الفصل الثاني عشر
وجد ألبرت لانجلي نفسه مضطرًّا إلى البحث عن غرفةٍ أرخص. فكان الشاب النحيل مستاءً للغاية من ضياع الكثير من المال على المأكل، والملبس، والإيجار. لا يمكن لإنسان أن يعيش دون طعام، وقد جرَّب لانجلي ذلك، ليس لأنه خبيرٌ اقتصادي، بل بسبب النسيان إلى حدٍّ كبير، واندهش حين اكتشف أن الجوع قد فرض نفسه فعليًّا على انتباهه، بعد انقضاء مدة كافية من الوقت. وأجبره المُناخ الإنجليزي المتقلب، فضلًا عن اللوائح التي سنها هذا الكِيان الأخلاقي المُسمى بالشرطة، على تغطية جسده؛ كما كان في حاجة إلى غرفة في الأساس للحفاظ على جفاف أكوام مؤلفاته الموسيقية. كانت كنيسة القديسين شهداء الشرق تكفل حياةً كريمة للغاية لكاهنها، وحياةً رديئة للغاية لعازف الأرغن بها، على الرغم من أنه لو كان الناس يحصلون على أجورهم وفقًا لكفاءتهم المهنية في هذا العالم، لانعكست رواتب رجال الدين والموسيقيين. فمن كانوا يدخلون الكنيسة كانوا لا يأتون من أجل سماع العظة، بل للاستماع إلى الموسيقى.
لم يطلب لانجلي زيادةً في الأجر قط؛ لأنه كان يدرك في أعماق روحه الموسيقية أنه يستفيد بالفعل من كرم السلطات الكنسية، وعاش في خوف دائم من أن يأتي يوم يكتشفون فيه ذلك، ويطردونه، ولن يلومهم أحد على ذلك. كان السماح له بالعزف على هذه الآلة الرائعة، التي تكلَّف تركيبها مبلغًا كبيرًا جدًّا من المال، امتيازًا كان يشعر بأن عليه أن يدفع مقابلًا عنه، إذا كان أمينًا بحق كما يراه الشمامسة. كان يحاول أن يرضي ضميره المُعذب عبر إخباره بأنه كان سيرفض تقاضي المال، لولا أن هذه النوتة الموسيقية الباهظة الثمن للغاية، حتى عندما كان يسير أميالًا مرةً كل أسبوع؛ ليشتريها من المتجر الذي يبيعها بأقل سعر في لندن، ولكن هكذا يفعل المذنب سعيًا لتهدئة رقيبه الداخلي، وهو يعرف تمام المعرفة، وهو يفعل ذلك، مدى سفسطائية أعذاره. كان سلوك لانجلي ولغة جسده يدلان على وعيه بسلوكه المخادع؛ فكان يتذلل إلى الكاهن ومَن هم في السلطة. ولم يكن أيٌّ من هؤلاء الرجال العطوفين المخدوعين يُبادر بالحديث إلى عازف الأرغن، من دون أن يلقيَ في صدره الرعب من أن أوان الزجِّ به إلى الخارج قد حان. ولكن بصرف النظر عن أقاويل الفلاسفة الأخلاقيين، أحيانًا ما يزدهر الأشرار على هذه الأرض حينما لا ينبغي لذلك أن يحدث، بينما يعاني الأبرياء من آثامٍ ارتكبها آخرون. ولنا في حالة بلشر مثال، وعلى الرغم من أنه من الإنصاف الإقرار بأن حظ بلشر العاثر قد تسبب لعازف الأرغن في الكثير من وخزات الضمير، فهل تُفيد وخزات الضمير إذا ما وقع الضرر بالفعل؟ إذا ما تسبَّبنا في وقوع كارثة لإنسان آخر، بسبب أنانيتنا، لا يمكن أن يكونَ في الندم الذي يعقبها إصلاحٌ للضرر.
