الفصل الحادي والعشرون
كان جيبونز يعرف أن مونكتون وهوب قد سافرا إلى أوروبا، قبل حتى أن يصرِّح مارستن بهذه المعلومة بأعلى صوته في وسط الشارع أمام العمال. كان يُدرك أن اللعبة انتهت، وكل ما كان يريده هو بعض الوقت للتراجع عن الإضراب، وأن يظهر، إن أمكن، بمظهر الرجل الذي تمكَّن من تسوية الأمر. بمجرد أن علم جيبونز أن المالكَين الصوريَّين للمصنع قد رحلا، حاول أن يفتح قناة اتصال مع سارتويل، وأرسل له خطابًا سريًّا كتب فيه أنه بالأخذ في الاعتبار الحرمان الذي تعرض له العمال، والخسائر المادية الضخمة التي تكبَّدتها الشركة، فإنه على استعداد لتنحية كل المشاعر الشخصية جانبًا، والتخلِّي عن الشرط الذي كان يُصِر عليه في السابق فيما يتعلَّق بعقد اجتماع بينه وبين مدير المصنع. وعبَّر جيبونز عن استعدادِه للانسحاب من النزاع، وتشكيل لجنةٍ من العمال تُكلَّف بمقابلة سارتويل للترتيب لإنهاء الإضراب، ولكنه طلب أن يعتبر هذا الخطاب سريًّا.
أعاد سارتويل الخطاب إلى جيبونز، ربما بصورةٍ مهينةٍ لا داعيَ لها، قائلًا لحامل الرسالة باقتضابٍ أن لا رد لديه.
عادةً لا يكون من الحكمة إهانة خصمٍ مهزومٍ بلا مبرر، ولكن سارتويل لم يكن مطلعًا على فنون الكياسة السامية، وعندما كان يكره رجلًا، كان يكرهه من كل قلبه، ولم يكن يهتم بأي أعمالٍ انتقاميةٍ قد يلجأ عدوه إليها.
جزَّ جيبونز على أسنانه في غضبٍ عاجزٍ عندما أُعيد إليه خطابه. فقد أدرك أن أيَّ تنازلاتٍ يمكنه تقديمها لن ترضيَ سارتويل، وعليه، وبما أن الإضراب قد فشل، قرَّر أن يخرجَ بأكبر استفادةٍ ممكنةٍ من التراجع الذي بات محتومًا. اتفقت اللجنة على أن الصمود لم يعُد ممكنًا، على الرغم من رَفْضهم طلب مارستن بعقد اجتماعٍ بغرض التصويت. وتقرَّر عقد اجتماعٍ على الفور وعدم الانتظار حتى المساء (على أمل أن يتمكَّنوا بذلك من حرمان مارستن من أي فضلٍ قد يُستمدُّ من الاستسلام)، وتنظيم مسيرةٍ من العمال من مبنى البلدية حتى المصنع، يتقدَّمها أعضاء اللجنة عدا جيبونز، لحثِّ مدير المصنع على فَتْح البوابات. وحينئذٍ يستطيع جيبونز أن يقول إنه من أنهى الإضراب، وليس مارستن، بل وقد يظهر في دور فاعل الخير الذي ضحَّى بمشاعره الخاصَّة في سبيل العمال.
ولكن لم يكن الحظ حليف جيبونز في ذلك اليوم. فعندما وصل إلى المصنع، وجد مارستن واقفًا هناك يخطب في رفاقه العمال، مناشدًا إياهم أن يستسلموا قبل أن يسبق السيف العذل، مؤكدًا لهم أن المبنيَين سيَمتلِئان بالعمال يوم الإثنين، وحينئذٍ ستكون محاولات الدخول جميعها بلا جدوى. بدا جليًّا أن الشاب كان غاضبًا بالفعل من التأثير المحدود لمناشداتِه على اللامبالاة الواضحة من قِبَل العمال، ولو لم يكن جيبونز يشعر بغضبٍ شديدٍ في هذه اللحظة؛ بسبب الرفض الذي تلقَّاه من مدير المصنع، لربما استغلَّ الموقف لصالحه. ولكنه لم يكن يملك ما يكفي من الوقت للتخطيط لأيِّ مسارٍ جديدٍ للتحرك. فمنذ لحظة وصوله ومارستن يُطالبه بعقد اجتماعٍ على الفور بغرض التصويت. فطلب منه جيبونز أن يهتمَّ بشئونِه ولا يتدخَّل، وقال إنه على موعدٍ مع مالكَي المصنع، وإن اجتماعًا سيُعقد للتفكير في ردِّهما. حينها أدرك جيبونز أن خداعه غير مجدٍ وأن مارستن يعلم أن المالكَين قد فرا هاربَين.
