الفصل الأول
كان المكتب الإداري لمصنع «مونكتون آند هوب» الضخم يبدو وكأنه معلَّق بين السماء والأرض، وبينما كان مديره، جون سارتويل، واقفًا ينظر من النافذة نحو البوابات، كانت السماء ملبَّدةً بواحدة من سحب لندن الضبابية الجاثمة على ارتفاع مائة قدم فوق المدينة؛ مترددةً في الهبوط، بينما كانت الأرض عبارةً عن فِناء مصنع زلق مغطًّى برماد أسود انطبعت عليه آثار مئات الأحذية. كان المكتب مشيَّدًا بين المبنيَين الضخمين المعروفين باسم «الورش». كانت هيئة المكتب الإداري تشير بوضوح إلى أنه لم يكن ضمن التصميم الأصلي للمصنع؛ إذ كان مبنيًّا من الخشب، بينما كان المبنيان الضخمان اللذان يربط بينهما وكأنهما توءمان ملتصقان، مشيدين من القرميد. لم يتوقَّع أي مهندس معماري إنشاء مثل هذا المبنى بين المبنيَين الآخرين، إلا أن الحاجة، التي هي أُمُّ الاختراع، كانت سبب إنشاء المبنى الذي لطالما وصفه سارتويل بأنه المكتب الأنسب في لندن من حيث الموقع. وكان أنْ شُغل المزيد والمزيد من المساحات في المبنيَين الضخمين مع زيادة حجم أعمال المصنع، وكان على المكتب — الذي كان روح المشروع بأكمله — أن يتخذ موقعًا آخر خارج جسده الأصلي، إن جاز القول.
شُيِّد المبنى الإضافي على الطريق الذي يمر بين المبنيَين، فكان يُطل على الفناءين الأمامي والخلفي؛ ومن ثم كان يصله كمٌّ من الضوء والهواء أكبر من المكتب الذي كان يشغله سارتويل سابقًا في المبنى الأيسر. كان لموقع المبنى الفريد الفضل في أن يكون خاليًا من الاهتزازات التي تسبِّبها الآلات إلى حدٍّ كبير، ومع وجود باب يؤدِّي لكل مبنًى من المبنيَين، كان للمكتب مدخل سهل للوصول إلى كلٍّ منهما. وكان سارتويل فخورًا للغاية بهذه الغرف وموقعها؛ إذ كان هو مَن رسم مخططها؛ ومن ثم منحت الشركة مساحةً إضافيةً كبيرةً دون شغلِ مساحةٍ من الأرض أكبر من المساحة التي كانت مشغولةً من قبل؛ وهو إنجاز رائع للغاية في مدينة مزدحمة مثل لندن.
كانت ثمَّة غرفتان خلف المبنى خُصصتا لمالكَي الشركة، بينما كانت مساحة مكتب سارتويل الواقع في واجهة المبنى تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة أيٍّ من هاتَين الغرفتَين، وكان يشغل المساحة بين المبنيَين كاملة. كان هذا الوضع هو الوضع الذي ينبغي أن يكون؛ فقد كان سارتويل يؤدي ثلاثة أضعاف العمل الذي يؤديه المالكان، وإذا تطرَّقنا إلى القدرة العقلية، فقد كان يتفوق فيها بثلاثة أضعاف على مالكَي الشركة مجتمعَين؛ إذ كانا قد وصلا إلى ما هما عليه الآن فقط لأنهما ابنا الأبوين المؤسسَين. فقد أنشأ مؤسِّسا الشركة، بعملهما الجاد وإدارتهما الحكيمة، المصنع الكبير الذي يُعزى ازدهاره الحالي إلى سارتويل، وليس إلى الرجلَين المعروفَين لدى العامَّة بأنهما رئيسا الشركة.
