الفصل الثاني والعشرون
لم يحاول مارستن التواصل مع سارتويل. وإذا كان مدير المصنع قد توقَّع أن الشاب سيعرض عليه تسوية، فقد خاب ظنه، وعندما سمع أن مارستن قد انتُخب أمينًا للنقابة العمالية، ارتسمت على شفتيه ابتسامة واجمة، ولكنه لم يعلِّق. كان يدرك أن حربًا لا تُبقي ولا تذر ستنشب بينهما، ولطالما احترم سارتويل الخصم القوي. لم يتخذ سارتويل أي إجراء ضد النقابة، رغم أنه في ذلك الوقت كان قادرًا على إجبار خمسة وسبعين بالمائة من موظفيه على الانسحاب منها، لو أراد. وقد منحه مارستن ما يستحق من التقدير على عزوفه عن استخدام سلاح الإجبار ضد العمال؛ إذ كانت معرفته بسارتويل أقوى من أن يصدق أن الفكرة لم تراوده. ولكن لم يكن مدير المصنع يتمتع بروح السماحة المسيحية، كما كانت زوجته تخبره كثيرًا عن حق؛ فهو يظل يلاحق عدوه حتى يقضي عليه. لقد كاد جيبونز يجثو على ركبتَيه أمام سارتويل، راجيًا إياه أن يُعيِّنه في المصنع في الوظيفة التي طُرد منها مارستن. قال إنه يتضوَّر جوعًا. فكان رد سارتويل أنه سعيدٌ بسماع ذلك، وأنه يأمل أن يكون جيبونز قد استشعر الآن معاناة العمال الذين ضلَّلهم بكل غطرسة؛ وبهذا أهان جيبونز نفسه مرةً أخرى بلا طائل.
ولكن إنصافًا لسارتويل، لا بد من الاعتراف بأن السيطرة التي حاول فرضها على مارستن قد انسلَّ زِمامها من بين أصابعه بطريقة لم يتوقعها على الإطلاق. فهو لم يكن يكره الشاب في حقيقة الأمر، بل على النقيض تمامًا، ولكن طموحاته لابنته الوحيدة كانت أكبر من رؤيتها تتزوَّج أحد عمال مصنعه. كما أن واقعة عثوره على مارستن برفقة إدنا في الحديقة أزعجته بدرجة لم يجرؤ على الاعتراف بها، حتى لنفسه. فإذا كان هذا الشاب المثابر قد تمكن من تركيز جهوده على علاقته بالفتاة التي يحب بهذا النجاح، وهو يوشك على الموت جوعًا في ظل فوضى الإضراب، فما الذي يمكن أن يحدث إذا ما استقرَّت أوضاعه وأصبح يملك المال؟ كان سارتويل قادرًا على منع ابنته من رؤية مارستن، ولا شك أنها كانت ستطيعه، ولكنه لم يرغب في إثارة فضولها لمعرفة سبب هذا المنع، ولم يكن يمتلك الشجاعة لإخبارها بأن الشاب يتوق للحصول على إذنه للتقرب منها: فقد يثير ذلك بداخلها مشاعر نحوه، الأمر الذي سيأتي بنتائج كارثية على آمال والدها. لم يكن سارتويل يتوقع كثيرًا أن يستعطفه مارستن للتراجع عن قرار فصله من العمل، ولكنه كان يعلم أنه قبل أن يحصل الشاب على وظيفة أخرى، عليه أن يحيل أصحاب عمله الجدد إلى مديره القديم، وعندما يحدث هذا، أو إذا ما تحرك مارستن من تلقاء نفسه، كان سارتويل متأهبًا لإملاء شروطه عليه. وإذا ما وعده مارستن بألَّا يلتقي ابنته لعامَين، فسوف يعيده المدير إلى العمل، أو يساعده في الحصول على وظيفةٍ أخرى.
انهارت كل هذه الخطط تمامًا عندما انتخب العمال مارستن أمينًا لنقابتهم على غير المتوقَّع. فلم يفكِّر المدير في هذا الاحتمال، ولكنه واجه الوضع الجديد دون أن يندب حظه.