كان بلشر هو ذلك العامل الكادح المجتهد الذي يضخُّ الهواء في أرغن كنيسة القديسين الشهداء، وإلى جانب عمله خلال القداس المعتاد، كان من ضمن مهامه أيضًا الحضور إلى الكنيسة، عندما يرغب عازف الأرغن في التدرُّب على المقطوعات الموسيقية المختارة، التي كانت تُبهج المصلين فيما بعد. وكان هذا هو الظلم الواقع على بلشر. فلم يكن لدى لانجلي ذرة «رحمة»، كما قال نافخ الأرغن المثقل بالعمل لرفاقه المتعاطفين معه في حانة «روز آند كراون». كان أهون على بلشر أن يسير خلف عربة مجلس الكنيسة طوال اليوم، حاملًا مجرفةً من العبودية التي فرضها عليه عازف الأرغن الغافل، الذي لم يفكِّر قط في أن حني الظهر على رافعة النفخ عملٌ أصعب من حني الأصابع على مفاتيح الأرغن. بالإضافة إلى ما سبق، كان لانجلي يستطيع الجلوس أثناء ممارسة عمله، بينما لا يمكن أن يفعل بلشر المثل. وبطبيعة الحال، اشتكى الرجل المُضْطهَد هذا الإجحاف، وأقر لانجلي على الفور بعدالة الشكوى، وفي الوقت نفسه أبدى خوفًا شديدًا من وصول شائعة تتعلق بسلوكه غير المُبرَّر إلى مسامع السلطات الكنسية. وندم بلشر المخلص على تحمُّله هذا العبء طوال هذه المدة الطويلة؛ إذ عرض عازف الأرغن المجحف في الحال على نافخ الأرغن اتفاقًا ينص على أن يدفع له مبلغًا إضافيًّا كل أسبوع، بشرط ألَّا يبوح بشيء عن العمل الإضافي الذي يقوم به. وكان بلشر تعس الحظ، أكثر من كونه مخطئًا؛ إذ لم يكن يجيد العمليات الحسابية، ولم ينتبه إلى حقيقة أن ثمة سقفًا لدخل عازف الموسيقى، وهو سقف منخفض للغاية. كان رجلًا يتعرض للاستغلال وسوء المعاملة، وكان يعلم ذلك؛ لذا كان عادةً ما يطلب المزيد من المال، وكان يحصل عليه، إلى الحد الذي أصر لانجلي عنده أنه لم يتبقَّ من دخله ما يسد رمقه، فضلًا عن شراء النوتات الموسيقية. كان بلشر يتوق إلى مرافقة عربة مجلس الكنيسة، وهدَّد بالشكوى إلى الكاهن، وهو ما فعله في نهاية المطاف، ولكن دون أي ذكر لمسألة حصوله على أجر إضافي؛ لأنه لم يرغب في كشف ما ارتكبه عازف الأرغن في حقه بكل ما به من بشاعة. فقد أخبر الكاهن بأنه يفضِّل مرافقة عربة مجلس الكنيسة خلال جولاتها، على أن يرافق عازف أرغن لا تأخذه الشفقة بإنسانٍ فقيرٍ بائس. كان مستعدًّا دائمًا لضخ كمية معقولة من الهواء في الأرغن، ولكن إذا كان عازف الأرغن لا يُجيد أداء وظيفته لدرجة توجب عليه التدرب كثيرًا هكذا، فمن الصعب على الرجل الذي يُدير العَتَلة أن يتحمَّل وزر عدم كفاءته. وجَّه الكاهن الشكر إلى بلشر على نقده الموسيقي، وقال إنه سينظر في الأمر.
بينما كان بلشر العفيف يتخذ طريقه إلى خارج الكنيسة مرفوع الرأس، كما يليق برجل أدى واجبه أن يفعل، كان عازف الأرغن الظالم يزحف عبر الشوارع الجانبية، ونادرًا ما كان يجرؤ على دخول الكنيسة في غير أوقات الصلوات. وكان يتجنَّب لقاء الكاهن قدر الإمكان، ولكنه عثر عليه في نهاية المطاف. وضع العجوز الطيب يده على كتف الرجل المُدان، وقال:
«سمعت أنك ترهق بلشر في العمل.»