كان مونكتون وهوب رجلَين يتسمان بالجُبن والحذر والتردُّد إلى حدٍّ ما، كحال الرأسماليين في جميع أنحاء العالم. وكانا يثقان في مدير مصنعهما ثقةً مطلقة، ولطالما ألقيا على عاتقه أي مسئولية محفوفة بالمخاطر أو أي قرار بغيض، وكان يتحمَّل الأعباء التي يُلقيانها عليه بكل هدوءٍ دون أن يرفَّ له جفن. كان سارتويل رجلًا من حديد، بشفتَين حازمتَين، وعينَين زرقاوَين فولاذيتَين تُربكان أي شخصٍ قد يُضمر نوايا ملتويةً في بعض الأحيان. حتى الشريكان أنفسُهما كانت شجاعتهما تخونهما أمام هاتَين العينَين، ويُضطران إلى التراجع أمامهما إذا ما وصل الأمر إلى اختلافٍ في الآراء. وكانت عبارة سارتويل المقتضبة: «لن يفيدَ هذا، كما تعلم» دائمًا ما تحسم الأمور.
كانت معرفة سارتويل بالمصنع تفوق معرفتهما إلى أبعد الحدود، فبينما كانا لا يزالان يدرسان في الجامعة، كان مدير المصنع المستقبلي يشقُّ طريقَه إلى القمة حتى حاز ثقة أبوَيهما، وكانت كل خطوةٍ يخطوها ترتقي بوضعِه أكثر في المصنع. كان الرجال الثلاثة في العمر نفسِه تقريبًا، وبدأ الشيب يغزو شعر كلٍّ منهم، إلا أنه غزا شعر سارتويل ربما أكثر من الرجلَين الآخرَين.
كان من الصعب أن يفكِّر في أن يقع الشريكان في الحب، ولكن من اللطيف أن نعرف أنه عندما وصل الحب إليهما في الوقت المناسب في حياتيهما، جاء حاملًا الذهب في يدٍ وضميرًا متزمتًا حيًّا في اليد الأخرى. وبذلك أضاف الرجلان ثروةً إلى ثروتَيهما عبر الزواج، وكانت زوجتاهما منهمكتَين في أفعال الخير، التي كانت تقوم على تقصٍّ صارمٍ ومنصف؛ لكيلا يستفيد منها مَن لا يستحق، ولأن مونكتون وهوب كانا رجلَين جبانَين إلى حدٍّ ما، كان عليهما الخضوع للمرأتَين اللتَين تزوَّجاهما، فوجد بعضٌ من ثروتَيهما طريقَه إلى صناديق المجتمعات المطحونة ومؤسسات إغاثة المنكوبين.
وهكذا، حمل اسمُ شركة «مونكتون آند هوب» (المحدودة) لمحةً من القداسة غير معتادة تمامًا في أوساط المال والأعمال في لندن. وبمجرد الالتحاق بالعمل بالشركة، يمكن التعويل عليها، على نحو شبه مؤكد، لاكتساب جزء من هذه السمعة، ولكن، للأسف! لم يكن من السهل الالتحاق بالعمل في الشركة. فقد كان على المتقدِّم للعمل أن يخضع لتدقيق تلكما العينَين الفاحصتَين اللتَين يمتلكهما سارتويل، الذي كان لديه عادةٌ مربكة بأن يدخل في صلب أي موضوعٍ مباشرةً وبسرعةٍ مذهلة، وعندما يقول عبارته: «لن يفيد هذا، كما تعلم»، فقد قُضي الأمر ولا مجال لمناقشة قراره.
كان ثمَّة دَرَج خاص من الفناء في الأسفل إلى بهو المبنى المعلَّق، يفصل مكتب المدير الكبير عن الغرفتَين الصغيرتَين الخاصتَين بمالكَي الشركة. ولم يكن مسموحًا لأحدٍ باستخدام هذا الدرَج إلا الرجال الثلاثة. كان الموظفون والعامة يدخلون عبر المدخل الرئيسي، حيث يجلس رجلٌ يقظٌ خلف نافذةٍ مقوَّسةٍ صغيرةٍ مفتوحةٍ مُعلَّق فوقها لوحة كُتب عليها كلمة «الاستعلامات».
