الفصل الخامس والعشرون
وجد سارتويل نفسه مشغولًا للغاية بعدما عاد العمال إلى أعمالهم، مثلما كتب في رسالته لابنته وفي برقيته إلى بارني هوب. فعلى الرغم من أنه لم يطرد أيًّا ممن شاركوا في الإضراب، فقد أعاد تنظيم أشغال المصنع بأكملها بلا هوادة. فقلة فقط من العمال هم من استعادوا وظائفهم القديمة أو أجورهم القديمة. ورقَّى بعضًا من العمال وخُفضت رتبة بعض الآخرين، وإن لم يُطرد أحد من العمل. في البداية، بدا للعمال أن ما يفعله مجرد استعراض همجي للقوة تقوده أهواء جائرة، ولكن بمرور الوقت، بدءوا يرون لمحةً من نمط ممنهج في هيكلة الأمور. فكان أولئك الذين خُفضت رتبهم إلى أدنى الوظائف وأقلها أجرًا هم العمال الذين كانوا الأكثر تحمسًا لبدء الإضراب، والأكثر صمودًا في معارضة إنهائه. أما العمال الأكثر تعقلًا، الذين أُجبروا على التراجع إلى الصفوف الخلفية أثناء فترة الاضطرابات، فكانوا يُمنحون ترقيات وأجورًا أعلى كلما سنحت الفرصة، وأُجريت هذه التغييرات الواحد تلو الآخر — فلم يكن سارتويل الرجل الذي يُفسد نظام تشغيل المصنع عبر إجراء تغييرات جذرية شاملة — وكان الاستنتاج العام من ورائها أن مدير المصنع أراد فقط أن يُظهر للعمال أن أولئك الذين استخفوا بهم هم من كافأهم. ولكن لم يتمكَّن أحد، حتى أولئك الذين خسروا في لعبة إعادة التنظيم، من إنكار أن الرجال الأكثر اعتدالًا وتعقلًا، الذين تمَّت ترقيتهم، كانوا من بين أفضل الأيدي العاملة في المصنع. كما أنهم كانوا من العمال الأكثر تضررًا من أي إضرابٍ قد يقع، وكانوا، بطبيعة الحال، الأكثر ترددًا في الدخول في نزاعٍ لا يمكن لأحدٍ أن يتنبَّأ بعواقبه. وبمرور الوقت بدأ الشك يتسلل إلى نفوس العمال في أن مدير المصنع بحوزته سجل كامل ودقيق بكل فعل وقول خلال الإضراب؛ ومن ثم جاءت التغييرات، التي أجراها بقسوة مغلفة بالصمت والهدوء، متوافقةً تمامًا مع أفعال كل عاملٍ خلال الأزمة التي ظن العمال أنها قد صارت شيئًا من الماضي، وتمنَّوا لو أصبحَت في طي النسيان. وفي بعض الحالات، بدا وكأن سارتويل يتعمَّد إبراز التغييرات التي أحدثها، عبر وضع العمال الذين رفعهم والعمال الذين حطَّ منهم جنبًا إلى جنبٍ متعمدًا؛ وذلك حتى يكون إصراره على إظهار أنه يمتلك مستقبل كلِّ عاملٍ بين يدَيه مفهومًا حتى لأغبى العمال. كان درسًا قاسيًا بدا أن الغرض منه هو إظهار إصرار سارتويل على دعم العمال الذين تعاطفوا معه، ولو عن بعد، خلال النزاع الماضي؛ إذ لم يعترض أحد بكلمة، وإذا ما اعترض أحد العمال على استحياء على خفض رتبته، لم يكن مدير المصنع يرد عليه، وكان العامل يدرك حينئذٍ أن لا سبيل أمامه سوى الاستسلام، أو التوجُّه إلى المكتب لتقاضي بقية مستحقاته.
لم يتجلَّ غضب سارتويل الصامت واضحًا، مثلما تجلَّى في حالتَي برونت وسكيمينس. كان الرجلان متساويَين في المنصب عندما بدأ الإضراب، إلا أن سكيمينس كان يتقاضى أجرًا أعلى من أجر برونت. أما الآن، فقد رُقي برونت مشرفًا للصالة العلوية، حيث أغلب الموظفين من النساء والصبية، بينما كُلف سكيمينس بعملٍ كان يقوم به أحد الصبية الذين لم يعودوا إلى العمل، بعد انتهاء الإضراب. وما ضاعَفَ من المذلَّة التي تعرَّض لها سكيمينس أنَّه قد أصبح رهينةً للأوامر القاسية لذلك الرجل الفظ الضخم اليوركشايري، الذي أهانه خلال الإضراب، بالإضافة إلى اضطراره إلى قَبول ما يزيد قليلًا على أجر صبي. كان كثيرًا ما يسبُّ سارتويل بصوتٍ عالٍ، إلا أن مدير المصنع لم يكن يهتم كثيرًا بمسبات الآخرين، ولم يكن سكيمينس في وضعٍ يسمح له برفض الأجر الزهيد الذي يتقاضاه.
