التوائم الثَّلاثة
شئناها أو لم نَشَأْها، كُنَّا على وعيٍ بها أو لم نكن؛ فهي على أية حالٍ حقيقةٌ واقعة لم يعُد ثمَّة من سبيلٍ إلى إنكارها، نعم، هي حقيقة تُثير من الحيرة ما تُثير، وتحتاج إلى كثيرٍ من التحليل والتعليل لينكشف سرُّها، لكن ذلك كله شيء، وكونها قد أصبحت من أمور الواقع التي لا بُدَّ من قبولها، شيء آخر، وإنما أعني بها تلك العلاقة الوثيقة — الخافية آنًا والبادية آنًا — التي تربطنا: الأحدب وأنا وإبراهيم في ثالوث متصل الأطراف، مهما تفرقت تلك الأطراف بمكانها وزمانها وأنواع نشاطها.
إن بين الشخوص الثلاثة من الفروق ما يبرر لكلٍّ منهم أن يستنكر فعل الآخر، لكن بين الأفراد الثلاثة من التعاطف ما يجعل كلًّا منهم يُسرع إلى مؤازرة الآخر ونجدته، شأنهم في ذلك شأن الإخوة في أسرة واحدة، يختلفون ويتعاطفون على نحوٍ متميز فريد، هو الذي يطبع الأفراد بطابع الأسرة الواحدة، وإذا كنت لأصف أطراف هذا الثالوث بما يميز كلًّا منهم عن زميليه، لقلت إن الأحدب سريع الانفعال مشتعل العاطفة، إذا صادفه في طريق حياته موقف مُشْكل، فإما حلَّه بحرارة وجدانه، وإمَّا استعصى عليه الحل فانسحب في عزلةٍ يعتصم بها، وعلى النقيض من أسلوب الأحدب، نرى إبراهيم عقلًا خالصًا، لا يكاد يعرف من حياته إلا ما يخضع للتحليل العلمي الموضوعي الذي لا مكان فيه للذات وأهوائها وميولها، وبين هذين الضدين أقف أنا؛ إذ يُميزني دونهما انخراطي في قوالب الحياة الاجتماعية كما تحددها التقاليد والأعراف والأوضاع السائدة، فلا الأمر — في القبول والرفض — مرهون عندي بما تُمليه العاطفة، ولا هو مرهون بما يحدده منطق العقل، بل هو مرهون — أوَّلًا وآخِرًا — بما يجد عند سواد الناس قبولًا ورضًا.
إن الأحدب وإبراهيم كليهما مشتغل بالكتابة، ولكن شتَّان بين ما يكتبه هذا وما يكتبه ذاك، حتى ولو كانا يكتبان في موضوعٍ واحد، فبينما يتناول إبراهيم موضوعه بالعَرض التحليلي المتسق الأجزاء، كأنما هو أمام مسألة رياضية لا يحكمها إلا منطق الاستدلال بكل دقَّته وصراحته، ترى الأحدب قد لجأ — في الموضوع نفسه — إلى التصوير الأدبي الذي يجسد الأفكار في أشكالٍ يمكن إدراكها بالحواس، ومن شأن هذه الطريقة أن تخاطب في المتلقي وجدانه لا عقله؛ فهو يطمئن لما يتلقاه أو لا يطمئن، لكنه في كلتا الحالتين لا يحتكم إلى «برهان».
كنت على صلة بالأحدب من ناحية، وعلى صلة بإبراهيم من ناحية أخرى، ولم يطُف بخاطري قط أن الأحدب وإبراهيم على صلةٍ أحدهما بالآخر، حتى سافر إبراهيم للدراسة في إنجلترا بُغية الحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة، ومضى على غيابه زمن طويل، وشاءت لي المصادفة أن ألتقي بالأحدب، فأدهشني أعظم الدهشة أنني ما كدت أُورِد ذكر إبراهيم في سياق حديثي، حتى فاجأني بأنه صديق له حميم، وبأنه على تراسُل معه منذ سافر في بعثته الدراسية، وأضاف تعليقًا على بعض رسائل إبراهيم قائلًا إنها أقرب إلى مذكرات يكتبها أديب؛ ولذلك فهو حريص على الاحتفاظ بها؛ ونهض في حركة مفاجئة سريعة، وأتاني بشيءٍ منها لأقرأها، والحقُّ أنني أُعجبت بما قرأته منها إعجابًا تمنيت معه أن تطول تلك الرسائل، وأن تتماسك حلقاتها في تتابُع يوحِّد بينها، وها هي ذي أمثلة منها:
لندن في أكتوبر ١٩٤٤
… لم أكن أَلِفْتُ هذا التواضع من العلماء، وكنت أحسبه من قبيل الشائعات التي تشيع بغير سنَدٍ من الواقع، حتى التقيت بهذه الأستاذة الجامعية العجيبة، وهي الدكتورة روث صو، أرأيت لو جُمع حنان الأمهات جميعًا، ووداعة القديسين جميعًا، ورِقَّة القلوب الرقيقة كلها، وصفاء النفوس النقية كلها؛ أرأيت لو جُمع هذا بأَسْره في امرأةٍ واحدة، كيف تكون؟ إنها تكون هذه الأستاذة، تحدثك عن كتاب «الأخلاق» للفيلسوف اسبينوزا في غزارة البحر الغزير، وكأنها تطلب منك الرأي ولم تجئ لتهديك بالرأي! … كانت محاضرتها قبيل الغروب، وخرجنا معًا ومعنا طالبتان تقدَّمتا في السن بعض الشيء، ووقفنا في الردهة، تناقشها الطالبتان المؤمنتان كيف لا يكون المسيح نموذجًا كاملًا للإنسان في حياته الأرضية، فتنظر إليهما بعين العاطفة الحانية وتقول في صوت كأنه يستفسر: أيعيش الإنسان في حياته الأرضية بغير زواج؟ … وترتبك الطالبتان، وتبتسم الأستاذة، وتُغيِّر مجرى الحديث بأن تتذكر فجأة أنها لم تأكل تفاحتها، فتفتح حقيبة يدها الكبيرة، لتُخرج تفاحةً تأخذ في قضمها، وتقول: أحب التفاح غير مقشور …
لندن في مارس ١٩٤٥
… للإنجليز براعة في الفُكاهة، أكاد لا أجد لها نظيرًا في أمَّة أخرى؛ فالفكاهة في أدبهم ظاهرة حتى توشك أن تكون شرطًا لا يتخلف في قصة أو مسرحية أو مقالة، وهي فكاهة خفيفة أقرب ما تكون إلى الابتسامة اللطيفة إذا كانت الفكاهة عند غيرهم تُقاس بالقهقهة العالية، وهم يمزجون فكاهتهم هذه في جدِّهم، فكثيرًا ما يعمد الخطيب السياسي إلى تخفيف جد الموضوع الذي يخطب فيه بمُلَحٍ ونكاتٍ ينثرها في غضون حديثه هنا وهناك، بل إن ميلهم هذا إلى الفكاهة لا يبرحهم حتى في المحاضرات العلمية، التي قد تميل بغيرهم إلى الجهامة والعبوس … كان الدكتور سيرل بريث — أستاذ علم النفس — يحاضرنا في النظرية الفرويدية، فقال: إنني لا أحب لكم أن تبالغوا في تطبيق هذه النظرية. وابتسم الأستاذ ومضى يقول: حدث لي ذات حينٍ أن لاحظت أني أفقد أشياء كثيرة؛ فأضع المفاتيح في جيوبي ثم لا أجدها، وأضع النقود الصغيرة فيها ثم تختفي، فهممت أن ألتمس العلة في سببٍ من هذه الأسباب التي يقولها الفرويديون في أمثال هذه المناسبات، وجعلت أسجِّل أحلامي وأحلِّلها، وأضع لنفسي الاختبارات وأنتزع النتائج؛ ثم ما هو إلا أن كشفت فجأة عن خروقٍ في جيوبي؛ فكففت عن المضيِّ في التحليل والتعليل …
لندن في يناير ١٩٤٦
… لقد جئت والفكرة عندي عن الفلسفة أنها عميقة بغموضها، وأحسبني سأعود وقد تغيَّرت هذه الفكرة عنها، فتصبح الفلسفة عميقة بوضوحها؛ إن نظرتي إليها آخذةٌ في التحول، وأُولى مراحل هذا التحول أني قد أضحيت على رأيٍ بأن الفلسفة تحليل للتوضيح، وليست هي بالتي تُصدِر الأحكام من عندها على الأشياء؛ فالفلسفة عندي الآن طريقةٌ في البحث بغير موضوع، إنها لا تبحث في «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج» لأنه ليست هناك «مسائل فلسفية» مما تختص به هي دون أن يكون خاضعًا للبحث في مجالات العلوم المختلفة من فيزياء وكيمياء وغيرهما. لم أعد أرى من حق الفيلسوف أن يعالج موضوعاتٍ هي من شأن العلماء وحدهم؛ فلو كان البحث في الطبيعة وجب أن يُترَك لعلمائها، أو كان البحث في الإنسان من حيث هو كائن حيٌّ يتفاعل مع غيره في جماعة، وجب كذلك أن يُترَك لعلماء النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد … مهمة الفلسفة هي أن تُحلِّل أقوال هؤلاء العلماء تحليلًا يتعقَّبها إلى الجذور، وبهذا تضع أصابعنا على المبادئ الخافية التي تحملها تلك الأقوال في ثناياها دون أن تفصح عنها صراحة، حتى إذا ما تبدَّت تلك المبادئ أمام أعيننا، تجلَّت لنا أصول حياتنا الثقافية جلاءً صريحًا؛ إنني لعلى يقين من أن نظرةً كهذه إلى الفلسفة لن تجد عندنا إلا الصدود، لا لشيءٍ إلا لأنها تُعفي الفلاسفة من الخوض فيما لا سبيل لديهم إلى العلم به، وهم أمْيَل إلى دسِّ أنوفهم فيما لا يعلمون؛ لأن إرسال الكلام أمرٌ هيِّن، فإذا قيل لهم: في هذا الكلام غموض. أجابوا: هكذا شأن الفلسفة. نعم، إن نظرتي آخذةٌ في التحول الجريء، بعد أن رأيت كم أفنى الفلاسفة جهودهم في بحثٍ عقيم عن أشياء في الغيب وقد حددتهم طبيعة كيانهم بحدود عالم الشهادة، إنهم لَكالباحث الأعمى يبحث في غرفةٍ مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود …
لندن في يونيو ١٩٤٦
… أي شيء هو أدنى إلى الصواب من قولنا بأن شهادة الميلاد لا تكون إلا لمولودٍ جديد، وأنه إذا وُجدت شهادة ميلاد بغير مولود فهي زائفة مزورة؟ وأي شيء هو أدنى إلى الصواب من القول بأن الرمز لا يتم معناه إلا بوجود المرموز إليه، وأنه إذا وُجد رمز بغير مرموز إليه فهو إذن وسيلة خداع وتضليل؟ وأي شيء هو أدنى إلى الصواب من قولنا إن الاسم لا يكون اسمًا إلا إذا وُجد المسمَّى؟ وإذا كان ذلك كله صوابًا، فمن الصواب كذلك أن كل كلمة في اللغة لا تُسَمِّي شيئًا ولا تُشير إلى شيء، هي كلمة زائفة مهما طال بين الناس دورانها؛ فالفرق بين اللفظة التي ترمز إلى مسمًّى واللفظة التي لا ترمز هو الفرق بين اللفظة التي «تعني» شيئًا واللفظة التي «لا تعني»، وهو فرق شديد الشبه بما يفرق ورقة النقد التي تستند إلى رصيدٍ فتكون ورقة ذات قيمة حقيقية، من ورقة النقد التي لا تستند إلى مثل ذلك الرصيد فتكون ورقة باطلة؛ لا بُدَّ أن يوجد الشيء أوَّلًا ليجوز لنا بعد ذلك أن نطلق عليه اسمًا يسميه ويميِّزه مما عداه، وهذا هو بعينه الأساس الذي نقيم عليه تعليمنا اللغة لأطفالنا، فنشير إلى شيء قائم على مرأًى من الطفل قائلين له: «شجرة»؛ ولولا أن هناك الشجرة التي نشير إليها لذهبت لفظتنا عند الطفل عبثًا؛ لأنه في سذاجته وبفطرته ينظر إلى طرفين، المُسَمَّى المشار إليه في طرف والصوت الذي ننطق به في طرف آخر، وعندئذٍ يقرن الشيء المرئي بالصوت المسموع، أو يقرن المسمَّى باسمه، أو يقرن المرموز إليه بالرمز الذي يُشير إليه؛ أقول: إنه يقرن هذا الطرف بذلك، ثم يربط بينهما، حتى إذا ما نطق له بالصوت وحده بعد ذلك، كان كافيًا لاستثارة الصورة التي كان هذا الصوت قد ارتبط بها، وبهذا وحده يجوز لنا أن نقول إن كلمة «شجرة» قد أصبح لها عند الطفل «معنى» …
ولقد تطورت نظرتي يا سيدي وتحددت، بحيث أقبل الكلمات أو أرفضها على هذا الأساس نفسه، يقول الفلاسفة: جوهر، ونفس، وخلود، وجمال، وأخلاق، ودولة، ومجتمع، فأقول: أين هي المسميات فيما هو مرئي ومسموع؟ فإن أجابوا قبلتها، وإن راوغوا — كما هم يراوغون في هذه الحالات — تركتهم وشأنهم وذهبت لشأني.