أمَّا بالخارج، في وسط الظلام، فكان المصباحان الكبيران المعلَّقان على عمودَي البوابة يعكسان ضوءًا أصفر ساطعًا، على الطريق المغطَّى بالرماد والشارع الضيق الكائن خلفه. وعبر البوابة الواسعة المفتوحة على مصراعَيها المؤدِّية إلى الشارع الضيق المرصوف بالحجارة، اندفع مئات العمال. لم يحدث تدافعٌ أثناء خروج العمال، بل خرجوا من البوابة في صمت، الأمر الذي لم يكن مألوفًا. بدا الأمر وكأن شيئًا يجثم على صدورهم، شيئًا أكثر قتامةً حتى من سحابة الضباب الهائلة التي تحوم فوق رءوسهم. وقف سارتويل على مسافةٍ قصيرةٍ من النافذة في مكتبه وحيدًا متواريًا، يراقب خروجهم بوجومٍ وصرامة. زمَّت الخطوطُ المحيطة بفمه الجامد شفتَيه، وجعلتهما أكثر صرامةً من صرامتهما المعتادة. لاحظ أن أحد العمال كان يلقي نظرةً خاطفةً على نافذة مكتبه بين الفينة والأخرى، وكان يعلم أنهم يصبون عليه لعناتهم في أعماقهم؛ لأنه حالَ بينهم وبين تحقيق مطالبهم؛ إذ كانوا يعلمون يقينًا أن الشركة ستُذعن لمطالبهم شريطة أن يُصدر سارتويل الأمر بذلك. كان المدير يعلم أن قائدهم قد قال خلال اجتماعاتهم إنه لا أحد يقسو على العُمال أكثر من عامل ترقَّى من بينهم. وكان اسم سارتويل يُستهجَن سرًّا بينما كان اسم الشركة يُهلَّل له، إلا أن المدير لم يكن من النوع الذي يردعه تراجع شعبيته، على الرغم من أن توتر العلاقات بينه وبين العمال قد منحه سببًا وجيهًا للقلق.
بينما كان مستغرقًا في التفكير في الموقف يُقلِّب الأمر في ذهنه ليعرف؛ إن كان ثمة لومٌ يقع عليه بأي حال، سمع طرقًا خفيفًا على باب مكتبه. استدار سريعًا مبتعدًا عن النافذة، ووقف بجوار مكتبه وقال بحدَّة: «ادخل.»
ولج إلى الغرفة شابٌّ يرتدي زيَّ العمال ويُمسك قبعته في يده. كانت قَسَمات وجه الشاب صريحة، وواضحة، ويبدو عليها الذكاء، وكان قد غسل وجهه بعدما أنهى عمله، تلك الرفاهية التي لم يكن أغلب رفاقه ينعمون بها.
قال المدير وقد انفرج حاجباه عندما رأى القادم: «أوه، مارستن. هل أنجزت المهمة المطلوبة منك في الوقت المحدد؟»
قال مارستن: «أتممتها قبل الخامسة والنصف يا سيدي.»
«حسنًا. هل اعترضَ طريقَك أيُّ عقبات؟»
«لم تعترضني عقباتٌ لم أستطع تخطِّيها يا سيدي.»
«حسنًا مجددًا. هكذا أُحب أن تُنجَز الأمور. الشاب الذي يمكنه تحقيق المستحيلات هو الرجل المناسب لي، وهو الرجل الذي سيُفلح في هذا العالم.»
أدار الشاب قبعته بين يدَيه مرارًا، وبدا محرجًا على الرغم من السعادة التي تجلَّت عليه بوضوحٍ جرَّاء إطراء المدير له. ثم قال أخيرًا:
«لا أُطيق صبرًا لأدخل إلى هذا العالم يا سيدي.»
ردَّ عليه المدير قائلًا: «قد تسنح لك الفرصة لذلك قريبًا.»
ثم سأله فجأة:
«هل ستُضربون عن العمل؟»
«أخشى أننا سنفعل يا سيدي.»
«ولماذا «تخشى» ذلك؟ هل ستُضرب مع الباقين، أم إن قرارك مستقل؟»
«لا يمكن لأحدٍ أن يواجه النقابة بمفرده.»
«أنت تتحدَّث الآن إلى رجلٍ سيفعل ذلك.»