انتهى سارتويل أخيرًا من تنظيم الأمور الاقتصادية الداخلية للمصنع كما يريد، وكان يُمنِّي نفسه بقضاء بضعة أيام بعيدًا عن الضغوط في إيستبورن، حين وقعت كارثة لم تكن في الحسبان أفسدت جميع خططه. قبل قليلٍ من ساعة الغداء، كان يهبط الدرج من الطابق العلوي عندما سمع صراخًا، بدا وكأنه أصوات مَن تركهم منذ لحظاتٍ مجتمعة، جعله يتسمَّر في مكانه. كان أول ما خطر بباله أن برونت قد جُن جنونه فجأةً وربما قتل أحد العمال؛ فقد لاحظ مدير المصنع أن برونت، منذ ترقيته، كان يتحدث بوحشية في بعض الأحيان، ومن وقت لآخر يظهر في عينَيه بريق جنوني خطر ينذر بجنون كامن لم يظهر بعد. وقبل أن يلتفت ليتبيَّن ما حدث، مرَّت بجواره امرأتان تصرخان بشعر أشعث.
فصاح بهما بعد أن مرتا قائلًا: «ماذا حدث؟»
فردَّتا صارختَين وهما تهمان بالهروب: «حريق!»
صعد سارتويل الدرج ولكنه لم يقابل أحدًا يهبط منه. وسمع في الفناء في الخارج صوتًا جَهْوريًّا أجش لرجل يصيح: «حريق! حريق!» انقبض قلب مدير المصنع وهو يفكر في عدد العمال في الطابق العلوي، والدرج الضيق، والمخرج الوحيد. كانت الطوابق الأخرى آمنةً على نحو مقبول؛ إذ كانت سلالمها وأبوابها واسعة، أما الطابق العلوي، الذي لم يكن يشغله في السابق إلا عدد قليل من العمال، فلطالما كان مصدر قلق له؛ فقد كان يخشى وقوع كارثةٍ كتلك التي بدَت على وَشْك الحدوث. وكان ثمَّة اتفاقٌ دائمٌ على تصحيح هذه الأوضاع بينه والمالكَين، وكان من بين الوعود التي تأجَّلت عدة مراتٍ إلى موسم أكثر ملاءمة، والآن ها هي الصيحات تتعالَى بكلمة «حريق!» وترن في أذنَيه، ولم يكن ثمة سبيلٌ للنجاة سوى السلم الضيق!
وجد سارتويل الباب المفتوح مسدودًا بكتلة من البشر يصرخون، كلٌّ منهم يسارع للنجاة بنفسه، وكلٌّ منهم يجعل النجاة مستحيلة. كانوا محشورين وعالقين في أماكنهم دون حراك، وكان الكثير منهم محاصرين لا يستطيعون المقاومة، بينما كان ثمة آخرون بعيدون عن الباب يضربون بأذرعهم بجنونٍ في جميع الاتجاهات، محاولين شقَّ طريقهم عنوةً نحو الأمان. امتلأ الهواء برائحة احتراق الخشب النفَّاذة الخطرة، واندفع الدخان لأعلى عَبْر مهواة المصعد، وتجمَّع بكثافةٍ متزايدةٍ مغطِّيًا السقف. لم تكن ثمة ألسنةُ لهبٍ بعد، ولكن إذا لم ينفض هذا التزاحم، فلن تكون ثمة حاجة للنار لتخرج الحياة من أجساد أولئك المتنافسين في هذا السباق اليائس نحو النجاة.
صاح سارتويل: «تراجعوا إلى الخلف! لن يكون هناك خطر إذا ما حافظتم على هدوئكم. فلتعودوا جميعًا إلى أماكنكم. سأدخل وسطكم وسأكون آخر من يخرج، فلا داعي للخوف.»
لمع لسان من اللهب للحظة وسط الدخان الأسود، واختفى فور ظهوره، ولكن بعد أن أرسل شرارةً لحظية، مثل البرق المنبسط، عبر الصالة الآخذة في الإظلام. وكان هذا ردًّا مقتضبًا ينذر بسوء على كلمات سارتويل، وأدرك أنه كان عليه أن يُقنع الكارثة أيضًا بأن تهدأ. حاول أن يحرِّر واحدةً من الفتيات ظهر من عينَيها الجاحظتَين وشفتَيها الشاحبتَين أنها قد انسحقت حتى الموت، ولكنها كانت محشورةً بقوةٍ وسط الحشد كما لو أنها ثُبتت في موضعها بالأسمنت. أطلق سارتويل أنَّة يأس حين رأى نفسه عاجزًا في مواجهة هذا الذعر الذي لا يُقاوم. كان يحاول فض الحشد المحشور من مركزه؛ ومن ثم كان وضعه سيئًا للغاية.
