الفصل العاشر
في يوم السبت، أخذ العمال أجورهم المستحقة، واحدًا تلو الآخر، وخرجوا من بوابات المصنع في هدوء متجهمين. خلال الأيام التي فصلت بين الاجتماع والإضراب، لم يحاول أيٌّ من الطرفَين التواصل مع الطرف الآخر. وإذا كان سارتويل قد استعد للصراع، فقد تمت هذه الاستعدادات في سرية تامة؛ حتى إن جيبونز لم يتمكن من اكتشافها. وأصدر سكرتير النقابة بيانًا للصحافة، عرض فيه موقف العمال بعباراتٍ معتدلةٍ كان لها تأثيرٌ كبير على جذب تعاطف الرأي العام إلى حدٍّ كبير نحو جانب العمال. كان البيان وثيقةً جديرة بالإعجاب، وقد نشرته أغلب الصحف، وكتب بعضها مقالات افتتاحية، عبَّرت فيها عن أسفها لحقيقة أنه في هذا البلد المستنير وفي هذا العصر الصناعي، أُجبر بضع مئات من العمال، العمود الفقري للأمة، الراغبين في الكد والعمل، على الخروج إلى الشارع احتجاجًا على طاغيةٍ مستبدٍّ رفض حتى مناقشة أخطائهم المزعومة. وأشارت الصحف إلى أن كون مطالب العمال عادلةً أم لا هو مسألة هامشية؛ فالقضية الأساسية هي أن المدير رفض لقاء وفد منهم، وقالت الصحف إنها مُضطرة إلى استنكار هذا السلوك المتغطرس.
رأى مالكا الشركة ضرورة الرد على هذا البيان. إلا أن المدير لم يتفق معهما في الرأي؛ فلم يتم الرد على البيان.
عُين خفراء أمام بوابات المصنع، وظهر في الحي عدد إضافي من رجال الشرطة، وإن لم يكن بالكثير، كما لو أن الأمر مصادفة؛ ولكن لم يكن بيد الخفراء أو رجال الشرطة شيء يفعلونه. ففي يوم الإثنين، نظر بضعة رجال كانوا يتسكعون في المكان إلى أعلى نحو المداخن الشاهقة، وللمرة الأولى في حياتهم رأوها بلا دخان يتصاعد منها. لم يكونوا قد لاحظوا الدخان من قبل، إلا أن غيابه الحالي خلق فراغًا غير متوقع في المشهد الضبابي. بدا الأمر وكأن إصبع الموت قد لامس تلك المداخن المهيبة النحيلة، كما أن الصمت غير المعتاد للمكان، الذي اعتاد الناس دومًا صخبه الدائم، أضفى على الموقف شعورًا بجديةٍ موحشةٍ لم يتطلعوا إليها يومًا.
في يوم الثلاثاء، وصلت حاويات محملة بمعدات جديدة إلى المصنع، وحاول الخفراء إيقافها، ولكن دون جدوى. وعند استشارة جيبونز بشأن هذا الأمر، أبدى وجهة نظر معقولة ومتفتحة حياله.
إذ قال: «دعوهم يُدخلوا المعدات الجديدة كما يحلو لهم. فهذا سيعني وظائف لمزيد من العمال عندما نعود إلى العمل. لن نتدخل في شئون سارتويل إلا إذا حاول ملء المصنع بموظفين آخرين.»
وعلى مدار ما تبقَّى من الأسبوع، تصاعد من داخل المصنع صوت طرق الحديد بالحديد، ولكن لم يتصاعد أي دخان من المداخن الطويلة.
قال أحد العمال وهو يتجرع البيرة من كوبه: «هل تُسمي ما يحدث حربًا؟ أنا أسميه عيدًا للعمال.»
وفي يوم السبت، صُرِف راتب الإضراب للعمال في مقر الشركة، وحصل كل عامل على أجره المعتاد؛ إذ كانت النقابة العمالية ثرية. لقد كان بالفعل عيدًا للعمال؛ إذ يحصل الجميع على أجورهم بدون عمل.
