حلم ليلة في منتصف الصيف
انقطعت صلتي بالأحدب لبضعة أسابيع، ولم تكن نفسي قد اطمأنت — كما ظن هو — بما رواه لي عن نفسه خلال الأربعة الأعوام التي قضاها في الدراسة العليا؛ لأن ما رواه لي لم يكن فيه ما يكفي لكشف السرِّ كله وراء حياته الانفعالية بما سبَّبَته له من علل.
ثم أسعفتني مصادفةٌ سعيدة؛ أخذت القطار إلى الإسكندرية ذات صباح من صيف، وجلست في مقعدي الذي أختاره لنفسي دائمًا ما وجدت إلى اختياره من سبيل؛ لأنه مقعد فرداني من جهة، ويتجه الجالس عليه مع سير القطار من جهة أخرى، وفضلًا عن ذلك فهو يواجه مقعدين يغلب أن يشغلهما زميلان فيتحدثان، فأتسلَّى باستراق السمع لما يقولان من جهة ثالثة.
ولم أكد أنشر صحيفة الصباح بين يديَّ قبل أن يتحرك القطار، حتى فوجئت بما لم أكن أتوقع حدوثه؛ وهو أن يكون شاغلَا المقعدين اللذين يواجهان مقعدي هما صديقي القديم فريد — صديق الشباب — وزوجته عفاف، وكنت لم أرَهما ولم أسمع عنهما منذ أمد طويل؛ فاضطربت لرؤيتهما؛ لأن اللقاء مباغت؛ فأَسقَطت عند قيامي لأسلِّم عليهما حقيبةً صغيرةً كان يرفعها فريد ليضعها على الرفِّ، ولبث ثلاثتنا يتحركون ويتكلمون في غير هدوء ولا انسجام، حتى لقد سددنا الطريق على المارة من المسافرين، وأخيرًا استوينا على مقاعدنا، لا ندري أين نبدأ الحديث ولا كيف نبدؤه بعد هذا الغياب الطويل الذي باعد بيننا بعد أن كان اجتماعنا المطرد المتكرر جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وقد كُنَّا نأنس أحدنا بالآخر أُنسًا، حتى ليقصد أحدنا إلى الآخر في كل صغيرة أو كبيرة من أحداث حياته، يُطلعه على خفايا نفسه وأزماتها، وعلى مشكلاته التي تنشأ في علاقاته مع سائر أفراد أسرته، أو مع أحدٍ من بقية الأصدقاء.
كنت أحسُّ دائمًا إذا ما تحدثت إلى فريد كأنني أحدث نفسي؛ لا أكتم سِرًّا ولا أدَّعي غير الحق؛ فلا أتظاهر بثراء لا وجود له، ولا بفقر أبشع من الفقر الذي كنت فيه، وذلك كله على الرغم من أن بين شخصيتينا خلافًا جوهريًّا؛ فهو يُعلِي العمل على الفكرة، وأنا أُعلي الفكرة على العمل، وهو يضحك من قلبه وأنا أضحك من وراء قلبي، وهو يحب الناس لأشخاصهم لا لآرائهم، وأنا أحب الناس لآرائهم لا لأشخاصهم؛ ولذلك فهو محدود في صداقاته بالناس الحقيقيين الذين يملئون عليه حياته؛ وأمَّا أنا فصداقاتي قد امتدت إلى المؤلفين وإلى الشخصيات الوهمية التي تحيا على صفحات القصص والمسرحيات، هو يريد من صديقه أن يبادله النكات وهما يشربان أقداح الشاي التي كان يصنعها بنفسه، لا يركن في صنعها إلى أحدٍ سواه، وأنا أريد من صديقي أن يجادلني في فكرة أو في مذهبٍ نظري؛ هو لا يميل إلى القراءة، ويكره الكتابة كراهية شديدة — ولعله كان يستطيعها إذا أراد — وأنا أميل إليهما معًا، وفوق هذا وهذا وذاك من بذور التباين بين الشخصيتين، أنه كان يبحث عن شريكة حياته بعد تخرُّجنا بقليل؛ لأنه لم يتصور حياته بغير زوجة وأبناء، وكان مدار بحثه عن الزوجة أن تكون من ذوات الثراء؛ وأمَّا أنا فقد كانت فكرة الزواج عندي أمرًا لا يَرِدُ على التصور، كما لا تَرِدُ فكرة الدائرة المربَّعة؛ إذ لم يكن التضادُّ بين نفسي وبين هذه الفكرة أقلَّ من التضادِّ بين التدوير والتربيع.
وكان صديقي فريد أثناء بحثه عن زوجة تناسبه، لا يفوته أن يجعل من البحث موضوع فكاهة نضحك لها كلما اجتمعنا؛ فقد كان أمسِ يزور أسرةً ليرى فتاةً مقترَحةً له، فيجيء اليوم ليروي لنا ما دار بينه وبين والديها، أو ما دار بينه وبينها من أحاديث، فنجد في روايته مواضع كثيرة تُثير الضحك إذا ما كانت الأسرة المقصودة أعلى مما ينبغي أو أخفَضَ مما ينبغي؛ ففي كلتا الحالتين نضحك على مفارقات الموقف؛ في الأولى يتظاهر بما ليس فيه، وفي الثانية يتظاهرون هم بما ليس فيهم.
تخرَّجنا — أنا وفريد وسائر الأصدقاء — في سنةٍ جفَّت فيها الضروع ويبست موارد الرزق، لا في مصر وحدها بل في أرجاء العالم أجمع، غنيِّه وفقيره على السواء؛ فنحن نعيش في عالم إذا انهارت به سوق المال في نيويورك تداعت لها الأسواق في لندن والقاهرة وطوكيو! قد يقع تجار المال هناك في خطأ، فينتج عن الخطأ ألَّا نجِد نحن الشباب في القاهرة وظيفةً واحدةً خالية! هكذا كانت الحال حين تخرَّجنا، أزمة اقتصادية طحنت الدنيا طحنًا، لكنها طحنتها بمعنًى يختلف عن أفاعيل أزمة اليوم؛ فاليوم تمتلئ أيدينا بالمال ولا نقوى على الشراء؛ وأمَّا يومها فقد تبخَّر المال كما يتبخر الماء في حَمَارَّة القيظ، وأصبح معلِّمُ المدرسة الإلزامية في قرى الريف، بجنيهاته الأربعة التي كانت راتبه الشهري يومئذٍ، أيسر حياةً وأكثر بحبوحة من مالِكِ الثلاثين فدَّانًا من الأرض أو الأربعين؛ ولذلك كان من الحوادث المألوفة أنه يبيع أصحاب الأرض أرضهم، فيشتريها أصحاب الجنيهات الأربعة.
في ذلك العام المُقْفِر تخرَّجنا، فكُنَّا كالسلعة البائرة تُشترى بالثمن القليل. كان الفرض هو أن نخرج للتدريس في مدارس الدولة، فإذا الدولة تُصدِر أوامرها — علينا وعلى كل يائس تخرَّج في ذلك العام — بألا تفتح أبواب الحكومة لعاملٍ واحدٍ جديد، فانتشرنا في الأرض نسعى؛ المدارس غير الحكومية تشتري بعضنا بأبخس الأجور، ومدارس الريف التي لم تكن تطمع في رجلٍ واحدٍ يحمل إجازةً عُليا، باتت تتلقى حملة الإجازات العليا ساعين إليها والعرق يتصبب على جباههم فتنتقي منهم مدارس الريف وتختار، والأعمال التي أُلِفَت أن تؤدَّى بأيدي كتبةٍ صغار، قصد إليها القاصدون من هؤلاء الكبار أو الذين ظنُّوا أنهم قد أصبحوا كِبارًا؛ وفي هذه السوق الكاسدة وجدت أنا رُكنًا في الريف، ووجد صديقي عملًا صغيرًا في دار الكتب بالقاهرة.
