شفق الغروب
كُنَّا نحن الثلاثة الرفقاء؛ أنا (فوزي الراوي) والأحدب (رياض عطا) وإبراهيم الخولي، متقاربين في العمر، فلم يكن الذي يفرق بيننا هو التفاوت في عدد السنين، بل كان اختلافنا في الطبائع؛ أمَّا أنا فقد كنت دونهما معًا، أسلك نفسي في قوالب المجتمع بمعظم تقاليده وأعرافه؛ ولذلك كنت أكثر منهما هدوء نفس وراحة بال؛ وأمَّا رياض عطا (الأحدب) باشتعال عواطفه، وإبراهيم الخولي ببرودة عقلانيته، فقد كانا على طرفَي نقيض أحدهما من الآخر، ولكنهما كانا معا ينبوان عما يرضى عنه جمهور الناس.
لم نكد نحن الثلاثة نعبر الستين من أعمارنا، حتى حدث اختلافٌ ظاهرٌ في الصورة التي كانت تجمعنا معًا قبل ذلك في ثالوث واحد؛ وبيان ذلك أني جمدت على الطريق أسلك في حياتي العملية على نحو ما تسلك الكثرة الغالبة من الناس، داخل البيت وخارج البيت، وفي حدود أسرتي وخارج تلك الحدود؛ وأمَّا زميلاي الآخران، فالأمر معهما مختلف عن ذلك اختلافًا بعيدًا، وكأني بهما — وا عجباه — يقتربان أحدهما من الآخر، اقترابًا أشك أن يكون دمجًا لهما معًا في هوية واحدة، بعد أن كانا مختلفَين اختلاف العاطفة الساخنة والعقل المثلوج؛ وكيف كان ذلك؟ لقد عهدت كُلًّا منهما كاتبًا؛ فأمَّا الأحدب فقد عهدته يكتب وكأنه ينفث اللهيب من قلمه؛ وأمَّا إبراهيم فعرفته باسطًا لأفكار العقل بمنطق خالص، فلما أدفأته حرارة الوجدان؛ وأمَّا بعد أن بلغا من العمر ما بلغا، فقد صار الأحدب أقل عاطفةً وأكثر منطقًا، كما صار إبراهيم أقل منطقًا وأكثر عاطفةً، فتشابه الكاتبان حتى كدت لا أميِّز بينهما؛ فأقرأ المقالة أو الكتاب لأحدهما فأظنه للآخر، إلا أن أرجع ببصري إلى اسم الكاتب فأعرف لأيهما أقرأ، ولهذا فإني في روايتي هذه عنهما في هذا الفصل الأخير، سأتجاهل أنهما اثنان، وسأتحدث عنهما وكأنهما رجل واحد امتزجت على قلمه العاطفة والفكرة في كيانٍ واحد.
ولكل سيرةٍ نقطة ابتداء، ونقطة البدء في سيرة صاحبنا الجديد — ولنُطلق عليه اسم إبراهيم الأحدب إذا شئنا — كانت هي اللحظة التي روى لي عنها إبراهيم عندما كان يُلقي على طلابه محاضرة. كان يعلم — وطلابه لا يعلمون — أنها هي المحاضرة الأخيرة في حياته العاملة بالجامعة. كان ذلك في الأيام الأولى من شهر مايو، الذي لم يعد بعده إلا شهر واحد، ثم يُحذَف اسمه من قائمة هيئة التدريس لبلوغه سن التقاعد، كما جرى العرف أن يسمُّوه. كان إبراهيم في تلك المحاضرة الأخيرة أشبه بالروائي جيمس جويس وهو يكتب رواية يوليسيز، فينظر إلى ما يدور حوله مرة، ويغوص إلى باطن نفسه مرة، حتى اختلط الأمر بين ظاهرٍ وباطن، فهكذا كان إبراهيم عندئذٍ، يحصر ذهنه في الفكرة التي يعرضها على الطلاب حتى لا يلتاث معه القول وتضطرب العبارة، لكنه لم يستطع برغم ذلك إلا أن يغوص داخل نفسه ليحسَّ الرجفة الخفية التي كانت تسري بين أوصاله، لعلمه بأنه قد أشرف بحياته النشيطة العاملة على نهايتها، وكأنه كان لا يصدق أن ستين عامًا من عمره قد انقضت.
نعم إن الجامعة قد سارعت — مشكورة — فأرسلت إليه مع الخطاب الذي تعلنه فيه بانقضاء عهدها معه أستاذًا في قائمة الأساتذة، خطابًا آخر تنبِّه فيه بأنها تحرص على بقائه في ساحتها؛ ولذلك فقد عيَّنته أستاذًا غير متفرع، لكن هذه الرابطة بكل ما فيها من خيرٍ لم تعد هي الرابطة التي كانت؛ فلقد أراد إبراهيم ذات يوم أن يسترد من الجامعة شهادة الدكتوراه لأنها كانت مطلوبة في ظرفٍ ما، فأحالوه إلى مخزنٍ بإدارة الجامعة خُزِّنَت فيه ملفات العاملين، وهناك طلب من الموظف المسئول استرداد تلك الوثيقة مؤقَّتًا، فما كان من الموظف إلا أن جاء له بملف أوراقه، وفتحه أمامه وقال: خُذ من أوراقك ما شئت، خذها كلها إذا أردت، فلم يعد بين الجامعة وبينك من صلة؛ لم تعد أوراقك هذه مطلوبة لنا، اللهم إلا ورقة واحدة، هي شهادة الميلاد، وقد أخذناها بالفعل وأرسلناها إلى حيث ينبغي لها أن تُرسَل.
لم يقل الموظف فيما قال كلمة باطل؛ كل ما قاله حق، لكنه حقٌّ وقع على قلب إبراهيم وقْع الحناجر، لماذا؟ ألم يكن إبراهيم هذا مفتونًا بمنطق العقل، لا يبتغي لنفسه وللناس إلا كلمة حقٍّ يقرُّها عقل لم تُضعفه عاطفة؟ فما الذي هزَّه وقلب كيانه من قولة حق؟! إنه إذن لم يعد هو إبراهيم الذي عَهِدته قبل ذلك وعَهِده الناس، وفلا بد أن يكون قد تقمَّص شخصية الأحدب، فامتزجت في إهابه عاطفةٌ بعقل، وعقلٌ بعاطفة.
•••
كان ذلك هو غروب العمر قد حانت ساعته ولاحت بوادره، لكن صاحبنا إبراهيم قد أخطا الحساب؛ فلئن كان ذلك غروبًا؛ فهو إذن غروبٌ قد طالت ساعته وكأنه الغروب لمن يسكن منطقة القطب في فصل الصيف، وإلا فهل علم إبراهيم عندما حُذِف اسمه من قائمة الأساتذة العاملين، أن ما يقرب من عشرين عامًا سيحياها بعد ذلك أنشط ذهنًا وأخصب إنتاجًا، وأكثر إبداعًا للفكر الأصيل المبتكر مما كان في أي مرحلة من مراحل عمره؟ لكن ذلك هو الواقع الذي كان، فكأنما سنة التقاعد — كما يسمونه — هي بذاتها سنة مولد جديد، أو قل إن الشجرة التي دُفنت بذرتها في الأرض ولبثت تنمو بجذعها وفروعها عقودًا متوالية من السنين، قد حان لها أن تُخرج ثمارها وأزهارها.
فمن لحظة الموت — أو ما ظنه إبراهيم يومئذٍ إيذانًا بموتٍ وشيك — جاء بعث جديد؛ وذلك أن عرضت عليه وزارة الثقافة بمصر أن يُنشئ لها مجلةً للفكر، وأن يتولى رئاسة تحريرها، فاختار للمجلة أن تختص بأفكار عصرنا الذي يُقلُّنا على أرضه بكل ما تنفجر به من قنابل، ويُظلُّنا تحت سمائه بكل ما تنزله علينا تلك السماء من سهام الدمار؛ لكنه عصرنا، ويستحق مِنَّا أن نحيا به وفيه، ليحيا هو بدوره بنا وفينا. وعلى بركة الله وبمشيئته صدرت المجلة تحمل في كل عددٍ من أعدادها صوتًا مسموعًا لصاحبنا إبراهيم في إهابه الجديد، يُنادي في الناس بألا يكون الفيصل في الفكر إلا النضج والعمق والصدق، ولنترك سوانا من عبَّاد الساسة ليمرحوا في العراك بين يمينٍ ويسار.