همهم عازف الأرغن المتوتر معتذرًا: «سأكون أكثر انتباهًا في المستقبل يا سيدي. أخشى أني كنت أفرط في العزف، ولكنه فن مختلف …»
قاطعه القس قائلًا: «لا شك في ذلك. لقد وضعت بعض الترتيبات التي من شأنها أن تلبي طموح بلشر، الذي يبدو أنه يميل إلى مرافقة عربة مجلس الكنيسة، وسنركِّب النافخة الهيدروليكية التي كان يجب علينا تركيبها منذ سنوات. سترى أنها ملائمة تمامًا لعملك يا سيد لانجلي؛ فهي جاهزة للعمل طوال الوقت ولا تشكو أبدًا.»
حاول عازف الأرغن أن يشكر الكاهن، إلا أن حلقه بدا لا يطيع أوامره لبذل أي جهد آخر غير ازدراد ريقه مرةً أو مرتَين على الأكثر. ابتسم الرجل العطوف عندما رأى الالتواءات العجيبة لفم لانجلي وحركة جفنَيه السريعة، ثم استدار عازف الأرغن فجأةً وانصرف، وأخذ الخوف يؤرِّقه بعد ذلك من أن يكون الكاهن قد اعتبره وقحًا وناكرًا للجميل، إلا أن العجوز كان أدرى بعازف الموسيقى بكثيرٍ من دراية عازف الموسيقى بنفسه.
في وقتٍ لاحق، عندما التقى لانجلي مصادفةً ببلشر الساخط الذي تعرَّض لظلمٍ بَيِّن، بينما كان يَسير خلف العربة التي لطالما ذكرها، ولكنها لم تكن كما توقَّع على الإطلاق، خشي الشاب المواجهة، وشعر بذلك الإحساس الداخلي بعدم الراحة المُسمى تأنيب الضمير.
قال بلشر لزميله عندما أخذتهما جولتهما إلى مكان قريب من كنيسة القديسين الشهداء: «أهذه هي أخلاق المسيحية! يضعون مضخة ماء راشحةً على العربة، يخطفون اللقمة من فم رجل فقير كادح، ويقتطعون من أجره الذي يعيش عليه بالكاد! بل إن القانون يجبرنا على دعم الكنيسة أيضًا.»
ولكن كان بلشر رجلًا متسامحًا حقًّا، ويجب ألَّا نحكم عليه من خلال كلماته القاسية عن الكنيسة التي كان مجبرًا على دعمها ماديًّا، بموجب تشريع قانوني صارم من وجهة نظره؛ إذ كان حتى هذه اللحظة يتجاهل ما يفعله لانجلي ويذهب إليه من وقتٍ إلى آخر، ويتقبَّل البنسات القليلة التي كان يدفعها له ثمنًا لراحة ضميره.
قال بلشر برحابة صدر وشهامة، بينما كان يحتسي كوب البيرة: «أنا لا ألومه بقدر ما ألوم ذلك الأحمق العجوز اللئيم الذي يعظ الناس في الكنيسة. هو من جعلني أتبع العربة.»
كما ذكرنا من قبل، كان لانجلي مُضطرًّا إلى البحث عن مسكن أرخص، وكان هذا نتاجًا لخطئه بقدر ما كان نتاجًا لدخله المحدود. تخوض صاحبات العقارات في أحياء لندن الأكثر فقرًا حربًا لا تتوقف ضد الظروف. فالمستأجرون قليلًا ما يدفعون قيمة الإيجار، ويدفعون أقل القليل إن فعلوا، وفي بعض الأحيان يختفون تمامًا، وتخسر صاحبة المنزل أموالها؛ وإذا بقوا، فلا أمل في فرض أي مصروفات إضافية؛ تلك المصروفات المطاطة التي عادةً ما تقود أصحاب النُّزُل في ويست إند إلى الثراء. فشروط العقود نهائية وشاملة دائمًا. ولم يترك سلوك عازف الأرغن مع صاحبات العقارات العديدات والمتعاقبات اللاتي تعامل معهن؛ مجالًا للدفاع عنه. فكانت هؤلاء النساء الطيبات، بعدما يترك الشقة التي يستأجرها، يتحدثن عن أساليبه