رفع الشاب بصره ناظرًا إلى سيده.
وقال: «بالنسبة إليك الأمر مختلف. فثمة شركة ثرية تشد من عضدك. ووضعك الوظيفي آمن سواء فزتَ أم خسرت. أمَّا إذا خذلتُ أنا النقابة حال تعرُّضها لأزمة، فلن أتمكَّن أبدًا من استعادة وظيفتي.»
ارتسمَت على شفتَي سارتويل ابتسامةٌ واجمة عندما ذكر الشابُّ الشركة. كان يُدرك أنها نقطة ضعفه وليست موطن قوته؛ فعلى الرغم من أن الشركة أخبرته بأن له حرية التصرف تمامًا، فإنه كان واثقًا من أن الهلَع سيضرب نفسَي المالكين في لحظة احتدام الصراع. وإذا شاركَت النساء في الإضراب، فسينتهي الأمر. ولو كان المُضرِبون يعرفون مَن في يده أن يناصرَهم، لكانوا أرسلوا وفدًا من زوجاتهم إلى السيدة مونكتون والسيدة هوب. ولكنهم كانوا لا يُدركون ذلك، ولم يكن سارتويل من نوعية الرجال الذين يُظهرون ضعفهم وقلة حيلتهم.
قال المدير: «نعم، ثقتي في السيد مونكتون والسيد هوب لا حدود لها. وإني لأتساءل عمَّا إذا كان العمال يُدركون هذه الحقيقة.»
«نعم يا سيدي، إنهم يُدركون ذلك.»
«أخبرني يا مارستن، هل لك أي تأثير على العمال؟»
«أخشى أنه تأثير محدود للغاية يا سيدي.»
«إذا كان لك أي تأثير عليهم، فقد حان الوقت لممارسته، لصالحهم، كما تعلم، وليس لصالحي. فهذا الإضراب مُقدَّرٌ له الفشل. ولكني لا أنسى أبدًا مَن يؤازرني.»
هزَّ الشاب رأسه.
وقال: «إذا رحل رفاقي، فسأرحل معهم. لست واثقًا تمام الثقة من أن الإضراب مُقدَّرٌ له أن يفشل، رغم أني من معارضيه. إن النقابة تملك قوةً كبيرة يا سيد سارتويل. لعلك لا تعلم أنها أقوى نقابة في لندن.»
مرَّر المدير يده على عددٍ من فتحات صندوق البريد للحظة، قبل أن يسحب ورقةً من إحداها ويُناولها إلى مارستن.
قال المدير: «هذه هي قوة النقابة مُلخَّصةً في سبعة عشر الجنيه وثمانية الشلنات والبنسين التي أودعوها في المصرف بعد ظُهر أمس. إذا أردت أي معلوماتٍ عن نقابتك يا مارستن، فسيُسعدني أن أمنحك إياها.»
اتسعت عينا الشاب بينما كان ينظر إلى الأرقام.
وقال: «إنه مبلغ ضخم جدًّا.»
علَّق سارتويل على ما قاله مارستن بنبرةٍ محايدة: «مبلغ مُعتبَر يكفي لتمويل صندوق الإضرابات. ولكن كم، في رأيك، عدد أيام السبت التي سيظل هذا المبلغ صامدًا خلالها أمام استنزاف الرواتب في هذه المؤسَّسة؟»
«ربما ليس الكثير.»
«ستُفاجأ حين تعرف مدى قلتها. إن العمال لا ينظرون إلا إلى جانب واحد فقط من هذا السؤال، أمَّا أنا فمُجبرٌ على النظر إلى كلا الجانبين. إذا لم يتلقَّوا رواتبهم في أي يوم من أيام السبت، فلن يكونوا سعداء، أليس كذلك؟ لا بد أن أخطِّط وأدبِّر لضمان وجود المال كل سبت، إلى جانب ضرورة وجود مزيدٍ من المال يكفي لتعويض الشركة عن استثماراتها ومخاطراتها. قد لا تبدو هذه التفاصيل الصغيرة مهمةً لواحدٍ من الدَّهْماء لا يعرف شيئًا عن التجارة، ولكنه يُجيد إلقاء الخطب الرنانة في جمعٍ من الرجال لِيُوغر صدورهم. سيُسعدني للغاية أن أتركَ له منصبي هذا لشهرٍ أو شهرَين وأخلُدَ إلى الراحة، ولنرَ إذا كان سيرى وجهة نظري للأمور صحيحًا أم لا.»