وأمسك إبراهيم بزمام سفينته الفكرية تلك يسير بها لترسو هنا أو هناك حيث الكنوز، وفجأة وقعت على سفينته صاعقة من الصواعق التي نألفها في حياتنا المصرية؛ وذلك أن جاء في وزارة الثقافة مسئول، أبى إلا أن يحوِّل شئون الفكر إلى إدارات ومديرين، فقال: لنجعل لمجلات الوزارة «إدارة» ولنجعل لكل مجلة «لجنة» تُشرف عليها. فها هنا هاج «الأحدب» الذي كَمَنَ في صدر إبراهيم، وسأل: إذا كان الأمر كذلك ففيمَ اختياري رئيسًا للتحرير؟! ولماذا لا أترك مقعدي لأصغر طالب من طلابي؟! لقد كانت المسألة عنده قبل ذلك «رسالة» يريد أداءها، فهل يرضى أن تصبح على يديه أوامر تهبط عليه من مديرين، وتُشرف لجنة على حسن التنفيذ؟! اللهم لا. وأرسل إبراهيم برقية في صباح اليوم التالي، وكأنما الأحدب هو الذي أملى عليه عبارتها، يتنحَّى بها عن المُضيِّ في الطريق التي رُسمت له، لكن المسئول الكبير نفسه الذي خطط الطريق، هو الذي اتصل بإبراهيم ليؤكد له أنها «شكليات» لا تعنيه، فاستأنف إبراهيم سيره على دربه، ولكن في كثيرٍ من وساوس القلق.
ففي ذلك الوقت نفسه الذي وجد شخصيته فيه مشدودة بين قطبين متناقضين، قطب فيهما هو شعور إبراهيم باحترامه لنفسه ووثوقه بأنه إنما يضطلع نحو أمته برسالة ثقافية، مؤداها أن يترك للعقل — وللعلم بالتالي — أن يحتل مكانه ومكانته في حياتنا العامية، وأن ينحصر الوجدان في دائرته الخاصة به، والتي يسترشد فيها الإنسان بقلبه المؤمن العاطف الشاعر؛ أقول: إن صاحبنا إبراهيم، الذي امتص في كيانه عندئذٍ بُعدًا انفعاليًّا من رفيقه الأحدب حتى كاد الرجلان أن يندمجا في هوية واحدة؛ إن إبراهيم هذا قد ارتجَّ بنيانه ارتجاجًا عنيفًا، عندما ظن واهمًا أنه صاحب رسالة ثقافية، فإذا الكلمات تأتيه من أُولي الأمر في وزارة الثقافة لتُشعره بأنه بمثابة «موظف» كلفته الوزارة بمهمة يؤديها؛ ولذلك فقد عيَّنت «مديرًا» «لإدارة» المجلات (!) ليكون له التوجيه، كما عيَّنت «لجنة» ليكون لها الإشراف، ويشاء الله في اللحظة نفسها أن يحدث حادث آخر من شأنه أيضًا أن يردَّ صاحبنا إبراهيم الأحدب (وهو الاسم الذي أطلقته على شخصية إبراهيم الجديدة) إلى صوابه إن كانت أوهامه قد طارت بصوابه في عالم الضباب والسحاب، وهو أن صاحبنا كان عُضوًا في لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (كما كان يُسَمَّى في ذلك الحين)، لكنه كان دون سائر الأعضاء كثيرًا جِدًّا ما يطلب منه في شيء من الرجاء، أن يكتب — نيابةً عن المجلس — موضوعات تقدَّم في مناسبات مختلفة كالمؤتمرات الثقافية وما إليها؛ مما أوحى إلى صاحبنا أنه موضع تقدير خاص، وإذا به يُباغَت بموقف أو موقفين عرف منهما كم هو قليل الشأن عندهم في اللحظات الحاسمة، فانفعل انفعالةً أحدبية وأرسل إلى الأمين العام للمجلس استقالته من اللجان التي كان عضوًا فيها؛ فما أسرع — وا دهشتاه — أن أجابه الأمين العام بقبول استقالته، فلو كان إبراهيم الخولي هو نفسه إبراهيم الخولي الذي عهدته طوال السنين ملتزمًا أحكام العقل وحده، لما حزن واضطرب؛ لأنه قدم استقالته فقُبلت الاستقالة، فأي غرابة في ذلك؟! لكنه كان قد أصبح شخصًا جديدًا باندماجه في الأحدب أو اندماج الأحدب فيه، وبات العقل عنده مبطنًا بعاطفة، نعم؛ فلقد حزن إبراهيم واضطرب، قائلًا لنفسه: إنه لو كان في منزل الأمين العام طاهٍ طها له الطعام لعشر سنوات كالسنوات العشر التي كنت قضيتها عُضوًا في لجان المجلس، ثم قدَّم له الطاهي استقالة مفاجئة، لسأله: ما الذي أغضبك يا عم إبراهيم؟ مُحاوِلًا بذلك أن يرأب الصدع إذا كان ثمَّة من صدعٍ في العلاقة بينهما؛ أمَّا إبراهيم الأستاذ الجامعي والكاتب وعضو اللجان الثقافية، فلا بأس في أن يستقيل في أي لحظة شاء.
فلا غرابة — إذن — أن تمتلئ نفس إبراهيم الأحدب بوساوس القلق، وكان مما ذكره لي إبراهيم بعد ذلك بنحو شهر، أن وزير الثقافة يومئذٍ دعاه لمقابلته، فلمَّا تم اللقاء، بدأ الوزير بعتابه لأن إبراهيم لم يزُره بمناسبة توليه منصب الوزارة، فأجابه إبراهيم معتذرًا بأنه يعتقد أن الصواب هو أن ينصرف كلٌّ إلى عمله، فقال الوزير ما معناه: دعنا من ذلك، لقد بلغني أنك استقلت من لجان المجلس الأعلى، فلماذا؟ قال إبراهيم: اسمح لي يا سيادة الوزير بعشر دقائق أنفض فيها شيئًا مما بنفسي من عوامل القلق، ولن أزيد عليها دقيقة واحدة؛ إنني أستاذ جامعي بلغ سن التقاعد، وأصبحت العلاقة بينه وبين الجامعة هي علاقة الأستاذ غير المتفرغ، وأريد بذلك أن أقول إنه لم يعد لي مستقبلٌ أرجوه؛ لأن مستقبلي هو هذا الذي أعيشه الآن؛ ومعنى هذا هو أنني بما سوف أقوله من ملاحظات لا أبتغي لنفسي نفعًا ولا أدفع عن نفسي ضرًّا، إنني أنظر في كل عام إلى الفئة القليلة من طلابي الذين ألمح فيهم الرغبة والقدرة على خوض الحياة الفكرية والثقافية العامة، لكنني أتساءل: ماذا يا ترى هم فاعلون برغباتهم تلك وقدراتهم؟ إنه من الطبيعي لهم أن يديروا أبصارهم ليروا من الذين يحبسون في مقاعد الإمارة والإدارة والصدارة في تلك الحياة العامة؟ لعلَّهم يترسَّمون خَطْوَهم فيصعدون كما صعد أولئك الأفذاذ؛ وإذا هم يرون عددًا ليس بالقليل من أمراء الحياة الفكرية والثقافية قد بلغوا عروش الإمارة بغير كتاب — ولا حتى ورقة واحدة — بيمينهم أو بيسارهم، فكيف — إذن — أجيز لهم الصعود بغير جواز للمرور؟ يسأل شبابنا الواعد سؤالًا كهذا، وسرعان ما ينكشف لهم الغطاء عن حقيقةٍ رهيبة، وهي أن بلوغ القمم في دنيا الفكر والثقافة عندنا، ليس شرطه الصعود على سلَّم الفكر والثقافة درجة درجة، بل وسيلته الأولى هي الطيران على رءوس تلك الدرجات بمعونةٍ من صاحب السلطان، وما دام الأمر كذلك — هكذا أتصور شبابنا الواعد يهمس لنفسه كل عام — فهيا إلى البحث عن أصحاب السلطان، وإلى الجحيم بالدفاتر والمحابر …
كان إبراهيم الأحدب في مثل هذه الحالة القلقة المتوترة، فسافر إلى الإسكندرية لعل هموم نفسه أن تنزاح بسحر البحر وهدير موجه، وكان الوقت هو الأيام الأخيرة من العام، وكانت المصادفة اللافتة للأنظار هي أن رأس السنة الهجرية الجديدة ورأس السنة الميلادية سيلتقيان معًا في يوم واحد، ثم كانت إرادة الله سبحانه وتعالى هي أن ترِدَ إليَّ رسالة من إحدى الجامعات العربية تدعوني إلى التعاقد معها على العمل أستاذًا للفلسفة، فلم أتردد لحظةً واحدة، وأسرعت على جناح البرق لأجيب بالقبول؛ وبهذا أجد الفرصة التي أنجو بنفسي فيها من الأزمة النفسية التي أوقعني فيها الأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ومن التوتر العصبي الذي أصابني عندما أراد المسئولون في وزارة الثقافة بأن يُوحوا إليَّ بأنني لا صاحب رسالة ثقافية ولا يحزنون، وإنما أنا عامل بالأجر القليل، يُدار له أمره ويُشرف الرؤساء على شئونه.