رأى مارستن أن فصله كان متعسفًا وظالمًا، ولكنه شعر بأنه حرَّره من أي اعتبارات تجاه سارتويل. وأصبح الآن عازمًا على أن يلتقي الفتاة كلما وأينما استطاع؛ لذا توجه إلى ويمبلدون حاملًا في صدره هذا العزم القوي، وقدَّم نفسه بجرأة عند مدخل المنزل الأمامي، وطلب لقاء الآنسة سارتويل. كان يعلم أن والدها لم يجرؤ على إخبارها بحقيقة الوضع، وحتى إذا وصلت الأمور إلى ذلك، فقد حصل بالفعل على إذن بزيارة المنزل في حضور إدنا، الإذن الذي ربما لم يتراجع والدها عنه عندما تركهما مارستن في الحديقة معًا وانصرف؛ إذ كان التراجع سيتطلب تفسيرات وتبريرات لم يكن سارتويل يرى أن من الحكمة تقديمها. لذا قرَّر الشاب أن يلتقي الفتاة ويخبرها صراحةً بسبب حضوره ويناقش قضيته معها. حتى وإن رفضت الاستماع له، فسيكون على الأقل قد دفعها إلى التفكير فيه، وهذا في حد ذاته كان أمرًا يستحق المجازفة.
عندما فتحت الخادمة الباب، تعرَّفت مارستن بأنه الشاب الذي حضر في وقت سابق ولم يكن يدري ماذا يريد، فقالت له على الفور: «السيد سارتويل ليس موجودًا.»
«أريد مقابلة الآنسة سارتويل.»
«الآنسة سارتويل ليست موجودةً أيضًا.»
«هل ستعود قريبًا؟»
«لا أعلم. لقد سافرت الآنسة إدنا.»
ردَّد مارستن كلمتها قائلًا: «سافرت؟» وبدا عليه القلق بسبب هذه العقبة غير المتوقعة التي اعترضت طريقه.
رأت الخادمة نفسها أمام حالة أخرى من الارتباك والتردد؛ فجاءت استجابتها للموقف سريعةً بأن استدعت السيدة سارتويل التي كانت في غرفة الطعام، وبعد أن أوصلت الشاب المُحرَج إلى سيدتها، أغلقت الباب وعادت لمزاولة عملها الأهم الذي قاطعته طرقات مارستن على الباب.
بدأت السيدة سارتويل حديثها قائلةً ببرود شديد: «هل أردت مقابلة الآنسة سارتويل؟ لماذا؟»
لم تكن الإجابة عن هذا السؤال هينة، خاصةً عندما يُطرح من قِبل شخص لا تعرفه تمامًا.
تلعثم الشاب الذي كان في حالة من الانزعاج الشديد: «حسنًا، لا يمكنني أن أخبركِ يا سيدة سارتويل. إنه أمرٌ شخصيٌّ تمامًا. أردت التحدث إلى الآنسة سارتويل قليلًا؛ هذا كل ما في الأمر.»
جلست السيدة في استقامة وقد ارتسمت ملامح الجدية الشديدة على محياها. كان في الأمر لغز قرَّرت أن تحله قبل أن تسمح لهذا الشاب التعيس الحظ بالمغادرة. وسرعان ما استنتج مارستن أن المرأة الجالسة أمامه عدو لدود، ربما يجدر به أن يخشاها أكثر من سارتويل نفسه. وكان كل سؤالٍ يُطرح عليه يزيد الأوضاع تعقيدًا بالنسبة إليه أكثر وأكثر.
«أظن أنك عشيقها، أليس كذلك؟»
«نعم. هذا … لا يمكنني تفسير الأمر حقًّا يا سيدة سارتويل.»
«حسنًا إذن؛ سأسأل زوجي عند عودته الليلة. إنه لا يعرف شيئًا عن هذا الأمر، أليس كذلك؟»
«بلى، لا يعرف.»
«هل يعرف أنك هنا؟»
«إنه لا يعرف أني هنا اليوم. ولكنَّه يعرف أني أحب ابنته.»
«أعتقد أنك قلت إنك لست عشيقها. أيها الشاب، أيًّا كان ما تفعله، فقل الحقيقة. إن كل مشاكلنا الحياتية تنبع من نبذ الحق والإفراط في الغرور. فتجنب الغرور، وتجنب الإفك. ماذا كنت تعني عندما قلت لي الآن إنك لست عشيق الآنسة سارتويل؟ أرجو منك أن تقول الحقيقة.»