لندن في نوفمبر ١٩٤٦
… سألتني يا سيدي عما أراه بناءً على معياري الفلسفي الجديد، في كلمات مثل «حب» و«كره» و«غضب» و«خوف»، قائلًا إنك تخشى أن أكون قد طوحت بعالم الوجدان على أهميته في حياة الإنسان، فأقول في هذا الصدد إنه لا بُدَّ من التفرقة بين نوعين من الكلام، فكلام يُراد به وصف عالم الأشياء وما يتعاوره من أحداث، وآخر ينصرف به قائله إلى داخل نفسه لا إلى خارجها، فإذا نطق ناطق بعبارة من الصنف الأوَّل وقعت عليه تبعة الإثبات؛ وأمَّا إذا نطق بعبارة من النوع الثاني فلا إثبات هناك ولا نفي، والعبارات العلمية التي تجوز فيها المناقشة بين الناس هي من النوع الأوَّل؛ وأمَّا العبارات التي ترد في التعبير الفني والشعوري فمن النوع الثاني، وهي لا يجوز فيها اختلافٌ بين الناس ولا نقاش.
هَبْني وقفت مع زميلي إلى جوار شجرة، فقلت عنها: إنها من أشجار التوت وعمرها ستون عامًا. وقال عنها زميلي: إن لونها يبعث البهجة في نفسه كلما رآها. فماذا يكون الفرق بين عبارتي وعبارته؟ الفرق هو أنني أتصدى لوصف الواقع الخارجي الذي لا دخل لمشاعري فيه؛ فلست أنا الذي جعلتها تُثمر توتًا، ولا أنا الذي ألزمتها أن تكون بهذه الحداثة أو هذا القِدَم، إنني أصف بعبارتي وقائع ليست جزءًا من نفسي، فلو طالبني زميلي بإثبات ما أقوله وجب أن تكون لديَّ الوسائل التي يستطيع هو أن يشاركني فيها؛ وأمَّا عبارة زميلي التي قال فيها إن الشجرة تبعث البهجة في نفسه كلما رآها، فمن نوعٍ آخر، هي عبارة لا صواب فيها ولا خطأ، ولا إثبات ولا نفي، إنه «يُعبِّر» عن ذات نفسه، ولا «يقرر» أمرًا عن الشيء الخارجي، وإذن فليس من حقي أن أطالبه ببرهان، وكيف يكون البرهان والأمر خاصٌّ به؟ إنه إذا كانت الشجرة الواحدة نفسها تبعث البهجة في نفسه هو والكآبة في نفسي لما كان بيني وبينه تناقض؛ لأن له شعوره ولي شعوري، ولكن ما هكذا الأمر لو قلت عن الشجرة إنها تثمر التوت، وقال هو: بل إنها تثمر الجميز؛ فها هنا يكون بين قولينا تناقض، ويكون على أحدنا أن يثبت للآخر صدق دعواه …
وتسألني يا سيدي عن العبارات العاطفية ما مصيرها؟ وأجيبك بأنها تكون من قبيل الأدب الذي يُقاس بمقاييس خاصة تختلف عن مقاييس العلوم، فلنا أن نُبقِي عليها، شريطة أن نكون على بيِّنة تامة بأنها لا تدخل مجال العقل والمنطق، ومِنْ ثَمَّ فلا يحقُّ لأحد أن يجادل أحدًا في صدقها أو بطلانها؛ لأنه لا صدق فيها ولا بطلان، وكل ما فيها هو أن تكون محببة إلينا أو بغيضة، وإني يا سيدي لأعلم بُعد المدى الذي ينال به مثل هذا الرأي في أقوال الناس وعقائدهم؛ لأنهم — في الأعم الأغلب — ينطقون بما يُرضي عواطفهم، ثم يزعمون لأنفسهم أنهم إنما نطقوا بالحق الذي لا حقَّ سواه.
لندن في يناير ١٩٤٧
… لست أقل منك حرصًا على مشاعر الإنسان وآماله ومُثُله العليا. هذه المشاعر والآمال والمُثُل التي زعمت لي في خطابك الأخير أنني سائرٌ بمذهبي نحو هدمها، كل ما هنالك من أمر في هذا الصدد هو أنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور؛ فمن لا يريد أن يتحدث عما يقع في حسه — رؤيةً أو سمعًا أو ما شئت من حواس — مما يتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل، وليس في ذلك رفعٌ ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على وجدان؛ أمَّا إذا كان المجال مجال أدب وفن، فليختر ما يشاء من لفظٍ ليُثير في سمعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه؛ فلو تحدَّث عن السماء حديث العالِم الفلكي فلا ينبغي له عندئذٍ أن يذكر شيئًا عن السمو والعظمة والمجد، ولو تحدث عن الزَّهرة بلغة عالم النبات فليسكت عن أحاديث الروعة والجمال؛ فلنعطِ ما للعقل للعقل وما للشعر للشعور. وإني لأزعم أن جزءًا كبيرًا مما تركه لنا الفلاسفة على زعمٍ منهم أنه نظرة عقلية خالصة، هو في الحقيقة تعبير عن أمزجتهم وميولهم. نعم إنهم يسيرون بخطوات عقلية من نقطة الابتداء التي يفرضونها، ولكن نقطة الابتداء نفسها تجيء من عندهم مزعومًا لها أنها من إدراك البصيرة والحدس الفطري. ولو زعموا عندئذٍ أنهم إنما يقيمون نسقات عقلية على أساسٍ افتراضيٍّ كما يصنع علماء الرياضة، لقلنا نعم ونعامَ عينٍ؛ لأن النسقات الرياضية مغلقة على نفسها لا يدَّعي لها أصحابها أنها تصوير للواقع، بدليل أنها قد تتعدد والواقع واحد، ولكنهم يبنون على فرض من عندهم، ثم يفوتهم ذلك وينسونه، ليقولوا آخِر الأمر إنهم يقولون ما يطابق الوجود الخارجي مطابقة الصورة لأصلها.
لندن في فبراير ١٩٤٧
… ألقى «برتراند رسل» علينا سلسلة محاضراتٍ عن المعرفة وتحليلها وردِّها إلى أصولها وجذورها؛ لم أكن أتخيل هذا الرجل بمثل هذه السرعة النشيطة في حركات بدنه وفي لفتات عقله، والعجيب أنه كان يُلقي محاضراته في مُدرَّج صغير، مع أن مئاتٍ من غير الطلاب يجيئون ليستمعوا إليه؛ لهذا كنت تراني أبادر قبل البدء بمدة طويلة لأجد مكانًا قريبًا من المُحاضِر حتى لا تفوتني كلمة منه — وسمعي كما تعلم قد أخذ يضعف قبل أوان الضعف — إلا مرةً واحدة تأخرت قليلًا، فوجدت المدرج قد امتلأ وأخذ الناس يصطفُّون خارجه، فوقفت في الصف ووقف معي زميل مصري يدرس علم النفس، وكان المطر ينزل فوق رءوسنا برغم محاولتنا وقاية الرءوس بلصق أجسادنا إلى الجدار، وتسألني: وماذا كنت تسمع من كلمات المحاضر؟ وأجيب: لا شيء. وتعود فتسألني: وفيمَ وقوفك في المطر والبرد؟! وأجيب: لا أدري؛ فقد أحسست أن تركي للصف أصعب على نفسي من الوقوف فيه بلا رؤية ولا سمع. وقد قلت لزميلي المصري ضاحكًا: اشهد على ما ألاقيه في سبيل العلم، بل في سبيل تقديس العلم، من عناء. فقال ضاحكًا بدوره: وأنا أحق منك بمثل هذه الشهادة؛ لأنك تقدِّس فرعًا في مجال تخصصك العلمي؛ وأمَّا أنا فقد وقفت في المطر البرد تقديسًا لكلمة العلم في ذاتها؛ إنه الروح هنا تغريك بهذا وأكثر منه.
وفي هذا المدرج الصغير نفسه حضرت محاضرة الأستاذ آير الذي عُيِّنَ منذ قريبٍ أستاذًا لكرسي الفلسفة في كلية لندن الجامعية، وقد كان شاغرًا مدى حين. كانت هذه محاضرة الافتتاح كما يسمونها، يفتتح بها أستاذيته الجديدة، وقد قدَّمه أحد رؤساء الجامعة بكلمةٍ قال فيها: وقد وقع اختيارنا على هذا الأستاذ الشاب بعد بحثٍ طويل عمن يحفظ لكرسي الفلسفة هنا مستواه الرفيع، وقد قيل لنا تحذيرًا منه: إنه خطر على التقليد الفلسفي وإن يكن ذا أصالة في الفكر. فقلنا: هذا هو مَن نبحث عنه؛ والأستاذ آير في عامه السابع والثلاثين.
لندن في مارس ١٩٤٧
كان الدكتور كيلنج — صاحب الكتاب المعروف عن فلسفة ديكارت — هو أستاذنا في الفلسفة الحديثة عندما كنت في «الكلية الجامعة» قبل تحويلي إلى «كلية الملك». ولم أكن أرى فيه ما يملؤني إعجابًا به، مع أنه كان أول أستاذ بريطاني ألاقيه في هذه البلد؛ نعم، إنه ذكي وملمٌّ بمادته إلمام القارئ الباحث الدارس؛ أمَّا نفاذ البصيرة ومسايرة الحركة الفكرية مسايرةً تتفق مع منصبه الجامعي، فلم أكن أرى فيه شيئًا منه؛ لقد درس في السوربون بعد أن درس في إنجلترا؛ وهو متزوج من سيدة فرنسية؛ وله لحية صغيرة يصبغها بالحناء أو ما يشبه الحناء مما لست أعرفه؛ وقد دعاني منذ قريب على عشاء في منزله، فوجدته منزلًا مكدَّسًا بالكتب؛ والظاهر أنه لا ولد له؛ وقد اعتذر لي عن تواضع مسكنه قائلًا: إن بيتي الحق قائم في باريس حيث أقضي أطول وقت مستطاع.
وكان من الأفكار التي تحمَّس لها أثناء حديثنا — وكان الحديث قد تطرَّق إلى الأدب المسرحي — أن شيكسبير لا يستحق هذه الضجة كلها التي يثيرونها حوله؛ فليس هو بشاعر من الطراز الأوَّل، أين هو في ميدان البناء الشعري من راسين أو كورني؟! فقلت لنفسي عندئذٍ: تُرى إلى أي حدٍّ تجيء آراء الناس انعكاسًا لجنسية الزوجة؟! إن كيلنج رجل عليل ضعيف البنية، ولقد كان يطمع في دعوة تُوجَّه إليه من جامعة القاهرة ليقضي في دفء مصر عامًّا أو عامين، لعله ينعم بشيء من الصحة، وحسبني قادرًا على أداء هذا الصنيع، والحق أني تمنيت يومئذٍ لو أن بي شيئًا مما ظن، لكن العين كانت بصيرة ويدي كانت أقصر جِدًّا مما ذهب إليه خيال الذين أجْرَوا هذا المثال على ألسنة الناس.