الملتوية والمخادعة في حزن ومرارة، وكان لديهن مبرر عادل في ذلك في الواقع. فعندما كان يصل إلى مكان جديد لأول مرة، كان ينزع إلى الاعتذار عن أي مضايقات تصدر عنه، ويحرص بشدةٍ على ألَّا يُسبِّب أي مشكلات؛ وهو أسلوبٌ لا يُناسب شخصًا يعيش في لندن الصاخبة المزدحمة، بل في عالم حالم لا يوجد إلا في خياله، ما كان يدفع مُضيِّفته الطيبة، فقط بدافع التجربة ودون أي أحكام سابقة، إلى وضع شيء إضافي تافه في فاتورته الأسبوعية على مضض، ولم يكن الغرض من وضعه في الفاتورة حقًّا إلا إزالته مرةً أخرى إذا ما أثار شكوى من جانبه، أو تركه كما هو إذا ما أُغفل. وفي ظل هذه الظروف، كانت صاحبة المنزل بالطبع تتوقع شجارًا، قد تنهال عليها خلاله أوصاف مهينة تنال من نزاهتها المالية، بينما تعمد إلى تصحيح الخطأ بأعذارٍ بليغةٍ لخطئها المؤسف، والتأكيد للساكن أنه لن يتكرَّر مرةً أخرى. وبعد بضع تجارب من هذا القبيل، والتي كانت مشروعةً وملائمة تمامًا في بلدٍ تجاري كإنجلترا، بل إنها في واقع الأمر الطريقة الوحيدة لاكتشاف إلى أي مدًى يمكن الاعتماد على النزيل كأحد الموارد المالية المستمرة، تعود الحياة إلى مسارها الطبيعي بهذا الهدوء الوادع، الذي يُضيف كثيرًا إلى راحة ومتعة الإقامة سواء في شقة مفروشة في البلدة أو في قصر يُطل على المتنزَّه.
ولكن، لم يكن لانجلي ينتهج أسلوبًا مباشرًا وواضحًا مع صاحبات العقارات قط. فبدلًا من الإشارة إلى الخطأ وقت اكتشافه، كان يغلق فمه في خنوع ويدفع الفواتير ما دام كان قادرًا على سدادها، وكانت قيمة الفواتير ترتفع أكثر وأكثر كل أسبوع. وهكذا لم يكن للسيدة المخدوعة أي فرصة؛ إذ لم يكن بوسعها أن تعلم حين تصل قيمة الفاتورة إلى أقصى حد يسمح به دخله الأسبوعي. وفي نهاية المطاف، كان عازف الأرغن يحمل ربطة نوتاته الموسيقية تحت إبطه، ويخرج متسللًا كاللص تحت ستار الليل، ليبحث عن مسكن أرخص، تاركًا أجرة أسبوع بدلًا من مهلة الإشعار السابق، ملفوفةً في قطعة من الورق في مكان بارز؛ إذ لم يكن يملك الجرأة الكافية لمواجهة صاحبة العقار وإخبارها بشجاعة أنه سيرحل.
في ساحة روز جاردن، كان ثمَّة أكثر من أسرة يمكن تشبيهها بآلة الأكورديون؛ في سهولة طيها وفردها حسب المساحة المتاحة. فأسرة سكيمينس، على سبيل المثال، يمكنها أن تشغل الغرف الثلاث التي استأجرتها في الساحة، أو يمكنها أن تكتفي بغرفتين، أو حتى غرفة واحدة عند الحاجة لذلك. وكانت المساحة المتبقية تؤجَّر من الباطن عند توافر الفرصة لذلك، وهنا عثر لانجلي على مسكن يمتاز على الأقل بانخفاض إيجاره. رمق رجل الشرطة الواقف عند مدخل الساحة الوافد الجديد بشك، وقرَّر أن يراقبه. كان عازف الأرغن معتادًا على التحدُّث إلى نفسه بعنف بينما يسير في الشوارع، ولم تكن يداه العصبيتان تهدآن ولو لحظةً واحدة؛ فقد كانت أصابعه الطويلة النحيلة تعزف لحنًا ما على مفاتيح أو أوتار خيالية، لحنًا لا يمكن سماعه خارج نطاق مخيلته الموسيقية.