وكانت دار الكتب في القاهرة مزارًا أتردد عليه مِرارًا متلاحقةً منذ أيام الدراسة، فازدادت جاذبيةً بوجود صديقي بين العاملين فيها، ولقد كان يُيسِّر لي ما كان عسيرًا؛ فهنالك من الكتب ما لا يُعار إمَّا لنفاسته وإمَّا لخساسته، فكان يُهيئ لي ما كنت أريده من الصنفين! وقد تفهم ألا يُعار الكتاب لنفاسته خوفًا عليه من الضياع، ولكن ما هي تلك الكتب التي تخسُّ فلا تعار؟ أأقولها؟ نعم قلها؛ فهي «نفس»، وأنت في رواية لقصتها؛ فما خفيَ من سرِّها قد يكون أهمَّ مما ظهر من علنها، فهنالك كتب من أفحش الكتب عن الجنس، عرفها صديقي وعرَّفني بها وأعانني على استعارتها خُفْيةً لأنقل مادتها كما أريد، ولم يكن هنالك ما يمنع أن هذا الذي يستعير الفُحش سِرًّا، هو نفسه الذي يستعير كتب أفلاطون أو أرسطو علنًا، ويا ما أكثر ما تحويه النفس البشرية من عجائب ومتناقضات!
كنت أقول عن صديقي فريد إنَّه أخذ يبحث عن الزوجة الملائمة بعد تخرُّجنا بقليل، وكانت روحه المرحة تجعل من بحثه ذاك موضوعًا نتفكَّه به جميعًا إذا ما التقينا، ولكن هذا الهزل كله لم يلبث أن انتهى معه بجدِّ الزواج نفسه، وكانت الزوجة هي عفاف، ولقد كان الزوجان منذ تزوَّجا على بُعدٍ نفسيٍّ بعضَ الشيء أحدهما من الآخر؛ فهي تُدِلُّ عليه بفرقٍ في الثراء بين أسرتها وأسرته، وهو يتعاظم عليها بفرقٍ كبير بين ثقافته وثقافتها؛ فهي فتاةٌ وقف تعليمها في مدرسة فرنسية عند مرحلةٍ أوَّلية، ولكنها مع ذلك كانت من ذلك الصنف الذي يضع ألفاظًا فرنسيةً في حديثها، حتى مع من كانت تعلم أنهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة؟ وكان مُحالًا عليها ألا تدَع بعض الإشارات تتساقط في كلامها أو في سلوكها، لتَدُلَّ بها على أنها ليست كسائر النساء اللائي تلتقي بهن في زمرة أصدقاء زوجها وأقاربه.
أخذنا نتبادل الأخبار عن الأحداث التي لا بُدَّ أن تكون قد حدثت خلال السنوات الطويلة التي باعدت بيني وبين فريد، وفجأة سكت الكلام، وأردت أن أملأ فجوة السكوت، فقلت بلا مقدمات: إن مسألةً غريبةً تشغلني بسببٍ لا أدريه، فلأمرٍ ما شُغِلْت برجل عجيب قابلته صدفةً لكنه أثار اهتمامي الشديد بغرابة سلوكه وعمق لفتاته الفكرية، وبشذوذه عن المألوف في أشياء كثيرة، ويستحيل عليك أن تخطئه إذا ما رأيته وسط زحام الناس في الطريق؛ لأنه فريد …
فقاطعتني عفاف قائلةً وهي تضحك في نشوة طبيعية: صدقت، إنه شاذ وهو فريد (مُشيرة إلى اسم زوجها).
فقلت: لا، لست أقصد فريدنا هذا، فصاحبنا الشاذ ذاك اسمه رياض عطا.
قال فريد في اهتمام ظاهر عليه وعلى زوجته معًا: رياض عطا المدرس؟
قلت: لا أعلم ماذا يعمل، لم أجرؤ على سؤاله، بل إن اسمه نفسه لم أعرفه إلا بمصادفة عابرة، كل ما عرفته منه فيما يتصل بعمله هو أنه تخرَّج من مدرسة المعلمين العليا؛ لأنه قصَّ عليَّ طرفًا من حياته فيها.
قال فريد: أهو أحدب الظهر قليلًا؟
قلت: إنه أحدب الظهر كثيرًا لا قليلًا.
قال: لا بُدَّ أن يكون هو رياض عطا الذي تعنيه.
قلت: حدِّثني عنه ما استطعت.
قال، وكان قوله التقاء أسماعنا، حتى لقد مالت رءوسنا الثلاثة في وضعٍ يجعل منها مجموعةً تصلُحُ لرسم لوحةٍ يُطلَق عليها اسم «الرواية»؛ قال: روى لي صديقٌ كان مدرِّسًا بمدرسة أجا الابتدائية، قال: جاءنا مدرِّس جديد للغة الإنجليزية فلفت إليه الأنظار فور مجيئه، ولم تكن الأنظار لتلتفت إليه بكل قوَّتها كما فعلت لو كانت كل غرابته محصورة في تشويه ظهره بالقتب الذي يقوِّسه بعض الشيء، ولكن ما وجَّه إليه انتباهنا وانتباه الناس جميعًا، هو مسلكه في حياته الخاصة، الذي جعل منه إنسانًا متميِّزًا متفرِّدًا؛ فقد كان يلبس منظارًا ذا عدسة واحدة يضعها على عينه اليسرى، بغير إطار يحيط بها، وفي العدسة خيطٌ أسود يمتدُّ حتى يدور حول عنقه، وهي طريقة لم يكن أحدٌ منَّا قد أَلِفَها فيما شاهد فوق أعين الناس من مناظير، وقد حسبنا أول الأمر أن عينه اليمنى قد تحررت من المنظار لقوة إبصارها، لكننا عرفنا فيما بعد أنها عين لا رجاء فيها لأنها لا تُبصر، فآثر صاحبنا أن يقصر منظاره على العين الواحدة التي ترى، فلم يكن عجيبًا أن أسماه بعضنا بأبي نظارة، على الرغم من أن كثيرين غيره كانوا ممن يستخدمون المناظير.
سكن دارًا وحده، وكانت العادة بيننا أن يشترك أكثر من واحد في دار، ولبث أشهرًا طويلةً لا نكاد نسمع صوته محدِّثًا إلا وهو يُلقي دروسه على التلاميذ، وهي دروسٌ كان ينطق فيها كلمات اللغة الإنجليزية وجُمَلها بلسانٍ غير عربي يحاول به أن يقلِّد أصحاب اللغة التي يعلِّمها، فزاد هذا في غرابته، كأنما غرابته هذه كانت تتبدَّى إذا أخطأ السلوك وإذا أصاب؛ لأنه في كلتا الحالين كان ينحرف عن المألوف؛ وندخل حجرات الدراسة بعده لنرى ماذا كان يصنع لعلَّنا نقع على أشياء جديدة فيه نجعلها مدار التعليق، فنرى السبُّورة مزدانةً بالطباشير الملوَّن هنا وهناك؛ فكلمات يكتبها باللون الأحمر وأخرى يكتبها باللون الأزرق، فضلًا عن اللون الأبيض، بل نراه يكتب الكلمة الواحدة بعدَّة ألوان فنضحك ونخرج لننشر الخبر بين سائر الزملاء.