•••
لم يكن في وسع زميلنا إبراهيم — أثناء مقامه في بريطانيا — أن يرى ما يراه من الرعاية لكرامة الإنسان فردًا فردًا، بغضِّ النظر في كلِّ فردٍ عن عمله وثرائه، وأن يرى ما يراه من ولاء هؤلاء الأفراد لوطنهم، حتى ليستجيبوا لنداءات أولي الأمر منهم في ساعات الخطر دون رقيب ولا حسيب؛ أو قُل إن إبراهيم عندئذٍ لم يكن في وسعه أن يرى ذلك الذي رآه هناك، ثم لا تَرِد إلى ذهنه المقارنات، فكانت تلك هي الفترة التي أخذ يرسل فيها من لندن إلى مجلة الثقافة التي كانت تُصدِرها في القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مجموعة من مقالات أدبية ثائرة ساخرة، هي من أنقى وأقوى وأصدق ما خطَّه قلمه.
… أنا في جنتي العالِم العلَّامة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكفَّ وأحسب النجوم، فأنبئ بما كان وما يكون؛ أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبِّر عن الرؤيا فأُحسِن التعبير، لكلِّ رمز معنًى أَعلمُه، ولكل لفظ مغزًى أفهمه، استفسرني ذات يوم حالمٌ فقال: رأيت — اللهم اجعل خيرًا ما رأيت — رأيتني أنظر إلى كفي فيغيظني من الأصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة مرهفة ماضية، وأجذُّ من تلك الأصبع الطويلة ما طال، وأُلقي بالجزء المبتور في النار، وما هو إلا أن أرى شبحًا مخيفًا يخرج من بين ألسنة اللهب، كله أصابع: أصابع في كتفيه، وأصابع في جنبيه، وأصابع في قدميه، وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره، والأصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنَّها المخالب، أخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوَّى، تريد أن تنال مني لتفتك بي، فتملَّكني الفزع والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار، ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار، ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من أصبعي الجريحة، فصِحْت وصحوت. فأطرقت قليلًا ثم أجبته قائلًا: لقد أضلك الشيطان الرجيم، فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكفَّارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين … فأصابع كفك هي الناس من حولك، تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي مَن يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب؛ والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز بضلالك بما قرأت، كأنك «فاوست» غاص في العلم فأضلَّه العلم ضلالًا بعيدًا … فحدثتك النفس الأمَّارة بالسوء أن تعدِّل فيما خلق الله وتبدِّل، فكان جزاؤك عذاب الدارَين … وأمَّا الجدار الذي سدَّ عليك طريق الفرار فمعناه أن عذابك آتٍ لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء …
قال الشيخ: الفيَلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلُّها هي هذه: لو كانت الفيَلة تبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء، يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء …
وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: هي يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحةٍ تقضي على الأصل والذُّرِّيَّة، قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علمٌ غير علمه.
وأخذت المقالات تتوالى من إبراهيم وهو في لندن، على هذا النحو الثائر الساخر؛ لأنه كان ينظر أمامه فإذا الدنيا قد انتقلت إلى حضارةٍ أخرى غير حضارته، فيها — فوق العلم — كرامة الإنسان، ثم ينظر خلفه إلى حالة وطنه فإذا هو غارقٌ إلى قمَّة رأسه في خرافة، تزيدها بشاعة ضروبٍ من الأخلاق الاجتماعية تهدر للإنسان قيمته وكرامته.
انتهت بإبراهيم دراسته بإجازة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالته في «الجبر الذاتي»، جاء يوم مناقشة الرسالة، فلم يكن هناك إلا إعلانٌ وُضع أمام المبنى المركزي لجامعة لندن (وهو نفسه المبنى الذي يضم مكتبة الجامعة، التي جعلها إبراهيم مكانه الرئيسي في ساعات العمل)؛ أقول إنه لم يكن هناك يوم الامتحان إلا إعلان وُضع أمام ذلك المبنى جاء فيه أن لجنة امتحان ستُعقَد اليوم في غرفة رقم كذا، لمناقشة الطالب الفلاني في رسالته التي تَقدَّم بها لنَيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من «كلية الملك»، ولقد فوجئ إبراهيم بذلك الإعلان وهو يدخل المبنى، فعرف منه رقم الغرفة التي يتوجه إليها في الموعد المضروب، وذهب ليجد اللجنة الوقورة جالسةً على منصَّتها، وقوامها عُضوان: الدكتور هاليت الذي أشرف على البحث، والدكتور ماكمري ممتحِنًا خارجيًّا جاء من جامعة سانت أندروز بأسكتلندة، وأُغلق باب الغرفة على الأستاذين وأمامهما الطالب، فتلك هي طريقة مناقشة الرسائل في بريطانيا، فلا جمهور ولا خطابة ولا مظاهرة ولا تصفيق. ودارت المناقشة في ذلك الهدوء المهيب، وخرج إبراهيم من الغرفة وهو الدكتور إبراهيم؛ واسمه الكامل هو إبراهيم الخولي.
عاد الدكتور إبراهيم بعد فوزه بما أراد أن يفوز به. كان في محطة القطار الذاهب به إلى دوفر، ليبدأ المرحلة الأولى من طريق السفر إلى مصر، حين جاءه من مكتب البعثات المصرية في لندن مَن يُنبئه على عجَلٍ بأن برقيةً من القاهرة قد جاءت لتطلب من إبراهيم أن يمرَّ على باريس في طريق عودته، ليقضي هناك شهرًا ونصف شهر في منظمة اليونسكو، ووقع في حيرةٍ لم تطُلْ إلا بضع دقائق، قرَّر بعدها أن يرسل حقائبه مشحونة لتسبقه إلى الوطن، لا يبقى منها إلا ما يعيش به فترة الإقامة في باريس، وعاد إلى مسكنه بلندن ليقضي يومًا أو يومين يعد فيها نفسه لهذا الموقف الجديد.
ثم جاء يوم السفر، وكانت غاية السفر هذه المرة هي باريس ليظلَّ بها شهرًا ونصف شهر يستأنف الطريق بعدها عائدًا إلى القاهرة، وركب إبراهيم قطار «السهم الذهبي»؛ كثيرون هم أولئك الذين كتبوا عن الصداقة والأصدقاء، فوُفِّقوا وأجادوا — هكذا كتب إبراهيم في خطابٍ أرسله إليَّ يومئذٍ من الطريق — لكني لا أحسب أحدًا من هؤلاء جميعًا قد كتب شيئًا في نوع من الصداقة عجيب، يمر في حياة الإنسان مرور الأطياف والأحلام، فلا يستغرق إلا ساعة أو ساعتين، أو قل يومًا أو يومين، ومع ذلك تراه يترك في النفس أثرًا قد يبلغ من الشدة والعمق ما لا تبلغه الصداقة الثابتة الدائمة؛ فلقد قابلت في القطار فتاةً، ولم نكد نبدأ الحديث حتى خُيِّلَ إلينا أننا أصدقاء منذ أمدٍ بعيد، جعلتُ أخبرها وجعلت تخبرني كأنَّ حبل الحياة متصل بيننا، ثم بلغ بنا القطار غايته، ولعلِّي كنت أحس بهذه الخاتمة القريبة، ولعلها كانت تحس، فأخذت صداقتنا تتكثف وتغزر لحظةً بعد لحظة، كأنما عزَّ علينا أن يتبدد هذا اللقاء فتشبَّثنا ممسكَين بقبضتين قويتين على هذا الودِّ الوليد، لعله يدوم، لكن القطار بلغ بنا غايته، وافترقنا إلى الأبد …
وفي باريس، خلال فترة الشهر ونصف الشهر التي قضاها ملحقًا باليونسكو، أراد له الله أن يلتقي بسيدة مصرية جاءت موفَدة من القاهرة لتشارك في المهمة نفسها التي طُلب منه أن يضطلع بها، فوجد فيها رمزًا يمثِّل أرفع القيم التي تتميز بها مصر، فحمد الله أن قذفت المصادفة أمام عينيه بهذا الرمز النبيل ليخفف من غلوائه فيما كان التسرع في الأحكام قد شطح به إليه؛ لأنه كان كلما رأى وجهًا من أوجُه الكمال الحضاري وهو في إنجلترا، أسرعت المقارنة بمصر إلى ذهنه إسراعًا يميل به إلى طمس الجانب المشرق الجميل ليظهر الجانب المعتم القبيح؛ فكان عزاؤه ذلك الحب القوي العميق الذي يكنُّه لوطنه، والرغبة المسعورة الجامحة في أن يرى ذلك الوطن الحبيب غير مسبوق على الطريق الحضاري الطويل.
ولقد قصَّ علينا إبراهيم عن نفسه ساعة كان فوق السفينة يعبُر القنال الإنجليزي في أول طريقه عائدًا إلى مصر؛ فالبحر هائج مائج، والسفينة تعلو وتهبط مقذوفًا بها على رءوس الموج كأنها الكرة على أقدام اللاعبين المَهَرة الأشداء، والراكبون يسقطون من دُوَار البحر صرعى، وهو واقف ممسكًا بحاجز السفينة، مرتديًا معطف المطر يتقي به الرذاذ العنيف الذي يغمره ويغمر عشرات الصرعى إلى جواره، واقف ينظر ناحية الشاطئ الإنجليزي، ويدسُّ يديه في جيوبه، فإذا في جيبه الأيمن ورقة، يظل يسأل نفسه قبل أن يُخرجها: ماذا يا ترى تكون هذه الورقة؟ وهو لا يذكر أنه قد وضع ورقًا في جيب هذا المعطف، ثم يُخرجها، فإذا هي قصاصة منزوعة كما اتفق من كراسةٍ قديمة، ومكتوب عليها بخط رديء، خطَّته يدٌ مسرعة مترددة: «أحببتك ولم أصرِّح»، والكاتبة هي صاحبة البيت الذي كان يستأجر غرفةً فيه.
ولبث إبراهيم ينظر إلى الورقة في يده، والرذاذ العنيف يخبط وجهه وصدره، فأسرعت إلى ذهنه صورة تلك السيدة نفسها، حين كانت الحكومة أيام الأزمات قد أصدرت تعليماتها بأن تُطفأ المدافئ في كل مكان من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثالثة عصرًا، توفيرًا للفحم الذي قلَّت مقاديره، إمَّا بفعل ثلوج الشتاء وإمَّا تحت وطأة الحرب — لا أذكر الآن أيهما — فكنت أراها في الأيام التي أقضي فيها النهار بالمنزل لأكتب فصلًا من الرسالة تجمَّعت مادَّته بين يديَّ، كنت أراها وهي تنظر إلى ساعتها لحظةً بعد لحظة، حتى إذا ما حانت الساعة الحادية عشرة دارت على غرف المنزل تُطفئ مدافئها بغير رقيبٍ إلا من ضميرها الوطني.
طفق إبراهيم وهو يعبُر القنال الإنجليزي عائدًا إلى بلاده، يلفُّ في رأسه شريط ثلاثة أعوام قضاها في بريطانيا، لفًّا سريعًا تتداخل به الصور بعضها في بعض، لا يكاد يقف عند واحدة حتى تزول لتحلَّ محلها واحدة، ثم ازداد الأمر خلطًا ومزجًا حين راح يلف في رأسه — في الوقت نفسه — شريطًا آخر لفًّا سريعًا كذلك، تتلاحق فيه الصور واحدة في إثر واحدة، تضع أمام عينيه مشاهد ومواقف مما كان قد مرَّ به في مصر قبل أن يغترب عنها للدراسة، فكأنما كان الشريطان عندئذٍ يتدافعان ويتسابقان ويتشابكان؛ فصورةٌ من هنا تستدعي صورةً من هناك، كل ذلك والسفينة تتخبَّط فوق الموج الصاخب، وصرعى الدُّوَار يزدادون عددًا، والرذاذ الحاد يضرب وجهه وصدره كأنه قطع الزجاج.