وحينئذٍ دمَّر ظهور برونت غير المتوقع، والنتائج التي ترتَّبت عليه، جميع الخطط وأصبحت رمادًا تذروه الرياح.
أمَّا برونت، فلو فكَّر في الأمر مليًّا (وهو ما لم يفعله)، لأدرك أنه قد أخذ بثأره في نهاية الإضراب على طرده المهين من قاعة الاجتماعات في بدايته.
انفرد جيبونز بأعضاء لجنة الإضراب للتشاور بشأن الوضع الجديد. ولكنه كان اجتماعًا كئيبًا. فبينما كان العمال يخرجون الواحد تلو الآخر من البوابة الصغيرة، وكلٌّ منهم يحمل أجر نصف أسبوع في جيبه وعلبةً من التبغ في يده، وقف سكيمينس وأحد أعضاء اللجنة الآخرين في الخارج معلنَين أنه قد تمَّت الدعوة لعقد اجتماعٍ في تلك الليلة؛ للتباحث في أحداث اليوم بطريقةٍ ودية. ولكنَّهم لم يتلقَّوا ردًّا من أيٍّ من العمال؛ فقد هُرعوا جميعًا للحصول على بعض الطعام أو الشراب، ولم يذهب أيٌّ منهم في تلك الليلة إلى قاعة الخلاص. وفي صباح اليوم التالي، تقدَّم سكيمينس وأعضاء اللجنة الآخرون بطلبٍ إلى سارتويل لإعادتهم إلى الخدمة، ومُنحوا وظائفهم القديمة. قدَّم جيبونز استقالته من أمانة النقابة وقُبلت استقالته، الأمر الذي كان بمثابة الصاعقة بالنسبة إليه؛ فقد توقَّع أن يُطلب منه البقاء في منصبه، مع احتمال التصويت على منحه شكرًا رسميًّا، في ظل علمهم بأن العمال قد وافقوا على الإضراب بالإجماع. ولكن سرعان ما أُلقي باللوم كله على كاهله في فشل الإضراب، ووجد نفسه فجأةً مطالبًا بالبحث عن وظيفةٍ أخرى. واشتدَّت المرارة التي يشعر بها نحو سارتويل؛ لتتحوَّل إلى كراهيةٍ شديدة، وأهال اللعنات على رءوس العمال الذين كان منذ فترة وجيزة يوجِّههم في أي اتجاهٍ متى أراد.
في صباح اليوم التالي للاستسلام، فُتحت بوابات المصنع على مصاريعها، وتصاعد الدخان الأسود كثيفًا من المداخن العالية. كانت الفتيات والنساء اللاتي يعملن في الطوابق العليا هن أول من وصل، وارتسم على وجوههن الشاحبة امتنان صامت، عندما رأين راية الدخان المتصاعد تُرفرف فوق رءوسهن مثل إشارة إنقاذ. لم يكن لهن رأيٌ في خوض الإضراب، كما لم يكن لهن رأيٌ في إنهائه. ولم يكلِّف أحدٌ نفسه خلال الإضراب أن يعرف إن كنَّ ما زلن على قيد الحياة، أم مُتنَ عندما توقَّف أجر الإضراب.
وقبل انقضاء اليوم، كان العمل يسير بسلاسةٍ وكأن شيئًا لم يحدث. في البداية، كان العمال يخشَون أن يفرِّق سارتويل في المعاملة بينهم، وأن يصبح بعضهم مستهدَفين بسبب ما بدر منهم يوم الشغب، ولكن سرعان ما تبيَّن لهم عدم وجود أي تمييز بينهم.