يدخل المدرسة صامتًا ويخرج منها صامتًا، ولعل صمته لم يبلغ حدَّه الأقصى مرةً كلما بلغه ذات مساء، حين سمع في حجرة المدرِّسين نبأً تدور به الألسنة بأن مُدرِّسًا جديدًا للغة العربية سيصل إلى المدينة في المساء، فأين عساه ينزل يا ترى؟ ومن ذا سيقابله في المحطة ليُئْوِيه في هذا البلد، سمع هذا فلم ينطق بكلمة، لكن — فيما علمنا بعدئذٍ — ذهب إلى المحطة في المساء، خشيةَ ألا يقابل المدرس القادم أحدًا فتأخذه الحيرة كما حدَث للأحدب نفسه ليلة وصوله، فلما لم يجد أحدًا هناك سواه، صمَّم على أن يضطلع بهذا الواجب، وأمعن النظر فيمن نزلوا من القطار، حتى اهتدى بالسليقة إلى شابٍ نزل ومعه حقيبةٌ وسلَّتان، وضعها أمامه وراح يتلفَّت، فاقترب منه الأحدب وسأله إن كان هو المدرس الجديد، ولمَّا علم من جوابه أنه هو سأله إن كان له مكان يبيت فيه، وعلم أن لا مكان، فدعاه إلى المبيت معه في منزله حتى يدبِّر أمره في الصباح، وعاونه على حمل أمتعته، وذهب كلاهما إلى الدار، ولم يكن بها إلا سرير واحد، فأنزل صاحبنا الأحدب اللحاف وفرشه على الأرض ورقد، تاركًا السرير للضيف.
كل هذا جميل، ولكن القبيح في الأمر هو أنه منذ قَبِل الضيف دعوته وهما في المحطة، ختم الأحدب على شفتيه بخاتم الصمت فلم ينطق بكلمة واحدة إلى ضيفه هذا الذي تبرَّع بمقابلته وبدعوته؛ ففي صمتٍ تامٍّ سارَا، وفي صمتٍ تامٍّ دخلا الدار، وفي صمتٍ تامٍّ أعدَّ الأحدب فراشه على الأرض، وفي صمتٍ تامٍّ قضى الليل، وفي صمتٍ تامٍّ استيقظ في الصباح وأعدَّ لضيفه الفطور، وارتدى ثيابه وخرج، وترك وراءه الضيف الغريب لا يدري ماذا يصنع بنفسه، حتى شهدناه وهو يلتقي بالأحدب في بهو المدرسة ليسلِّمه مفتاح منزله شاكرًا. ولقد روى لنا المدرس الجديد قصته هذه وهو في عجبٍ شديدٍ من هذا المُضيِّف الذي تطوَّع بالفضل، ثم سلك هذا السلوك الشاذَّ كأنما قد أحسَّ بالندم على الفضل الذي تطوَّع بأدائه مختارًا، وقل ما شئت فيما أحدثَتْه هذه القصة من دويٍّ في مجالسنا الخاصة؛ لأنها جاءت آيةً جديدةً تفسِّر غوامض هذا الرجل الفريد؛ فهو يؤدي الواجب أداءً كاملًا، ثم ينسحب مختفيًا عن الأنظار والأسماع.
الفردية هي طابع هذا الرجل؛ فهو لا يطمئن نفسًا إلا إذا تفرَّد واختلف عن غيره قليلًا أو كثيرًا؛ فقد حدث لنا ونحن ما نزال ندرس في المدرسة الابتدائية بمدينة أجا، أن زار البلد رئيس الوزراء، واستعدَّت الحكومة المحلية في المدينة بألوانٍ من الترحيب مما يطوف بالخيال وما لا يطوف، ومن ذلك أن أُعِدَّ سرادق فسيح ليحشد فيه الناس حشدًا كي يخطب فيهم القادم الكبير، وكان رئيس الوزراء عندئذٍ حاكمًا مستبدًّا ظفر بمنصبه كرهًا وغصبًا، وكان على الموظفين جميعًا، وعلى المدرسين بصفة خاصة، أن يذهبوا ليُرصُّوا على المقاعد مع سائر من يُرص من أبناء الإقليم، وذهبنا جماعةً واحدةً كما أُمِرنا أن نذهب، كأنما نحن قطيع من الغنم يسوقه الرَّاعي مجتمِعًا حتى لا تشرد منه غنمةٌ فتضلَّ الطَّريق؛ ذهبنا جماعةً واحدةً إلى السُّرادق، ومعنا الأحدب بنظارته ذات العدسة الواحدة على عينه اليسرى، وكان مقدَّرًا للمدرسين أن يجلسوا في صفوف خلفية، وفعلوا كما أُمروا إلا صاحبنا الأحدب فقد نَفَر كالقطِّ المفترس، وفي خطوات فسيحة مندفعة قصدَ إلى الصف الأول في السرادق حيث اتخذ مجلسه، فلما أن نبَّهه المنظِّمون أن ليس هذا موضعه رفض حتى أن يلتفت إليهم بنظره أو أن يُجيب، فحدثت حركة ملحوظة بين جماعة المنظِّمين ومعظمهم من ضباط الشرطة، حتى جاءوا له برئيسهم، فلم يعرف هذا إلا أن يخيِّره بين أمرين؛ فإما أن يجلس حيث يجلس زملاؤه، وإمَّا أن يأمر رجاله فيقذفوا به في الطريق، وهنا أخرج له الأحدب تذكرة الدعوة من جيبه، وقال إنه تلقَّى هذه الدعوة فجاء ملبِّيًا، ولم يكن بالدعوة ما يدلُّ على مكانٍ معيَّنٍ للجلوس؛ ولذلك فهو مُصِرٌّ على البقاء حيث هو، وليفعل صاحب الشرطة ما يشاء، فإن قذف به في الطريق كما توعَّده، فقد خدمه بذلك خدمةً سيشكره عليها؛ لأنه ترك مسرحية «حلم ليلة في منتصف الصيف» مقروءةً إلى نصفها، ولأنْ يُتمَّها خيرٌ له من أن يسمع ما جيء به ليسمعه، فاستشاط الضابط غضبًا وصمَّم أن يعلِّمه درسًا، بادئًا بأنْ نفَّذ ما قد توعَّد به، وأمر رجاله أنِ احملوه وارموا به خارج السرادق، لكن رجاله لم يجدوا من يحملونه؛ لأن صاحبنا الأحدب ترك مكانه وخرج، ولا أدري هل أصابه بعد ذلك سوء أو لم يُصِبه.
تفرُّدٌ عجيب في هذا الرجل كما وصفه لي صديقي الذي أنقل عنه روايته: هكذا استطرد فريد في روايته، ومضى يقول:
كان بين أخباره التي رواها لي صديقي عن الأحدب، أنَّ ناظر المدرسة قد استدعاه يومًا ليحدِّثه في أمر ابنه التلميذ، وكان ذلك الناظر موضع استخفافٍ من المدرسين لتفاهته وجهله، فلما أن ذهب إليه الأحدب شكا إليه الناظر ضعف ابنه في اللغة الإنجليزية ضعفًا يُلفِت النظر؛ لأنه عاجز عجزًا تامًّا عن أن يكتب كلمة واحدة صحيحة الحروف، فهلَّا تولَّاه الأحدب بعناية خاصة؟
قال الأحدب: وماذا تريدني أن أصنع لابنك هذا؟
قال الناظر: تُعَوِّده على كتابة الإملاء، وأنت الرجل «الفنِّيُّ» القدير.
وأنت تعرف — هكذا وجه فريد الكلام إليَّ قاطعًا بذلك مجرى روايته — أنت تعرف أن مدارس الريف لم تكن قبل ذلك قد شهدت المدرسين ذوي المؤهلات العليا؛ إذ كان المعلمون فيها يؤخذون من كلِّ صنف، ويكفي فيهم أنهم يقرءون ويكتبون ويلمُّون بمبادئ الحساب، قال فريد هذه الملاحظة العابرة، ثم عاد إلى روايته، وكانت قد وقفت عند الحوار الذي دار بين الأحدب وناظر المدرسة.
قال الأحدب وكأنه يمزح: علاج ابنك هو أن يلعب البنج بونج.
فأجاب الناظر في دهشة: يلعب البنج بونج ليصلح أخطاءه في الإملاء؟!
قال الأحدب: نعم.
قال الناظر ساخرًا: وكيف كان ذلك يا مولانا؟
أجاب الأحدب في شيء من التعالي وكأنه أراد أن يذكِّره بالفرق بينه وبينه: إن ابنك حين نطلب إليه هجاء كلمة تهجَّاها صحيحة، فإذا كتب أخطأ؛ وإذن فالضعف هو في العلاقة بين المخ وحركة اليد، وقد تنضبط هذه العلاقة بلعبة توثِّق الصلة بين مركز إصدار الأمر في مراكز المخ وأداة التنفيذ الحركي في الذراع واليد.