هذه هي صورة الطالب الإنجليزي «فلتشر» يلقاه في المحاضرات ويتصادقان ويتبادلان الرأي والنظر، قد كان في نحو عمره، ويعلم عنه أنه قد أمضى وقتًا ضائعًا حتى تنبهت شركة كان يعمل بها عملًا يدويًّا مما تصلح له سائر الأيدي، ويدرك صاحب الشركة أو مديرها أن الفتى موهوب في الفكر النظري، فيقرر إرساله إلى جامعة لندن على نفقته، غير مُقيِّدٍ إياه بشرط العودة إلى شركته بعد إكمال الدرس، فماذا ينفع دارس الفلسفة شركة تعبئ الزجاجات بما لست أذكر من ضروب السائل، ولم تكد هذه الصورة تعود إلى الذاكرة يغشاها الضباب الأصفر الداكن الذي يكتنف لندن في أوائل الشتاء حتى تندفع إلى صفحة الذاكرة صورة من ماضي الحياة في مصر؛ فحيث كان إبراهيم مُدرِّسًا ناشئًا جاءه غلام في صحبة أبيه ومعهما خطاب من صديق يوصيه بالغلام خيرًا لأنه موهوب، ولكن أباه لا يملك من وجه الدنيا قرشًا يدفعه أجرًا لتعليمه، ويسألهما عن ظروف الغلام فإذا هو في الشهادة الثانوية من أوائل خمسة، لكن المدرسة الثانوية التي يريد الالتحاق بها — كأي مدرسة ثانوية أخرى في ذلك الحين — تطلب القسط الأول قبل الدخول، برغم أنها على يقين من أن مجانية الطالب مكفولة له بحكم القانون؛ فمن أين للوالد الفقير أن يدفع وهو خادم في مسجد رزقه الله هذا الولد النابغة؟! فلا يدري إبراهيم ماذا في وسعه أن يصنع سوى أن يدخل إلى ناظر المدرسة في مكتبه ويقصَّ عليه النبأ: «ماذا لو قبلناه بغير مصروفات، وخطاب المجانية آتٍ من الوزارة في حينه؟» فيقول الناظر، وقد مسَّ الموقفُ قلبَه الطيب: «ومن ذا يدفع عني الاتهام إذا جاء من الوزارة مفتش فوجد طالبًا لم يدفع أجر تعليمه قبل الدخول؟» وخرج إبراهيم ليبلغ الوالد والولد، فيبكي الوالد مرددًا كلمة: «يا خسارة! يا خسارة»، ويحتضنه الولد ويربِّت له على كتفيه: «لا عليك يا أبي، لا عليك، لا عليك يا أبي، لا عليك»، وإبراهيم واقف على السلَّمة الأولى من مجموعة السلالم القليلة المؤدية إلى مكتب الناظر، ينظر إلى الوالد والولد …
وهذه صورٌ تتلاحق عن نعومة الصِّلات هناك بين كلِّ إنسان وكلِّ إنسان، فهل شهد في أكثر من ثلاث سنوات شخصين يعتركان؟! أبدًا أبدًا، لم تقع عينه هناك على عراك، كأنما هم صور تتحرك صامتة على صفحة مرآة، لا تصطدم منها صورة بصورة؛ فالزوج والزوجة، والبائع والشاري، والجار والجار، والصديق والصديق، وكل إنسان وكل إنسان، يلتقيان في همسٍ ويفترقان في صمت؛ تأتيه هذه الصور حتى لكأنه يشهد سينما صامتة، وفجأة يقتحم الشاشة الذهنية صورة من ماضيه في مصر يسكن في شقة في منزل متواضع، يعلوها مسكن تنزل فيه زوجة وأبناء زوجها، وأما الزوج فيشتغل في الصعيد ولا يحضر إلا حينًا بعد حين؛ وتحتها — في فناء البناء الأرضي عند المدخل — غرفة يسكنها صانع بليلة وزوجته، يخرج الزوج بعربته وعليها إناءٌ ضخم مليء بالبليلة وتحته موقد النار، والدخان المخلخل يتصاعد منه؛ أقول: إن الزوج يخرج بعربته تلك ليعود مع المساء؛ وحدث ذات ليلٍ بعد أن انتصف، وهدأت الحركة في البيت والشارع، وسكتت الأصوات إلا من دبيب المارَّة على فتراتٍ متباعدة، أن انفجرت معركتان في آنٍ واحد، إحداهما في الشقة العليا والأخرى في الغرفة السفلى، فمن أعلى جاءت أصوات تشق هدأة الليل:
وفي هذه اللحظة نفسها انفجرت القنبلة الثانية من أسفل، وكانت أفدح خطرًا؛ فقد عاد بائع البليلة في هذه الساعة المتأخرة من الليل مخمورًا لا يعي شيئًا ولا يستطيع النهوض بجسده، فرافقه زميلٌ له في الخمر يتساندان، حتى أوصله الزميل إلى منزله، وخرجت إليهما الزوجة القلقة هابَّة من غرفتها زاعقة في الصديق قائلةً كيف كان زوجها كالملائكة يذهب إلى عمله ويعود إلى بيته، حتى عرف طائفة الأبالسة التي ترافقه هذه الأيام، ثم راحت تدعو الله:
فتصرخ الزوجة مستغيثة لأن زوجها السكران يهاجمها بالسكين ليبقر بطنها جزاء ما اقترفته من شتم صديقه؛ وأطلت الزوجة المعتركة مع أبناء زوجها، أطلت منا نافذة «المنور» لتقول للزوجة المنكوبة إنها آتية لنجدتها، ويمضي الزوج السكران في سؤاله الاستنكاري: تشتمين أصحابي؟! تشتمين أصحابي؟! واستيقظ السكان جميعًا في عاصفة من أصوات فازعة، وحركة أقدام على السلَّم مسرعة في هبوطها لتنقذ الزوجة من براثن زوجها المخمور.
ويكرُّ شريط الصور في رأس إبراهيم وهو على سفينته؛ من هناك صورة ومن هنا صورة:
هذا هو الوزير الإنجليزي «نويل بيكر» يقف في الصف وفي يده فنجانه ينتظر دوره ليملأه بالشاي، وأمام رجل يرتدي رداء سُعَاة الدواوين، فلا الوزير يفكر في التقدم قبل دوره، ولا الخدم من أمامه يفكرون في التنازل عن مواضعهم؛ فالساعة ساعة الراحة له ولهم بين جلسات جمعية الأمم في أول انعقاد لها في لندن — قبل رحيلها إلى نيويورك — وتذهب هذه الصورة لتحل محلها صورة الوزير المصري الذي كان يُنتظر منه ألا يكون كسائر الوزراء عنتًا واستبدادًا؛ لأنه كان — دونهم — إمامًا بيننا من أئمة الأدب والفكر والحركة الحضارية بصفة عامة؛ ومع ذلك فقد رأيته وهو على كرسي الوزارة كيف يتعنت وكيف يستبد، كأنما أصحاب الحقوق الواقفون أمام بابه حفنة من الغنم، بينها وبين الراعي الأكبر صفَّان طويلان من الذئاب، على نحو ما كان المصريون الأقدمون يقيمون صفوف الأُسْد أو الكباش أمام المعابد لتحرسها من هجمات الشياطين.
ويعضُّ إبراهيم على شفته بأسنانه عضةَ مَن اعتزم أمرًا، وألقى بالورقة التي كانت في يده إلى موج البحر الصاخب، فما تزال السفينة تنقذف بين الموج الثائر من قمة إلى وهدة فإلى قمة من جديد، والرذاذ يلطم وجهه وصدره كأنه الرصاص، وصرعى الدُّوَار من حوله صُفْر الوجوه كأنهم الموتى في وباءٍ كاسح، لقد اعتزم الدكتور إبراهيم في تلك اللحظة ألا ينزل لأحد بعد اليوم قيد شعرة عن كرامته؛ لقد أحس بفرديته وقد انتفخت، وصمم على أن يقف بها عند عودته كما يقف الجبل الأشم من رءوس الناطحين.
•••
عندما سافر إبراهيم الخولي إلى إنجلترا دارسًا. كانت تعتمل في نفسه قوتان متصارعتان: إحداهما إرادة مصممة على بلوغ الهدف مهما كلفه ذلك من عناء، والهدف المقصود الذي أخذ يسعى إليه منذ صدر شبابه، هو أن يكون له دور ملحوظ في الحياة العلمية والثقافية؛ وأمَّا الأخرى فهي حالة دفينة من اليأس أن يحقق هو نفسه مما أراد شيئًا؛ فهو عندما سافر كان بالفعل قد بذل جهودًا لم يعرف مداها إلا هو؛ وأمَّا أقرانه وأصحابه ومن كانوا يكبرونه ومن كانوا يصغرونه، فلم يكن أيٌّ منهم على دراية بما بذله إبراهيم؛ فكلٌّ من هؤلاء قد يعلم عنه شيئًا وتفوته تسعة أشياء، وحتى الذين عرفوا عن جهوده ذلك القليل، فقد ندر منهم جِدًّا من حمل له التقدير، أو ربما حمل التقدير في نفسه سِرًّا مكتومًا ولم يفصح عنه بالقول أو الكتابة.
… استوقفني من الخطباء منظر عجيب: خطيب من هؤلاء رأيته قائمًا على منبره يخطب ولا من سميع! لم يقف أمام الرجل إنسان واحد يستمع إليه، ومع ذلك مضى المسكين في خطابه، يرفع صوته ويخفضه، ويشير بيمناه تارة وبيسراه طورًا، وينحني ويستقيم، ويضرب النضد الصغير الذي أمامه بيده، مقبوضةً مرة مبسوطةً أخرى، دنوت منه، ووقفت إزاءه، أنظر إليه، وما هو إلا أن طاف برأسي خاطر عجيب؛ إذ خُيِّلَ إليَّ أني أنظر إلى نفسي في مرآة، وإنها لفرصة نادرة الوقوع أن تجد لنفسك مرآة تصورها لك فتَهديك بعد ضلال، فما أهون أن تنظر إلى وجهك في مرآتك، لتُصلح ما اختلط من شعرات رأسك، وتهذب ما هاش من شاربيك، لكن أنَّى لك مرآة تجلو أمام ناظريك ما خفيَ من شعاب نفسك، لتُصلح منها ما اعوجَّ إن كانت بذات عوج، أو لتُزهيَ بها أن كانت قمينةً بالإعجاب، ولقد رأيت في ذلك الخطيب مرآة لنفسي، وأخذت دقة الصورة تزداد في عيني جلاءً ووضحًا، فابتسمت ثم ضحكت في نبرة مسموعة.
قال الخطيب: ما يضحكك يا صاحبي؟
قلت: يضحكني أننا شبيهان.
قال: شبيهان؟!
قلت: نعم؛ وليس الشبه في هيئة الجسم؛ فكلانا يبعثر في الهواء طاقته؛ كلانا يبذل الجهد، فيذهب الجهد أدراج الرياح.
عجيبٌ هذا الضوء الذي تلقيه تجارب الأيام على القول المكرور المُعاد! فقد تُردِّد العبارة الواحدة ألف مرة، وتحسب أنك قد فهمت معناها؛ لأنك عرفت معاني ألفاظها كما تشرحها القواميس، فإذا بك تنطق بها مرة أخرى فتلمس فيها حياةً نابضةً لم تعهدها من قبلُ، فكأنما أشرق عليك منها معنًى جديد؛ لأنها في هذه المرة كانت قطعة من حياتك وقبسًا من روحك، ولم تكن ألفاظًا مرصوصةً يقولها الناس فيرنُّ صداها بين شفتيك؛ فكم ردَّدت مع الناس قولهم: «لا في العير ولا في النفير»، ولم أكن أدري أنني إنما أرددها ترديد الببغاوات عن غير فهم حيٍّ صحيح، حتى قلتها منذ قريب فأحسست لها هزة تَشِيع في وجودي، وأدركت أنها لم تعُد مثلًا يُقال، بل أصبحت جزءًا من صميم الحياة؛ وحدث مثل ذلك حين قلت لصاحبي الخطيب إننا نبذل الجهد، فيذهب الجهد أدراج الرياح.