تمكَّن سارتويل خلال الأسبوع الأول من الإضراب من إجراء إصلاحات وإضافة ماكينات ومعدات كان المصنع في حاجة إليها منذ أمد بعيد، إلا أن ثمَّة نتيجةً أخرى اعتبرها أكثر أهميةً من ذلك. فقد تمكَّن السيد مونكتون والسيد هوب من تجديد طاقتيهما، إن جاز التعبير. فقد أصاب الذعر هذَين الرجلَين الطيبَين رغم ما بهما من جُبن؛ بسبب ترك موظفيهما العمل، والتعليقات المناوئة لهما من قِبَل الصحافة. ولما لم يحدث جديدٌ خلال الأسبوع، استعادا تدريجيًّا ما أطلقا عليه شجاعتهما، وأصبحا أكثر التزامًا بالقتال عندما آن أوانه، على الرغم من عدم إدراكهما لذلك. كان من الصعب عليهما التراجع أو الاستسلام بلباقة وكياسة، بعدما التزما الصمت طوال أسبوع كامل من السلام والهدوء، حال حدث عنف بعد ذلك.
ربما فترت يقظة الخفراء قليلًا بمرور الوقت وعدم وجود شيء لفعله. غير أنهم تلقَّوا هزةً عنيفة ذات صباح بدَّدت أوهامهم. عندما وصلوا إلى بوابات المصنع رأوا الدخان يتصاعد من المداخن من جديد، وسمعوا طنين الآلات، كان المصنع يعمل بكامل طاقته، وكان العمال السابقون خارج أسواره.
وسرعان ما انتشر الخبر، وتجمَّع العمال حول البوابات من جميع الجهات. وصل جيبونز مبكرًا إلى مسرح الحدث، مثل قائد عسكري نشط مستعد لقيادة جنوده إلى المعركة. فقد أدرك أن المعركة قد آن أوانها، ولجأ إلى التهدئة عندما تحدث إلى العمال الثائرين. فقال لهم، لا بأس، فقد توقع حدوث هذا وكان مستعدًّا له.
كانت البوابات مغلقة، وعندما طلب جيبونز الدخول للتحدث إلى المدير، قوبل طلبه بالرفض القاطع. ولم يُهدِّئ هذا الرفض من ثورة العمال أو يحد من سخطهم. وحاول رجال الشرطة منع التجمهر قدر إمكانهم، إلا أن المهمة ازدادت صعوبةً أكثر فأكثر مع تزايد أعداد العمال.
عند الظهيرة، جاءت عربة، كان واضحًا أنها محملة بالمؤن، عبر الشارع، وعندما أدرك الحشد أن وجهتها هي المصنع، علت صيحةٌ من بين الحشود بضرورة قلب العربة.
ومرةً أخرى، أثبت تأثير جيبونز المهدئ على العمال جدواه، وعبرت العربة البوابات التي أُغلقت من خلفها بسرعة، وسط سباب العمال الذين وقفوا يشاهدونها مكتوفي الأيدي.
توجَّه جيبونز برفقة مساعديه إلى مقر القيادة، حيث عقدوا جلسة مباحثات. كان ثمَّة احتمال أن سارتويل، خلال الأسبوع الأول من الإضراب، عندما كان من المفترض أنه يُدخل معدات جديدة، كان يبني أيضًا مساكن لعماله الجدد، وكان يخطِّط لإبقائهم داخل أسوار المصنع ليُبعدهم عن تأثير النقابة.
لم يتوقع جيبونز هذه الخطة، ولم يكن مستعدًّا لها.
قال سكرتير النقابة: «سوف يخرج العمال من المصنع حتمًا إن آجلًا أو عاجلًا، وعندما يخرجون سنتحدث إليهم. ظني أنهم سيخرجون الليلة في الموعد المعتاد، وأقترح عليكم أن نتصرف بناءً على هذه الفرضية. وإذا ثبت لي أنها خاطئة، فسنجتمع مرةً أخرى الليلة، وسيكون لديَّ اقتراحات أخرى لعرضها عليكم. لن يمر وقت طويل قبل أن نعرف إذا كان مفسدو الإضراب سيخرجون أم لا. وحتى ذلك الحين، عودوا إلى مواقعكم بين الرجال وأوصوهم بألَّا يُبدوا أي عداء عندما يظهر مفسدو الإضراب، وعندما يخرجون اعملوا جميعًا على إقناع أكبر عدد ممكن منهم بالحضور إلى القاعة الكبيرة، حيث يمكننا التحدث إليهم. أخبروا الرجال بأنه إذا حدث أي عنف فإنهم بذلك يحقِّقون ما يريده سارتويل تمامًا. لا نريد استعداء الشرطة، وسيظلون محايدين على الأقل، ما دام الصدام لم يحدث.»