فبُهت الرجل لهذا «الفن» التربوي العجيب؛ ودارت الرواية في المدرسة كلها، وأصبحت من النوادر التي تُروى.
ولقد أثار ذلك الأحدب ضجةً حوله كادت تُودِي به في أول اشتغاله بالتدريس، وقصة ذلك أنه كان يكتب مقالات كثيرة في مجلةٍ أدبيةٍ كانت صدرت حديثًا في تلك الأيام، ولم يكن زملاؤه يتبعون ما يكتبه إلا عن طريق الإشاعة، حتى فوجئت المدرسة ذات يومٍ بخطابٍ من مدير التعليم في الإقليم، يطلب من ناظر المدرسة أن يحقِّق معه في شكوى رُفعت إليه من شيخٍ أزهريٍّ في المدينة. كان يُعرف باسم «الدكتور غراب»، وكان الشيخ قد أرفق بالشكوى عددًا من المجلة فيه مقالة للأستاذ رياض عطا هذا، وقد ورد في المقال رأيٌ عن أحد الفلاسفة بأن الله لم يكتمل وجوده بعدُ، ولكنه في طريق التكوين، وأنه ليس الصواب هو أن نقول إن الله قد كان، بل الصواب هو أن نقول إنه سيكون، لأن ذلك الفيلسوف المنقول عنه نصيرٌ لمذهب التطور على طريقته هو الخاصة، ولا يكون للتطور معنًى إلا إذا كان الكمال هو الغاية وليس هو البداية، وكلام كثير من هذا القبيل؛ فطلب المدير في خطابه أن يُسأل هذا المدرس إذا كان يقول كلامًا كهذا للتلاميذ.
وقد ارتعد ناظر المدرسة لهول الواقعة؛ ففي مدرسته مدرسٌ ملحِدٌ وهو لا يعلم! وأمَّا الأستاذ عطا فقد كان ثابت الجَنان ولم يزد في التحقيق على قوله: إن ناقل الكفر ليس بكافر، وأنه من البديهي أنه لا يقول كلامًا كهذا أمام تلاميذ مدرسةٍ ابتدائية، وأُرسِلَت إجابته إلى المدير، الذي أحال الأمر كله بدوره إلى القاضي الشرعي في مديرية الدقهلية، فأفتى بأن ليس على هذا المدرس لومٌ ما دام قد اعترف بأنه لا يأخذ بمثل هذا الرأي الذي ينقله، وبأنه لا يتحدث في موضوعات كهذه أمام التلاميذ.
لكن المسألة وإن تكن قد انتهى أمرها من حيث الإدارة والتحقيق، إلا أن نبأها سرعان ما انتشر في المدينة حتى على أفواه عامة الناس، وأخذوا يروون إشاعات من خلق أوهامهم، يَصِفون بها كيف أن الله يرسل لهذا الملحد نُذُره ليستقيم بعد ضلال؛ من ذلك أنه كان يسير ذات يوم في شارع السوق والهواء عاصف، فسقطت كتلة ضخمة من الخشب على بُعد قدم واحدة منه هاويةً من سطحٍ مرتفع، فما هو إلا أن شاع في الناس أن الله جلَّت قدرته قد أراد أن يتوعَّده هذه المرة، فإن لم يرتدع أنزل عليه شديد العقاب.
واتجهت الأنظار إلى الشيخ الدكتور غراب، لترى ماذا هو صانع بعد أن فسدت شكواه الأولى التي طلب فيها من مدير الإقليم أن يعزل المدرس لأنه خطر على أبنائهم، فأخذ صاحبنا الشيخ يترقب فرصة أخرى، وسرعان ما سنحت؛ وذلك أن المدرسة قد أعدت للبلد برنامجًا ثقافيًّا يُلقِي فيه مدرسو المدرسة محاضراتٍ عامة، وكان أن اختار الأستاذ رياض عطا موضوع الأحلام وتفسيرها على الطريقة العلمية الجديدة، قائلًا للناس إنها لا شأن لها بالغيب، وأنها تعكس الماضي ولا تُصوِّر المستقبل إلا باعتباره امتدادًا للماضي، مختتمًا محاضرته بقوله: «فإذا كنت قد هدمت لكم عقيدةً راسخةً من نبوءة الأحلام؛ فليس الذنب ذنبي أنا، ولكنه ذنب العلم الحديث.» وكان الدكتور غراب من الحاضرين، فلم يلبث أن أقامها حربًا عنيفةً على هذا الذي جاء «ليهدم العقيدة الراسخة» على حد قوله. وبدأت الحرب أن نهض فورًا ليسأل المُحاضِر: وماذا تقول في تأويل الأحلام على لسان سيدنا يوسف عليه السلام؟ فأجابه المُحاضِر على البديهة: لو كان مثل هذا التأويل في وسع الناس كافة، لما عُدَّ معجزةً لنبيٍّ من أنبياء الله. لكن هذه الأمور في مثل هذه الظروف لا تسير بالحُجَّة، بل تسير بصرخات الانفعال، وهذا هو ما كان يومئذٍ؛ مما أوقف رياض عطا بعد ذلك موقفًا فيه الشهرة وفيه الخطورة في آنٍ معًا.
ولست أدري ماذا كان شعوره الداخلي إزاء هذا كله؛ لأنه لم يكن يخالطنا بما يكفينا لنعلم دخيلة نفسه، ولم يمضِ بعدئذٍ أسبوع واحد، حتى فاجأنا بغرابة جديدة.
فقد كان التلاميذ يجتمعون ساعة الغداء تحت سقيفةٍ كبيرة في فناء المدرسة، وكان كلٌّ منهم يجيء ومعه غداؤه منذ الصباح؛ ومعظم التلاميذ من القرى المحيطة بالمدينة؛ فثيابهم — كما تعلم — عنوان الفقر كله والبؤس كله، وكذلك طعامهم الذي كانوا يصرُّونه في مناديلهم القذرة إلى أن تحلَّ ساعة الغداء، وإذا بصاحبنا يذهب إلى تلك السقيفة ذات يوم، والأولاد مجتمعون على غدائهم، فيقف أمامهم صامتًا ينقِّل فيهم عينيه، ثم يبدأ لهم في درسٍ يعلِّمهم به كيف يجعلون ثيابهم أقرب إلى الذوق الجميل، وطعامهم أدنى إلى قواعد الصحة؛ وقد خرجنا نحن المدرسين من حجرتنا «لنتفرج» على هذا «الإمام الواعظ» ماذا يقول لأطفالٍ صغار ينوء أهلوهم تحت فقرٍ فظيع وجهلٍ أفظع، فكانت أول عبارة سمعتها قوله: «فلا تختر ملابسك من ذوات الألوان الفاقعة، ولا تجعلها ظاهرة الخطوط …» إلى آخر هذه القواعد التي تفترض أن الطفل السامع في وسعه أن يختار بين ألوان وألوان، وبين خطوط وخطوط، كأنه لم يعلم أنَّ سامعيه كانوا من فقر آبائهم بحيث لا يكون في الأمر اختيار بين ثوب وثوب وبين طعام وطعام.
لكنه التعليق بالمثل العليا — والحق يُقال عن هذا الرجل — هو الذي أظهره في صورة الشاذ الحالم؛ إنه يتمنى الأمنية ثم يُحاول تحقيقها فيوفَّق حينًا ويعجز أحيانًا، فيأخذه البأس لعجزه أكثر مما يأخذه السرور لتوفيقه.