فجأةً نظر مارستن إلى المدير وقال: «سيد سارتويل، لقد طرح عليَّ الليلة بعضٌ من العمال الأكثر اعتدالًا سؤالًا مشابهًا لأحد أسئلتك.»
«وماذا كان هذا السؤال؟»
«سألوني عمَّا إذا كان لي أي تأثير عليك.»
«حقًّا؟ وهل أخبرتهم أن …؟»
«إنني لا أعرف.»
«حسنًا، ولن تعرف حتى تُجرِّب. هل ثمَّة ما تقترحه؟»
«الكثير من العمال يعارضون الإضراب، ولكن حتى الأكثر اعتدالًا منهم يرَون أنك مخطئ في رفضك مقابلة الوفد. ويعتقدون أن رفضك يبدو تعسفًا واستبدادًا منك، وإن كنت مُجبرًا على رفض أي مطالب قُدمت، كان يجدر بك ألَّا تدع الأمور تئول إلى أزمة دون السماح للوفد، على الأقل، بعرض مطالب العمال.»
«وهل تعتقد أنني مخطئ في ذلك؟»
«نعم.»
«عظيم. سأُسوِّي هذا الأمر في الحال. اجمع بعضًا من العمال الأكثر اعتدالًا معًا على أن ترأس الوفد بنفسك. سأُحدِّد معك موعدًا، وسنناقش الأمر معًا.»
لم يبدُ على وجه الشاب الرضا التام عن هذا التنازل الفوري كما كان متوقعًا. ولم ينبس ببنت شفة لبضع لحظات، في حين ظل رئيسه ينظر إليه متفحصًا موليًا ظهره للمكتب العالي.
وفي الأخير تحدَّث مارستن:
«لا يمكنني أن أترأَّس الوفد؛ فأنا أحد أصغر الموظفين سنًّا في الشركة. كما أن أمين النقابة هو القائد الذي اختاره العمال.»
«آه! أمين النقابة. هذا وضعٌ مختلف تمامًا. إنه ليس من موظفيَّ. ولا يمكنني السماح للغرباء بالتدخُّل في أي شأنٍ يتعلق بي. أنا على استعدادٍ دائمٍ لاستقبال رجالي، سواء فُرادى أو ضمن وفد، وهذه ليست مسألةً بسيطة تمس قلةً من العمال؛ ولكن إذا فتحت أبواب مكتبي للعالم الخارجي … حسنًا، الحياة قصيرة. على سبيل المثال، أنا أناقش هذه الأمور معك، ولكني لن أناقشها مع أي شخص من الشارع.»
«نعم، أفهم مدى صعوبة ذلك، ولكن ألَا تعتقد أنه من الأفضل أن تتنازل هذه المرة لتفادي المشكلة؟»
«هذا لن يكون تفاديًا للمشكلة، بل مجرد تأجيل لها. وستكون هذه سابقة، وسأُضطر للسماح لهذا أو ذاك بالتدخل من وقت لآخر. وسيكون عليَّ أن أتخذ موقفًا في وقت ما، وربما يحدث ذلك في وقت لا أكون فيه مستعدًّا جيدًا. إن آل الأمر إلى معركة، فلتكن الآن. نحن بحاجة إلى بعض الآلات الجديدة، ولن يضيرنا أن نغلق المصنع أسبوعًا.»
هزَّ مارستن رأسه.
وقال: «قد يمتد الإغلاق أكثر من أسبوع.»
«أعلم ذلك. سيستمر الإضراب ثلاثة أسابيع بالضبط. وفي نهاية هذه الأسابيع الثلاثة لن تكون هناك نقابة.»
«وربما لن يكون هناك مصنع أيضًا.»