وما إن هدأ رَوع العمال فيما يتعلق بتلك النقطة التي كانت تثير قلقهم، حتى استفاقوا من حالة الارتياح تلك على واقعة غير متوقعة. فقد فُصل مارستن. ففي اليوم الأول لصرف الرواتب، حصل الشاب على ما يستحق من أجر بالإضافة إلى راتب شهر كامل. وأخبره الصراف أن المصنع لم يعد بحاجة إلى خدماته. صُعق مارستن من وقع هذا الخبر المفاجئ حتى إنه لم يسأل عن السبب، بل انصرف حاملًا أمواله في يده. كان يعلم جيدًا السبب في طرده بهذه الطريقة المهينة، ولكنه شعر بأنه ليس من العدل أن يستخدم المدير سلطته ضده، في نزاعٍ شخصي بالدرجة الأولى، ومن دون أن يرتكب أي خطأ في عمله. عدَّ مارستن النقود بطريقةٍ آليةٍ ثلاث أو أربع مرات، من دون أن تُوصِل عملية العد إلى عقله أي نتيجةٍ حاسمة تتعلَّق بالمبلغ الذي تقاضاه. ولاحظ في النهاية أنه يبدو أن سارتويل قد أمر بمنحِه أربعة أضعاف مستحقاته القانونية مع إخطارٍ بالفصل. عاد مارستن إلى الصراف وقال:
«لقد أعطيتني أجرَ شهر؛ أنا لا أستحق إلا أجر أسبوع فقط.»
رد الصراف قائلًا: «من الأفضل أن تأخذَ ما مُنح لك. لقد أُمرت بأن أعطيَك أجر شهرٍ وأفصلك. هذه ليسَت نقودي، بل نقودك، ومن الحماقة أن تغادر دون أن تحصل على شيء.»
قال مارستن: «لن آخذ إلا أجري المستحق فقط. أعطِ المبلغَ المتبقِّيَ إلى السيد سارتويل، وأخبره بأني لا أريد منه صدقة.»
قال الصراف: «لا شأن لي بذلك. أعتقد أنك تعرف المشكلة، أمَّا أنا فلا أعرفها. وإذا كنت حكيمًا، فلن ترسل مثل هذه الرسالة إلى المدير، بل ستذهب للقائه بهدوء. لعل بضع كلمات توضِّح السبب تسوي الأمر بينكما؛ على أي حال، لن يفيدَك الانفعال بشيءٍ في هذا الأمر. فليسَت هذه الطريقة المناسبة للعودة إلى العمل في المصنع.»
رد مارستن قائلًا: «أنا لست منفعلًا، ولن أعود إلى العمل في المصنع، لا، حتى وإن طلب مني سارتويل ذلك. أخبره بأني عندما أعود إلى هنا، سأعود مالكًا لهذه الشركة، وستكون سلطته قد انتهَت؛ أخبره بذلك.»
«أوه، حسنًا إذن. إذا كنت تظنُّ أنك ستُخيف رجلًا مثل سارتويل بمثل هذا الحديث الرنان، فسيخيب ظنُّك.»
استدار مارستن، ووجد برونت واقفًا خارج البوابات.
قال برونت: «كنت أنتظرك يا فتى، واعتقدت أنك ربما خرجت مع المجموعة الأولى، ولكن أخبرَني البواب بأنك لم تفعل. تعالَ معي يا مارستن؛ فأنا أشعر بوحدةٍ شديدةٍ وبحاجةٍ إلى شخصٍ أتحدَّث إليه. لا أعلم ماذا حل بي، ولكنَّ ثمَّة خطبًا ما. تراودني أفكار غريبة. وأسمع اللحن الجنائزي ليلًا ونهارًا، وأصبح يزداد كآبةً على كآبة حتى أصبحت أخشى سماعه. هلَّا تسير معي يا فتى؟»
«نعم، يُسعدني ذلك. ألم تُحسِّن عودتك إلى العمل من الأمور؟ اعتقدت أن ذلك سيفيدك.»
«لقد ظَلِلت عاطلًا مدةً طويلة يا فتى. لم يعُد تأثير العمل كما كان من قبل. كنت معتادًا نسيان نفسي في العمل، أما الآن فأشعر وكأني في حلم، وأظل أفكِّر وأفكر، وإذا ما تحدَّث أحدٌ معي فجأة، أضطر إلى سَحْب نفسي من أفكاري البعيدة قبل أن أستطيع فَهْم ما يُقال، وطوال الوقت أسمع أصوات الماكينات وكأنها أنغام اللحن الجنائزي. وتخيَّلت أكثر من مرةٍ أن لانجلي يجلس في الطرف البعيد من الغرفة يعزف، وتستجيب الماكينات جميعها لحركات أصابعه، رغم أني أعلم أنه لم يأتِ إلى المصنع من قبلُ قط. وقفت في مكاني مشدوهًا والناس ينظرون إليَّ بتعجُّب. وعندما فركت عيني، اختفى لانجلي، ولكن الماكينات واصلَت العزف دون توقف.»
