الفصل السادس والعشرون
قاد بارني هوب عربته ذات الحصانَين جيئةً وذهابًا في موكبه، الأمر الذي كان مدعاةً للفخر لبلدة إيستبورن، ولكنه لم يكن مُرضيًا لنفسه. فلم يكن بارني يهتم بإعجاب أولئك الغرباء الذين لا يعرفهم. وعلى الرغم من وضعه المترف، وامتلاكه جميع المظاهر المتفردة للترف والثراء، فإن هذا الوضع لم يكن يُعجب رجلًا اجتماعيًّا مثل بارني. كان يبدو أن خطته البارعة، التي عيَّن لها بستانيًّا مبتدئًا، قد فشلت؛ فلم تصله أي أخبار من الفتاة في المدرسة، وأيًّا كانت الجاذبية التي شكَّلتها العربة ذات الحصانَين لسكان إيستبورن الآخرين، بدا مؤكدًا أن إدنا سارتويل لم تشاركهم إياها، على الأقل بما يكفي لترتيب جولةٍ مع الشاب وأيٍّ من رفيقاتها اللاتي قد يتجرأْنَ على كَسْر قواعد المدرسة؛ من أجل جولةٍ ممتعةٍ في مركبته المهيبة. كان بارني يلعن حظه وكذلك رسوله. فقد كان واثقًا من أن فشل الخطة يقع بالكامل على كاهل مارستن؛ فلا شك أن حماقةً ما من جانبه قد أفسدت الخطة برمتها. وبعدما فكَّر بارني في سلوك مارستن بعد عودته، أدرك أمرًا كان يجدر به أن يُدركه حينها بسبب فظاظة واقتضاب إجابات مارستن، وهو أنه قد أفسد الخطة بطريقة ما وخجل من الاعتراف بفشله. كان مارستن يرضي ضميره بقوله إنه قد سلَّم الخطاب إلى إدنا دون أن يراه أحد، وإن الفتاة لم تُعطه أي رسالة ليوصلها إلى بارني. ولم يتمكن بارني من استخلاص أي تفاصيل مرضية من مارستن بشأن ما حدث خلال لقائه بإدنا. هل تحدث إليها؟ لا شكَّ أنه فعل. كان من الضروريِّ أن يشرح كيفية وصوله إليها. ماذا قالت؟ لم تتحدث كثيرًا. هل بدَت غاضبة؟ لم يبدُ عليها أنها تكاد تطير من السعادة. وعلى هذا المنوال، واصل بارني، بكدٍّ ومثابرة، محاولة استخلاص الحقيقة من رجلٍ متردِّد بدا متلهفًا على الانصراف والاختلاء بنفسه، وبدا جليًّا أنه لا يراعي حقيقة أن من واجبات الرسول أن يذكر كل تفاصيل المهمة التي بُعث إليها لمن أرسله.