«هل تعني أنه سيكون ثمَّة عنف؟ عظيم. في هذه الحالة، لن يستمر الإضراب إلا أسبوعَين فقط. اسمع يا بني، نحن في لندن، وهذا يعني أن الشرطة لن تصل إلينا في غضون لحظاتٍ من الاتصال بها فحسب، بل سيأتي خلفها جنود الجيش، ومن خلفهما أيضًا الإمبراطورية البريطانية كاملة. لا يا مارستن، هذا غير مقبول، غير مقبول.»
«إن الرجال يملكون عزمًا من حديد يا سيد سارتويل.»
«هذا أفضل وأفضل. فأنا أحب الخصم ذا العزم. حينئذٍ يمكنك أن تحسم الأمور دون رجعة. لا أمانع مواجهةً مباشرةً على الأرض، أمَّا الدخول في مساوماتٍ ومفاوضاتٍ إلى ما لا نهاية، ومقابلة عددٍ لا نهائي من الوفود ولجان التحكيم والمصالحة، وكل هذه الأمور، فلا طاقة لي بذلك. دعونا نضع حدًّا للأمور ثم نَعُد لاستئناف عملنا.»
«هل يعني ذلك أنك ليس لديك شيءٌ لتعرضه عليهم؟ أعني على سبيل الترضية.»
«بالطبع لديَّ. دع العُمال يطلبوا من ذلك الجعجاع الأحمق جيبونز أن يلتفت إلى واجباته كأمينٍ للنقابة فقط، ثم ادعُ وفدًا من عمال وِرشنا للمجيء إلى هنا لمقابلتي. سنُناقش الأمر، وإن كانت لهم أيُّ شكوى، فسأُعالجها من أجلهم. هل هناك عدلٌ أكثر من ذلك؟»
«لقد أصبحت مشاركة جيبونز في الأمر مسألةَ مبدأ بالنسبة إلى العمال في الوقت الحالي. فهي تعني الاعتراف بالنقابة.»
«حسنًا، سأعترف بالنقابة وسأرفع لها قبعتي احترامًا؛ أعني فيما يتعلَّق بموظفيَّ. ولكني لن أسمح لدخيلٍ لا يعرف شيئًا عن هذه الشركة بأن يأتي إلى هنا ويُطلق هراءه في وجوهنا. تلك مسألة مبدأ بالنسبة إليَّ، شأني شأن العمال.»
تنهَّد مارستن.
وقال: «أخشى أنه لن يكون أمامنا خيارٌ إلا القتال.»
«ربما لا. إن أحمق واحدًا يصنع حمقى كثرًا. فكِّر جيدًا يا مارستن، أي جانبٍ ستتخذ في هذه المعركة. لقد غادرتُ نقابةً عماليةً من قبل، وعلى الرغم من أنني حينها كنت أكبر منك سنًّا، فإنني لم أندم على ذلك قط. لقد تسبَّب ذلك في أن أُصبح عاطلًا لبعض الوقت، ولكن ليس لوقتٍ طويل، ولم تقبل النقابة العمالية في الشركة التي أصبحت مديرها الآن انضمامي إليها. إن النقابة العمالية قائمة على أُسس غير مقبولة. فأي نظام يقوم على مساواة العطاء بين العامل السيئ والعامل الجيد هو نظام خاطئ تمامًا.»
«لا أتفق معك في ذلك يا سيد سارتويل. إن الأمل الوحيد للعامل يكمن في توحيد الجهود. لا شك أننا نرتكب أخطاءً وأن قادتنا من الدَّهماء، ولكن يومًا ما سيكون هناك إضراب تحت قيادة قائد حقيقي كنابليون، وحينها سنُسوي الأمور إلى الأبد، كما قلتَ منذ قليل.»
ضحك سارتويل ومدَّ يده نحوه.
وقال: «هذا ما تطمح إليه، أليس كذلك؟ حسنًا، أتمنَّى لك كل التوفيق يا نابليون الصغير. كنت سأختار ويلنجتون، لو كنتُ مكانك. عِمت مساء. أنا في انتظار ابنتي التي سمحتُ لها بغباء أن تمر عليَّ هنا مستقلةً عربة أجرة.»