… أرأيت يا خطيب الهواء سيارة أَمسَكها الوحل فأخذت عجلاتها تدور، وهي في مكانها لا تتحول! لو كانت هذه السيارة تنطق لزعمت لك أنها طوت من الأرض فراسخ وأميالًا؛ لأنها تحس في حر أنفاسها حرارة الجهاد، وتحس عجلاتها تدور؛ فهيهات أن يقع في ظنِّها أنها تدور في غير سَيْرٍ إلى أمام، إيمانًا منها بأن ذلك ضد طبائع الأشياء، وما تدري أن هذا الوحل الذي يأذن لعجلاتها أن تدور ثم يمسك جسمها عن السير هو أيضًا من طبائع الأشياء.
نحن أيها الخطيب شبيهان، كلانا أدرك الهدف وأخطأ سواء السبيل؛ أراد لنا نحْسُ الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلِّمون — والمعلمون أحيانًا ما يخدعون، ويبشِّرون بما لا يؤمنون — فأوصونا بأن نجعل من النجم غايتنا، فأبَتْ علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكدَّ ونكدح لنبلغ النجم، وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسرٍ ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته، فكلاهما في أعينهم لامعٌ لألاء، وبربِّك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم مِنَّا الظهور، وتشرئبُّ الأعناق، وتشمخ الأنوف؛ أمَّا إذا أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»؛ فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تُساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار» …
كانت تلك الأسطر بعض ما كتب إبراهيم في إحدى لحظات يأسه؛ والحقُّ أني حين قرأتها تبيَّنت فيها ما يشبه نبرات الأحدب فيما يكتبه، وكثيرًا ما يختلط عليَّ الأمر فلا أدري مَن منهما الكاتب لما أقرؤه؛ إذ تكون النغمة نغمة أحدبية؛ وأمَّا المضمون فيوحي بجوانب أعرفها من حياة إبراهيم.
•••
إن ثلاثتنا — الأحدب وأنا وإبراهيم — لم نجتمع قط حتى الآن في مكانٍ واحد وفي لحظة واحدة لنتفق معًا أو لنختلف على شيءٍ بعينه؛ فكلٌّ مِنَّا منصرِفٌ في دنياه إلى ما خلقه الله له: الأحدب في مجال اهتماماته الأدبية قراءةً وكتابةً، وإبراهيم في حياته العلمية دراسة وشهادات ومؤلفات، وأنا في سعيي إلى كسب العيش والتعامل مع الناس وفق ما تواضعوا عليه من نُظُم وقواعد؛ لا، لم يحدث لثلاثتنا قط حتى الآن أن تمَّ لها لقاء يجمعها، لكنْ كلُّ واحد من الثلاثة قد أصبح على وعي بوجْد الزميلين الآخرَين، وما يربطهما به من خيوط.
كانت تلك هي الصورة عندما عاد إبراهيم (هو الآن الدكتور إبراهيم الخولي)، عاد إلى مصر واثقًا من نفسه، مؤمنًا بدعوةٍ إلى ثورة علمية في حياتنا، تتناول منهج النظر، فتحوِّله من قراءة الكتب لاستخراج الأحكام من بطونها، إلى قراءة المشكلات الحية على «الطبيعة» لالتماس حلولها من واقعها. كان إبراهيم عندما سافر في بعثته العلمية خلوًا من هذين العنصرين معًا، فلا هو على ثقة من نفسه، ولا هو ذو دعوة محددة المعالم والأهداف.
لكنه لم يكد يضع أصابع قدميه في ميدان العمل، حتى نزلت عليه اللكمات واللطمات أشكالًا وألوانًا من هزءٍ وسخريةٍ وازدراءٍ وتصغير، وها هنا ارتدَّ إلى طبيعته التي لازمته منذ السنوات الأولى من عمره، وها هنا كذلك جمعته المصادفة المبصرة مع صِنْويه الأحدب وأنا لأول مرة، ولم يطُلْ بينهم إجراء التعرف بعضهم إلى بعض؛ لأنهم أحسُّوا جميعًا — وفي لمحةٍ خاطفة — أنهم إن لم يكونوا إخوةً توائم فهم كالإخوة التوائم؛ يختلفون فيما بينهم اختلافًا بعيدًا، لكنهم جميعًا يتفقون على محاور رئيسية، هي نفسها المحاور التي أشرت إليها الآن حين قلت عن إبراهيم إنه ارتدَّ إلى «طبيعته» الأولى التي لازمته منذ السنوات الأولى من عمره، والتي كان من أهم عناصرها أمران: أولهما اندفاع نحو المجهول بشجاعةٍ ظاهرة، والثاني فرار إلى انطواءٍ في جُحره ليحتمي في ظُلمته وبين جدرانه؛ فهذان العنصران اللذان يبدوان وكأنهما نقيضان، وهما في الحقيقة متكاملان، وهما اللذان تجتمع عليهما طبائع الأشخاص الثلاثة، ثم يختلفون بعد ذلك ما شاء لهم الاختلاف أن يتباعدوا.
عاد إبراهيم من إنجلترا واثقًا من نفسه، مؤمنًا بدعوته، فاندفع في دنيا العمل شجاعًا، فتلقَّى ضربات من هوانٍ، فلاذَ مسرعًا بانطوائه في عزلة أو ما يُشبه العزلة، وحاول — وهو في تلك العزلة أو ما يشبهها — أن يحافظ على ثقته بنفسه وعلى نشر دعوته من وراء الجدران، فلما حدث أن اجتمع بصِنْويه لأول مرة، اجتمع الثلاثة جميعًا على أن تكون لهم هذه الوقفة الواحدة — كلٌّ في مجاله وفي حدود كيانه — وهي الوقفة التي تحتمي في حصنها وتهاجم على الورق؛ ومن هنا جاء التكامل بين التوائم الثلاثة؛ إذ كتب الأحدب بنبرته الحادة الساخرة؛ وإذا كتب إبراهيم بتحليلاته الهادئة العلمية الموضوعية، وإذا سلكت أنا في مسالك الحياة العملية منخرطًا في قوالبها وتقاليدها، فالصور الثلاث كلها تنطوي على جوهرٍ واحد، قوامه العمل على التغيير بالثورة الصامتة، أو هو المهاجمة من أبراج القلاع التي يلفها الضباب، بما يشبه ما تصنعه القُبَّرَة التي أنشد لها الشاعر «شلي»، فقال عن تغريدها الذي يُسمع وكأنه آتٍ من وراء الحُجُب، إنه يُسمع من مصدرٍ مجهول لا تراه الأبصار؛ أو قل إن الجوهر الذي نلتقي عنده ثلاثتنا، هو كحقيقة البحر المحيط عندما يسكن ماؤه ولا يهتاج بموجه القوي المخيف؛ فإن ليونة الماء وسيولتها — عندئذٍ — تُغري حتى الأطفال بالعبث بها واللعب على ظهرها وعند أطرافها، فهم لا يرون ما وراء ذلك الضعف البادي من قوةٍ يدأب بها البحر المحيط — حتى في سكونه — على إذابة الحديد وتفتيت الجلاميد.
عاد الدكتور إبراهيم الخولي من إنجلترا واثقًا بنفسه مؤمنًا بالدور الذي يعتزم القيام به، لكنه وجد نفسه مُحاطًا بجماعة من أصحاب النفوس الفقيرة، التي تعوِّض خواءها الداخلي بقتل من يصادفها في الطريق ممتلئًا بدفعة الحياة؛ إنها نفوس عاجزة ويعزِّيها عن عجزها أن ترى العجز في الآخرين، إلا أن للفقر صُورًا شتى؛ فمنها اليباب القفر الذي تلتهب رماله برقدة الشمس، ومنها الصخر الأجرد الذي صلَدَ صدرُه وتصلَّبت أطرافه، ومنها السماء لا تجود بالغيث، ومنها الوردة تذبل وتذوي، ومنها الجيوب تخلو من المال … لكن لا اليباب القفر، ولا الصخر الأجرد، ولا السماء اليابسة، ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه، ولا الجيوب الخالية من المال، بمستطيعةٍ أن تصوِّر الفقر بأقوى مما تصوره النفوس الفقيرة؛ ولقد وجد إبراهيم نفسه محوطًا بزمرة من تلك النفوس التي لا تملك الخصوبة لنماء الزرع فتفتك بكل زراع تراه ناميًا، وهي نفوس جماعة من الكبار الصغار: كبار الأجسام والأعمار صغار الهمة صغار الأحلام؛ أقصى قدراتهم أن يصنعوا صنيع التلاميذ في استذكار دروسهم كما هي مكتوبة في دفاتر، فكذلك هؤلاء العاجزون: أقصى ما يطمحون إليه أن تعبث أفهامهم المحدودة بأسطر يقرءونها قراءة العاجزين ويدركون مراميها إدراك العاجزين، وهؤلاء هم الذين أحاطوا بإبراهيم وَضَحوا حوله وضجَّوا حوله بالطنين، ولما كان من طبيعة إبراهيم منذ أول نشأته تلك الحساسية الشديدة التي تدفعه أمام نذالة النذل وجهالة الجاهل وعدوان المعتدي أن يسرع فينطوي، على أن يضرب بسهامه من وراء الجدران. كان ذلك هو الذي حدث له بعد عودته بقليل، وربما استمر معه حتى يومه الراهن.
وكانت تلك السهام من إبراهيم إلى أعدائه ومنافسيه، حجاجًا عقليًّا يدور كله نحو ترسيخ النظرة العلمية في كل ما ليس متصلًا بالذات ووجدانها، والهدف النهائي من معركته مع معارضيه هو الدعوة إلى بعث جديد في الفكر العربي، لا يُتاح له أن يتحقق إلا باصطناع منطق جديد ومنهج جديد.
•••
أمَّا هنا فلنوجِّه أنظارنا نحو الأحدب صاحب الوجدان الملتهب، لنرى ماذا كان يكتب، وكيف كان يحيا، في الوقت نفسه الذي كان صِنْوه إبراهيم يقاتل من يقاتله في مجال الفكر العلمي.
الهدف البعيد للتوائم الثلاثة — كلٍّ في ميدانه وبأسلوب حياته — هو الإسهام فيما يؤدي بمصر خاصَّةً، وبالوطن العربي كلِّه عامَّةً، إلى بعثٍ جديد نواكب به العصر وفكره وحضارته، فإذا كان الدكتور إبراهيم الخولي بحكم دراسته قد تصدَّى لنصرة العقل ومنهجه؛ فقد كان نصيب رياض عطا (الأحدب) بحكم عاطفته الحادة وحساسيته المرهفة، هو التصدي لنصرة الضعيف المحروم، وكان سلاحه في ذلك أن يعيش هو نفسه عيشَ الضعف والحرمان، حتى ولو توافرت له أسباب القوة والمتاع؛ لأن ذلك من شأنه تغذية القلم بمداده إذا كتب.
وكذلك مما يميز الأحدب من إبراهيم، أن إبراهيم إذا جاءه النقد أو جاءته إهانة أو استهانة من آخرين، فإن المرجَّح لشخصيته أن ينظر إلى الأمر بينه وبين نفسه بشيءٍ من الإنصاف، ليرى إذا كان الآخرون على حقٍّ فيما قالوه أو فعلوه أو كانوا على باطل؛ وأمَّا الأحدب فإذا أوذي كان الأرجح عنده أن يتوجه إلى نفسه باللوم والتقريع؛ اعتبارًا منه بأن نفسه تلك لا بُدَّ أن تكون معيبة على النحو الذي أوحى للآخرين بما أوحى من ضروب الإيذاء؛ إنه نوع من الرغبة الدفينة في نفس الإنسان يريد أن يُنزل على نفسه العذاب والألم، وهي رغبة تتفاوت عند الناس ضعفًا وقوةً، ويبدو أن للأحدب منها نصيبًا موفورًا.
… هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية؛ لن أستحي مني مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثًا، فكل الناس هذا الخبيث، لكن الرياء يستر ويُخفي؛ رأيت ظهر اليوم غلامًا أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلفُّ طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنِّها فوق بلاط الإفريز دورانًا شديدًا، لكن الغلام يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعَذَبَة سوطه ضربًا متلاحقًا، حتى تدور ولا تكفَّ عن الدوران، وعدت إلى مجلسي من الدار، فما هي إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة؛ إذ صوَّرت لنفسي فُلانًا وقد قذف بي على الأرض قذف الغلام لنحلته، وراح يُلهِبني بعذابات سياطه حتى أدور ولا أكفَّ عن الدوران لنفعه هو ولا عليه بعد ذلك أن أتعب وأدوخ … إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة اللاعبين، أُضرَب بالسياط لئلا أكفَّ … أطلقت خواطري متلاحقة سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء … رأيت الناس معذِّبًا بعضهم بعضًا؛ كذب ونفاق هذا الذي يكتبونه في الكتب، ويعظون به في المحافل، من أن الإنسان يريد لنفسه ولغيره الراحة والخير … وخطر لي خاطرٌ عجيب، وهو أنْ أمزِّق كتبًا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب …
… لقد حزَّ في نفسي أن يكلمني «ع» وهو يركب السيارة كأنما هو يخاطب حفنة من هواء … لماذا لم أحسم الأمر حين ازورَّت بوجهها أول مرة؟ أقسمت لي أنها لا تُضمِر السوء، وصدَّقتُها؛ كنت أخشى دائمًا أن أسيء إليها، فكيَّلت لي الإساءة لطمات بعد لطمات. كانت غاية في الرشاقة حينما رأيتها، لماذا خفق قلبي لها وما كان ينبغي له أن يفعل؟ يا بُنيَّ لا تتحدث حديث القلب؛ فهذه لغة الشباب ولم تعد شابًّا، ألا ما أشد غرورها؛ ليتني أجد الشجاعة عندي فأُسيء إلى من يسيئون إليَّ بمثل ما أساءوا … كانت نغمة كلامها في التليفون أخَّاذة، لكنها إبليس في صورة البشر؛ إنها الشر كله في صورة إنسان؛ إني لأعجب كيف يكون هذا الشرُّ كله في هذه الرقة كلها؛ آه لو رددت الإساءة بإساءةٍ مثلها، إذن لما عانيت شيئًا من لذع الضمير الذي يؤرقني ويعذِّبني؛ حسبوني أبله ساذجًا، هم مخطئون، لئن أكن قد أمسكت عن الردود الصحيحة في المواقف المختلفة، فما ذاك إلا حياءً، لم يكن بلاهةً ولا سذاجةً، إن الماضي لا يعود، وجرحك سيظل إلى موتك داميًا …
قلت لنفسي وأنا أقرأ للأحدب هذه المقالات: هذان — إذن — عاملان أثارا في المسكين كوامن نفسه، فألحقا به من الإحساس بالصغر ما كانت نشأته قد هيَّأت له الجو والتربة، فما على الظروف بعدئذٍ إلى أن تُلقي ببذرةٍ فتنمو في نفسه وتُورِق بين يوم وليلة، وهذه هي الظروف قد ألقت بذرتين لا بذرةً واحدة، فلا أرباب القلم الذين قبلوه كاتبًا قد أكرموه إنسانًا، ولا هذه الفتاة التي يُشير إليها والتي قد قبلته إنسانًا قد قبلته رجلًا …
لقد راجعت بنفسي كثيرًا جِدًّا مما كتبه الأحدب، لعلِّي أقع على بيِّنات تكشف عما يتعلق به اهتمامه ويحفزه ويثيره، وأحسب أن فكرة «العدل» ربما جاءت عنده في المقام الأول، أو قل إنه لا يسبقها في رأيه إلا «الحرية»؛ فهذا الرجل المنزوي في ركن معتم، والمنطوي على نفسه انطواءً يوشك أن يغلق كل نافذة قد تصله بالضوء والهواء، يثور ثورة عارمة إذا ما مسَّه — أو مسَّ أحدًا يقع في دائرة اهتمامه — شيء من الغبن، كأنما هو يتوقع من البشر أن يَنْصِبوا موازين لا يفلت من دقَّتها مثقال ذرة، ولما كان الإجحاف في حياتنا الجارية أمرًا مألوفًا وشائبًا، حتى لتستطيع أن تعدَّه جزءًا من كياننا الاجتماعي؛ فالظالم لا يكاد يحس أنه ظالم، والمظلوم يعلم مُقدَّمًا أنه سيصبح مظلومًا بين كل عشية وضحاها؛ أقول: إنه لما كان هذا يشبه أن يكون جزءًا من نسيج حياتنا، رأيت الأحدب يتعرض لانفعالاته الحادَّة كل يوم، ولا يعرف قلمه كيف يكتب إلا أن يكشف عن هذه الثقوب والعيوب التي لا تغمض العين لحظة إلا لتنفتح على ثقبٍ هنا وعيبٍ هناك.
لم أكد أصدِّق سمعي، حين أخذ صديقي عالم الآثار المصرية يقرأ لي نصًّا قديمًا من لفائفه البردية، كتبه كاتبه فيما يقرب من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ليصف به حياة الثقافة والمثقفين في عصره، وصفًا لو أزلت منه أسماء الأعلام ومعالم الأحداث، لتضع مكانها أسماء المعاصرين وأحداثهم، لظننته قد كتب عن عصرنا الراهن هذا بعلمائه وأدبائه، نعم، لم أكد أصدِّق سمعي؛ لأنني وقد كنت أعلم أن خصائص الشعوب تخترق حجاب الزمن، فتصل حاضر الشعب بماضيه، لم أكن أعلم، مع ذلك، أن هذه الخصائص العنيدة المكافحة في سبيل بقائها تمتد رقعتها وتتسع لتشمل صفاتٍ كنت أحسبها من التوافه التي تظهر وتختفي مرهونةً بظروفها؛ فليس عجيبًا أن يجيء الأحفاد أشباهًا لأجدادهم في احتفالات الميلاد وفي شعائر الموت؛ لأن هذه أمورٌ موصولة بشرايين الحياة نفسها؛ أمَّا أن يتشابه أولئك بهؤلاء في الطرق التي يتخاطف بها العلماء والأدباء ثمرات جهودهم، بحيث يكون الحاصدون أناسًا غير الزارعين، فذلك حقًّا هو موضع العجب؛ لأنه من التوافه التي لم يكن ليجدر بالزمن الوقور الجليل أن يخطفها ويصونها لتنتقل على ظهور الأجيال من الجد إلى الحفيد.
وكاتب البردية التي أخذ صديقي عالم الآثار يفكُّ لي رموزها، هو كاهن من معبد آمون في مدينة طيبة، والظاهر أنه كان ذا مكانة مرموقة بين كهنة المعبد؛ لأنه يتحدث حديث الواثق بنفسه، تسري في كلماته رنَّة العظماء حيث يتحدثون إلى من يصغرونهم منزلةً وقدرًا، اسمه — فيما أذكر — حريحور أو ما يجري مجرى هذا الاسم في الوزن والنغمة، وقد بدأ رسالته هذه بذكر المكان الذي خطَّها فيه، فإذا هو قد كتبها في مركبٍ أقلع به من طيبة إلى مصر السفلى، إذ هو في طريقه إلى البحر الكبير، قاصدًا إلى بيبلوس على الشاطئ اللبناني، في مهمةٍ لم يُفصح عنها.
أخذ الكاتب يدوِّن تفصيلات من حياته اليومية: ماذا كان يأكل، وأين ترسو به السفينة، وكيف يعترك النوتيَّة آنًا ويَسْمُرون في صفاءٍ آنًا، ثم انتقل إلى تسجيل ما أراد تسجيله ليروي لنا عن معركة كلامية دارت بينه وبين كاتبٍ قليل الشأن. كان لا يزال من السلَّم الكهنوتي في أدنى درجاته، ومع ذلك اجترأ هذا الصغير على مجادلة حريحور الذي كان يعلوه في مراتب الكهنة بدرجات كثيرة.
ففي أمسيةٍ مُقْمِرة من أماسي طيبة الجميلة في شهرٍ يقع في مستهلِّ الصيف. كان حريحور — وهو كاتب البردية يروي فيها عن نفسه — جالسًا في بهوٍ مكشوف من أبهاء المعبد، وإذا بشبحٍ إنساني يقترب منه في سكون خاشع، حتى إذا ما واجهه استأذن في الجلوس لأن عنده أمرًا يريد أن ينفضه عن نفسه ليستريح، وما هو إلا أن أشار له الكاهن الشيخ ليأذن بجلوسه، وينحني تجاهه انحناءة خفيفة ليسمع، فطفق الكاهن الشاب — ولم يذكر اسمه من أول البردية إلى آخرها، مكتفيًا بالإشارة إليه إشاراتٍ لا تخلو من معاني التصغير والتحقير — طفق الكاهن الشاب، في لعثمةٍ أوَّلَ الأمر وفي طلاقةٍ بعد ذلك؛ طفق يشكو من أن حريحور قد نسب إلى نفسه قصيدةً من الشعر، وتلاها على ملأ من الناس وكأنها من صنعه، فلم يشأ الشاب — وهو ناظم القصيدة الأصيل — لم يشأ أن يعترضه أمام الناس، وها هو ذا قد جاء إليه ليطلب منه أن يصحِّح للناس هذا الخطأ، وهو خطأٌ لا بُدَّ أن يكون قد وقع سهوًا من الكاهن العظيم.
ويروي لنا حريحور كيف صُعِق لهذه الجرأة النادرة من صغيرٍ مغمورٍ يواجه بها عظيمًا مشهورًا، وحاول أن يُفهمه بأن الملكية في ثمار الفكر هي للجماعة لا للفرد، على أن يظفر بفوائدها أطول الناس ذراعًا وأجهرهم صوتًا وأرفعهم منبرًا؛ فأقل شيء في مجال الفكر هو أن تخلُق الفكرة وتبدعها، أما الأهمية كلها فإنما تكون لمن استطاع أن ينشرها ويذيعها، هَبْ أنك يا بنيَّ قد تُرِكْت لقصيدتك، لا تجد اللسان البليغ الذي يُنشدها، فما قيمتك عندئذٍ، وما قيمة قصيدتك هذه؟! وهنا أراد الكاهن الشاب أن يقول شيئًا، لكن الكاهن العظيم قد ضاق به صدرًا فنهره وطرده من المعبد.
ولقد بدأ حريحور في برديته بذكر هذه الحادثة، لا لأن لها عنده خطرًا في ذاتها، بل ليستهلَّ بها حديثًا يريد أن يُثبته، لعله يُرسي به للأجيال القادمة أصولًا ومبادئ تكون هي العماد كلما أشكل عليهم أمرٌ في أخلاقية العلم والأدب.