نبَّهته صيحة غاضبة أعلى من صيحته السابقة إلى حقيقة أن برونت كان يحاول فض الحشد المحشور من الخلف. كان الرجل الضخم يستخدم قوته المفرطة دون هوادة في شق طريقه عبر الحشد، ممسكًا بالنساء من أكتافهن بكلتا يدَيه وملقيًا بهن بقوة خلفه، دون اكتراث لعواقب هذا الفعل، وكان يشق طريقه بصعوبة البوصة تلو الأخرى في اتجاه الباب.
قال برونت صائحًا في وجه سكيمينس الذي أصابه الخوف بالجنون: «تراجع أيها الوغد!»، وراح يدعس كلَّ مَن هم أمامه في خضم محاولاته المحمومة للفرار.
فصاح سكيمينس: «فلينجُ كل امرئ بنفسه! من حقي أن أنجوَ بحياتي مثلك.»
«توقَّف أيها الهمجي وإلا خنقتك بيدَي هاتَين عندما تصلان إليك! قف حيث أنت يا سيد سارتويل والتقط من أُلقيَ به إليك. النساء أولًا. ألقِ بهن بعد دوران السلم وسيكنَّ في أمان. ابقَ مكانك، سأصل إلى الباب خلال دقيقة. وسنُخرجهن جميعًا في لمح البصر.»
وبينما كان يصيح بصوته الهادر، كان برونت يشق طريقه عبر الحشد بكل قوته، ووصل أخيرًا إلى نقطة التكدُّس حيث أصبح التقدُّم أكثر مستحيلًا. فتوقف مكانه وبقوة ذراعيه وحدها، راح يرفع الفتاة تلو الأخرى فوق رأسه ويطوِّحهن من فوق رءوس من يقفون أمامه، ليهبطْنَ بين ذراعَي سارتويل الذي كان يدفعهن عبر السلم.
صاح سارتويل الذي رأى من مكانه سكيمينس المذعور يدفع الحشد في اتجاه برونت، ويعيقه عن تأدية مهمته: «بحق الرب يا سكيمينس، تحلَّ بالرجولة، وتوقف عما تفعل! توقف عن دفع من حولك! ثمة وقت كافٍ لنخرج جميعًا.»
فصاح برونت بصوته الجَهْوري من فوق كتفه: «سأحطم رأسك على فعلتك هذه! تذكر أن عليك أن تمر أمامي حتى تصل إلى السلم، ولكنك لن تقوى على قتالي.»
انفض التكدس أخيرًا كما لو كان انسدادًا في مجرى نهر تراجع فجأةً، عندما أزيل جذع الشجرة الأساسي المسبب للانسداد. كان برونت في تلك اللحظة يقف مسندًا ظهره إلى إطار الباب، بينما اتخذ سارتويل موضعه عند دوران السلم، ليدفع أولئك المنهكين المتعبين إلى حيث الأمان. كان العديد ممن كانوا في مركز التكدس يرقدون عند قدميه، إما فاقدِي الوعي أو موتى؛ فلم يكن ثمة وقت لاكتشاف ذلك. ومن حين لآخر كانت الفتاة التي يدفعها عبر السلم تتعثَّر وتسقط وترقد حيث سقطت دون حراك.
صاح مدير المصنع الذي كان يطلب ممن ينقذهم، الواحد تلو الآخر، أن يرسل في طلب المساعدة، قائلًا: «لمَ لا يأتي أحد لحمل هؤلاء النساء إلى الخارج؟»
وظهر اثنان من رجاله أخيرًا.
قال أحدهما: «إنه حريق ضخم يا سيد سارتويل.»
«نعم، نعم، أعلم هذا. فليحمل كلٌّ منكما امرأتَين إلى أسفل، إن استطعتما، وأرسلا المزيد من الرجال إلى هنا. وأخبرا الموظفين أن يتأكدا من أن الأبواب الحديدية بين المباني مغلقة. هل وصل رجال الإطفاء؟»
«وصلت خمس سيارات إطفاء يا سيدي.»
«جيد! اتجها إلى الأسفل بأقصى سرعة وأرسلا المزيد من الدعم.»
صاح برونت وهو يمسك بتلابيب سكيمينس الذي تمكَّن من شق طريقه إلى الخارج أخيرًا: «أيها الشيطان! هل تعتقد أنك ستتسلل دون أن أراك؟»
«لا تُضع الوقت على هذا الرجل يا برونت. يا إلهي، ألَا ترى ألسنة اللهب! سيسقط السقف على رءوسنا بين لحظة وأخرى! ألقِ به هنا!»