لقيت هذه النصيحة ثناءً من كل من سمعها، ورُتبت تفاصيل الخُطة، وانصرفوا جميعهم إلى موقع الصراع.
في تمام السادسة، فُتحت بوابات المصنع، ولم يمر وقت طويل حتى تدافع «مفسدو الإضراب» عبرها إلى الشارع. لم يكن ثمَّة صياح أو سباب، إلا أن المضربين رمقوا الوافدين الجدد بنظرات عابسة، في حين بدا الانزعاج على وجوه الأخيرين، وبدا الخوف واضحًا على كثير منهم جراء هذا الاستقبال.
صاح جيبونز: «أيها الرجال، من قائدكم؟ أريد أن أتحدث إليه.»
توقف الطابور لحظةً على الرغم من تعليمات الشرطة بعدم التوقف. وتبادل العمال النظرات، وسرعان ما أدرك جيبونز الموقف؛ لقد كانوا جميعًا غرباء بعضهم عن بعض، إذ جاءوا من جميع أنحاء إنجلترا. وأكَّد أحد الرجال هذا التخمين عندما قال بصوت عالٍ:
«لا قائد لنا.»
فصاح جيبونز: «ستتحدث أنت نيابةً عنهم إذن. هل كنتم تعلمون، عندما حضرتم للعمل هنا، أن ثمَّة إضرابًا عن العمل؟»
ردَّ المتحدث باسم العمال الجدد متجهمًا: «نعم، سمعنا عن شيء من هذا القبيل.»
«هل تنتمون إلى نقابة عمالية؟»
«لم تفعل النقابة العمالية شيئًا من أجلنا.»
«هل تُدركون أنكم تأخذون الخبز من أفواه عمال آخرين؟»
«علينا أن نضع الخبز في أفواهنا نحن.»
في هذه اللحظة، ربت قائد الشرطة على كتف جيبونز.
وقال: «لا يمكنني أن أسمح باعتراض طريقهم هكذا.»
فرجاه جيبونز قائلًا: «امنحني دقيقتَين فقط.»
«لا، ولا دقيقة واحدة حتى.»
التفت جيبونز نحوه في غضب.
وقال: «اسمع. تحلَّ ببعض الذكاء والفهم. ألَا تُدرك أني بإشارةٍ واحدةٍ من يدي سيمحوك هذا الحشد ورجالك من على وجه الأرض؟»
«لن يمنعني هذا من الزجِّ بك في السجن.»
«بالطبع لا. يمكنك أن تلقي القبض عليَّ بهدوء، وقتما تشاء، أو يمكنني أن أحضر إليك في قسم الشرطة في أي وقت تحدِّده، ولكن إذا حاولت التدخل الآن، فسيحدث شغب وستكون أنت المسئول. أنا من يكبح جماح هذا الحشد، وليس الخوف منك. لا توجد عربات في هذا الشارع، وليس من المرجح أن تمر. ومن ثمَّ، فإننا لا نُعيق أي شيء، وأنا حريص مثلك على أن يلتزم الرجال بالقانون. يا إلهي! قد تتفاقم الأمور في أي لحظة وتنشغل بالسيطرة على العمال، فاتقِ شر الحليم إذا غضب. وتذكر، أنت لا تعمل لدى سارتويل. كل ما أريده هو التحدث قليلًا مع هؤلاء الرجال، ثم سنترك الشارع لك.»
تردَّد قائد الشرطة لحظة. فقد كان منظر الحشد يُنذر بالشر.
ثم قال وهو يتراجع إلى الخلف: «أسرع إذن.»
صاح جيبونز: «تعالَوا معنا. لا يمكننا أن نتحدث هنا. تعالَوا إلى القاعة الكبيرة، وإذا لم يعجبكم ما نقول، فلن تضاروا في شيء. هذا بلد حر.»