لم يكن كثير الذهاب إلى المقهى عندما جاءنا مدرِّسًا ناشئًا، وكان في البلد شِبْه نادٍ يرتاده الموظفون عادةً، فقصد إليه وحده ساعة العصر من يومٍ قارص البرودة، وأراد أن يأوي من المكان إلى ركنٍ دافئ، ففتح بابًا مغلقًا ليجد نفسه في غرفة خالية إلا من قطع الأثاث التي تبدو للرائي على الفور أنها أُعِدَّت لفئة ممتازة من المرتادين، ولم يُتعِب نفسه بالتأويل والتفسير وبالسؤال والجواب، فحسْبُه أن وجدها غرفةً نظيفةً تحقِّق له الهدوء والخلوة، وما هو إلا أن جاءه المناول — وكان يونانيًّا — وشيءٌ من الفزع على وجهه، ففاجأه الأحدب بطلب فنجان من القهوة.
ذهب المناول وعاد ومعه القهوة ويصحبه رجل آخر لعله صاحب المقهى، وحاول الاثنان حمل صاحبنا على العدول عن الجلوس في تلك الغرفة الخاصة، قائلين له إنه لا مانع من أن يشرب قهوته هناك، أمَّا بعد ذلك فالأفضل له أن يجلس حيث الناس كثيرون.
لم يُلْقِ لهما بالًا، وأخرج من جيب سُترته كتابًا صغيرًا، وراح يقرأ كأن لم يكن واقفًا إلى جانبه أحد.
ولبث هناك نحو ساعة، والباب مغلق عليه وحده، وإذا بالباب يُفتح فجأة وبعنفٍ شديد بيد رجل ضخم دخل الغرفة وهو يضحك بأعلى صوت تستطيع أن تُخرجه حنجرة بشرية، ووراءه اثنان يضحكان معه في صوتٍ خفيض كأنهما أرادا أن يكونا بمثابة البطانة الضاحكة التي تحيط بضحك الزعيم لتُبرِزه؛ لكنَّ ذلك العِجل البشري الهادر المنقضَّ على الهواء أمامه كأنه يريد أن يبتلعه كله في جوفه الكبير، ما كاد يخطو بإحدى قدميه داخل الغرفة حتى رأى صديقنا الأحدب يفرد منظاره على عينه اليسرى، وقد جلس في ركن الغرفة يقرأ، لا يحرِّك ساقًا ولا ذراعًا، ولا يُخرج عينه من وراء صفحات الكتاب.
وقف الثلاثة لحظةً، راح العِجل البرِّيُّ خلالها يلفظ من فمه خُوارًا غير مفهوم، ثم صفَّق بكفيه تصفيقًا مدوِّيًا، جاء على إثره المناول اليوناني يهرول.
– ما هذا؟ أيُباح للجمهور استخدام غرفتنا؟
وخرج الثلاثة ولم يعودوا، ومنذ تلك الليلة أصبحت الغرفة الخاصة غرفةً للمدرسين؛ فقد سمعوا بالخبر وهم في بهو المقهى، وجاءوا فجلسوا مع الأحدب يشدُّون أزره ويؤيدونه؛ أمَّا الأحدب فلم يكن يعنيه ذلك؛ لأن ارتياد المقهى لم يكن جزءًا من حياته؛ وأمَّا رجال «الحكومة» فلم يعد أحد يراهم هناك، وقيل إنهم اتفقوا على أن يجعلوا من بيت وكيل النيابة الأعزب مقرًّا جديدًا لهم.
•••
سمعت هذه الرواية عن الأحدب أيام شبابه، فكنت كمن يصحو من حلم، يختلط عليه الأمر بين ما يراه ويسمعه في دنيا الواقع من قوله، وبين أشياء مرَّت به في الحلم! وذلك أني كنت وأنا أُنصِت في القطار لما يقصُّ عليَّ صديقي فريد، أحسُّ إحساسًا غامضًا بأن تلك الأحداث كلها وتلك الأحاديث كلها إنما حدث لي مثلها وتحدثت بما يشبهها، وإن في ذلك لسرًّا غامضًا لم أتبين حقيقته إلى يومي هذا.
نعم إن بيني وبين الأحدب من أوجه الشبه شيئًا كثيرًا، لكن أوجه الشبه بين رجلين لا تجعلهما رجلًا واحدًا، أو هكذا ظننت عندئذٍ، فحسب هذا التشابه بيننا أن يفسر لي هذا التجاذب الشديد الذي صادق بيننا إلى الحد الذي يجعل كلًّا مِنَّا يفرح بلقاء الآخر ويسعى إليه، أمَّا أن يشتد إلى درجة الهُوِيَّة بين شخصينا فذلك هو موضع العجب، ومع ذلك فهو تشابهٌ يجاذبه اختلافٌ بعيد يفرق بين مزاجه ومزاجي.
كلانا بدأ حياته مُدرِّسًا، وكلانا سلخ أعوام شبابه عزبًا، ولكلينا ولعٌ خاصٌّ بالثقافة من إحدى زواياها؛ فهو مثلي يتتبع المذاهب الفكرية العامة في الفلسفة والنقد، وفي الفن وفي السياسة وفي الاجتماع، تتبعًا يجنح نحو التجريد في الفكرة والبعد بها عن التطبيق؛ ولذلك فنحن كلانا نبرع في الجدل النظري، بقدر ما نعجز عن التماس طريقنا في الحياة العملية، وإن يكن الأحدب بعد هذا التشابه بيني وبينه يعود فيختلف عني في درجة والولوغ والإيغال في عالم الثقافة هذا، ويتسع هذا الاختلاف بيننا حتى يشمل طريقة النظر إلى الحياة؛ فهو سوداوي المزاج قلِقٌ متشائم ثائرٌ على الأوضاع كلها كيفما وجدها، فلا يُرضيه أن يكون الأبيض أبيض ولا الأسود أسود، وقد انعكست هذه النظرة على طريقة معاملته للناس، وها أنا ذا قد وجدته في عزلته لا يكاد يعرف أحدًا أو يعرفه أحد، وفوق هذا كله فهو يدسُّ في خفايا نفسه شعورًا بالنقص ما يفتأ يستفحل أمره معه فيؤثر على سلوكه تأثيرًا صريحًا واضحًا، على حين أني — برغم ما بيني وبينه من تماثُلٍ في كثير من الوجوه — قد لا أكون راضيًا عن بعض الأمور فأكتم السخط لأُظهر الرضا، وأمجد الغيظ لأبدو هادئًا، وأقيم الثورة في جوانحي لأستسلم للأمر الواقع، فلئن كان الأحدب يترك زمامه لدفعات الهوى، فإني كثيرًا ما ألجم الأهواء بشكيمة العقل.
بلغ بنا القطار غايتنا وغايته — مدينة الإسكندرية — وتفرَّقت بيني وبين صديقي فريد وزوجته سُبُل الطريق، وكُنَّا لم نزل في أول الضحى، فأخذت طريقي إلى شاطئ البحر لأُمضي سويعات انتظار لموعدي هناك، فجاءت جلستي أمام البحر في الكازينو الذي كاد ساعتها أن يخلو من زبائنه؛ أقول إن جلستي تلك قد جاءت فرصةً مناسبةً أتأمل فيها هذا اللغز النفسي العجيب، وهو أن أسمع روايات تُروى أمامي عن الأحدب في بدء حياته العملية، فإذا هي روايات تحدِّث في نفسي شيئًا كرجع الصدى، وكأنما هي ذكريات من شبابي لا قصص تُروى عن شخص آخر.
لكن الله قد أراد لذلك اللغز أن يزداد إلغازًا بدل أن يجد شعاع الضوء الذي يفك طلاسمه، وذلك أن صوتًا جاء يناديني من الخلف، هو بذاته صوت الأحدب كما عهدته؛ فالتفتُّ ورائي دَهِشًا، لأرى صديقًا لم أتوقع قطُّ أن أراه؛ لأنني كنت ظننته قد غادر البلاد في بعثةٍ دراسية، فما إن جلس وألقيت عليه السؤال حتى أفهمني حقيقة موقفه، وهي أنه إنما تعذَّر عليه السفر كما تعذر على سواه في تلك الأيام السود، فصمَّم على أن يعوِّض ما فاته بدراسةٍ يؤديها هنا بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما زالت عن العالم غمَّته وسنحت فرصة السفر إلى أوروبا مرةً أخرى. كان قد قطع شوطًا على الطريق يُدْنِيه من غايته.