وما إن أرسلت برقيتي تلك وعُدت إلى الفندق الذي أقيم فيه — هكذا روى لي إبراهيم عن تلك الفترة من حياته — حتى خطرت في رأسي خاطرة كانت كأنها لمعة من لمعات الإلهام، وهي أن التقاء السنة الهجرية الجديدة والسنة الميلادية الجديدة في رأسٍ واحد إنما هو رمز أقرأ فيه توجيهًا لما ينبغي أن أنصرف إلى عمله عندما يستقر لي المقام في ذلك البلد العربي الذي دعاني، وما ذلك العمل إلا أن أبدأ لنفسي في موقف ثقافي جديد، أحاول فيه أن أجمع عنصرين معًا في نسيج واحد، موروث الثقافة العربية وحصيلتي من ثقافة الغرب، فأكون بهذا الجمع عربيًّا ومعاصرًا في آن معًا.
•••
كان إبراهيم الخولي أول ما عرفته — وقد كان ذلك وهو في أخريات شبابه؛ أعني حين كان في نحو الأربعين من عمره — أمْيَلَ إلى التجريد في فكره؛ بمعنى ألا يصب فكره المنطقي الصارم على مشكلات حقيقية مما يعترض الناس في حياتهم؛ ولذلك فكثيرًا ما وصفه الواصفون بالصورية التي لا تنفع الناس ولا تشفع له. ولعل تلك الصورية البادية في نهجه الفكري عندئذٍ قد جاءت من حرصه على منطقية الفكر حتى يصبح وكأنه معادلات رياضية؛ ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى فلعل تلك الصورية قد أحدثتها عنده بُعده عن الناس وهم في معمعان العيش ومشكلاته، وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة إلى إبراهيم وهو في الأربعين أو نحوها؛ فليس هو كذلك حين رأيته وصاحبته على مقربة بعد أن اقترب من الستين أو جاوزها؛ فها هنا لا بُدَّ أن تكون وجدانية الأحدب قد نضجت على النزعة العقلية عند إبراهيم، حتى لقد كاد يصبح رجلًا آخر، لا من حيث منطقية الفكر كلما اقتضى الأمر المطروح منطقًا، بل من حيث اختيار الموضوعات التي يجعلها محور تفكيره؛ فموضوعاته عندئذٍ تدور في معظمها حول إنسانية الإنسان، والإنسان العربي بصفة خاصة، والمصري منه بصفة أخص. وإذا كان موضوع النظر هو قيم الحياة كما يعيشها الناس فعلًا — فيما مضى والآن — فصعبٌ جِدًّا أن يجيء التفكير صوريًّا خاويًا — أو كالخاوي — من المضمون الحيوي بخصائصه المتينة المتجسدة في مواقف الواقع.
نعم، لا بُدَّ أن يكون للأحدب على إبراهيم فضلٌ غير قليل، في أن جعل عصارة الحياة تسري في أعواد الحطب فتينع وتحضر وتُورق وتُثمر.
كان إبراهيم الخولي في مرحلته الإنتاجية الأولى، بل إلى أن بلغ من العمر خمسين عامًا، لا ينزل قيد أنملة عن التمسك بالفكرة القائلة بضرورة محاكاتنا للغرب في كل شيء، لا فرق في ذلك بين صغيرة من الأمور وكبيرة، وحبذا لو أكلنا كما يأكلون، وارتدينا الثياب كما يرتدون، وكتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، ودع عنك أن نجعل وجهة نظرنا علميةَ المنهج ملتزمةً لحقائق الواقع الصلب كما يجعلون، ولم يكن إبراهيم الخولي حتى ذلك العهد من حياته يطيق الإشارة إلى العرب وتراثهم، وكان منطقه في ذلك بسيطًا واضحًا؛ فالغرب قويٌّ ثري واع بصير، فلماذا لا أسلك كما يسلك لأحقق ما حققه؟
ولكن أين تذهب الجوانب الوجدانية من هويتي؟ وبأي معنًى يحقُّ لي عندئذٍ أن أحب وطني وأهلي ولغتي، وأن أتغنَّى بمجدي وتاريخي؟ ربما لو سئل إبراهيم الخولي يومئذٍ هذه الأسئلة، لأجاب — وأظنه قد سُئل أكثر من مرة، وكان في كل مرة يجيب — قائلًا: ليست حضارة الغرب مقتصرة على أمة واحدة، بل إن فيها الإنجليزي والفرنسي والإيطالي؛ وكلٌّ من هؤلاء يعرف كيف يعيش حضارة العصر مُضافًا إليها تلك النبرات الوجدانية بأرضه هو وأهله وتاريخه، فلماذا لا ينطبق ذلك نفسه على المصري (وكان إبراهيم حتى ذلك الحين لا يتحدث عن «العربي») فيحيا في مناخ عصره، ويتغنى كما شاء بمصر وأهلها وتاريخها.
لكن جاءت في حياته اللحظة التي شاء له الله عندها أن تُزال الغشاوة عن عينيه، فتُشرق عليه الحقيقة كما تُشرق الشمس فتبدد الظلام، والحقيقة بسيطة بساطة أعداد الحساب؛ فشعوب الغرب جميعًا لا يملكون بين أيديهم إلا حضارة واحدة وثقافة موحدة الأصول، وهما الحضارة والثقافة اللتان تطوَّرتا مع الأيام عن جذور اليونان والرومان، بالإضافة إلى ما استعاروه من سائر الحضارات استكمالًا للنقص؛ وأمَّا نحن فموقفنا مختلف؛ إذ إن بين أيدينا حضارتين لا حضارة واحدة، وثقافتين لا ثقافة واحدة، فنشأت لنا مشكلة تريد الحل الذي لا يتحقق بمجرد الهروب من المشكلة وإغماض العين عنها؛ «فأنا مصري، ولكنني أتكلم العربية، وليست اللغة مجموعة من رموز الرياضة تُستخدم للرمز المجرد الذي لا يُثير في القلب عاطفةً أو انفعالًا، بل اللغة — في مفرداتها وفي طرائق بناء تلك المفردات في جمل — إنما تنطوي في الوقت نفسه على أغوار ثقافية لبثت تزداد عمقًا كلما ازدادت الشعوب المتكلمة بها خبرة بالحياة وممارسة لها، فكل لغة فيها إلى جانب كونها رموزًا تشير إلى مسميات، جانب آخر هو العمق الشعوري، أو إن شئت فقل إنه جانب «الشعر» منها. فإذا كنت مصريًّا يتحدث اللغة العربية، إذن فأنا عربي الأغوار والأعماق، يستحيل عليَّ النظر إلى الدنيا إلا خلال تلك العدسات»؛ لم يعد إبراهيم يشك في أنه إلى جانب مصريته؛ فهو عربي الوجدان وليس في ذلك خيار.
ومن هنا انفتحت أمام إبراهيم آفاق جديدة؛ إذ نظر فرأى أمامه مشكلةً ثقافيةً نابضةً بالحياة، وتفرض نفسها عليه وعلى كل ذي فكرٍ من مواطنيه العرب — أيًّا كان موطنهم من الوطن العربي الكبير — وتلك المشكلة هي: كيف السبيل إلى حياةٍ نوفِّق فيها بين الحضارتين وبين الثقافتين، فنعيش الموروث العربي في مناخ العصر وعلومه وفنونه؟
وشاء حُسن الطالع أن تضع هذه المشكلة نفسها أمام إبراهيم في روحه الجديد، عندما ذهب إلى إحدى الجامعات العربية تلبيةً لدعوتها إياه، فوجد الفراغ ووجد المكتبة ووجد العزيمة، فكان أن أخذ يعبُّ من ينابيع الأسلاف عبًّا، وأمامه هدف، هو الإجابة — على ضوء ما يطالعه — عن السؤال المطروح بين يديه، حتى إذا ما توافرت لديه المادة المناسبة، عرضها على الناس في سلسلةٍ من الكتب أخذت تتوالى في الصدور مملوءة الصفحات بفكر جديد.