«أحاول أن أفعل، ولكن، كما ترين، من الصعب التحدث عن هذا الأمر مع طرف ثالث، و…»
«أنا لست طرفًا ثالثًا. أنا زوجة أبيها، ومسئولة أمام قوة عليا عما أفعله بخصوص إدنا. يجب أن أعرف كل شيء، وحينئذٍ ثق في الضوء الإلهي المرشد الذي ستغدق به السماء علينا. نحن معرَّضون دائمًا للخطأ عندما نعتمد على جهودنا الهزيلة. هل تعرف إدنا سارتويل أنك تحبها؟»
«لا.»
«وهل يعرف والدها؟»
«نعم. لقد أخبرته.»
«إني لأتساءل إذن عما إذا كان منعك من رؤيتها.»
«لقد فعل.»
«هل أنت أحد عماله؟»
«نعم. كنت واحدًا منهم على الأقل.»
«ولم تعد كذلك الآن؟»
«نعم.»
«هل فصلك من عملك؟»
«لقد فُصلت من عملي.»
تلاشت النظرة الصارمة من وجه السيدة سارتويل. وأخذت نفسًا عميقًا — انطلقت معه آهة طويلة تخلَّلها ما يمكن اعتباره رعشة ارتياح عميق — وللمرة الأولى منذ بداية اللقاء، اتكأت في مقعدها في راحة.
وأخيرًا قالت وهي ترمق مارستن بنظرة شفقة: «أيها المسكين! هل تقصد إذن أن تقول إنك على استعداد للمخاطرة بمستقبلك بأكمله، من أجل فتاة لم تتحدث إليها قط؟»
«أوه، لقد تحدثت إليها يا سيدة سارتويل. قلت إني لم أتحدث قط عن … إنها لا تعرف أني أُكنُّ لها أي مشاعر.»
«ولكنك لا تعرف أي شيء قط عن طباعها … عن مزاجها.»
«سأقبل بهذه المخاطرة.»
هزَّت السيدة سارتويل رأسها في أسف.
وقالت: «أنت خير تجسيد لروح هذا العصر الذي يستهين بكل ما هو مهم! الناس يخاطرون بكل شيء. لا شيء أهم للرجل من اختيار زوجة رصينة وتقية؛ فتعاسة الإنسان في الحياة أو سعادته تقوم على هذا الاختيار. إن واجب المرأة الأسمى هو أن تُضفي الضياء والراحة والسعادة على بيت زوجها، أو هكذا يبدو الأمر في رأيي المتواضع عن الزواج. هل تعتقد أن إدنا سارتويل مناسبة، من حيث الطباع أو التعليم، لأداء هذه المهمة النبيلة؟»
«سوف أشعر معها بالسعادة، إذا كان هذا ما تعنين.»
«ما أقل معرفتك بها! ولكنك تعرف والدها، وهي تشبهه كثيرًا. ولا شك في أنه لن يسمح لك بالزواج منها، إذا تمكن من منع هذه الزيجة. أنت عامل، وهو لا يحمل ذرةً من الاعتبار أو التعاطف تجاه تلك الطبقة التي جاء منها. إن لديه طموحاتٍ أكبر من أجل ابنته، لطالما رأيت ذلك. وهو لا يهتم إلا بالتفاخر، ثم التفاخر، ثم التفاخر! أوه، سيلقى هذا التفاخر ضربةً قاضية ذات يوم، وربما كنت أنت أيها الفتى المسكين، يا من تتحدث عن المخاطرة، الأداة المتواضعة التي اختارتها العناية الإلهية لقهر هذا التفاخر، الذي لا يمكن لأحدٍ منا أن يدخل مملكة السماء من دونه! أصبحت أفهم كل شيء الآن. فهمت سبب إرساله إدنا إلى مدرسة في إيستبورن، رغم أنه قال إن السبب يرجع إلى أني لست على وفاق معها. حقًّا لا كثير نفعٍ من المراوغة! وكما تدين تُدان! خلال لقائنا هذا الذي يبدو مصادفة، أرى أنك تقول الحقيقة. ولكن»، ثم استطردت السيدة سارتويل في تأمل، وبدت كما لو أنها تتحدث إلى نفسها أكثر ممَّا تتحدث إلى مستمعها: «لا شك أنه إذا ما تمكَّنت من إيقاع إدنا في حبك، فإنها ستتزوَّجك رغم أنف والدها أو أي أحد آخر. لطالما حذَّرتُ والدها من أن مثل هذه اللحظة ستحين، ولكن للأسف! لا أحد يستمع إليَّ في هذا المنزل، وها قد جاءت اللحظة أسرع مما توقعت. ظَلِلت لبضعة أسابيع أتساءل عما يدور في ذهن إدنا. ظننت أنها ربما تفكر في برنارد هوب، ولكني أدركت الآن أني كنت مخطئة. لا، من المرجح جدًّا أنها كانت تفكر بك أنت، وعندما اكتشف والدها ذلك، أرسلها إلى مدرسة هاي كليف في إيستبورن، ربما على أمل أنك لن تتمكن من زيارتها هناك. إنها فتاة متمردة، وعنيدة، ومتهورة، ومن الصعب السيطرة عليها. وتعتقد أن والدها مثال للكمال؛ ومن ثم يمكنك أن ترى جليًّا مدى سوء تقديرها للأمور. نعم، لا ينبغي أن أتفاجأ تمامًا إذا ما عرضَت عليك أن تهرب معك عندما تصرِّح لها بحبك. لن يفاجئني أبدًا أيُّ شيءٍ تقوله إدنا سارتويل أو تفعله.»