استدار سكرتير الاتحاد كما لو أنه على يقين تام من أن الحشد سيتبعه، وتبعه العمال الذين لا قائد لهم. اندس مساعدو جيبونز بينهم، وبدءوا يتحدثون مع الغرباء. وقبل أن تمضي نصف ساعة، كان «مفسدو الإضراب» جميعهم جالسين في قاعة جيش الخلاص يوقِّعون على أوراق انضمامهم للنقابة العمالية، ويوضعون على قائمة المستحقين لأجور الإضراب.
وكان هذا نصرًا كبيرًا لجيبونز؛ الضربة الأولى، كما يقول الرياضيون.
في صباح اليوم التالي، عندما فُتحت بوابات المصنع، لم يمر عبرها أيٌّ من العمال، ومرةً أخرى وجد سارتويل نفسه دون موظفين. وبعدما ظلت البوابات مفتوحةً على مصراعَيها طوال نصف ساعة، أُغلقت مجددًا، وعلا صوت تهليل يصمُّ الآذان مع إغلاق المصراعَين الحديديَّين الضخمَين.
ولكن لم يكن سارتويل قد استنفد حيله بعد؛ فعلى مدار اليومَين التاليَين، امتلأ المصنع بالعمال مرةً أخرى، وتمكَّن جيبونز من استمالتهم أيضًا وإخراجهم من سيطرة المدير.
واستمرت اللعبة على هذا المنوال، ما أقنع العمال بأن سكرتير نقابتهم يملك بعض الحيل، وأنه خصم لا يُستهان به للمدير. كان جيبونز يتصرَّف أمام العمال بثقةٍ ويتحدَّث بيقينٍ تام، ربما كان أبعد ما يكون عن الشعور به بداخله؛ إذ كان إرهاقه وقلقه يتصاعدان أكثر وأكثر كلما طالت المواجهة. كان هو وحده من يدرك مدى خطورة زيادة استنزاف موارد النقابة، عبر الدعم الإجباري للعمال الجدد الذين استمالهم لمغادرة العمل لدى سارتويل، الأمر الذي قلب جميع حساباته السابقة رأسًا على عقب. كانت ثمَّة محاولةٌ لتخفيف العبء عن كاهل الاتحاد عبر حثِّ العمال الجدد على العودة من حيث أتوا، وحقَّقت نجاحًا جزئيًّا مع المجموعة الأولى، إلا أن الآخرين أصروا إصرارًا شديدًا على الحصول على حصتهم من أجر الإضراب، ورفضوا حتى التفكير في جدوى العودة إلى منازلهم. طلبوا الحصول على ما وُعدوا به، وإلا فسيقتحمون المصنع اقتحامًا جماعيًّا، وهو التصرف الذي من شأنه التسريع بإنهاء المواجهة. كان جيبونز يلقى دعمًا جيدًا من ذلك القطاع من الصحافة الذي كان يسهب بصورة يومية في الحديث عن تطورات الإضراب. وذات صباح، دعت كبرى هذه الصحف الرأي العام لمساندة الإضراب. فقد أشارت هذه الصحيفة إلى أن المضربين ربما كانوا يقاتلون في البداية من أجل حقوقهم، ولكنهم في واقع الأمر يقاتلون من أجل جميع البشرية العاملة، وطُرحت القضية بطريقةٍ شديدة الإقناع والإيجاز في مقالةٍ افتتاحية، استُخدم فيها التباعد المزدوج بين السطور، وافتتحت الصحيفة نفسها قائمة المساهمات لدعم الإضراب بتبرع معتبر. هل سيظل الشعب الإنجليزي بمعزل عما يحدث ويُحوِّل هؤلاء العمال إلى عبيد، مستخدمين سلاح الجوع المقيت ضدهم؟ لم تعتقد الصحيفة أن مثل هذا المستوى من اللامبالاة قد يكون موجودًا، وكان لهذا الاعتقاد ما يبرره إلى حد كبير؛ إذ سرعان ما انهالت المساهمات، إلى جانب رسائل غضب واستياء من جميع أنحاء البلاد، نشرتها الصحيفة ضمن أعمدتها كما هو متوقع.
حلت أولى أزمات الإضراب على العمال عندما أُعلن فجأةً أن أجر الإضراب سيُخفَّض، بدايةً من السبت القادم، إلى ربع المبلغ الذي كانوا يتقاضَونه في ذلك الوقت. كان ثمَّة الكثير من التذمر وبعض التساؤلات عما يقاتلون من أجله، ولكن في المجمل قوبل القرار بهدوء، وإن لم يخلُ من الاستياء.