«عليك ألَّا تفكِّر كثيرًا في الماضي يا برونت. لن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يصبح كلُّ شيءٍ على خير ما يرام. كل ما يهمُّ الآن أن تجتهد في عملك قدر ما تستطيع. لقد أصبحت رئيس عمال الصالة العلوية، أليس كذلك؟»
«بلى. كان سارتويل عطوفًا معي. آه! سارتويل رجلٌ بمعنى الكلمة. رجلٌ يلتزم بكلمته.»
«هذا صحيح.»
«ويدعم رجاله ما داموا داعمين له، كما يجدر بالرجل أن يفعل. هل قال أي شيء لك منذ انتهاء الإضراب؟»
«لا.»
«ما زلتَ شابًّا، ولكن ستأتي فرصتك. ادعم سارتويل وسيدعمك. إنه يعرف كم حاولت إنهاء الإضراب، ولن ينسى لك هذا. وسأتحدَّث معه عنك عندما تسنح الفرصة لذلك.»
«أرجو ألَّا تفعل.»
«لماذا؟ لا ضير من ذلك.»
«ولا فائدة منه أيضًا.»
توقَّف برونت عن السير ونظر إلى صديقه عن كثب. وقال: «ما خطبك يا فتى؟ تبدو محبطًا، وها أنا ذا أتحدث عن نفسي دون أن أُلاحظ حالك. ماذا بك؟»
«حسنًا، بما أنك ستعلم ما حدث إن عاجلًا أو آجلًا، ولا فائدة تُرجى من إخفاء الأمر، سارتويل فصلني من العمل.»
توقف برونت عن السير فجأةً والتفت نحو صديقه وصاح غير مصدق ما سمع: «لا!»
«نعم، لقد فعل.»
«يا إلهي، لمَ فعل ذلك؟»
«لم يُذكر السبب. لقد أعطاني الصراف راتب شهر كاملًا، وأخبرني بأني مفصول. ولكن أعدت له ثلاثة أرباع المبلغ لأني لا أستحق إلا أجر أسبوع. لن أقبل إحسانًا من سارتويل.»
«آه، يا فتى، أنت أحمق. لا ترد النقود أبدًا بعدما تُصبح بين يدَيك. إنك لم تضرَّ إلا نفسك. ولكن كان من المرجح للغاية أن أتصرَّف مثلما تصرفت أنت، ولكني أحمق، ولا يجدر بأحدٍ أن يتخذني قدوة. هل سألت سارتويل عن السبب؟»
«لم ألتقه، ولن أفعل.»
«أنت مخطئٌ مجددًا يا فتى. دعنا نَعُد أدراجنا الآن ونستوضح الأمر منه قبل أن يعود إلى منزله.»
«لا، لا، أنا أرفض لقاءه.»
«سأقابله أنا إذن. يجب ألَّا يحدث إجراء مثل هذا. الفصل من العمل دون سبب! أبدًا! لقد أعدتُ العمال إلى العمل، ويمكنني أن أُخرجهم منه مجددًا. وسأترك العمل أنا أيضًا قبل أن أسمح بوقوع ظلمٍ كهذا عليك!»
«وما جدوى ذلك؟ العمال عاجزون، كما تعلم، كما أنهم لن يتركوا العمل، وحتى إذا فكَّروا في فعل ذلك، فسأتوسَّل إليهم بنفسي أن يبقَوا في أماكنهم. لا، أفضل تصرُّفٍ الآن هو التزام الصمت، والاجتهاد في العمل، وملء الخزانة الفارغة، وتنظيم العمل، ليس محليًّا، بل عالميًّا، وتأكد عندما يأتي الإضراب القادم، لن نكون تحت قيادة أحمق على شاكلة جيبونز.»