كنت أعرف في صديقي هذا — واسمه إبراهيم — منذ أيام الدراسة تعدُّد المواهب والقدرة على خلق المبتكَر، حتى ولو كان ذلك المبتكَر الذي يخلقه شيئًا لا نفع فيه؛ وكان يتميز دون سائر الزملاء بجمال الخط ودقَّة الرسم ونظافته؛ ولذلك كان يبحث عن العمل الذي يتطلب الكتابة والرسم، ليتمكن من عرض خطه الجميل ورسمه الدقيق النظيف، حتى لو كان هذا العمل لسواه لا لنفسه، لقد كان هذا الصديق قوي الخيال في غير منهجية واضحة تنظم ذلك الخيال ليجيء خيالًا منتجًا بنَّاءً؛ فهو خيال أقرب إلى خيال الأطفال حين يصوِّر لهم الوهم أن العصا بين أرجلهم حصان أو قطار.
لكن ذلك الخيال القويَّ عند صديقي، قد كان من خصائصه النافعة — من جهة أخرى — أن يصوِّر له الغايات قبل وقوعها تصويرًا ناصعًا، حتى ليظن هو أن تلك الغايات المأمولة قد باتت واقعًا محسوسًا، ومثل هذا التصوُّر الناصع للغايات، من شأنه أن يحفِّز صاحبه على العمل؛ لأنه يُخرج الأمل من دنيا الأحلام ليُدخله في دنيا الحقائق.
وبهذا التصور القوي للغايات المرجوَّة البعيدة، رسم صديقي إبراهيم لنفسه خطة دراسته التي يستعد بها انتظارًا للفرصة إذا سنحت للسفر، ولمَّا قابلته كان بالفعل قد قطع شوطًا لا بأس به من الطريق، ظفر فيه بشهادتين من جامعة لندن: الشهادة الأولى، والشهادة الوسطى، ولم يكن قد بقي له إلا شهادة الختام، وأخذ يشرح لي بشيء من التفصيل ماذا قرأ وفي أي اتجاهٍ يسير، وأين اجتاز الامتحان؛ وعلمت مما رواه لي أنَّ سَيْره يتجه به في طريق الدراسة الفلسفية، وأن امتحانه للشهادة الأولى كان في مدينة القدس قبل محنة القدس بعشرات السنين؛ لأن جامعة لندن لم تكن بعدُ قد جعلت القاهرة مركزًا لنشاطها الخارجي؛ وأمَّا امتحان الشهادة الوسطى فقد كان في القاهرة.
سألته قائلًا: لكن لماذا تبدأ الشوط من أوله، ودرجة الليسانس التي بين يديك تُعفيك من بعض المراحل؟
فأجابني: أردت أن أجعل طريق السير متجانسًا ومتكاملًا، وفيمَ العجلة؟! إنني أستهدف الدراسة نفسها بقدر ما أستهدف الشهادات، وقل إن المسألة كلها فيها من التسلية العلمية مقدار ما فيها من جدِّيَّة الأهداف.
لم يُدهشني اختياره للدراسة الفلسفية؛ لأنني كنت أعلم أن له فيها ماضيًا مليئًا بالجهود الممزوجة بالحب الشديد؛ وهل أنسى أننا حتى ونحن في أيام الدراسة كُنَّا قد لحظنا فيه هذا الميل بوضوح، فأطلقنا عليه اسم «سقراط». وأذكر أني سألته ذات يومٍ منذ زمن بعيد: ما الذي مال بك نحو الفلسفة بكل هذا الحب؟ فأجابني بأنها المصادفة البحتة هي التي أوقعته على كتاب إنجليزي صغير عن الفلاسفة الثلاثة الكبار: سقراط وأفلاطون وأرسطو، فلَّما قرأه كان كمن كشف عن نفسه الغطاء؛ إذ أحس أن مثل هذه المادة العقلية هو ما خُلق من أجله؟ فإذا كان «شَنٌّ» — في المثل العربي القديم — قد وافق «طَبَقَةَ»، فكذلك قد وافقتِ الفلسفة طبيعتي. ولعله منذ تلك اللحظة لم يَحِد عن الطريق.
•••
أقول: إن لغز العلاقة بيني وبين الأحدب قد ازداد إلغازًا حين قابلت إبراهيم على شاطئ البحر؛ فمنذ سمعت صوته يناديني بنبرةٍ هي نفسها نبرة الصوت عند الأحدب، ثم حين جلس معي يوجز لي جهوده الدراسية التي اضطلع بها من تلقاء نفسه بعد التخرج، وجدت هذا الشعور العجيب يملؤني؛ فمُحالٌ ألا تكون هنالك علاقة لا يعلم حقيقتها إلا علَّام الغيوب بيني وبين الأحدب، ثم بيننا وبين إبراهيم؛ فلقد أحسست كأننا ثلاثة أعضاء من كيانٍ عضويٍّ واحد؛ أسمع عن الأحدب أخباره فأحب أن أسترجع أخبار الماضي الذي عشته، ثم يتحدث إليَّ إبراهيم عن جهوده فيُخيَّل إليَّ أنه إنما يذكِّرني بنفسي، فمن أين جاء هذا الخلط العجيب بين أشخاصنا الثلاثة؟
تركني إبراهيم لأُرسِل بصري إلى الأفق البعيد، مسترجعًا لنفسي شريط الأحداث كما وقعت لي بعد التخرج من مدرسة المعلمين العليا، فإذا المشهد أمامي ينشقُّ إلى ثلاثة فروع تنبثق كلها من أروقة واحدة؛ ولا فرق عندي بين أن يكون هذا هو الماضي كما وقعت بالفعل، وبين أن يكون من خلق أوهامي، وحسبي أنها صورة صحيحة في أساسها وفروعها.
فلقد توهَّمت حين أرسلت البصر إلى الأفق البعيد أن أمامي ثلاثة رجال، سار كلٌّ منهم في طريق، لكن الطرق الثلاثة كانت تلتقي عند رأسٍ واحد، فهنا رجل إلى اليسار قد أخذ في مشيةٍ متعثرةٍ خفيفة الخطى، تقوَّس ظهره وكأنه الأحدب الذي عرفته، يتلفت يَمْنَة ويَسْرَة كأنه العصفور المذعور يخشى هجمة العقاب المفترس، وهناك رجلٌ آخر إلى اليمين قد سبق بخياله مواقع قدميه، ونظر إلى بعيدٍ فمرت الدنيا تحت أنفه وهو لا يراها لأنه انشغل بغده عن يومه، تبيَّن الرجلين ثالثٌ قيَّده الأمر الواقع بقيوده، فسار وكأنْ لم يكن أمامه أفقٌ بعيد يرسل إليه البصر، وكأن لم يكن بعد يومه غدٌ يرتجيه.
وكان لكلٍ من الرجال الثلاثة نشاطه الخاص؛ الأول مدفوع بغرائز الفطرة، وكانت فيه بذور الأديب والفنان؟ والثاني طموح، وجد نفسه يسكن الطابق الأرضي الذي لم يكن فوقه طابق يعلوه، فأراد أن يقيم بيديه الطوابق العليا واحدًا فوق الآخر ليصعد إلى هواء نقي نظيف؟ وأمَّا الثالث فهو يعمل كسبًا للقوت، راضيًا بما قسمه له خالقه من دنياه، أو لعله ركن إلى جناحيه الأيسر والأيمن ليُكملا له جوانب النقص؛ فالأيسر منهما يطير بنا في دنيا العاطفة حتى ولو كانت هوجاء عمياء، والأيمن منهما يبني بالعقل الصرف صرحًا هو في حاجة إلى بنائه لتعلو به مدارج الإدراك وإن لم يتبع ذلك علوٌّ في مدارج الحياة؛ فقل إنهم ثلاثة رجال، أو قل إنهم رجل واحد في ثلاثة شخوص؛ فالقولان سيَّان.