عندما رأى الشرطي المتشكك الواقف عند مدخل الساحة عازفَ الموسيقى يخرج، وهو يخمش الهواء الفارغ أمامه بسبابتَي يدَيه المعقوفتَين كالمخالب، مقطبًا جبينَه بصورةٍ مخيفة، وفي حلقه غمغمة متوعدة، قال الشرطي في نفسه:
«ها هو ذا أحد الفوضويين، إذا كان لهم وجود من الأساس»، ولم يكن يعلم أن هذا الرجل الضئيل المسكين كان يجذب مقابض أرغن خيالي ضخم يُصدر نغمات سماوية. كان رجال الشرطة دائمًا ما ينظرون إلى لانجلي بارتياب عندما ينتقل إلى مكان جديد، حتى عرفوا أنه عازف الأرغن في كنيسة القديسين الشهداء في الشرق.
ذات ليلة، بعد فترة قصيرة من استئجاره الغرفة الخلفية في الطابق الثاني في المنزل رقم ٣، كان لانجلي يهبط الدرج عندما توقف مشدوهًا على بسطة الدرج المقابلة لباب غرفة برونت. فقد سمع أحدهم داخل الغرفة يغتال ببطء وتردُّد الجزء الأول من «اللحن الجنائزي» لشوبان. أصابه صوت العزف بغصة، فظل يقترب ببطء حتى وصل إلى الباب، وأصابعه تدق تلقائيًّا على إطاره، كابتًا بصعوبة رغبةً في الصراخ احتجاجًا على انتهاك لحن بدا له مقدسًا. وفجأةً توقف العزف، ولم تمر لحظة حتى فُتح الباب على مصراعَيه ما جعل المستمع المشدوه يتعثَّر إلى داخل الغرفة، حيث قفز عليه عملاق، كما بدا له، وأمسكه من كتفَيه، وطرحه أرضًا بجوار الجدار المقابل حيث سقط مكوَّمًا. ثم ركل العملاقُ الباب مغلقًا إياه ضامًّا قبضتَيه، وقد الْتوت قسمات وجهه من الغضب، ووقف فوق الرجل الممدَّد على الأرض ينظر إليه متوعدًا.
صاح برونت قائلًا: «أيها الخسيس المتلصص التعس! لهذا السبب إذن استأجرت غرفةً مع عائلة سكيمينس؛ حتى تتلصص عليَّ وتستطلع أخباري. لقد رأيتك تصعد هذا الدرج زاحفًا خشية النظر في وجه أي رجل نزيه. لأنني لم أتقاضَ أجر الإضراب، يريد جيبونز أن يعرف كيف أعيش، أليس كذلك؟ أنا أعلم ألاعيبه جيدًا. أنت جاسوس جيبونز، وأرسلك لتعيش مع ذلك الخائن الآخر؛ سكيمينس. إن سكيمينس نفسه خائف؛ لأنه يعلم مدى ثقل يدي.» واستطرد برونت وهو يشمِّر عن ساعدَيه: «والآن، ستتلقَّى ما تلقَّاه سكيمينس. سأُلقي بك من فوق الدرابزين، ويمكنك أن تخبر جيبونز بذلك، وأخبره بأن يحضر بنفسه المرة القادمة، وسأكسر كل عظمةٍ في جسده.»
تعلَّقت جيسي بوالدها وهي ترجوه باكيةً ألَّا يؤذيَ الرجل المسكين. فدفعها برونت بعيدًا عنه، ولكن بلا قسوة.
وقال: «اجلسي يا جيسي واهدئي، ولا تزعجيني يا حبيبتي. لن أفعل شيئًا سوى إلقاء كومة العظام هذه على الدرج، وأُعطيه ما يستحقه أمثاله من المتلصصين.»
استجمع لانجلي شجاعته، مستغلًّا تغيُّر نبرة صوت خصمه أثناء تحدُّثه إلى الفتاة، وقال متلعثمًا:
«أؤكِّد لك يا سيدي …»
صاح برونت وهو يلتفت إليه بعنف: «لا تدعُني «سيدي» أيها الوغد، ولا تجرؤ على إنكار أنك أحد جواسيس جيبونز. لقد أمسكت بك متلبسًا، تذكر هذا.»