ففي شريعتنا — هكذا كتب حريحور — لا تقتصر البلاغة على الكلام المنطوق، بل هي صفة تصف الصمت قبل أن تصف الكلام؛ فالصمت عندنا أبلغ وأفصح؛ لكن الصامت البليغ ليس هو كل صامت، وإلا لجاز أن نصف بالبلاغة جلاميد الصخر وصُمَّ الجبال، وإنما تكون البلاغة للصمت عند وجهاء القوم وعظمائهم دون السفلة منهم والسوقة والرعاع، فاظفر لنفسك أوَّلًا بمقعد كبير وثير، تحيط به الحاشية الخادمة المطيعة، قبل أن يَحِلَّ لك أن تسلك في زمرة أصحاب الصمت البليغ، وينتج عن هذا المبدأ الأول مبدأ ثانٍ، وهو أن الأديب لا يُشترط فيه أن يقول أدبًا أو أن يكتب أدبًا؛ لأن شريعتنا تعطي الصدارة في دنيا الأدب لمن كسب لنفسه البلاغة الصامتة، فلا يُسأل أديب عن أدبه إلا إذا كان أديبًا ناشئًا صغيرًا؛ أمَّا ذو الجاه العظيم؛ فهو أديبٌ بسحنته وملامحه وطريقة قيامه وقعوده، وهاكم تاريخنا الأدبي كله شاهدًا على صدق ما أزعم، فكلما علا الأديب وصعد قل إنتاجه، حتى إذا بلغ قمة المجد كان إنتاجه صفرًا، وسِرْ في هذا المنطق إلى نهايته، تجد أن العلو والصعود كعروش الأباطرة والملوك؛ قد تجيء أصحابها بالوراثة لا ببذل الجهود، فحين يكون الأديب — في ملَّتنا — أديبًا أصيلًا عريقًا، نُعفيه من قول الأدب وكتابته، فلغيره من الصغار العاملين أن يكتب وأن يقول، وله هو الريادة والقيادة؛ فأنَّى له بطول الزمن الذي يسع أن يُنتج الأدب وأن يرود ويقود في آنٍ معًا؟ إنه إمَّا هذه وإمَّا تلك، ولا جمع بين الضدين في أمثال هذه الأمور.
إن هذا الكاهن الصغير حين اجترأ عليَّ ببذاءته في سكون المعبد وجلاله، وقد فاته ما قد خطَّته الأقدار للناس من حظوظ؛ فللمرضيِّ عليهم أن يعيشوا في رفعةٍ ونعيم؛ وأمَّا المغضوب عليهم فلزام أن يعملوا كادحين، وهذا مبدأٌ حكيمٌ مهما اختلف مجال التطبيق، فإذا كان فلاح الأرض يزرعها وصاحب السيادة يأكل الزرع، فكذلك على صغار الناس في دنيا الفكر والأدب أن يكتبوا وينظموا، ليكون الحصاد من نصيب الكبار، تلك هي عدالة السماء التي لا تنحرف عن الجادَّة ولا تجور.
وهنا ينتقل حريحور ليضرب المثل بالتجارة والقرصنة، قائلًا في يقين من لا تخالجه خلجة شك واحدة: إن التجار هم الذين يجوبون البحار بتجارتهم التي اشتروها بالمال، وأرادوا من ورائها الربح بالكد والكدح والعرق، لكن فوق هذه الطبقة طبقة أعلى وأرفع — إذا قيست الأوضاع بمقاييس السماء العادلة — وأعني فئة القراصنة، الذين لا يُطلب منهم إلا شيء من مهارة وبراعة، فيعلمون كيف يباغتون وأين؛ لتكون ثروات التجار من نصيبهم هم حَقًّا مشروعًا حلالًا، ويتعجب حريحور ممن يأنفون من تطبيق أصل القرصنة ومبادئها على دنيا الفكر والثقافة؛ فماذا يمنع أن تفكر أنت وأسعد أنا؟! ماذا يمنع أن تشقى أنت وأنعم أنا؟! ماذا يمنع أن تهيئ أنت الطعام لآكل آنا؟! تلك هي سنة الله في خلقه، لا فرق عندها بين زراعة وتجارة وثقافة؛ أليست الأرض مليئة بمن يعملون ولا يأكلون، وإلى جوارهم من يأكلون ولا يعملون؟! إذن فهذه قسمة واجبة معقولة، كائنًا من كان العاملون والآكلون.
إلا أنها لبدعة وضلالة من هؤلاء الصغار أن يستنُّوا للأشياء طبائع غير ما أراد لها الله من طبائع، هي بدعة وضلالة ينبغي وأْدُها في مهدها قبل أن يستفحل أمرها، وتلك هي أن يظن الكاتب أو العالم أو الفنان أن ثمرة جهده عائدة عليه بجاهٍ وسلطان! من هو الفنان الذي نحت في الجبل هيكلًا وشاد فوق الأرض معبدًا؟ من هو النحات الذي نحت التماثيل وأقام المسلَّات؟ من هو الكاتب الذي أنشأ كتاب الموتى؟ من هو العالِم الذي حسب الحساب بأرقامه عندما شيَّد الهرم؟ هل سمع بأسمائهم أحد؟ لكن الأسماء المسموعة هي أسماء الملوك والأمراء الذين من أجْلهم أُقيمت الهياكل والمعابد، ونُصبت المسلَّات، ونُحتت التماثيل، فمن ذا الذي خدع ذلك الكاهن الشاعر، فأوهمه بأنه ما دام هو الذي نَظَم الشعر فمن حقه أن ينعم هو بالثمرة والعائد؟ إن قسمته في اللوح المحفوظ هي أن ينظم الشعر، وقسمتنا نحن القادة الرواد هي أن نوجِّهه كيف شئنا، وأن نضعه أين شئنا، وأن تكون القطوف نصيبنا؛ لقد خرجت الفراشة الجميلة المزهوَّة بألوانها وزخارفها من دودةٍ حقيرة، فهل يحق لهذه الدودة أن تُقاسم الفراشة زينتها وزخرفها؟!
إن هؤلاء العاملين الصغار عليهم تحميل السفن بأثقالها، ولنا نحن الكبار حق القرصنة لنأخذ الأحمال معبَّأةً مجهَّزة، وبالقرصنة — لا بالتجارة — بُنيت دول وأُقيمت عروش، نحن الغزاة الفاتحون وهم الأسلاب؛ فهل سمعتم بغُزاةٍ يقاولون ويفاوضون ويقاسمون بالقسطاس؟ ألا ترون الغزاة ينقضُّون على الفرائس انقضاضًا، فتكون لهم الغنيمة، وللفرائس الذل والهزيمة؟ إن ثمرات التين الناضجة لها الحلاوة كلها، صُنعت لها ولم تصنعها لنفسها، صنعتها لها الجذور والجذوع والأوراق والفروع، فهل نقول في نهاية الأمر إنها حلاوة التين، أو ترانا ننسب الحلاوة إلى صانعيها؟ ألا فليعلم هؤلاء الصغار أن الكُتَّاب يكتبون والملوك يوقِّعون، وتلك هي الحياة كما أراد الله أن تكون على الكوكب الأرضي، فعلى الناقمين الثائرين أن يرحلوا — إذا استطاعوا — إلى كوكبٍ غير هذا الكوكب، ليلتمسوا لأنفسهم أوضاعًا جديدةً تُرَتَّب على أساس الجهد المبذول، لا على أساس الأبهة ذات الطنين.
لقد أكثرت من كلمة «الصِّغار»، وأخشى أن ينصرف اللفظ إلى صغار العمر، بحيث يُظَن أن القسمة في شريعتنا هي قسمة بين صغار الأعمار وكبارها؛ فقد أردت بالصغار صغار الوزن والحيز؛ إذ قد تكون صغير السن لكنك ذو حيِّزٍ ضخمٍ ووزنٍ ثقيل، كما قد تكون كبير السن لكنك خفيف تافه ضئيل.
فلما بلغ صديقي عالم الآثار من برديته هذا المدى، وجدها مهرأة محترقة مطموسة المعالم بفعل الزمن، فأخذ يلفُّها بسبَّابتيه في رفقٍ، إلى أن ظهر منها جزءٌ آخر تسهُل قراءته، فاستأنف القراءة، فإذا الكاتب قد دخل في رواياتٍ يرويها عن أشخاصٍ عرفهم أو سمع عنهم، ليؤيِّد بأخبارهم صدق مبادئه؛ فكم من عاملٍ مرهق ذهبت جهوده عرقًا على جبينه وتيجانًا على جباه الآخرين، وكم من رجلٍ جاءه المجد منحةً سماويةً لم يبذل في سبيله ساعةً من عمل.
أخذ حريحور في برديته يروي عن مجلس الكهنوت في مدينته طيبة، ويستعرض تواريخ أعضائه، ليطمئن إلى سلامة حُكمه وسداد حكمته؛ فهذا عضو من أبرز أعضائه منزلةً وأعلاهم مكانةً، ماذا عنده إلا مقدرته الفائقة في اختيار أماكن الجلوس كلما أقيم للناس حفل في هيكل أو معبد؟! إنه يجيء إلى المكان مُبكِّرًا، ويقف عند الباب لحظة، يتلفت فيها يَمْنَةً ويَسْرَةً وإلى أمام، وبحدسه الصادق يعرف أين مكان الكاهن الأعظم ليختار هو أقرب المقاعد إلى حضرته ونظرته، بحيث يصبح على يقينٍ من أن نظرةً واحدةً من نظرات الكاهن الأعظم لن تضيع عليه سُدًى، وأن الكاهن الأعظم ليعجبه من رعيته مثل هذه البصيرة النافذة والاختيار المتروِّي، فهل يسعه عند تعيين الحاشية إلا أن يجعل صاحبنا هذا في مقدمة التابعين، فما إن يجلس على كرسيِّ الحاشية حتى تُخلَع عليه أردية العلم والفقه؛ علم الدنيا وفقه الدين. وإن حريحور ليروي عن صاحبه هذا ليبين للنَّاس صدق الحكمة القائلة: إنَّ المرء حيث يضع نفسه؛ فضع نفسك على مقاعد الرئاسة تكن رئيسًا، وعلى مقاعد العلماء تكن عليمًا، وعلى مقاعد الأدباء تكن أديبًا، فهل شهدتم حقيقةً أوضح من هذه الحقيقة وأجْلى؟!
ولست أدري لماذا لم يذكر لنا حريحور اسم صاحبه ذاك، أو لعله قد ذكره في الجزء الذي أصابه الزمن بالطمس والمحو؛ وأقول ذلك لأنه انتقل في حديثه إلى الرواية عن عضوٍ آخر في مجلس الكهنوت، قال إن اسمه أميناتون، سلك طريقه إلى المجلس عن طريق المريدين والأتباع؛ فالطريقة هنا هي عكس الطريقة الأولى. كانت الطريقة الأولى هي أن تختار لنفسك أن تكون تابعًا، وكل ما في الأمر أن تُحسِن اختيار الرائد المتبوع؛ أمَّا هذه الطريقة الثانية فهي أن تختار لنفسك أن تكون رائدًا متبوعًا، ثم تعرف كيف تجمع حولك الأتباع؛ لأنه إذا كثر الأتباع وازدحموا وملئوا الهواء بضجيجهم. كانت الحصيلة المؤكدة المحتومة، هي أن يقول الكاهن الأعظم لنفسه: إن لهذا الرجل لقدرًا عظيمًا في دنيا الفكر والأدب والعلم والفن، فهاتوه في مجلسنا عضوًا ليَشْرُف المجلس بوجوده.
وينتقل الراوية إلى عضوٍ ثالث، يقول: إنَّ اسمه حبحوت، قد سلك إلى المجلس طريقًا ثالثًا؛ فلا هو اتَّبع أحدًا ولا استتبع أحدًا، إنما طريقته أشبه ما تكون بعالِم السيمياء الذي يُحِيل الناس ذهبًا؛ فلا تدري كيف يُغري صغار الكُتَّاب بأن يقدِّموا إليه أعمالهم ليَهديهم في أمرها سبيل الصواب، فتقع عيناه الماهرتان المدرَّبتان على ما يصلُح من هذه الأعمال للصَّهْر في معمله، فتراه يخفيها عن أصحابها في جُبٍّ مُعْتِم، ويماطل أصحابها ويماطل، ثم يفعل النسيان فعله، فإذا هو يخرجها من محابسها لينشرها في الناس ملكًا له حلالًا، ولست أرى في ذلك شيئًا من الظلم على أحد؛ لأن العبرة بمن استطاع أن يطالع الناس في نور الشمس، لا بمن أخفى عمله في ستر الظلام.