قال جيبونز عندما اضطُر على مضض لإخبار العمال بمسألة خفض الأجر: «سيكون النصر حليفنا حتمًا. إن الشركة تخسر نحو ألف جنيه أسبوعيًّا؛ بسبب توقُّف المصنع عن العمل، ومن غير المرجح أن يتحملوا هذه الخسائر طويلًا، حتى وإن كان ذلك مجاملةً لسارتويل.»
لم يمتلك جيبونز الشجاعة الكافية لكي يُخبر العمال بأنه على الرغم من خفض الأجور، فإن النقابة لا يمكنها أن تصمد أكثر من أسبوع آخر، وأن مواردها فعليًّا على وشك النفاد، وأن أجور الإضراب المستقبلية ستعتمد حتمًا على التبرعات القادمة من مصادر خارجية، وهو مصدر غير مستقر تمامًا للمال؛ فالجميع يعلم جيدًا مدى قِصر عمر الحماسة، وكيف أن جمع الأموال نقدًا يدمِّرها.
إن للقيادة الحكيمة مقوماتٍ كثيرة، وإحدى مسلماتها أن عليك أن تسعى لاكتشاف أشد نقاط الضعف لدى عدوك. لم يخطر ببال جيبونز أو أيٍّ من مساعديه أن القلعة التي يهاجمونها تكفي مهاجمتها من جبهةٍ واحدةٍ لتنهار أسوارها مثل أسوار أريحا؛ لم يخطر بباله قط أن سارتويل كان يحارب في معركتَين في الوقت نفسه؛ معركة ضد العمال، والأخرى ضد مالكي الشركة، وكانت المعركة التي يخشى نتائجها أكثر من بين المعركتَين هي معركته مع الأخيرَين. كان سارتويل بين نارَين؛ فقد حث مونكتون وهوب على مغادرة إنجلترا حتى ينتهيَ النزاع، وأن يتركا إدارة الأمر له. ولكنهما ترددا، فكان من عادتهما أن يعدا سارتويل في المساء بشيء، ولكن في صباح اليوم التالي كانا يغيران ما كان يحلو لهما أن يطلقا عليه قرارهما. فكانا دائمًا ما يخشيان حدوث الأسوأ. ورأيا بعين الخيال المصنع يحترق وقوات الشرطة تطلق النار على العمال. وناشدا سارتويل أن يتوصل إلى اتفاق مع العمال. لقد قال إن الإضراب سينتهي خلال ثلاثة أسابيع، ولكن ها هو ذا ما زال مستمرًّا، ولم يفتُر عزم العمال قط. وإذا كان مخطئًا بشأن فترة استمرار النزاع، أليس من الممكن أن يكون مخطئًا أيضًا في معاملته للعمال؟ ألم يكن من الممكن التوصل إلى تسوية؟
كان على سارتويل أن يقاوم ذلك، ما استنزف قواه أكثر من الإضراب نفسه. كان يتصفح الصحف كل يوم؛ خشية أن يجد بها رسالةً من الشركة ردًّا على انتقادات اليوم السابق، الأمر الذي من شأنه أن يكشف للرأي العام على الفور حقيقة الأوضاع.
كان جيبونز يؤمن بأن العمود الفقري لأي معركة هو المال، مثلما كان الحال في الكثير من الحالات؛ إلا أنه لو أتاح لنفسه القليل من الوقت للتفكير في الأمر، لوجد أنه لو كانت المعركة تُدار على أساسٍ مادي، لما لاح للمضربين أدنى فرصةٍ للانتصار؛ لأن شركة مونكتون آند هوب أكثر ثراءً من النقابة بكثير. وكان يؤمن بمواجهة الشيطان بالنار. من المفترض أن الأمثال تمثِّل خُلاصة حكمة العصور، إلا أنها كثيرًا ما تمثِّل خلاصة حماقة العصور. إذا كان شخص على وشك مواجهة مبارز محنَّك في ساحة الشرف، فعليه أن يختار مسدسًا إذا كان له الاختيار من بين عدة أسلحة. فلتحارب الشيطان إذا شئت، ولكن ليس بالنار. عندما قال مارستن مخاطبًا جيبونز: «السيد سارتويل يعرف بالتحديد حجم الأموال التي تملكها النقابة في البنك»، أجابه سكرتير النقابة بثقة أن بإمكان سارتويل الاطلاع على حسابات النقابة إذا شاء، وربما يفيده ذلك كثيرًا. إن حقيقة أن رجلًا مثل سارتويل رأى أن الأمر يستحق أن يكتشف ما يفعله العدو؛ لم توحِ لجيبونز بأن التجسس على سارتويل، ليكتشف كيف تسير الأمور داخل مكتب مدير المصنع، قد لا تكون فكرة سيئة. كان مارستن قد اكتشف أمورًا عديدة مع تطور أحداث المعركة، ونقلها إلى جيبونز الذي قابلها بتجاهلٍ تامٍّ معتبرًا إياهًا أمورًا بلا قيمة، واعتبر مارستن طوال الوقت عدوًّا في معسكر العمال.