أطال مارستن الإمساك باليد الممدودة إليه حتى إن المدير نظر له في دهشة. وعلَت الحمرة وجه الشاب من وجنتَيه إلى حاجبَيه، بينما كانت عيناه مثبَّتتَين على الأرض.
وقال بصعوبة: «سيد سارتويل، لقد حضرت اليوم لكي أتحدَّث إليك عن ابنتك، وليس عن الإضراب.»
أسقط المدير يده كما لو كانت جمرة نار، وتراجع خطوتَين إلى الخلف.
وصاح في جديةٍ صارمة: «عن ابنتي؟ ماذا تعني؟»
اضطُر مارستن إلى لَعْق شفتَيه مرةً أو اثنتَين قبل أن يتمكَّن من الرد. وكان يفتح راحة يده التي تركها المدير ويضمُّها في عصبية.
ثم قال: «أعني أنني أحبها.»
جلس المدير على مقعد مكتبه بجوار طاولته. وغادرَت وجهَه كلُّ تعابير الود التي كانت مرتسمةً عليه، وتهدَّل حاجباه الداكنان على عينَيه الثاقبتَين اللتَين عاد إليهما بريقهما البارد المعتاد.
وصاح في غضبٍ متصاعد: «ما هذا الجنون؟ أنت صبي صغير، كما أنك نشأت في المجارير، على حسب علمي. وابنتي لا تزال طفلة، إنها لا تزال في …»، ثم صمت. كان على وَشْك أن يقول في السابعة عشرة من عمرها عندما تذكَّر أنه تزوَّج والدتها عندما كانَت تكبرها بعامٍ واحدٍ فقط.
ازداد وجه مارستن حمرةً عندما ذكر المدير المجارير بهذا الازدراء. وقال ببطء يشوبه نبرة عناد:
«لا عيب في أن أكون من المجارير، العيب أن أظل هناك. لقد غادرت المجارير، ولا أنوي العودة إليها.»
صاح المدير في نفاد صبر: «أوه. «تنوي». جميعنا نعلم الطريق المُمهد بالنوايا الحسنة. عجبًا؛ أنت لم تتحدَّث إلى الفتاة على الإطلاق!»
«لا، ولكن أنوي أن أفعل.»
«حقًّا؟ حسنًا، سوف أتخذ كل حذري حتى لا تفعل.»
«ما وجه اعتراضك عليَّ يا سيد سارتويل؟»
«وما الذي يميِّزك؟ فلتتكرَّم وتعدِّد لي مناقبك.»
«أنت تقسو عليَّ كثيرًا يا سيد سارتويل. أنت تعلم أن ما حصلت عليه من تعليم كان بجهدي، بالرغم من نشأتي في المجارير. لقد درست بجِد، وعملت بجد. أليس لذلك قيمةٌ بالنسبة إليك؟ إن أخلاقي حسنة، ومركزي الوظيفي جيد …»
«لست كذلك. أنا أفصلك من العمل. ستأتي إلى المكتب غدًا، وتحصل على راتب الأسبوع، وتُغادر.»
«يا إلهي!»
«نعم، «يا إلهي!» لم تتوقَّع مني ذلك، أليس كذلك؟»
«بلى، لم أتوقعه.»
«حسنًا، لمرة واحدة في حياتك، كنتَ محقًّا. أود فقط أن أُريك أن مركزك الوظيفي الجيد يقوم على هوى رجل واحد. لا نية لديَّ لفصلك من العمل. فلست خائفًا منك إلى هذا الحد. أمَّا ابنتي فسأتولى أمرها.»
قال مارستن في مرارة:
«إن جيبونز، رغم حماقته، محق في قوله إنه لا أحد أكثر قسوةً على العُمال من عامل صعِد من بين صفوفهم. أنت لم تكن أفضل حالًا مني عندما كنتَ في مثل سني.»
هبَّ سارتويل واقفًا وعيناه تتقدان غضبًا.