في هذه اللحظة، وعلى حين غرةٍ نهض مارستن، الذي كان مستاءً للغاية من اضطراره لسماع هذا العرض لشخصية الفتاة، وقال إنه لا بد أن ينصرف؛ قائلًا إنه قد أخذ الكثير من وقت السيدة سارتويل.
ردَّت عليه المرأة الطيبة، وهي تنهض أيضًا، قائلة: «لقد وُهبنا وقتنا لنستغلَّه على الوجه الأمثل، وإذا تذكرنا أننا سنُحاسب على كل لحظةٍ أُعطيَت لنا، فلن نعتبر أن الوقت الذي نقضيه فيما فيه الخير والسعادة للآخرين، وقتٌ مهدر. أنا على يقينٍ تامٍّ من أن ما قلته لك سيستقرُّ عميقًا في ذهنك، وأنه سيفيدك كثيرًا.»
«لن أتوانى عن الاستفادة منه.»
«أرجو أن تتفهَّم سبب عزوفي عن إعطائك أيَّ معلوماتٍ عن الآنسة سارتويل، أو ترتيب لقاءٍ بينكما. فهذا لن يكون صوابًا. حتى إذا كانت موجودةً في المنزل، لم يكن بوسعي أن أسمح لك برؤيتها؛ لأني أعلم أنك حضرت من دون إذنٍ من والدها. آمل أنك لا تراني امرأةً متعنتةً بقولي هذا.»
«أوه، إطلاقًا.»
«وأيًّا كان ما سيترتب على حبك لها، فهل ستُنصفني وتتذكر أن كلماتي الأخيرة لك كانت لحثِّك على إفراغ ذهنك من التفكير فيها؟»
قال مارستن: «سأتذكَّر ذلك.»
«وإذا ما حاولت مقابلتها، فاعلم أنك تفعل ذلك ضاربًا برغبتي وأمري عرض الحائط.»
«ثقي بأنكِ لن تُلامي على أي شيء يحدث يا سيدة سارتويل.»
قالت المرأة الصبور وهي تهز رأسها في أسف: «آه، كم أتمنى لو وثقت في ذلك! ولكن إلقاء اللوم أمر سهل، ويزيح المسئولية من فوق كواهل أناسٍ أكثر قدرةً على تحملها بلا شك، وربما أكثر استحقاقًا. بالأمس حضر السيد برنارد هوب إلى هنا، وفُوجئ برحيل إدنا. أخبرني بأنه أتى لزيارتي، ولكنه لم يتمكَّن من منع نفسه من ملاحظة كم السكون والهدوء اللذين يعمَّان المنزل. وعندما سألني عن إدنا، أجبته بمثل ما أجبتك. إن والدها هو الشخص المناسب للإجابة عن هذا السؤال. ولكن السيد هوب هو ابن أعز صديقاتي، وهي امرأةٌ نبيلةٌ تغدق بصدقاتها على القاصي والداني. حسنًا، إلى اللقاء، وأعتذر لعدم قدرتي على مساعدتك، ولكني سأتذكرك في صلواتي، وثِقْ بأن الرب سيرشدك إلى الطريق القويم.»
«شكرًا لكِ يا سيدة سارتويل، وإلى اللقاء.»
وبينما كان الشاب مارستن ينصرف، ظل يردد في نفسه: «مدرسة هاي كليف في إيستبورن»، وعندما ابتعد مسافةً كافية عن المنزل، كتب اسم المدرسة على قطعة من الورق.