«ولكن يا فتى، ألَا تريد أن تعرف سبب فصلك من العمل؟ إنه ظلم بيِّن، ولكن لا بد أن ثمة سببًا له في عقل سارتويل. ربما قلت شيئًا أحمق نُقل له مُحرفًا، وأنا واثقٌ من أني قادر على إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. لم أكن أظنُّ أن سارتويل من نوعية الرجال الذين قد يستمعون لأي هراء يُلقى على مسامعهم، ولكن لا يمكن الجزم بذلك.»
«أنت محق تمامًا في اعتقادك بشأن سارتويل. إنه لن يلتفت لأي كلام يصل إلى مسامعه، بغض النظر عن طبيعة هذا الكلام. لا، إنه أعمق من ذلك. إنه يعرف آرائي فيما يتعلق بالتنظيم الصحيح للعمال، ولكن لن يؤثر ذلك في قراره على الإطلاق. ولا تعتقد أني لا أعرف سبب فصلي من العمل؛ لأنني أخبرتك أنهم لم يذكروا أسبابًا. أنا أعلم السبب، ولكن لا أبالي بالحديث عن هذا الموضوع، حتى معك أنت يا سيد برونت. كل ما أريد منك أن تفهمه أن تدخُّلك لن يعود بأي نفع. أريد أن أنسحب في هدوءٍ دون أن أقول شيئًا. وتذكَّر أنني من منطلق علمي بجميع الملابسات، لست واثقًا إلا من أمرٍ واحد؛ هو أنني لو كنت في مكانه، لفعلت مثلما فعل تمامًا. كما أني لن أتقدَّم بشكوى بما حدث؛ فأنا لا أريد أن يكون الأمر مثار حديث. الحقيقة الأهم التي عليك معرفتها هي أنني وسارتويل أصبحنا عدوَّين، ولا يمكن أن يكون ثمة سلامٌ بيننا حتى يُهزَم أحدنا. وإذا تمكَّنت من إقناع سارتويل بأن يطلب مني العودة، وأنت تعلم مدى صعوبة ذلك، فلن أعود. أظنُّك تفهم الآن أن لقاء السيد سارتويل غير ذي نفع.»
«ولكن كيف ستعيش يا فتى؟»
ضحك مارستن.
وقال: «أوه، لن أجدَ صعوبةً في كسب قوتي. لا تخف. كما أني سأدعم النقابة، وآمل أن أتمكَّن ذات يومٍ من أن أُريَ سارتويل كيف يجب أن يُدار إضراب.»
صاح برونت واضعًا يده على كتف صديقه: «أنت على المسار الصحيح إذا كانت هذه هي خطتك! لا أُومِن كثيرًا بالإضرابات، ولكني مؤمنٌ بك! سأجتمع بالعمال الليلة، وسنصوِّت بالإجماع على تنصيبك أمينًا للنقابة. وسيكون هذا ردَّنا على سارتويل. وحينئذٍ يا فتى يمكنك أن تجنيَ ما يكفي للعيش، وأن تُلملم شتات النقابة بالطريقة التي تناسبك.»
قال مارستن متحمسًا: «يعجبني ذلك.»
«وسيتحقَّق. سيُقبل العمال على المشاركة عندما يعرفون بفصلك من العمل. فهم لا يزالون يشعرون بخيبة الأمل بسبب الهزيمة التي تلقَّوها، كما لو لم يكن الخطأ برمته خطأهم؛ أما وقد تبدَّد خوفهم الآن من ترصُّد سارتويل لبعضهم، سيودُّون لو أظهروا بعض الاستقلالية عبر انتخابك؛ ليثبتوا للمدير أنهم ليسوا خائفين منه، وهم كذلك بالفعل. وسيكون عليَّ أن أُقنعهم بأن سارتويل لن يرد الصاع صاعَين أو يعتبر تنصيبك تحديًا له.»
«ولكنه قد يفعل.»