وصاح قائلًا: «اسمع أيها الشاب. كل ما فعلتَه، فعلتُه من قبلك. وكل ما تنوي فعله، فعلتُه أنا بالفعل. لقد علَّمتُ نفسي بنفسي، بقدرٍ ما، وكَدَدت في عملي مواصلًا الليل بالنهار. وبلغت مركزًا معينًا، ومسئوليةً معينة، وحقَّقت مبلغًا معينًا من المال. إن حياتي عبارة عن قليل من المتعة وكثير من الكدح، والعمر الآن يجري بي. ولكن عندما أنظر إلى حياتي أُدرك أن ما حقَّقته من نجاح نابع عن حظٍّ بقدر ما هو نابع عن جدارة. كنت مستعدًّا عندما سنحت الفرصة، هذا ما في الأمر؛ لو لم تأتِ الفرصة، لَما نفعني كل استعدادي هذا. فأمام كل رجل ينجح، ثمَّة عشرات يفشلون عن جدارة.
والآن، لماذا تحمَّلتُ كل هذه المعاناة؟ لماذا؟ هل من أجل نفسي؟ على الأرجح لا. لقد فعلتُ كل هذا حتى لا تُضطر ابنتي لأن تصبح كادحةً متعبة — زوجة عامل — وحتى يتسنَّى لها أن تُكمل حياتها من حيث انتهيتُ أنا. هذا هو السبب. أمَّا بالنسبة إليَّ، فلا أمانع أن أرتدي زي العامل مثلما ارتديت سترة المدير. والآن، بعد كل ما عانيته من أجلها، تتحدَّث عن الحب! كم يساوي حبك لها مقارنةً بحبي لها؟! وبعدما فعلت كل ذلك كي لا تعرف من الأساس ما يعنيه ذلك، هل أكون بذلك الحمق والشر والغباء لألقيَ بها إلى حيث بدأتُ تحت قدمَي أول متبجِّحٍ صفيقٍ واتَتْه الجرأة ليطلب يدها؟ لا، بربي، لا! الآن وقد حصلت على الرد، فلتخرج، ولا تُسوِّلن لك نفسك أن تخطوَ بقدمَيك إلى هذا المكتب حتى أُرسل في طلبك.»
كان سارتويل في غمرة انفعاله يضرب سطح المكتب بقبضته المضمومة للتأكيد على ما يقول. وانكمش مارستن على نفسه أمام ثورته مُدركًا أنه لا أحد من العمال رأى المدير غاضبًا من قبل، وتَخوَّف من الضغينة التي ستملأ قلب سارتويل عندما يعود له هدوءُه. وشعر أنه كان يجدر به أن يكون أكثر كياسةً ويغادر في وقت أسبق. ولكنه رأى أن الأمور لا يمكن أن تئول إلى أسوأ ممَّا هي عليه، فبقيَ واقفًا في مكانه.
وقال: «كنت أعتقد أنه سيكون من الشرف أن أدعك تعرف أن …»
«لا تتحدَّث معي عن الشرف. اخرج.»
في تلك اللحظة، انفتح الباب المؤدي إلى الدرج الخاص ودخلت منه فتاةٌ شابة. كان والدها قد نسي تمامًا موعده معها، وفوجئ الرجلان بدخولها عليهما.
قالت الفتاة: «لقد طرقتُ الباب يا أبي، ولكنك لم تسمعني.»
قال والدها في عُجالة: «سأوافيكِ خلال لحظةٍ يا إدنا. انتظري في الرَّدهة قليلًا.»
قال مارستن وهو يتجه إلى الباب الآخر ويفتحه: «أرجوكِ ألَّا تنصرفي يا آنسة سارتويل. طابت ليلتكَ يا سيد سارتويل.»
قال المدير باقتضاب: «طابت ليلتك.»
«طابت ليلتكِ يا آنسة سارتويل.»
قالت الفتاة بعذوبةٍ معطيةً إيحاءً بالانحناء: «طابَت ليلتك.»
الْتقَت عينا الرجلَين لحظة، وبدا العناد جليًّا في عينَي كلٍّ منهما، إلا أن عينَي الشاب كانتا وكأنهما تقولان في تحدٍّ:
«أرأيت؟ لقد تحدثتُ إليها.»