صاح برونت في غضب وهو يجز على أسنانه: «سيظل خلفي حتى خروج آخر شخص.»
صمت سارتويل. فلم يكن ثمة وقت للجدل أو الاعتراض، بينما استمر برونت، الذي كان يثبت سكيمينس إلى الجدار من خلفه، في إخراج الفتيات بسرعة تضاهي سرعة مدير المصنع في تمريرهن. كان التكدس يتكوَّن باستمرار عند الباب، وكان ينفض باستمرار بفضل ذراعَي برونت القويتَين اللتَين لا تعرفان الكلل.
أنَّ سكيمينس قائلًا: «أنت تخنقني.»
قال برونت: «أتمنى ذلك.»
أصبح الموقف الآن فوق قدرة أي أحد على التحمل. فقد التقى الدخان الصاعد عبر السلم بالدخان المتدفق عبر الباب، ولكن رغم كل هذا الدخان، كانت الغرفة تشع بالضوء؛ إذ كان ثمة عمود ثابت من النار يتصاعد عبر مهواة المصعد، ما جعلها أشبه بأفران صهر الحديد.
قال سارتويل: «هل خرج الجميع؟» وكان يلهث ويسعل بسبب الدخان الذي يخنقه.
«أعتقد ذلك يا سيدي، ولكن سأعود لألقي نظرة. ربما كان ثمة أحد لا يزال في الطابق»، وبينما كان برونت يتحدث، دفع سكيمينس إلى داخل الغرفة أمامه، وأغلق الباب من خلفه حتى لا يسمعه سارتويل إذا صرخ. وبدا أن مدير المصنع، الذي كان يختنق بسبب الدخان، قد نسي وجود سكيمينس من الأساس.
قال برونت: «اجثُ على يدَيك وركبتَيك أيها الكلب، وانظر إن كانت أيٌّ من الفتيات اللاتي أسقطتهن لا تزال هنا!»
كان سكيمينس جاثيًا على ركبتيه بالفعل.
وقال: «لا أحد هنا.» ثم صاح قائلًا: «افتح الباب! افتح الباب!»
فوارب برونت الباب بوصةً أو بوصتَين.
وصاح: «لقد خرج الجميع يا سيدي!»
فقال سارتويل: «حمدًا لله! فلتنزل في الحال. ليس لدينا لحظة أخرى لنضيعها.»
«سأهبط بمجرد أن تهبط يا سيدي. اجرِ!»
تعثر مدير المصنع وهو يهبط السلم المتداعي واثقًا من أن برونت يتبعه.
قال برونت لسكيمينس: «والآن أيها الثعبان، سأحبسك هنا حتى تحترق. لقد رأيت بعيني حجم شرِّك أيها الجبان!» لم يفهم الرجل المذعور ما تعنيه كلمات برونت، ففقد كل أملٍ له في البقاء على قيد الحياة.
فقال باكيًا: «أقسم لك أني لم أكن أقصد ذلك! لقد سقط عود الثقاب من يدي دون أن أُدرك. هذا ما حدث بحق الرب يا برونت!»
«ماذا! أنت أحرقت المصنع! أنت! إن النساء اللاتي كنت تحاول تجويعهن كن لا يزلن هنا! أنت من أسقط عود الثقاب! أيها الشيطان الخبيث القاتل!»
جثم برونت مثل حيوان ضارٍ على وشك الانقضاض على فريسته، وارتعشت أصابعه المعقوفة مثل المخالب في عصبية. كانت أنفاسه سريعةً ومتلاحقة، فقد ملأ الدخان حلقه، وكانت عيناه الشرستان تلمعان أمام وهج النيران بلمعةٍ جنونيةٍ مخيفة، ثم قفز على ضحيته المرتعبة وحمل جسده المرتجف بذراعَيه فوق رأسه. واتجه نحو النار المستعرة وهو يصرخ:
«فلتذهب إلى الجحيم الذي صنعته يداك أيها الشيطان الجبان!»
اختفَت صرخةُ الرجل الهالكِ الطويلةُ المرتعشة، وكُتمت في النيران المستعرة.
وقف برونت في منتصف الغرفة على الأرضية الهابطة المتداعية، ولم تزل يداه الخاليتان مرفوعتَين فوق رأسه، وانقلب وجهه إلى أعلى، وهو يترنَّح في وهنٍ وسط الدخان الخانق. حطَّمت بلطة أحد رجال الإطفاء إحدى النوافذ، واندفعَت المياه عبر الفتحة بقوة، وأصدرَت صوتًا كالفحيح عندما ارتطمت بالسقف.
قال برونت: «جيسي! جيسي! اسمعي! إنه «اللحن الجنائزي»! يا ابنتي! اللحن الجنائزي الحقيقي!»
وبصوتٍ يصمُّ الآذان، سقطَت أرضية الغرفة وسط النار المتأججة.