كان السيد هوب الرعديد يجتاز بوابات المصنع كل يوم متجهًا إلى مكتبه، دون نظرة ولو خاطفة إلى الحشد الذي كان يوجِّه له هتافات الاستهجان، وتعليقات لا تسر الأذن قط. كان يخشى لحظة وصوله ومغادرته، ولكنه رأى أن من الشجاعة أن يواصلَ فعل ذلك، وتخيَّل أنه سيكون قد تخلَّى عن واجباته باعتباره مواطنًا بريطانيًّا حرًّا، إذا ما تخلى عن موقعه في هذه الأوقات الخطرة.
لو كان جيبونز نافذ البصيرة، لكان دعا السيد هوب إلى سربيتون، ولم يكن الأمر ليتطلب سوى محادثة لعشر دقائق لتتضح له حقيقة الأمور؛ إذ كان صاحب المصنع الضئيل الرعديد شفافًا كالكريستال. لو تمكن سكرتير النقابة من استدراج أحد الشريكَين إلى مكان اجتماع العمال المضربين، الأمر الذي كان من السهل تحقيقُه مثلما حدث مع «مفسدي الإضراب» الذين جُمعوا من جميع أنحاء البلاد، لحصل دون شك على بيان عام كان من شأنه أن يجعل استقالة سارتويل حتمية. وهكذا يكون جيبونز قد قاد جيشه إلى النصر، وفي الوقت نفسه وضع عدوه حيثما كان جيشه في تلك اللحظة؛ خارج بوابات المصنع.
ولم تكن هذه الطريقة إلا واحدةً من طرق عديدة من شأنها تحقيق النصر للقائد الماهر. فلو كلف جيبونز نفسه عناء استيعاب التأثير الذي أحدثَته بضع مقالاتٍ افتتاحية صحفية قصيرة في أفكار الشريكَين، لسعى جاهدًا للاتفاق على نشر سلسلة من المقالات عن الأعمال الخيرية التي تشتهر بها الشركة، مع بعض الإسقاطات الأخلاقية عن أن الخير يبدأ ممن تعول. ولا شك في أن هذه الخطوة كانت ستزلزل الأرض تحت قدمَي سارتويل؛ فقد كان مونكتون وهوب فخورَين بالخير الذي من المفترض أن تنشره عطاياهما، وقبل نشوب هذه الأزمة، كانا يعتبران نفسَيهما صاحبَي عمل عادلَين يعاملان موظفيهما بإنصاف، كما كانا بالفعل، وكما كانا يفعلان بالفعل.
أمَا وقد تسرب إليهما الشك بشأن هذه الصورة الآن، فقد انتابهما شعور مزعج بأنهما ربما أهملا واجباتهما تجاه موظفيهما. كان سارتويل يسيطر عليهما عندما يكون في حضرتهما، وكانا يدركان قيمته جيدًا لدرجة جعلتهما يعزفان عن المخاطرة بخسارته. وكانا يدركان أيضًا أنهما إذا وافقا على مطالب العمال من دون موافقته، فسيخسرانه، وثمَّة منافسون لهما في لندن سيسعدون كثيرًا بتعيينه لديهم، ولكن على الرغم من إدراكهما ذلك، انتابهما التردد، ولم يكن الأمر يتطلب إلا القليل من الفطنة والدبلوماسية من جانب جيبونز لكي يحقق نصرًا كاملًا.