بعدما عاد مارستن على عجل إلى لندن، ربما عزوفًا عن الاعتراف بفشله الدبلوماسي، وكذلك خوفًا من إرساله في مهمة مماثلة، اقتنع بارني بأن ثمة خطأً قد حدث خلال المهمة، وهو ما أثار حنقه بشدة كونه لم يكتشف هذا الخطأ؛ ومن ثم بدأ في إصلاح الأمر مستخدمًا تلك البراعة التي لا تُخفق، والتي كان يعلم أنه مهووس بها. وللمرة الأولى في حياته، اضطُر بارني لأن يعترف بأنه لا يعلم ما عليه فعله. فلم يكن يريد العودة إلى لندن والاعتراف بهزيمته حتى لنفسه. فقد كان من مفاخره الأثيرة إليه أنه لم يعرف الهزيمة من قبلُ قط؛ إذ كلما عجز عن إنجاز ما يريد بمفرده، على حد تعبيره، كان يبدو أن العناية الإلهية تتدخَّل دائمًا لتمنحه المساعدة اللازمة. وبدأ يخشى أن دقَّته المعتادةَ في اكتشاف تدخُّل العناية الإلهية قد خانَته لأول مرة؛ إذ تذكر أنه كان ينظر لظهور مارستن غير المتوقع على أنه دليل دامغ على أن الحظ لا يزال يحالفه، ولكن عندما توالت الأيام دون أن يصله رد على الخطاب الذي أرسله، بدأ بارني يتشكَّك في حقيقة تدخُّل العناية الإلهية في هذا الموقف. وفي نهاية المطاف، وفي كآبةٍ شديدة، خلص إلى أن الحياة في ظل الظروف الراهنة لا تستحقُّ العيش، إذا كان سيُضطر للإقامة في إيستبورن حيث لا يعرف أحدًا، وقرَّر على مضض أن يعود إلى لندن. فأمر بإخراج عربته ذات الحصانَين في عرض أخير، مُتذكِّرًا أنه على الرغم من أنه لم يكن يجد فيه أيَّ متعة، فمن القسوة أن يحرم المتسكعين الذين يقفون دائمًا على جانب الطريق أثناء مرور الموكب، من متعتهم المعتادة بمشاهدة أناقة الموكب ومهارته في التحكُّم في حصانَين مربوطَين واحدًا وراء الآخر. فالمتردِّدون الدائمون الأبرياء على إيستبورن لا ذنب لهم فيما حدث، فلمَ يعاقبهم دون داعٍ؟ هكذا حدَّث بارني المنصف نفسه. لا بد من السماح لهم بأن يمتِّعوا أعينهم للمرة الأخيرة بالعربة ذات الحصانَين وصاحبها، وليساعدهم الرب عندما يغادر في النهاية! تسلَّق بارني عربته متنهدًا؛ فإلى جانب علمه بأن هذا هو عرضه الأخير، ودائمًا ما تحمل العروض الأخيرة قدرًا من الأسى، كان من المحبط أن يُثبت له أنه لا يحظى بحَصانة خاصة، وأن تساوره شكوك إزاء المواقف السابقة التي لم تحتمل أي تشكيك في السابق.
قاد بارني حصانَيه النشطَين ربما بسرعةٍ أقلَّ من المعتاد، وقد بدأ شعوره بامتهان كرامته يحلُّ محل الثقة المفرطة التي كانت تميِّزه بوجه عام. ولم ينجح الهواء العليل، أو الحركة السريعة، أو الشعور بالسيطرة على مقادير الأمور الذي يشعر به الرجل عند قيادة عربةٍ ذات حصانَين؛ في تحسين معنوياته حسبما كان متوقعًا؛ فقد فاقمت حقيقة أنه يقود العربة بمفرده شعوره بالإحباط، وجعلت هذا العالم يبدو في نظره ذلك العبث الأجوف الذي يتراءى لأكثرنا إقبالًا على الحياة في بعض الأحيان. ولكن، لكم قيل، بأساليب مختلفة، إن أحلك الساعات هي تلك التي تسبق الفجر مباشرة! — ولكم نسيَ الناس هذه الحقيقة البسيطة عن الليل! — ما يُعد عيبًا ملحوظًا للغاية في ذاكرة رجل مثل بارني، كثيرًا ما سنحت له الفرصة لتأكيد هذه الظاهرة، أثناء عودته في