّل بميولها الثقافية مجموعة الأصدقاء التي تحدثت عنها؛ فمن تلك المجموعة مَن كاد لا يعرف من معارف الدنيا حرفًا أكثر مما ورد في مذكراته التي يحفظها للامتحان؛ ومنهم من كان أقرب في ميوله إلى الفجور الذي لا يستحي؛ ومنهم من كان يُؤْثِر الخفاء في وسائل متعته؛ لكن جميعنا كان يحبُّ النكتة والمرح وحلقات السمر، والحقيقة أن تنوُّع ميولنا ذاك هو الذي ربط أطرافنا في مجموعة متجاذبة؛ لأن كلًّا منا كان لا بُدَّ واجدًا ما يُشبِع فطرته بكل أبعادها داخل تلك المجموعة النادرة من الأصدقاء.
ففضلًا عمَّا كان بين أفرادها من رباطٍ مشترك، هو كما قلت لك التواضع الاجتماعي، ممزوجًا بكثيرٍ جِدًّا من الفكاهة والمرح، حتى لقد كانوا يجعلون من أنفسهم موضوعًا لفكاهتهم بل موضوعًا لسخريتهم أحيانًا؛ أقول: إنه فضلًا عن تلك الصفات المشتركة بينهم، فقد كانت بينهم بعد ذلك فوارق شاسعة كما ذكرت لك، هذه التشكيلة العجيبة هي التي تكوَّن منها المحيط البشري المباشر الذي هو بمثابة المجتمع بكل ما يعطيه لأبنائه من حوافز ومن معوِّقات.
فقد كانت تلك السنوات الأربع (١٩٢٦–١٩٣٠) هي البوتقة الحقيقية التي صهرتنا بخيرها وشرِّها، وهي التي شكلتنا فيما نحن فيه؛ ففي تلك الفترة تجسَّدت لكلٍّ منا مُثُله العليا التي يريد احتذاءها، وقد كان مَثَلي الأعلى يومئذٍ مزيجًا من عدة عناصر، قد يسهُل التقاؤها معًا وقد يصعُب؛ فهو مَثَلٌ أعلى فيه جانِبُ الأستاذ الأكاديمي المتمكن من مادته، وهو جانبٌ انطبع في قرارة نفسي انعكاسًا لشخصية أستاذ التاريخ الحديث شفيق غربال؛ وفيه جانب الأديب صاحب الصوت المسموع والمواقف الثقافية الحاسمة، كما طبعني به الدكتور طه حسين؛ وفيه جانب الأديب المفكر المكافح الذي يدفعه الفهم العقلي إلى سكب ثقافات الأولين والآخرين — إذا استطاع — في ذات نفسه، كما كانت صورة العقاد عندي أيامها … فهل كان يسهُل لهذه الجوانب كلها أن تجتمع في شخصٍ واحدٍ ولو بمقادير متواضعة، شريطة أن تجتمع عند من يغلب عليه التواضع الاجتماعي، كما تغلب عليه الرغبة الشديدة في الانعزال والتخفي؟ لست أدري، لكن الذي أدريه هو أنني وجدت عُسرًا شديدًا في محاولة جمع هذه العناصر معًا، فكنت إذا حصَّلت شيئًا من جانب الأستاذ، أفْلَتَ مني جانب الأديب، وإذا تحقَّق لي جانب الأديب ضاع مني عنصر الأستاذ، وإذا تحقق لي شيء من هذا وذاك وجدت نفسي أقف على الطريق جامدًا لا أتحرك في دنيا الناس خطوة إلى أمام.
فهل عرفت يا صديقي سرَّ الشعور بالخذلان الذي أعاني منه حتى ظهرتْ آثاره على بدني؟ لقد رأيتك تسعى لاهثًا لكشف السرِّ، ولعلِّي قد أرحتك في كثيرٍ مما أردت أن تكشف عنه الستار.