لقد كان إبراهيم قد ظنَّ عند بلوغه الستين من عمره أن غروبه قد بدأ ليُسلم نفسه إلى حندس الليل، لكن غروبه قد تمطَّى بأصلابه حتى الآن ما يقرب من عشرين عامًا بعد تلك السن، وكان لذلك الغروب الطويل شفقٌ ورديٌّ جميل، قد يبدو لإبراهيم نفسه أحيانًا أنه أجمل حتى من شمس الضحى في حياته ومن شمس الظهيرة فالأصيل، ومن يدري؟ فلعل الناس إذا ذكروه بعدئذٍ، فسيذكرونه بما أنتجه في ضوء الشفق؛ شفق الغروب.
•••
لكن ذلك الشفق الوردي الجميل، أخذت تجتاحه بقع سوداء تتكاثر في أرجائه يومًا بعد يوم، حتى لتوشك الآن أن تُحِيله إلى ليلٍ حالك، لولا بقية من إرادة يحاول بها إبراهيم الأحدب (هكذا أحب أن أسمِّيه في مرحلته الأخيرة التي امتزج فيها عقل بعاطفة) أن ينتشل نفسه حينًا بعد حين من هوَّة العدم، ومن تلك البقع السوداء ما أصاب البدن من عللٍ عشيت بها العين، وعرجت الساق، ودارت الأُذن بدُوار، ولكن ما كان أفدح من تلك العلل البدنية في البقع السوداء، غدر الأصدقاء غدرًا يمكن اتخاذه علامة على روح هذه الفترة التي تجتازها بلادنا، بما أحدثته في النفوس من ضيقٍ وكربٍ وتوتُّر، يُغري الصديق بأن يأكل لحم صديقه مَيْتًا.
فأمَّا العلل البدنية فقد بدأت مع إبراهيم بدُوار الأُذن، وكان إبراهيم قد جاوز الستين ببضع سنوات، وأسرع إلى استشارة الأطباء، حتى لقد سافر إلى إنجلترا ليعرض حالته على خبير، وأراد الطبيب الخبير أن يبدأ بسؤال مريضه عن معالم حياته السابقة:
هنا ألقى الطبيب بقلمه على مكتبه بحركة عصبية، قائلًا: فليسمع أبناء الغرب ليقارنوا حياةً بحياة. بدأ الطبيب فحوصه وتحليلاته لينتهي إلى نتيجةٍ هي أن ليس هنالك ما يدعو إلى القلق؛ فظاهرة الدُّوار مصيرها إلى زوالٍ سريع.
وسارت سفينة الحياة بإبراهيم على خير ما يرجوه إنسان في مثل عمره، ونشط في إنتاجه الفكري على صورةٍ لفتت إليه الأنظار؛ وفجأة ارتطمت السفينة بحجر ضخم فتحطمت مقدمتها وبعض جوانبها، وذلك أنه أمسك بورقةٍ ساعة العصر، ذات يوم من فصل الصيف، فإذا حاجز أسود يسدُّ عليه الطريق، وأسرع إلى منظاره ليمسح عنه العتمة التي ظنَّها هناك، فوجد زجاج المنظار صافيًا، ففرك عينيه، لكن ذلك لم يزحزح شيئًا من العائق الذي جاء ليحُول بينه وبين الورقة التي بين يديه؛ وعبثًا بعد ذلك كانت محاولات الأطباء في مصر وإنجلترا وإسبانيا، ولن يستطيع أحد أن يتصور كم استحال إبراهيم رجلًا غير الرجل، إلا من عرفه كما عرفته، فعرف مقدار المساحة التي تحتلها القراءة والكتابة من حياته، فإذا ذهبت عنه القدرة على متابعتها في حياته، فكأنما هو فقد الحياة حتى ولو ظلت الرئتان تتنفسان وظل القلب ينبض.
ومع ذلك فلم تقتصر العين على العشى الذي أصابها حتى اقترب بها من كف البصر، بل تجاوزت بكارثتها حدود نفسها، فكانت سببًا في أن يسقط إبراهيم فتنكسر له ساق، فجاءت مصيبته الجديدة ضغثًا على إِبَّالة.
لكن الأذن ودوارها، والعين وعشاها، والساق وعرجها، لم يَنَل منه عشر معشار ما ناله من غدر الأصدقاء؛ أصدقاء؟! يا لها من كلمة يسهل جريانها على اللسان، ثم ندير الأبصار بحثًا عما تعنيه الكلمة بين الناس، فإذا هي إذا إشارات إلى شيء، فإنما تشير إلى دخان قاتم يسد الأنوف والحلوق فلا تتنفس الهواء الطلق في نقائه، أحسب أن الصداقة قد سُمِّيَت باسمها هذا لما فيها من الصدق، فماذا لو تكشَّف لك صديقك المزعوم عن كذبٍ سبقه كذبٌ ولحق به كذب! … وحسبي هذا، فلن أطيل في إعادة ما قصَّه علينا إبراهيم عما لقيه على أيدي «الأصدقاء».
كثيرًا ما لجأ الكاتبون إلى تشبيه الناس بالعمالقة حينًا وبالأقزام حينًا؛ فالناس في أعين الكُتَّاب عمالقة إذا رأوا فيهم ما ظنوه فخامة وضخامة، وهم في أعين الكُتَّاب أقزام إن رأوا فيهم ما يدعو إلى التصغير والتحقير.
ومن أقوى الأمثلة التي شهدتها آداب العالم لهذا التصوير بالعمالقة أو بالأقزام تلك القصة التي لبثت منذ ظهورها (في سنة ١٧٢٦) مصدر متعة أدبية للكبار والصغار على حد سواء؛ وأعني قصة «رحلات جلفر» التي كتبها جوناثان سويفت، وهو إنما كتبها ليسخر بها من أوضاع الحياة في وطنه — بريطانيا — إبان عصره، فلما رآها قد انقلبت وسيلةً يتسلى بها القراء، خشي أن يكون قد ضاع عليه الهدف المقصود، فكتب لأحد خلصائه يقول ما معناه: لقد استهدفت بالقصة أن أبثَّ القلق في صدور الناس لا أن أسرِّي عنهم الهموم.
وموضوع القصة — كما هو معروف — وصف لرحلات «جلفر» في أرض الأقزام ثم في أرض العمالقة، أمَّا وهو مع الأقزام فقد وجد نفسه كالمارد يستخفُّ بهم ويضحك من سخافاتهم، حتى إذا ما انتقل إلى بلد العمالقة انعكس الأمر، وأدرك كم هو تافه وضئيل.
وواضح أن الكاتب قد أراد بالأقزام، بني وطنه في عصره، ليسخر من قلة شأنهم وخفة أوزانهم، وأنه أراد بالعمالقة تصويرًا للنفوس حين تكون كبارًا وللآمال الناضجة حين تبعد آفاقها وتعلو.
خُذ مثلًا هذه الصورة الآتية التي صوَّر بها الكاتب نموذجًا لما يهتم به الأقزام في أرضهم، لترى معهم كم كانوا صغار الشأن في حياتهم، وهي صورة يقول فيها: كانت الطريقة التقليدية لكسر البيض عند أكله، هي أن تُكسر البيضة من طرفها العريض، لكن حدث ذات يوم لجدِّ جلالة الملك، عندما شرع يأكل بيضة — وكان عندئذٍ لم يزل بعدُ صبيًّا — أن جُرحت أصبعه وهو يكسر البيضة على الطريقة التقليدية المألوفة، فلم يلبث أبوه الإمبراطور أن أصدر مرسومًا يأمر به أبناء الشعب جميعًا أن يغيِّروا التقليد القائم، فيكسروا البيض من طرفه الدقيق لا من طرفه العريض، وإلا تعرضوا للعقاب الأليم، فغضب الشعب، ووقف من الإمبراطور الظالم موقف المعارضة. وينبئنا التاريخ أن ست ثورات شعبية أشعلها الناس لهذا السبب، وفي تلك الثورات المتتالية، قُتل أحد الأباطرة، وضاع التاج عن آخر. ولقد كُتبت مئات الكتب في موضوع الخلاف؛ غير أن أنصار كسر البيض من طرفه العريض قد صودرت مؤلفاتهم كما حُرموا بحكم القانون أن يتولُّوا شيئًا من مناصب الدولة العليا.
فماذا يصنع الزائر الرحالة — إزاء هذه التفاهة — إلا أن يضحك ساخرًا؟ لكنه لا يكاد يُزْهي بنفسه بالنسبة إلى أولئك الأقزام، حتى يريد له الله أن يحدَّ من زهوة؛ وذلك حين انتقل إلى بلد العمالقة، وهناك عرف كم هو صغير ضئيل، إذا قيس إلى هؤلاء الكبار — لا في ضخامة أجسامهم فقط — بل الكبار كذلك في نفوسهم وعقولهم وطرائق عيشهم.