«ليس هو من يفعل ذلك. لقد ضاق بالإضراب شأنه شأن أيٍّ منا. لا. سيكتفي بهز كتفَيه دون قول شيء. أنا واثق من أن جيبونز لو كان لديه شيءٌ من الذكاء وذهب إلى مالكَي المصنع منذ البداية، لكسر شوكة سارتويل منذ ذلك الحين. وهذا ما كان سارتويل يخشاه، أنا واثق من هذا. وجاءَت ضربته القاضية بإقناع مونكتون وهوب بالسفر خارج البلاد. وزيارتك إلى هوب هي ما أدَّت إلى ذلك. لقد أدرك سارتويل أنك وضعت يدك على نقطة ضعفه، وأراهن، لو عرفنا تفاصيل ما حدث، أن سارتويل قد هدَّدهما بإغلاق الشركة بالكامل إذا لم يغادرا البلاد، ففعلا. آه! سارتويل رجلٌ يعرف جيدًا كيف يقاتل.»
كانا قد وصلا إلى الساحة قبل قليل من وصول حديثهما إلى هذه النقطة، وجلس مارستن يتحدث إلى مضيِّفه في غرفته. كانت الغرفة خاليةً من الأثاث أكثر من المعتاد بالنسبة لمثل هذه الأماكن؛ فمن وقت لآخر، مع استمرار حصار المصنع، كانت محتوياتها تُرهن أو تُباع. والمساحة الخالية، حيث كان يوجد الأرغن المزماري القديم، جعلت الغرفة تبدو أكبر مما كانت عليه.
قال برونت متنهدًا في حزن عندما لاحظ عينَي مارستن تنظران إلى البقعة الخالية: «نعم، كان آخر ما خسرناه قبل وفاة جيسي. لقد رهناه ظنًّا منا أننا سنستعيده مرةً أخرى، ولكني لن أستعيده أبدًا. أنا سعيد أنه ليس موجودًا. فلا يمكنني تحمل النظر إليه. ولكن دعنا لا نتحدث عما مضى، بل عن الحاضر. أما زلت تعتقد أنك قادر على فعل شيء من أجل العمال عبر تنظيم صفوفهم؟»
«أنا واثق من ذلك.»
هزَّ برونت رأسه.
وقال: «لن تستطيع يا فتى، ولكني سأبذل قصارى جهدي لأمنحك الفرصة لتجرب. انظر لِمَا حدث. لقد تركوا جيبونز يرحل دون كلمة شكر واحدة: ربما كان أحمق، ولكنه عمل بجدٍّ من أجلهم، ولم يكلِّفوا أنفسهم عناء شكره على الأقل. وسيفعلون المثل معك. سيفعلون المثل مع أيِّ شخص.»
«الأمر برمته يعتمد على كيفية قيادتهم. عندما يقود العمالَ قائدٌ أحمق، سرعان ما يكتشفون حماقته ويفقدون الثقة به. فكِّر فيما كان يمكن لرجل مثل نابليون تحقيقه لو كان قائد عمال بدلًا من الجنود، ووجَّه مواهبه إلى تحسين أحوال رفاقه بدلًا من ذبحهم!»
«لم يكن نابليون ليتمكن من فعل شيء. بل لم يكن ليتمكن من فعل شيء مع الجنود لولا تلك السلطة التي لن تملكها أبدًا.»
«وما هي؟»
«سلطة أن تأمر رجلًا بالخروج من الصف لتُطلق عليه النار. إذا كنت أملك هذه السلطة، لقدتُ العمال بنفسي وحقَّقت لهم أي شيء يريدونه. ستغض الحكومة الطرف عنك إذا ما تركت مائة رجلٍ يموتون جوعًا ولن تتدخَّل أبدًا، ولكن إذا أطلقت النار ولو على أمثال جيبونز من الحمقى، فستُقيم الدنيا ولا تقعدها. ولكننا نظن أنفسنا متحضرين! أما أنا فأرى أننا همج.»
صاح مارستن وهو ينهض: «أوه، أنت مخطئ يا برونت! لقد تخطينا هذه المرحلة منذ أمد بعيد. إذا ما تمكنت من إعادة تنظيم النقابة، فسأُحاول محاربة سارتويل ذات يوم، وسأُسقطه دون إطلاق النار على أحد.»
«حسنًا يا فتى، سأبذل أقصى ما في وسعي من أجلك، وأتمنى لك التوفيق.»
وبالفعل، بذل برونت أقصى ما في وسعه، وفي الأسبوع التالي نُصِّب مارستن بالإجماع أمينًا للنقابة، بواسطة العمال الذين كانوا يرَونه خائنًا منذ بضعة أسابيع فقط.