«لن أنكر شيئًا، إذا كان هذا يغضبك، ولكني لم أسمع باسم جيبونز في حياتي من قبل، ولست إلا عازف أرغن مسكين. ووقفتُ عند الباب عندما سمعت صوت الأرغن المزماري. وأؤكِّد لك أني لم أفعل ذلك لأي سبب آخر. أعلم أنه لم يكن عليَّ أن أفعل ذلك، وأعتقد أنني بذلك أصير متلصصًا. لن أفعل ذلك مرةً أخرى أبدًا، أبدًا، إذا ما تقبلت عذري لما اقترفت هذه المرة.»
كانت ثمَّة لمحةٌ من المذلة الشديدة في أسلوب الموسيقي، جعلَت استجداءه يزيد استياء برونت بدلًا من أن يقلِّله. فكان الرجل الضخم يحتقر كل شيء صغير وتافه.
فسأله: «أوه، أنت عازف أرغن؟ لا أصدقك! إن عازفي الأرغن لا يعيشون في ساحة جاردن. ولكن سنرى إن كان هذا صحيحًا، سنرى. انهض.»
استجمع لانجلي قواه ووقف على قدمَيه مترنحًا. وكانت كل حركة يفعلها تعزِّز شكوك الرجل الآخر.
قال برونت بنبرة رجل أحكم السيطرة على خصمه: «والآن، اجلس أمام الأرغن المزماري واعزف. تذكر أنك قلت إنك عازف أرغن.»
اعترض لانجلي قائلًا: «نعم، ولكني لا أعرف كيف أعزف على هذه الآلة على الإطلاق. أنا أعزف على أرغن الكنيسة.»
«الأرغن واحد لا يتغير، سواء كان في الكنيسة أم خارجها. إذا ما تمكَّنت من العزف على أحدها، فستتمكن من العزف على الآخر.»
تردَّد الرجل وبدأ اليأس يتسلَّل إلى قلبه. كان برونت يود بشدة لو فتك به، وربما كان وجود الفتاة في الغرفة فقط هو ما كان يكبح جماحه حتى هذه اللحظة.
سأل لانجلي: «هل لديكم أي نوتات موسيقية؟»
«لا، ليس لدينا أي نوتات موسيقية. فهي تعزف سماعيًّا.»
«هل تسمح لي بأن أصعد إلى غرفتي لأُحضر نوتةً موسيقية؟»
كان الأمر مكشوفًا للغاية.
فصاح برونت ضاربًا سطح الطاولة بقبضته: «بحق الرب! إذا ظَلِلت واقفًا مكانك تُثرثر هكذا لدقيقة أخرى، فسوف ألقي بك على الدرج حتى ينكسر عنقك. اجلسي يا جيسي ولا تتدخلي. إن هذا الرجل إما يمكنه العزف، وإما لا. كنت أعلم أنه كاذب، وهو واقف يرتجف هكذا لأن عليه إثبات ذلك. والآن، أيها الجبان، إما الأرغن أو الدرج؛ اختر بسرعة.»
جلس الموسيقي المغلوب على أمره على مضض على الكرسي المقابل للآلة الموسيقية. كان يعزف على الأرغن المزماري في بداية مشواره مع العزف، وكان يدرك أنه يُصدر نغماتٍ غليظة في أفضل الأحوال. ولكن بمجرد لمسة من أصابعه الرقيقة عليه، بدا وكأن روح الألحان بشتى أنواعها تنبعث منه، وتملأ جنبات الغرفة البائسة. وقف برونت لحظات مشدوهًا وقد تدلَّت يداه على جانبَيه في ارتخاء، ثم غاص في مقعده ذي الذراعَين. أما جيسي فراحت تُحدِّق بثبات، بعينَين واسعتَين شجيتَين، إلى ضيفهما، الذي بدا أنه تحوَّل؛ إذ اختفت من وجهه كل الخطوط التي رسمها الذعر والرعب عليه، وحلت محلها نشوة عميقة، وصار غافلًا عن كل ما يحيط به. ظل يعزف اللحن تلو الآخر، وكان كل لحن يؤدي إلى اللحن التالي له ويذوب فيه، وفي نهاية العزف، تحولت مجموعة من النغمات الصغيرة بالموسيقى إلى لحن شوبان الجنائزي المهيب، وبدأ الأرغن، كما لو كان كائنًا واعيًا، يبكي وينوح على الموتى. خلال ذلك، لم ترفع الفتاة عينَيها عن ساحر الألحان أمامها، وقد اغرورقتا بالدموع، بينما دفن والدها وجهه بين يدَيه.