أعود فأقول: إن تشبيه الناس بالعمالقة حينًا وبالأقزام حينًا أمرٌ مألوف في التصوير الأدبي، ولكني — عَلِمَ الله — حين أردت أن أكتب هنا عن حارة الأقزام لم أُرِد ما أراده أصحاب التصوير الأدبي كلما أرادوا التصغير والتحقير، وإنما هي واقعة حقيقية حدثت، وأردت أن أرويها كما حدثت، لا أزيد عليها حرفًا من عندي ولا أحذف حرفًا.
والواقعة كما حدثت هي أن صديقًا أهدى إليَّ منظارًا يُضخِّم الأشياء إذا ما نظرت من إحدى جهتيه، ثم هو يصغِّر الأشياء إذا ما نظرت من إحدى جهتيه الأخرى، وهو إذ يضخِّم الأشياء يُبديها قريبةً كذلك، وإذ يُصغِّر الأشياء يُبديها وكأنها ازدادت منك بُعدًا.
وكان صديقي ذاك، قد سمع مني مرارًا، رغبتي الشديدة في أن يكون عندي مثل هذا المنظار الذي يُضخِّم الأشياء ويُقرِّبها (ولم أكن أعلم وقتئذٍ أن المنظار نفسه إذا ما انعكس اتجاهه فهو يصغِّر الأشياء ويُبعدها عن الرائي)؛ أقول: إن صديقي ذاك كان قد عرف عني هذه الرغبة الشديدة، حتى لقد سألني يومًا: لماذا لا تشتري لنفسك ما ترغب فيه؟ وأذكر أني أجبته بقولي إن هنالك أشياء كثيرة مرغوبًا فيها، لا تجيء إلى الراغبين إلا عن طريق الإهداء، وأبدًا هي لا تأتي عن طريق الشراء. ومرت سنوات بعد ذلك الحديث العابر، وإذا به يفجؤني بهديته.
كانت فرحتي بالمنظار كفرحة الطفل بلعبته، وحملته على كتفي كما يفعل السائحون، وأخذت أسير به في الطرقات أنتقي منها مواقف معيَّنة فأقف لأنظر إلى الشارع بما فيه ومن فيه، أنظر إليها وإليهم في اتجاه التكبير مرة وفي اتجاه التصغير مرة، ولَكَمْ كانت نشوتي كلما أبصرت واحدًا من خلق الله السائرين في زحمة الطريق، مرةً وهو في ضخامة رمسيس الثاني في تماثيله الضخام، ومرة ثانية وهو يحبو وكأنه الطفل الصغير.
لم يكن في الأمر — إذن — شيءٌ من الخيال، إنما هو المنظار أنظر خلاله إلى شارع حقيقي وإلى ناسٍ من لحم وشحم يسيرون فيه؛ فالشارع الطويل العريض مرة يزداد طولًا وعرضًا، ومرة أخرى يصغر ويقصر ويضيق حتى كأنه حارة أو زُقاق، والناس السائرون فيه يظهرون حينًا وهم عمالقة، ويظهرون حينًا آخر وهم أقزام، ولم يكن في أي شيء من هذا التباين الحاد غرابة أدهش لها، فهكذا كان المنظار وهكذا كان فعله بتركيب عدساته.
لكن ذلك المنظار اللعين — ليت صديقي ما أهداه، فأساء من حيث أراد الإحسان — قد أفسد عليَّ حياتي إفسادًا لم أعد أرى كيف السبيل إلى النجاة منه؛ وذلك لأنه قد عوَّدني هذه العادة السيئة، وهي أن أنظر إلى الناس بالنظرتين، النظرة التي تبديهم عمالقة، والأخرى التي تردُّهم أقزامًا، فيهولني الفرق البعيد بين الرجل الواحد وهو في نظرة التعظيم وبينه هو نفسه منظورًا إليه من وجهه الآخر، ولطالما جزعت لتلك الفروق البعيدة بين النظرتين إلى الرجل الواحد في حالتيه من عظمةٍ هنا وصغار هناك، لكني كثيرًا ما طمأنت نفسي من جزعها؛ إذ ليس الذنب في ذلك كله ذنبي ولا ذنب منظاري، فهكذا حقائق الناس والأشياء، لا حيلة لي فيها.
وفيمَ الجزَع إذا رأيت الرجل كبيرًا هنا صغيرًا هناك؟! كنت أنت الواهم — هكذا حدَّثت نفسي — حين ظننت الكبير كبيرًا في كل حالاته، والصغير صغيرًا في كل حالاته؛ ثم جاءك هذا المنظار بوجهيه، فتعلمت منه الدرس المفيد، وليس هو بالشيء الجديد، أن ترى الرجل أسدًا عليك، وأن تراه هو نفسه في الحروب نعامة؛ لأن ذلك الازدواج لم يفُت حتى الشاعر العربي القديم أن يراه، ولكن الذي ثقُل على ضميري ليس هو المنظار في ذاته وأفاعيله بالأشياء والناس، بل هو الشيطنة التي لمحتها في طبيعتي، حين حملت منظاري وذهبت به إلى شارع العلماء؛ فهو من أضخم شوارع المدينة، أشك أن يكون مقصورًا على أصحاب التخصص العلمي؛ فلقد حلا لي أن أرى كم يكون الفرق عند هؤلاء بين حالتَي التعظيم والتصغير، فإذا هو فرقٌ بعيد بعيد، أبعد منه في أي وقت آخر — أو هكذا خُيِّلَ لي. نظرت إلى أحدهم في حالة عظمته، فكأنني نظرت إلى مُصارع من الوزن الثقيل برزت فيه العضلات بروزًا مخيفًا، فقلبت له المنظار فإذا هو القليل الضئيل، وطاف برأسي سؤال أضحكني سخافته؛ إذ سألت نفسي قائلًا: أي هذين الحجمين يا ترى سيبقى للرجل في تاريخ العلوم؟ إنه لو بقي له حجمه الضخم لملأ من التاريخ مجلدات؛ وأمَّا إذا غدرت به الأيام وأبقت له حجمه الضئيل، فالأغلب ألا يجد لنفسه في السجل صفحة واحدة، بل ربما لم يجد فيه سطرًا واحدًا.
هكذا أخذت أنقل منظاري إلى عالِمٍ بعد عالِم، ولا بد أن أُثْبِت هنا واقعةً أذلَّتني وظننتها من خوارق الأجهزة الآلية التي لا تؤتمن في كل الظروف؛ وتلك هي أنني وقعت في شارع العلماء على أفراد بدت ضخامتهم من أي الوجهين نظرت إليهم، كما وقعت أيضًا على أفراد بدت ضآلتهم من أي الوجهين نظرت إليهم، فبدأت طريق عودتي وأنا أقول بخواطري الصامتة إنه لا بأس في هذه الدنيا في أن يكون العظيم عظيمًا لأنه عظيم دائمًا، وكذلك لا بأس في أن يكون الصغير صغيرًا لأنه صغير دائمًا، لكن البأس المخيف هو في أن يصغر العظيم، أو أن يعظم الصغير، لا لسببٍ سوى طريقتنا في النظر، والذي قد يزيد من هول الفاجعة هو أننا ربما رفعنا أسماء أو محونا أسماء، لا بناءً على نظرة مجردة منزهة من انحراف عدسات المنظار، بل بُناءً على عادات خلقتها فينا عدسات المناظير ولا تلبث أن تصبح تلك العادات آلية، تتحكم في عضلات اللسان وأحبال الصوت بحيث «نكر» القوائم بأسماء العظماء وكأننا نُسمِّع (بتشديد الميم) قصيدة حفظناها عن ظهر قلب، بلا وعيٍ بمعاني ألفاظها.
إننا لنقول — مثلًا — شوقي وحافظ ومطران، نقولها ونحن فيما يشبه الغيبوبة؛ لأن اقتران هذه الأسماء هو اقتران محفوظ، لا اقتران أقمناه بعد دراسة. نعم، قد يكون في ذكر هذه الأسماء إنصاف كل الإنصاف، لكن الذي أريد أن أقوله هو أننا غالبًا ما نصدر فيه عن عادةٍ آلية، لا عن وعيٍ بمضمونه، وكأننا في هذا التلاحق الآلي في حركات الصوت أشبه بفئران التجارب العلمية حين تنطلق داخل المتاهات المعدَّة لها، انطلاقًا تنعرج به هنا وتستقيم هناك بغير أخطاء على الطريق، لا لأنها «علمت» بعد جهل، بل لأنها «اعتادت» كيف تسير؛ ومن هنا كان الحرص الشديد ممن يحرصون على بلوغ الشهرة العلمية أو الأدبية، على أن يسلكوا أسماءهم في «مسبحة» الأسماء التي يذكرها الحافظون بدفعةٍ آليةٍ صرف، فإذا وُفِّق أحدهم في أن يضع اسمه على حبات المسبحة، ضَمِن عندنا ما يشبه الخلود.