ولقد جاءت هذه الخواطر بصورة الأحدب إلى صفحة ذهني، فوجدتُني مشوقًا إلى لقائه، ولم أُضيِّع دقيقةً من وقتي بعد أن فرغت من مهمتي التي من أجلها ذهبت إلى الإسكندرية، وعُدت مسرعًا، وقصدت إلى مسكنه فور وصولي إلى القاهرة، كنت أصعد سلَّم داره، لافتًا وجهي إلى أعلى إبَّان الصعود؛ وقبل أن أبلغ من «السلالم» نصفها، سمعت وقع قدميه هابطًا، ولمحت أطراف سراويله، فوقفت حيث كنت، قَدَمٌ أعلى وقدَمٌ أدنى، ويدٌ ممسكة بالحاجز الخشبي.
رآني فأسرع الهبوط حتى كاد ينكفئ على وجهه، ولقيني والبِشْر يملؤه على نحوٍ لا عهد لي به.
قال: أهلًا، أين كنت؟ لقد طال غيابك عني، مع أن لديَّ من المفاجآت ما أردت أن أحدِّثك عنه.
قلت: مفاجآت في حياتك أنت؟!
قال: في حياة من تريد؟! لقد وجدتها بعد كلِّ هذه الأعوام الطوال.
قلت: وجدت من؟
قال: وجدت مَن فَتَحَتْ لي بابتسامتها المُنادِية مصاريع العالم المسحور.
قلت: … وبعينها التي تدعو؟
كنت ما أزال أقف على السلَّم بقدمٍ على درجةٍ أعلى والأخرى على درجةٍ أسفل، ويد ممسكة بالحاجز الخشبي، ولم أكد أنطق بهذه الجملة الأخيرة التي استعدْتُها من مذكراته التي كان أعطاني إياها لأقرأها عن حياته إبان المراهقة؛ أقول: إني لم أكد أنطق بهذه الجملة حتى سبح بنظرته قليلًا، في مزيجٍ من الدهشة ومحاولة التذكر، لكن سرعان ما عاد إليَّ بوعيه، قائلًا إن القصة طويلة، والموعد قد دنا؛ فهيَّا معي، وسأحدِّثك عن الأمر في الطريق.
وأخذنا ننزل الدَّرَج معًا، وسألته ونحن نازلان: موعد مع مَن؟
قال: مع سميرة وزوجها؛ لكنك لا تعرف بعدُ من سميرة هذه.
وهنا كُنَّا قد خرجنا من الباب إلى الطريق، ومال بنا نحو اليمين، وهو اتجاه يضاد الاتجاه المؤدي إلى مكان اعتزاله الذي يأوي إليه بعد الغروب من كل مساء، وأذن فقد حدث ما غيَّره من نقيضٍ إلى نقيض، فما ذاك يا ترى؟ أتكون سميرة هذه هي الشيطانة التي ألهبت جوانحه ذات يوم من شهر الصيام، وهو لم يزل على عتبة الشباب؟
على أننا ما كِدنا نستوي على الطريق — وكان مزدحمًا بالمارة ازدحامًا شديدًا، حتى لقد كنت أنا والأحدب كثيرًا ما ينفصل أحدنا عن الآخر في الزحام ثم نعود فنلتقي — ما كدنا نستوي على الطريق حتى أخذ يقصُّ عليَّ في نشوة الطفل الفرِح المغتبِط بقصةٍ يرويها لأبيه عن مَرَدة الجن، كيف ذهب ذات مساء — أثناء غيبتي بالإسكندرية — إلى كازينو الشاطئ، ولم يكن يعلم أنه غاصٌّ بمرتاديه إلى ذلك الحد الذي رآه، وبحكم عادته في إيثار العزلة، اختار منضدة على الطرف الأقصى حيث يقلُّ المرتادون، وبينما هو يتهيأ للجلوس، إذا بالرجل والمرأة الجالسَين على المنضدة المجاورة يتلفتان إليه تلفُّت من يحاول التذكر، وأما هو فإزاء هذا التطلُّع منهما فقد جلس ونصف ظهره إليهما، حتى يحرمهما من رؤية وجهه رؤيةً واضحة، وفي الوقت نفسه لا يُحْرَم هو إرسال بصره تجاه النيل، لكنه سرعان ما تذكَّر أنه بهذا الوضع إنما يعرض عليهما تشويه ظهره، فاستدار ليجلس مستقيمًا، وجهه إلى النيل، وصفحة وجهه اليمنى إلى الجالسين بجواره.
لم يكن التطلع مقصورًا على ذَيْنِك الجارَين، لكنه ما لبث أن امتدَّ إليه، برغم ادعائه لنفسه أنه حبيس أنفاسه، مُكْتَفٍ بذاته، يحيط نفسه بأسوارٍ من وهمه حتى لا ينفذ أحدٌ إلى حصنه، يقول لي الأحدب وهو يروي قصته — ونحن ما نزال نشق طريقنا في الزحام، وكثيرًا ما قطع الزحامُ حديثَه عند كلمةٍ في سياق الرواية، فيعود لاهثًا ليكمل الحديث حيث انقطع، وكان الأحدب أقصر مني بمقدار ما احدودب ظهره؛ ولذا فقد كان يضطر أن يشرئب بعنقه نحو مسمعي؛ يقول لي الأحدب وهو يروي قصته، إنه — بدوره — قد أخذ يتطلع خلسةً، فكان كلما وجَّه النظر إليهما، وجدهما ناظرَين إليه بأعينٍ غامضة، فيعود منسحبًا بنظرته كأنما يريد أن يُخفي عنهما أنه هو كذلك ينظر.
ثم ما هو إلا أن هتف في دخيلة نفسه هاتف ارتجَّ له قلبه بنبضةٍ قوية كأنها جاءت نبضة زائدة على مجرى النبض المعتاد؛ ذلك أنه تذكَّر مؤخَّرًا — كالصدى يجيء بعد النطق — أنه بنظرته الأخيرة إليهما قد لمح في المرأة سِنَّة أمامية لها بروزٌ خفيف وتفصلها عن السِّنَّة المجاورة فجوة صغيرة، ولم يكن قد تنبَّه إلى شيء إذ هو ينظر إليها نظرته الخاطفة، فما إن اعتدل في جلسته حتى جاءه الهاتف يهتف بل يصيح: أتكون هي؟
واستطرد الأحدب يقول لي كيف أنه أعاد النظر بلفتةٍ حادَّةٍ سريعةٍ جاءت رغم أنفه، فإذا هما يقطعان باليقين ما كان عندهما موضع شك، ونادت المرأة بصوت أبحَّ: رياض!
فاندفع الأحدب إليها كالمجنون: سميرة! هذا مستحيل، هذا مستحيل! ومختار!
وكان بين الثلاثة ما يكون بين الأحبَّاء ضربت الأيام بينهم حينًا طويلًا، ثم لاقت بينهم على غير انتظار منهم، ولو انتظروا لَمَا تحقَّق لهم مثل هذا اللقاء، لكنها الأيام وحبُّها للمباغتة تفاجئ بها الناس، ليعلموا أن وراء تدبيرهم الضيق تدبيرًا أوسع وأعمَّ.