وعلى ذِكر الظلام وستره نقول: إن القراصنة لم يكونوا دائمًا ممن يباغتون السفن في وضح النهار، بل منهم — ولعل هؤلاء أعتاهم — من يُفضِّلون التسلل إلى مدن الشواطئ في عتمة الليل، ينهبون ويأسرون، ويخرجون بالغنائم والسبايا، وما يزال الليل «منشور الذوائب»، وعندنا في مدينة طيبة، ومن أعضاء مجلس الكهنوت أنفسهم، قراصنة الليل وقراصنة النهار، كلٌّ في مجال تخصُّصه يجول ويصول.
ويمضي حريحور في برديته مصوِّرًا لنماذج القراصنة في بحر الثقافة على عهده، فيلفت أنظارنا إلى قرصانٍ يأبى عليه ضميره الحي أن يُبقي السلعة المنهوبة على شكلها؛ لأنه يرى في ذلك خروجًا على مبادئ الأخلاق، فتراه يعمد إلى تشويهها لتختفي ملامحها، كلها أو بعضها، لعل ذلك أن يكون له شفيعًا. وأعسر مشكلة تصادف هذه الطائفة المهذبة من القراصنة، أن السلعة المنهوبة المراد تغييرها، كثيرًا ما تكون مُفْرِطة في حيويتها، حتى لتراها كلما مسَّها إزميل التشويه، اختلجت يد القرصان العامل فيها بإزميله، وطفقت تنتفض هنا وتتلوى هناك، حتى يتركها قرصانها وعلى جسدها ملامحها الأولى، يعرفها بها أصدقاؤها القدامى إذا ما صادفتهم في بعض الطريق.
على أن أبرع القراصنة جميعًا في دنيا الفكر والأدب، جماعة شأنها عجبٌ من عجب؛ لأن الواحد منها لا يجاهد ولا يسعى، إن له طريقة عجيبة في اصطناع السحنة التي تشعُّ هيبةً ووقارًا؛ إنه لا يمالئ أحدًا ولا يدع أحدًا يمالئه؛ إنه لا ينهب شيئًا من برٍّ أو من بحر؛ إنه في جلسته الوقورة الهادئة، أو في مشيته البطيئة الثابتة، أو في نبرات حديثه الواضحة المتأنية، يجذب الأضواء ويعكسها رائعة وضَّاحة، كما يتلقى القمر ضوء الشمس فيعكسه، فيَرُوع الناسَ بجماله، هل يجوز لأحد أن يُنكِر على القمر روعة ضيائه لكون هذا الضياء منعكسًا على سطحه الظاهر، وليس منبثقًا من فطرته وطويته! كذلك قل في هذا النوع الجليل من قراصنة الفكر والأدب؛ لا يجرؤ مجترئ أن يسأل عنهم ماذا قدَّمت للناس رءوسهم وبأيِّ شيءٍ جرَت أقلامهم، وإذا سأل سائل مثل هذا السؤال عن أحدهم. كان هو الحقيق عند القوم باللعنة، وإن هذه الطائفة من القراصنة غالبًا ما تكون لهم الريادة والقيادة، مؤهِّلهم الوقار الجادُّ، وشهادتهم الرصانة الرزينة؛ ولا عجب — إذن — أن يكون معظم أعضاء المجلس الكهنوتي في طيبة من هذا الصنف النفيس.
ومرة أخرى بلغ صديقي عالم الآثار من برديته موضعًا نال منه الزمن بالبِلَى، فهتكت فيه الأسطر ومُحيت الكلمات، فنظر إليَّ صديقي ونظرت إليه، وتوقَّع كلٌّ مِنَّا أن يسمع من زميله شيئًا، ودام هذا الصمت المتعجب لحظة، لفظت أنا بعدها زفرة المبهوت لمَّا سمع، فسألني صديقي: ماذا ترى؟ فقلت: ما أراك إلا رامزًا أوضح الرمز بماضٍ غابرٍ إلى حاضرٍ مشهود.
لم يكن الثلاثة — الأحدب وإبراهيم وأنا — إخوةً ولا أولاد عمٍّ وخال؛ فليس بين أيٍّ منهم والصِّنْوين الآخرين من التشابه بقدْر ما بينه وبينهما من الاختلاف، ولكنهم برغم ذلك — كما أسلفت القول عنهم مرارًا — متواصلون مترابطون على نحوٍ حيويٍّ عجيب، فقل إن شئت إنه نوع من التكامل، بحيث تتألف من ثلاثتهم وحدةٌ واحدة كان يمكن أن تتوافر للفرد الواحد لو أنه جاء فردًا متزن الفطرة والسلوك؛ فالأحدب هو «الطبيعة» أو هو «الحيوان» من الكيان البشري، هو الجهاز الفطري من الإنسان، الذي لولاه لما وجد الأساس الذي يُقام عليه الإنسان بعد تحضُّر وتهذيب؛ ومن هنا جاءت قوَّته وكان ضعفه في آنٍ معًا؛ فيه قوة الطبيعة وفيه ضعف البدائية، إنه كائن منفعل أكثر منه كائنًا مفكرًا؛ وأمَّا إبراهيم فهو العقل الدارس الذي لا يكاد يتميز بخاصةٍ تجعل منه إنسانًا بغير شبيه؛ لأن كل عقل دارس هو ككل عقل دارس، ما دام موضوع الدراسة معيَّنًا محددًا، حتى لو كان لإبراهيم رأيه الخاص في مجال دراسته؛ فهي خصوصية كان يمكن أن يتميز بها رجل من الهند أو رجل من البرازيل؛ لأنها ليست هي الخصوصية التي تنبع من الروح وهو مرسَل على سجيَّته؛ ولذلك فلا يحدث قط أن يكون إبراهيم هذا أو من يماثلونه من سائر البشر الدارسين دراسة علمية موضوعية، موضعًا لحب الآخرين أو موضعًا لسخطهم؛ فقد يوافق الآخرون على موقفه العلمي وقد لا يوافقون، لكن الأمر على كلتا الحالتين لا يقتضي حُبًّا أو كراهية، ولا كذلك الأحدب ومن يماثلونه ممن يحبون حياة العاطفة، فها هنا تكون الخصوصية المميزة حقًّا، وها هنا يقف الآخرون من صاحب تلك العاطفة وميولها، مواقف الحب والكراهية، والرضا والسخط، والطمأنينة والغضب.
وأمَّا أنا — فوزي الراوي — فأتميز دون الآخرين بسهولة الانخراط في قوالب المجتمع بكل ما فيه من عرفٍ وتقليد ومجاملة وصداقة زواج ومواطنة وانتماء؛ فقد يكون لديَّ شيء من عاطفة الأحدب، دون أن تفصل تلك العاطفة بيني وبين سائر الناس، كما قد يكون لديَّ شيء من عقلانية إبراهيم، ولكنها عقلانية لا ينشأ عنها اعتزالٌ وانفراد.
لم تكن هذه الفواصل بين ثلاثتنا واضحة عندما كُنَّا صغارًا، وهذا القول هو من قبيل الافتراض المحض؛ لأننا لم نستطع أن نعود بذاكرتنا إلى قيام علاقة بيننا ونحن في سن الطفولة، بل إنها علاقة لم نستطع تبيُّنها في مرحلة المراهقة وأول الشباب، ويبدو أنها فواصل أخذت في النشأة والظهور منذ بدأنا التعرُّف بعضنا على بعض، وهي الفترة التي بدأنا فيها حياتنا العملية، وبلغت أوضح حالاتها منذ ظهر الأحدب كاتبًا، وسافر إبراهيم في بعثته الدراسية.
كان يسيرًا عليَّ أن أكوِّن الصداقة مع من يتجانسون معي في ناحية أو أخرى من نواحي الحياة؛ ولقد مررت خلال حياتي الناضجة بمجموعتين من الأصدقاء. كانت الأولى مكونة من زملاء الدراسة، وجاءت الثانية بعد ذلك بنحو عشرين عامًا، ويربط بين أفرادها نوعٌ من التقارب الفكري، كنت بين المجموعة الأولى أسعد نفسًا مني بين المجموعة الثانية. كانت الأولى من ذلك النوع الذي يُقال عنه حقًّا إن الصديق الحق يوسِّع من رحابة النفس؛ لأن الصديق فيها كأنما يضيف إلى نفسه نفوس سائر الأصدقاء؛ إذ لا تكون بينهم الحواجز التي تحُول دون أن ينفضَ كلٌّ منهم دخيلة نفسه بغير حذر أو حرج؛ وأمَّا المجموعة الثانية فكانت بين الأفراد حواجز وسدود. كان بين أفراد المجموعة الأولى تنافُس الأنداد؛ وأمَّا بين أفراد المجموعة الثانية فكان فيها التعالي والتَّفاخر والحذر والكتمان.
وربما وضح الفرق بين المجموعتين إذا قُلت عن الأولى إن رجلًا في حرارة الأحدب كان يمكن أن ينخرط فيها؛ أمَّا إبراهيم فلا أتخيَّله مقيمًا على رابطةٍ تربطه بها زمنًا طويلًا، على حين أن إبراهيم هذا ببرودةٍ عقلانية كان يمكن أن ينخرط في المجموعة الثانية في غير عسر؛ لأن الانفصال عنها يتم كذلك في غير عسر؛ لأن الروابط ليست قلبية بين أعضائها؛ وأمَّا الأحدب فما كان يطيق مع المجموعة الثانية جلسة أو جلستين؛ لكنني كنت بحكم تكويني الذي أشرت إليه أن أكون عُضوًا في الجماعتين على حد سواء.
ولقد ظهر الفارق بيني وبين الصِّنوين الآخرين بصورةٍ أجْلى في الزواج؛ أمَّا الأحدب فقد جمد عند حبه لسميرة التي أشعلت في قلبه الجذوة عندما كان في مرحلة المراهقة، وكان كلاهما — سميرة والأحدب — في تلك المرحلة من العمر على سذاجةٍ ريفية أو ما يشبهها؛ أمَّا هي فقد عاشت بقية عمرها على تلك البساطة الأولى، لم تدعها ظروف حياتها إلى أن تغيِّر منها شيئًا؛ وأمَّا هو فقد ارتفع درجاتٍ في السلم الثقافي، ولكنه بالنسبة إلى الجنس الآخر ظل على بساطة الفطرة التي كان عليها عندما أشعلت له سميرة النار.
وأمَّا إبراهيم فليس له قلبٌ يسيِّره، ولست أدري من أمر زواجه شيئًا، ولكنني على يقين من الطريقة التي يواجه بها شئون الحياة كافة — جنسًا وغير جنس — فهو إذا ما أراد امرأةً تشاركه الطريق، لجأ إلى عقله ليصور له تركيبةً ذهنية لامرأةٍ قد لا يكون لها وجود، وعاش مع ذلك الوهم الذهني؛ إنه رجلٌ بضاعته أفكارٌ وتصوراتٌ يراعي في تكوينها ما يظن أنه الكمال، ثم يَقْنَع من دنياه بهذا القدر.
وأمَّا أنا فقد أنعم الله عليَّ بكثيرٍ جِدًّا من نِعم الدنيا، وكان أجلُّها زوجةً ربط بيني وبينها كل الروابط التي تربط رجلًا وامرأةً على حبٍّ ورحمةٍ ومودة؛ فقد وجدت معها نفسي بكل حروفها، من الألف إلى الياء؛ إذا كنت في إحدى لحظات العقل وجدت معي عقلًا يشارك؛ وإذا كنت في نشوة من شعرٍ قرأته أو قطعة فنية شهدتها، وجدت ذوقًا فنيًّا يستجيب؛ وإذا غمرتني موجة من شئون الحياة العملية، وجدت من يحمل معي العبء، أو يحمل عني معظم العبء؛ وإذا أخذني غرور بموقفٍ وقفته أو بشيءٍ كتبته، وجدت من يُشبع في نفسي الضعيفة أوهام الغرور؛ إنها تستطيع أن تكون لي مجتمعًا بأسره.
وبهذا التكامل النادر بين شخوصنا الثلاثة، اكتملت «نفس» فروى الراوي «قصتها» مجتزئًا من بحر الأحداث في حياتها بما يقدِّم للرائي صورةً أو ما يشبه الصورة.