ويبدو أن العادات الحركية التي تتقاطر بها حبات المسابح في دنيا الأدب والعلم، لا تقتصر علينا وحدنا، فكما نقول نحن بحكم العادة الآلية: جرير والفرزدق، البحتري وأبو تمام، الأفغاني ومحمد عبده، العقاد وطه حسين، فكذلك يقولون في بلاد الغرب: راسين وكوروني، كيتس وشلي، جيته وشلر، شو وولز.
وهكذا، وأُعيد القول بأن هذه الاقترانات بين الأسماء، لو أقيمت على حسن فهم، لأفادت، لأنها قد تنفع في تحديد المعالم داخل حركة أدبية أو فكرية، لكنها في حارة الأقزام — كما رأيتها بمنظاري — اقترانات ببغاوية محفوظة، تضر وقلَّما تفيد.
•••
لم أكن قد التقيت بإبراهيم لعدة سنين، ولكنني سمعت عنه وقرأت له، مما جعلني أتابعه خطوةً خطوة وكأني أسايره يومًا بعد يوم؛ ومن هنا كان علمي بما طرأ على شخصيته من تحوُّل، وهو تحوُّل لم يكن مقصورًا على إضافة بُعد وجداني إلى اتجاهه العقلاني الخالص، مما دعاني إلى الظن بأن للأحدب أثرًا لكثرة ما تَصاحَبا وتَجاورا، فاختلفا مرةً واتفقا مرة؛ ولذلك طاب لي أن أسميه لنفسي — كما أسلفت — إبراهيم الأحدب، على أني حين أقول عنه في تحوله الجديد إنه قد أضاف بُعدًا وجدانيًّا إلى نظرته العقلانية الأساسية، فلست أعني أنه كان فيما قبل ذلك كافرًا بحياة الوجدان، كلا؛ فمنذ عرفته من عشرات السنين قد عرفت فيه وقفة راسخة ثابتة تقسم له حياة الإنسان بين مجالين: مجال الوجدان للعقائد والمشاعر والذوق والمزاج، ومجال العقل لكل ما هو قائم على منهج التفكير العلمي، وإذن فلم يكن الجديد فيه إضافة وجدان إلى حياته بعد أن لم يكن، بل الجديد هو — أوَّلًا — اختياره للموضوعات التي يُخضعها للبحث العلمي؛ إذ أخذ اختياره يقع على موضوعات تتصل بطبيعة الذات المصرية والذات العربية مما يجعل النظر العقلي مبطنًا بفرشة عاطفية، و— ثانيًا — سرعة انفعاله حتى وهو في مواقف الفكر العقلي الخالص، وكأن ذلك يحدث له كلما لقي من الآخرين عنتًا وإجحافًا.
وقرأت عن إبراهيم في الصحف ذات يوم أنه قد تلقَّى دعوةً من جريدة الأهرام بأن يكون أحد كتَّابها، تلقَّاها وهو لم يزل في جامعةٍ بإحدى الأقطار العربية، لكنه إذ تلقى تلك الدعوة كان يوشك أن يعود إلى مصر بعد غيابه عنها خمس سنوات، ولقد قبل دعوة الأهرام فرحًا بها لأنه مليء بأفكار يريد عرضها عرضًا واسعًا على جمهور المثقفين، فلما أن التقى برئيس التحرير لأول مرة دار بينهما حديث ذو دلالة تكشف عن هدفه من الكتابة؛ فلقد قال لرئيس التحرير صراحةً أنه يؤمن بأن كتابة الكاتب لا تكون إلا نقدًا لما هو قائم؛ إذ لو كان الكاتب راضيًا بما هو قائم ففيم حمله للقلم؟! إن ما هو قائم قائم قبل أن يكتب، فلماذا يكتب؟ قد يكون من الأهداف المقبولة أن يكتب الكاتب ليُلقي الأضواء الكاشفة عن حسنات الأمور القائمة ودفاعًا عنها، خشية أن تكون حقائقها خافيةً عن جمهور الناس. لكن إبراهيم أراد أن يقول لرئيس التحرير إن أغلب هدفه من الكتابة التي يعتزمها نقد لا دفاع، فأجابه رئيس التحرير بأنه من أجل ذلك وجَّهت الأهرام إليه الدعوة ليكون أحد كتَّابها، والحقُّ أن إبراهيم قد سعِد بتلك الدعوة منذ تلقَّاها وهو بعيد؛ لأنه — فضلًا عن رغبته في الكتابة — كان يعلم أن جريدة الأهرام قد استضافت قبله مجموعةً من ألمع رجال الفكر والأدب والفن؛ مما يسعده أن يكون معهم في أُسرةٍ واحدة.
وبدأت مقالات تظهر تباعًا، ومنها رأيت في أوضح صورةٍ كيف امتزج إبراهيم والأحدب في هويَّةٍ واحدة؛ فالفكر ذو أعماق وأبعاد والانفعال الوجداني ذو حرارة ونبض.
وما إن علمت من الصحف بأنه قد ظفر بجائزة الدولة التقديرية في الأدب، حتى اندفعت إلى التليفون أطلبه لأول مرة في حياتي؛ فهنَّأته من عمق قلبي، وشكرني بصوت مختنق، ودعاني في إلحاح بأن أزره في داره لنتبادل الحديث، وهناك أخذ يقص عليَّ كيف فوجئ بصديق — وهو في حياتنا الأدبية إمامها — يتصل به خلال الهاتف في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، ليقول له بصوت فرح: مبروك. فأجابه إبراهيم: شكرًا، ولكن مبروك على ماذا؟ قال له: على جائزة الدولة التقديرية في الأدب؛ إذ كان الاقتراع عليها هذا الصباح (وكان إبراهيم قبل ذلك بخمسة عشر عامًا قد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة). وسكت إبراهيم قليلًا، ثم قال: أتعرف يا فوزي كيف كان رد الفعل عندي حين وضعت سماعة الهاتف؟ بكيت، نعم بكيت بكاءً لم أملك له دفعًا، ولمَّا أن هدأت إلا من دمعٍ أحسسته يبلل أطراف عيني، سألت نفسي — ربما خجلًا من نفسي — فيمَ هذا البكاء، إنه يقينًا لم يكن بكاء الفرحة لما سمعته؛ إذ كانت جوانحي عندئذٍ ملتاعة بما تضطرب به، إذن فلماذا؟! ووجدت الجواب: إنه التنكر الطويل الذي انطبع به موقف الزملاء وما يزال ينطبع، الذي أبكاني هو أن التقدير قد جاءني في المرَّتين (في جائزة الدولة للفلسفة وفي جائزة الدولة للأدب)، ممن لم تكن بيني وبينهم صلة الزمالة ولا صلة الصداقة، جاءني التقدير في الحالتين ممن لم يعرفوا عني إلا ما يقرءونه عني كتبًا ومقالات؛ وأمَّا من ربطتني بهم أواصر الزمالة والصداقة ولقاءات المودة، فالله وحده عليم بما كانوا يُضمرونه نحوي من رغبة في الإطفاء والإخفاء وطمس المعالم وضيق الصوت، وكانت وسيلتهم إلى ذلك هي الصمت الأليم عن كلِّ ما يتصل بعمل أنجزته في علمٍ أو أدب؛ ومرةً أخرى اختنق صوت إبراهيم بالبكاء، وغالَب نفسه بكلتا يديه يضغط بهما على وجهه حتى غلبها، وهنا نهض وغاب عني دقيقة ثم عاد يحمل بين يديه علبةً مكسوَّةً بالقطيفة الحمراء، وفتحها وأشار إلى الوسام الموضوع في داخلها، وقال: إنه وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، منحتني إياه الدولة عن غير طريق الزملاء والأصدقاء، فوزني عند هؤلاء أخف من الهباءة العالقة في هواء ساكن، أتعرف يا فوزي ماذا كتب لي أحدهم في خطاب؟ قال ما معناه: اعلم يا فلان بأنك رجلٌ لا قيمة له، وإذا ظننت غير ذلك كنت غارقًا في أوهامك التي سبَّبتها لك عزلتك عن الناس! ثم أضاف صاحب الخطاب إلى تلك القذيفة أن عيَّرني ببصري المفقود، وجاء ذلك كله تتويجًا منه «لصداقة» دامت بيننا أكثر من ثلاثين عامًا؛ إلى هذا الحد يتميز من غيظٍ مكتومٍ بعضُنا تجاه بعض إذا ما ربطتنا أواصر «الصداقة»! أرأيت ماذا أبكاني عندما جاءني تقدير الدولة عن غير طريق الزملاء و«الأصدقاء»!