عندما انزلقت أصابع عازف الأرغن السحرية أخيرًا من فوق المفاتيح، وانحسرت الإشراقة الجزلة عن وجهه مع امتزاج الموسيقى المحتضرة بالصمت، هب برونت واقفًا على قدمَيه.
وصاح قائلًا: «ألَا لعنة الرب على حماقتي وتفاهتي! لا أتخيل كيف أسأت إليك هكذا يا فتى وأنت تعزف مثل الملائكة. وكأنني لم أسمع موسيقى من قبلُ في حياتي.»
وضع برونت يده الضخمة برفق وحنو على كتف الرجل الآخر، على الرغم من أن الشاب، الذي بدا لم يَستفِق بعدُ من حلمه، قد انكمش في خوف من هذه اللمسة. «هلا تسامحني يا فتى؟ لا أعتقد أني آذيتك.»
«لا، لا؛ لا بأس. أنت تحب الموسيقى إذن؟»
«الموسيقى! لن أنساها ما حييت، إن هذا اللحن يرنُّ في رأسي طوال اليوم. يبدو وكأن العالم بأكمله يضبط خُطى أقدامه على نغماته.»
وللمرة الأولى، رفع الشاب بصره نحو برونت وقد الْتمع بريق الأخوة في عينَيه.
وقال: «أنا أيضًا أشعر بأنه لا شيء حولنا عدا الموسيقى العذبة. إنها تُلطِّف أصوات الأرض القبيحة، أو تستخدمها كأنها نغماتٌ ثانوية … كأنها … كأنها خلفية. يُخيَّل إليَّ أحيانًا أن أبواب السماء قد تُركت مواربة، وسُمح لنا — بعضنا — بالإنصات، لتعويضنا عن أي متاعب نمر بها، أو لندرك مدى تفاهة كل شيء آخر.»
تخضَّب وجه الشاب النحيل بحمرة الخجل المشوب بالارتباك، عندما وجد نفسه يتحدَّث بهذا الشكل إلى شخصٍ آخر، على الرغم من أن ما قاله لم يكن إلا خلاصة أفكارٍ عديدة، طالما ناجى نفسه بها من قبل. وبنظرةٍ اعتذاريةٍ خاطفةٍ رمق بها الفتاة التي كانت تنظر نحوه بعينَين مفتوحتَين لا تطرفان، كما لو كانت في حالةٍ من الغشية، واصل لانجلي حديثه في عجالة:
«إن اللحن الجنائزي لحن صعب، ويجب ألَّا يحاول أحدٌ عزفه إلا بعد دروس كثيرة. وسيُسعدني أن أتولَّى تعليم ابنتك الموسيقى إذا ما سمحتَ لي بذلك. فلدَيها أذن موسيقية.»
هزَّ برونت رأسه في أسف.
وقال: «ليس لدينا ما يكفي من المال لإنفاقه على دروس الموسيقى.»
فقال عازف الأرغن كما لو كان ما يقول سببًا منطقيًّا: «أنا أيضًا لا أملك الكثير. أنا فقير؛ ولذلك لست بحاجة إليه. على الفقراء أن يساعد بعضهم بعضًا. فإن لم يفعلوا ذلك، مَن سيفعل؟ لطالما كان الفقراء رحماء بي.» وتذكر صاحبات العقارات العديدات اللاتي سكن لديهن، وكيف كن يحرمن أنفسهن لإعالته، كما كن يعترفن عادة، دون أن يتوقعن للحظة أنه سيهجرهن الواحدة تلو الأخرى. ثم أضاف، متذكرًا المحرك الهيدروليكي في الكنيسة، وصبر السلطات المستمر على عازف الأرغن بها: «والأثرياء أيضًا.»
قال برونت متنهدًا: «حسنًا أيها الفتى، يمكنك أن تأتي متى استطعت، وحتى إن أتيت لأي غرض آخر، فتأكد من أنك ستلقى ترحيبًا شماليًّا حارًّا.»