كانت سميرة ومختار متقاربَين في العمر مع الأحدب؛ أمَّا هي فأعوامها لم تزدها — في عين الأحدب — إلا نُضجًا أنثويًّا؛ فالشفتان المليئتان بعض الشيء ما زالتا — في عينه — تناديان، والعينان العميقتان المتلألئتان الضاحكتان ما زالتا تدعوان، والبشرة ما زالت على صفائها القديم، والصوت الأبحُّ قليلًا ما زال يُثيره، وكأن شعراتها البيض لم تفعل سوى أن زادتها إشراقًا على إشراق، وملاحة على ملاحة، فإذا وُصِفَت سميرة بجملةٍ واحدة قيل إنها ذات الوجه الصبوح؛ فملامحها لا تعرف الجهامة، ووجهها لا يعرف العبوس، وذكاؤها اللماح متوقِّد في عينيها، إنها لم تكن قد زادت في دراستها على سنوات قليلة في مدرسة أوَّليَّة؛ فهي تكاد تخلو من كل تحصيل مدرس، لكن من ذا يبحث وهو معها عن تحصيل؟! فها هنا تكون فطرة الأنثى على أتمِّها وأكملها، بحيث يشعر الرجل وهو بين يديها أنه في حضرة الجنس كله وقد تجمَّع في واحدةٍ من بناته، بل إنها كلما استخدمت في حديثها كلمةً أو عبارةً مما اعتاد نساؤنا وهنَّ على الفطرة أن يستخدمنها، ومما يحرص من تعلَّمن منهن أن يتجنبنها، جاءت تلك الكلمة أو العبارة على أعماق نفسه كالموقِظ للطبيعة النائمة.
إنه في الحقِّ لأمرٌ عجيب يستحق النظرة الفاحصة؛ يتعلم أبناؤنا وبناتنا، فيتطور المتعلم الفتى في كل شيء إلا في مثيراته الجنسية؛ فهذه تظل كما كانت لتكون لو لم يتعلم شيئًا، على حين لا تكاد تتطور المتعلمة الفتاة في شيء إلا في مثيراتها الجنسية، فلا يبقى فيها شيء مما يكون عند أختها المتروكة على الفطرة، مع كون الأختين من ثقافة اجتماعية واحدة.
وسميرة امرأة من اللائي نشأن على فطرة التقليد الثقافي للمرأة، واحتفظن بما نشأن عليه، ولا اعتبار لأن يكون الأحدب قد قطع ما قطعه من أشواط في التحصيل الثقافي اتساعًا وعمقًا وارتفاعًا؛ فهو ما زال عند التقائه بها بعد ذلك الفراق الطويل، يلتقي بقلبه معها في مستوًى فطريٍّ واحد؛ هي تنادي وهو يجيب، وهي تدعو بفطرتها وفطرته تستجيب.
وأمَّا مختار زوجها، فرجلٌ طويل القامة، معتدل الجسم، كثيف العنق طويله، على صدغيه وفي رسغه وشمٌ قديم، حاول أن يمحوه، لكن بقيت منه آثار، فيُقال إنه ريفي التحق بالجندية وقضى فيها مدته، ثم خرج منها موظفًا مدنيًّا في الجيش؛ لأنه كان على شيء من التعليم المتوسط، فكأنه بدَّل ثيابه العسكرية، ولكنه لم يستطع أن يبدِّل من حركات جسده وطريقة حديثه؛ فهو لم يزل مزيجًا من سذاجة الفكرة التي تلحظها في الريفي وصلابة الحركة التي تراها في الجندي، وهو طيب القلب إلى أقصى الحدود، لا تفارق الابتسامة شفتيه، لكنها ابتسامة المرتبك أكثر منها ابتسامة المطمئن الراضي.
إن الأحدب ليتحدث معه الآن حديثًا منقطعًا فيما يدَّعي له أنها ذكريات حلوة، عن الأسابيع الأولى بعد زواجه من سميرة، وكيف زارها في دارهما بدعوةٍ منه؛ ذلك أن الأحدب عندئذٍ لم يجد في نفسه الشجاعة أن يزور الزوجين؛ فلقد كان يومئذٍ — برغم ما التهب به حبه شغفًا بفتاته تلك — غارقًا إلى أذنيه في العبارة ممعنًا في التهجد، حتى أوشك أن يقع في غيبوبة الدراويش، فكان له ذلك رادعًا عن ارتكاب الإثم، كما كان رادعًا عن السير في طريقٍ قد يؤدي به إلى إثم، لكن ذلك كله لم ينقص من نبضات قلبه نبضة، ومرَّت بعد زواجها أسابيع قليلة، ثم جاءته دعوة من الزوج يدعوه بها إلى زيارةٍ على عشاء، فأدرك أن الدعوة هي في الحقيقة من سميرة متخفِّيةً وراء زوجها، فذهب وقلبه يسبقه إليها، وجلس ليلته هناك جلسةً محفورةً في ذاكرته إلى اليوم، برغم عشرات السنين التي انقضَت ما بين مراهق الأمس وشيخ اليوم.
علمت كل ذلك من الأحدب ونحن سائران في الطريق، فسألته: وإلى أين نحن ذاهبان الآن؟
قال: إلى كازينو الشاطئ، فأنا معهما على موعد.
قلت: وهل ترى وجودي مناسبًا؟
قال: ليس شيء في الدنيا أنسب لي من وجودك؛ لأنك ستسدُّ لي ثغرة الزوج، لكي أعيش أنا الساعة أو الساعتين مع سميرة، إنه رجل طيب.
ووصلنا حيث وجدنا سميرة وزوجها مختارًا قد سبقانا إلى هناك.
ولم يكن حتى تلك اللحظة يعرف اسمي، فأسعفته به، قائلًا: فوزي الراوي. وحيَّينا وجلسنا، وقدَّمني الأحدب لهما، ولبثت الوجوه الأربعة مبتسمةً في توتر، والعيون ناظرةً إلى فراغ؛ لأنها شاردة كأنها تجتنب اللقاء وتبادل النظرات الكاشفة عن دخائل النفوس.
وكنت أنا بينهم وحيدًا في بُعدي عن المشكلات العاطفية القديمة، فمن لمحة واحدة عرفت أن سميرة والأحدب ما يزالان ينظران بأعينٍ مُتْرَعة بالعشق المحروم الظمآن، وأن مختارًا يساوره القلق الخفيف مما يراه بينهما من خيوطٍ تَخْفَى عن العين ولكنها ظاهرة ظهورًا واضحًا أمام بصيرته، ولعلها كانت ظهرت منذ الزيارة الأولى التي قام بها رياض عطا للعروسين بعد زواجهما بقليل، ومضت أعوامٌ كانت كفيلةً أنْ تُحِيل الديار العامرة طلولًا خربة، لكنها لم تمحُ ما بين هذين القلبين، وكدت أقول بين هذين الجسدين؛ لأنني أحسست جسديهما يتجاذبان؛ ففي كل جسد منهما ميل خفيفٌ نحو الآخر، وإذن فقد كنت وحدي بينهم قادرًا على فتح الحديث بأعصاب هادئة، وقلت: أنبأني الأستاذ رياض ونحن في الطريق إليكم أنكم قد التقيتم بعد غياب طويل.
فقالت سميرة ناظرة إلى الأحدب (والعجيب هنا هو أن الحدب كاد عندئذٍ يختفي إلى حيث لا أدري؛ فقد خُيِّلَ إليَّ أنني أنظر إلى ظهرٍ مستقيمٍ كسائر الظهور) قالت: نعم. كان آخر عهدنا به ونحن عروسان.
ثم انتقل الحديث بيننا جميعًا إلى أمورٍ عابرةٍ توحي بها الأحداث الدائرة حولنا، وجاءت لحظة صمت، فهممنا بالانصراف، ولمَّا أن انفردنا أنا والأحدب على طريق العودة، وقلت له: لقد كان هذا اللقاء صفحة من ماضيك، لكنها صفحة وضعت في يدي مفتاحًا هامًّا.
قال الأحدب في ضيق: أي مفتاح؟
أجبته: لقد رسمت لك سميرة في مراهقتك صورة المرأة، وتغيرت ثقافتك ولم تتغير الصورة، فنتج ما نتج عندك من صراعٍ بين ما تقتضيه ثقافة الرجل العصري في بناء أسرته، وما اقتضته الصورة التي رسخت في نفسك منذ أول الشباب؛ فأنت إلى يومك هذا لا تدري أي الثقافتين تطيع وأيهما تعصي؟