هنا أسرعت إلى تغيير الموضوع لأُخرج إبراهيم من لوعة الأسى التي أخذت تتزايد كلما مضى فيما كان يتحدث فيه، لم يكن عهدي بإبراهيم أن تَصدُر عنه تلك النبرة الحزينة ردًّا على إساءةٍ من آخرين؛ إنه الأحدب هو الذي عَهِدته في أمثال تلك المواقف، وذلك هو ما يحملني على القول بأن إبراهيم الخولي المتزن الرصين، لا بُدَّ أن يكون قد أصابه تغيُّر في صميم كيانه، متأثِّرًا في ذلك بصحبته في أعوامه الأخيرة للأحدب، ولا عجب في أن يتقاربا؛ لأن كليهما كاتب، ولأن كليهما كذلك متمرد على الشائع المألوف. كان إبراهيم أول الأمر يتمرد بمنطق عقله، وكان الأحدب يتمرد بدفقة عواطفه، وها هما آخر الأمر قد تقاربا فتشابها.
كان واضحًا لي عندما زرت إبراهيم في منزله أنه يقيم وحده؛ فلا زوجة ولا أطفال، وكنت لأعوامٍ طويلة قبل ذلك لا أدري من أمر زواجه أو عدم زواجه شيئًا؛ أمَّا الأحدب فقد كنت أعلم عنه يقينًا أن قلبه قد جمد عند حبيبة صباه، فلا هو قد ظفر بها ولا قلبه طاوعه بعد ذلك أن يظفر بسواها.
كنت أجلس مع إبراهيم في غرفة مكتبه، وقد استوقف نظري في بيته كله، وفي غرفة مكتبه بصفة خاصة، نظافة ونظام لم نألفهما عند غير المتزوجين، ولعل ذلك هو ما أوحى إليَّ بسؤال أوجهه إليه لأشقَّ به طريقًا لأحاديثنا غير ما كُنَّا نتحدث فيه، عسى أن أُخرج صاحبي من سحابة الحزن التي أخذت تغمره عندما دهمته الذكريات بغدر «الأصدقاء»، ففاجأته سائلًا (وكأنني على يقين بأنه يعيش وحده): لماذا لم تتزوج يا دكتور إبراهيم؟ أكانت هي حياة العلم شغلتك عن نفسك؟ فارتسمت على فمه ابتسامة مصطنعة وقال: لا، لم تكن حياة العلم لتحُول دون الزواج لو أردته؛ فلقد لبثت خلال الشطر الأكبر من حياتي الرشيدة لا أحتكم فيما أفعله وما لا أفعله إلى حكمِ عقلي وحده. كان ذلك قبل أن تدبَّ الشيخوخة في عظامي، وكان «العقل» يتلفَّت حوله فيمن يعرفهم من الأزواج، فلا يلحظ بين الزوج والزوجة إلا تضادًّا، كأنما خُلقت بيوت الزوجية لتجمع أضدادًا بين جدرانها. كان أبو العلاء المعري يقصر هذا التضاد المضحك على رفات الموتى في قبورهم، إذ قال:
لكنني وسَّعت من الدائرة لأضيف البيوت إلى اللحود في تزاحم الأضداد بين جدرانها …
فقاطعته قائلًا: إن في حديثك هذا رنَّة من تشاؤم الأحدب؛ فلقد سمعته مرةً يقول: إن رباط الحب قلَّما يتحقق في زواج؛ فالزواج دائمًا يكون حيث لا حب، والحب دائمًا يكون حيث لا زواج؛ فالحبيبان لا يلتقيان إلا قبل أن تهيأ ظروفهما أو ظروف أحدهما للزواج، أو بعد أن يكون قد تم الزواج من غير الحبيبة أو الحبيب وفات الأوان؛ من هنا رأيت لكل زوجٍ حبيبةً كان يودُّ لو كانت له، ولكل زوجةٍ حبيب كانت تودُّ لو كان لها، إنها أضداد تلتقي وتتزاحم، وتلك هي الحياة؛ ذلك ما سمعته من الأحدب المتشائم ذات يوم، وكأني بك تُردِّد صداه.
فصمت إبراهيم قليلًا ثم طفق يقول: اسمع يا أستاذ فوزي، إن الداء لا يشفيه كتمانه، ومن الأدواء المفجعة في بنائنا الاجتماعي — وأخشى أن يصدُق هذا على أمم الأرض جميعًا بدرجاتٍ متفاوتة — أن يكون الزواج عقدًا يُبرمه عقلان ينشُدان تنظيم علاقة اجتماعية اقتصادية بينهما، لا رباطًا يربط قلبين يتحابان فيلتئمان في قلبٍ واحدٍ لا ينشد شيئًا إلا أن ينبض نبضًا سليمًا، وطالما لبثت الحال على هذا الوجه فلا بد للقلوب المكلومة أن تلتمس لها سُبُلًا من وراء ستار. نظام الزواج هو في صميمه اغتصابٌ يحميه القانون؛ فإمَّا رجل اغتصب امرأة يحبها ولا تحبه، أو امرأة اغتصبت رجلًا تحبه ولا يحبها، أو رجل وامرأة يتعايشان ابتغاء مصلحةٍ مشتركةٍ بغير حب من أيٍّ من الطرفين.
إن الناس ليكفيهم من الأمر كله سلامة الشكل دون مضمونه ومغزاه، ولي في ذلك خبرات كسبتها منذ الطفولة ولا بد أن يكون لك؛ فها هو ذا رجل يطلق زوجته ثلاثًا، وإنهما لفي غربة بعيدة عن الوطن، فتغضب الزوجة عند غير أهلٍ لها؛ إذ لم تكن لها حيلة غير هؤلاء يُئوونها، يومًا ويومًا ويومًا، ثم يتفق الوسطاء مع الزوج على رد زوجته، فيجيئون بالمأذون، ومع المأذون ابن له صغير، في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، ويتفق على أن يكون هذا الطفل هو الزوج المحلِّل لرجعة المطلقة، وتدخل الست أم حامد — فهكذا أذكر اسمها برغم تقادُم العهد — تدخل مع زوجها الجديد في غرفةٍ معزولةٍ عند آخر الفناء الفسيح، ويظل الوسطاء من رجالٍ وسيداتٍ ينتظرون، وتخرج الست أم حامد لا تقوى على أن تواجه أحدًا بنظرة، ويتضاحك السيدات ويسألنها، فتقص عليهم كيف أخذت هي تلهو بالطفل وهو يبكي في غير فهمٍ لمهمَّته. المسكينة قصتها بما يشبه الابتسام، ثم ختمتها بمُرِّ البكاء؛ لكنها عادت إلى زوجها حلالًا بلالًا، وذلك هو عندهم زواج!
ولعل امرأة سودانية أخرى كانت على سذاجة الفطرة البريئة، لعلها أن تكون أسلم من هؤلاء نفسًا وأصفى؛ لأن لها ولدًا يشتغل بقيادة السيارات، أحب امرأة عامل، وعلم الزوج بما بنيهما فطلق الزوجة، لتذهب فتعيش في كنف العاشق بغير زواج، لكن العاشق لم يكْفِه هذا، بل راح يحمل المعشوقة المطلَّقة على دراجة بخارية، فتجلس وراء ظهره مطوقة وسطه بذراعيها، وينطلق الفاجر بدراجته وعشيقته أمام دكان العامل جيئةً وذهوبًا، فتأخذ النخوة من العامل مأخذها، ويهاجم العاشقين في سواد الليل ليقتل غريمه بخنجره؛ فماذا تعمل الأم الثكلى وقد علمت أن معشوقة ابنه تحمل في جوفها حملًا؟ إنها تصمم على أن تأخذ المأذون إلى قبر ابنها، ويضحك منها الناس فتقول والدموع تملأ عينيها: ممَّ تهزءون؟ أريد أن أعقد قرانه على قبره، ليجيء ابنه «جني حلال» وهو تصوُّر لا يبعُد كثيرًا عن تصوُّر سائر الناس لحقيقة الزواج.
قلت: ربما أصبت في أن الزواج غالبًا ما يكون شكلًا بغير مضمون، لكن للشكل أهميته.
قال: نعم له أهميته في ساحات القضاء، لكن ليس له أدنى الأهمية بحساب المشاعر؛ من لي بهزةٍ عنيفةٍ لأرجَّ الناس رجًّا فأباعد بين كل ضدين اجتمعا على مصلحة، وأقرب بين كل حبيبين افترقا بحكم الظروف.
وأراد لي الله أن تتأيَّد عندي فكرة الأحدب، من أن الزواج لا يكاد يجمع إلا الأضداد؛ فقد دعاني فريد على عشاء في منزله بحلوان، ولم تكن قد مضت على زيارتي له إلا أيام قلائل؛ لأنه أراد — كما قال — أن يجدد عهدي بجماعة الإخوان.
كُنَّا تسعة أشخاص، أربعة أزواج وأربع زوجات، وأنا؛ فقد حضر صبري وزوجته فوقية، وتوفيق وزوجته سعاد، وصالح وزوجته سعاد أيضًا، وبالطبع كان هناك المضيفان فريد وعفاف، وقد كنت أعرفهم جميعًا ظاهرًا لباطن وباطنًا لظاهر، لكني مع ذلك أخذت تلك الليلة أُمعِن النظر فيهم زوجًا زوجًا، وكان حديث الأحدب لي عن تضاد الأزواج ما يزال يرنُّ في مسمعي، ولم أجد عناءً كبيرًا في أن أصنِّفهم لنفسي على أساس المَيل الغريزي الذي يُبدونه في أحاديثهم تصنيفًا بعيدًا كل البُعد عما هو قائم.
فصديقنا فريد، بجنوحه نحو طرائق «أولاد البلد» في عاداته الفردية والاجتماعية، والذي كان بسبب هذه العادات ثقيلًا على قلب زوجته عفاف، كان هو الفارس الذي يخطف بلُبِّ فوقية؛ لأنها كانت تريد رجلًا يهجم على المرأة بغزله الذي لا يراعي فيه الاحتشام المائع، ويكون من ضخامة الجسم طولًا وعرضًا بمثل ما كان لفريد من ذلك، إنها لا تكفُّ عن الضحك لكل نكتة يقولها، وتتبعه بنظراتها أينما سار وحيثما جلس، ولعلها كانت تقارنه عندئذٍ بزوجها الوديع المسكين الصامت، بجسمه الطري المرتخي فتقول لنفسها في سرها: ما أبعد المسافة بين رجل ورجل، نعم إن زوجها صبري مهندس لامع، تختاره الحكومة في كثيرٍ من لجانها الفنية، وتملأ صورته الصحف، وإذا تكلَّم فإنما يتكلم هندسة في هندسة ومشروعات في مشروعات، لكن ما لها هي ولكل هذه البراعة الفنية إذا لم يغزُها رجل؟! لا، إن هواها كله مع فريد، ولا أدري إن كانت عفاف قد أدركت ما بينهما، لكني أشعر أن لو أدركت لكان لسان حالها يقول: تفضلي هنيئةً به! وأمَّا صبري في وداعته واستكانته وصمته والتزامه جانب الحذر فما كان أنسبه لإحدى السُّعادَين، فسعاد وسعاد في هذه المجموعة بينهما ما بين السماء والأرض من تبايُن؛ إحداهما انطفأت في عينيها جذوة الحياة، وخمدت في وجنتيها شعلة الجنس، وأصبحت في حركتها المقيَّدة المكبَّلة كأنها التمثال الشمعي؛ لا تنطق لفظةً إلا وقد حسبت حسابها، فلماذا لا ينظر إليها صبري المهندس بعين الإعجاب، أين كانت هذه الوداعة القانعة العاقلة المتزنة يوم أراد الزواج! … ولكن من ذا يكون زوج سعاد هذه؟ إنه صالح الغارق في مجونه إلى أذنيه، الذي لم يكن يريد في دنياه إلا امرأةً تُقدِّر لذة الحياة الماجنة وتفهمها دون أن تُدخل في الأمر قواعد الأخلاق ومستويات الحضارة والتهذيب، يعلم عنه أصدقاؤه المعاصرون له والمسايرون له في أطوار الحياة، أنه أيام شبابه لم يتورَّع عن فعلٍ يشتهيه بغريزته، مهما تكن العوائق في سبيل أدائه؛ لم يتورع أن يتعلق بمؤخرة عربة نقل في الطريق إذا كانت عليها امرأة يريد مضاحكتها، لم يتورع أن يلبس ثياب أبيه العربية، جبة وقفطان وعمامة ليسير بها في زحمة المولد والمسبحة في يده، ليفاجئ أُسَر الفلاحين بزعمه أنه مواطن لهم من بلد قريب من قريتهم، وأنه يعرفهم فكيف لا يعرفونه؟ فتقع الأسرة الريفية: زوجًا وزوجةً، في حيرة وربكة، وعندئذٍ يوجه سهامه إلى الزوجة إذا لمح فيها مسحةً من جمال الريف؛ لا، إنه لم يتورع عن فعلٍ مهما يكن فيه من جرأةٍ مرضاةً لشهوته، فإذا نجح كان بها، وإلا فهو «فصل» طريف يُروى للأصدقاء في جلسات السمر؛ أيكون هذا الفاجر هو زوج سعاد التي لا تُحرِّك يدًا ولا قدمًا إلا بحساب؟ نعم إنها بهذا السكون المميت قد قتلت حيوية جسدها قتلًا، وكان يمكن أن تعدَّ من الجميلات، لكن فكرة الأنوثة بكل خصائصها من جمال أو قبح لم تعُد تَرِدُ على خاطر الناظر إليها؛ فهي تمثال شمعي كالتماثيل المعروضة في متاحف الشمع، تقف أمامه لا لتسري الحيوية منه إليك ومنك إليه، بل لترى إلى أي حدٍّ يشبه التمثال صاحبه، وكذلك تنظر إلى هذه المرأة الساكنة الميتة لتنظر إلى أي حدٍّ هي تشبه الإنسانة الحية؛ فأين هذه الزوجة من زوجها الجامح؟! إنها ربما صلُحَت زوجةً لصبري المهندس، فيلتقي هدوءُه بهدوئها، وصَمْته بصَمْتها، وهموده بهمودها، فيكون شَنٌّ قد وافَقَ طَبَقَهُ كما يقول المثل العربي القديم؛ أمَّا أن يقع صبري النعسان على فوقية اليقظانة الصاحية، وأن يقع صالح الداعر على سعاد الراهبة، فذلك كوقوع الضد على ضده؛ فلا بد لأحد الضدين أن يفرَّ التماسًا لأشباهه.
ولم يكن صالح بحاجةٍ إلى شطحٍ بعيد ليجد بغيته على بُعد قدمٍ واحدة منه أثناء تلك «السهرة» الصاخبة؛ ففي الجماعة سعادٌ أخرى قد لا يدل ظاهرها على حقيقتها إلا لمن كان ذا عينٍ بصيرةٍ بالنساء كعين أخينا صالح؛ فسعاد الثانية هذه قد تُبْدِي لك سحنةً مُسْتَعْلِيَةً على الرجال؛ تجلس واضعةً ساقًا على ساق، معتدلةً بظهرها، مجيبةً مَن يحدِّثها إجابة المالكة لزمام نفسها، لكن وراء هذه الصلابة الظاهرة أمنية ترقد في أعماق طبيعتها، وهي أن تجد الرجل الذي يعرف كيف يدوسها بقدميه من جانب الغريزة فيها، شريطة أن يُبقي لها مكانتها فيما بقي بعد ذلك من جوانب؛ وهي تظن — كما يبدو من لمحات عينها ومن فلتات لسانها — أن الداعر صالح ربما استطاع أن يكون هو الرجل الذي يقيم الميزان الصحيح بين قتلها في ناحية وإحيائها في ناحية؛ لأنه كان وهو يتحدث إليها بكلمات مسموعة أحيانًا وبوشوشة مهموسة أحيانًا، يلعب على الحبلين، فتوقيرٌ في اللفظ والمعاملة كأنه إمام المهذبين وبَريقٌ في عينه المتأرجحة في محجرها يبعث إليها الإشارات التي تكاد تنطق لها بما كان يستطيع فعله لو ظفر بها.
هكذا أراد الزواج تقسيمًا لأفراد تلك الجماعة، وكانت الفطرة تريد لهم تقسيمًا آخر.