وقتٍ متأخر من الليل من سهراته التي تمتدُّ إلى ما بعد منتصف الليل. ففي اللحظة التي بلغ فيها الإحباط منه مبلغه أثناء ما كان يقود عربته للمرة الرابعة على الطريق، أصابه الذهول والسرور عندما رأى إدنا سارتويل تخرج من أحد الشوارع الجانبية بمفردها تمامًا. كانت تحمل جريدةً في يدها، وكانت تنظر عبر الشارع في قلقٍ ولهفةٍ وخلسة، وهو ما لم يعجز بارني عن ملاحظته، وكانت تبدو في انتظار لقاء شخص ما، ولكنها تخشى أن يُكتشف مبتغاها. واستوعب بارني الموقف بأكمله في لمح البصر؛ لقد خشيت أن ترسل له خطابًا أو مُنعت من ذلك، فتسلَّلت بمفردها من المدرسة على أمل أن تلتقيه. حسنًا، كلهن كن يفعلن ذلك، من وجهة نظر بارني، وفي خضم نشوة السعادة التي غمرته بفضل ظهور هذا الدليل على نجاحه، واطمئنانه أن حظه، أو أيًّا كان مسماه، لم يتخلَّ عنه في نهاية المطاف، انتابته مسحة خفيفة مزعجة من الندم أنها لم تعد محصنةً ضد سحره وجاذبيته شأنها شأن الآخرين جميعًا. إن الإنسان في أفضل أحواله ليس إلا مجرد كائن متشكك لا يعرف ما يريد. فمنذ لحظة، بدا له أنه لا شيء على وجه الأرض يمكنه أن يمنحه سعادةً أكثر من رؤيتها، ولكن الآن، بعد أن رآها تبحث عنه، شعر بالأسف حقًّا أنها لم تكن تسير على الرصيف دون اكتراث مثل أولئك الغرباء الذين لا يعرفهم.
ولكن لا بد أن يُحسب لبارني أن هذا الشعور بأنه قد يكون الشخص الذي يسعى الجميع وراءه سعيًا؛ كان شعورًا عابرًا لم يدُم سوى لحظات، وأنه لم يؤثر ولو للحظة على تصرفه. فقد أوقف حصانَيه فجأةً ما جعل الحصان الأمامي يستدير ويصبح مواجهًا لسائقه، وألقى بالزمام إلى سائس الخيل، وقفز من العربة بخفة وسرعة بطريقة لا تقل سحرًا عن قيادته للعربة. فك سائس الخيل تشابك الحصانَين بينما اقترب بارني نحو إدنا بدماثته، التي ربما كانت سمته المميزة. بدَت الفتاة متفاجئةً من رؤيته، وانتابها شعورٌ شديد وواضح بالخجل.
صاح بارني: «كم أنا سعيد لمقابلتك! إن مجرد رؤيتك يجعل هذا المكان العتيق الكئيب المسمى إيستبورن يبتسم كزهرة. لم ألتقِ أحدًا لأتحدث إليه منذ وقتٍ طويل، لدرجة أني بدأت أخشى نسيان اللغة. صدقيني، هذه هي الحقيقة! إنني حقًّا أعتقد — أقصد هكذا كنت قبل أن أراك — أن إيستبورن هي المكان الأكثر كآبةً على وجه الأرض.»
سألته الفتاة: «لماذا جئت إلى هنا إذن؟»
«أوه، آنسة سارتويل، هذا شيء غاية في القسوة! أؤكد لكِ أنه في غاية القسوة. تعلمين أنني قد ذكرت في خطابي لكِ أني لم آتِ إلى هنا إلا من أجل متعة رؤيتك.»
«نعم، لقد فعلتَ. لقد نسيت.»
«نعم، ولم تعبئي حتى بالرد على رسالتي يا آنسة سارتويل. وأرى أنها قسوة شديدة منك.»
«تعلم يا سيد هوب أنه غير مسموح لنا بإرسال خطابات من المدرسة؛ فتلك إحدى قواعد المدرسة الأكثر صرامة.»
«وهل تخشَين كسر قواعد المدرسة إلى هذه الدرجة؟ عندما كنت طالبًا، كنت أجد متعتي عند وجودي هناك في كسر جميع القواعد، ومعظم الأمور الأخرى أيضًا. واعتقدت أنكِ قد لا تمانعين كسر إحدى القواعد ولو لمرة واحدة، حتى وإن كان هذا بدافع الشفقة على صديق عالق في هذا الساحل القاسي.»
احمرَّ وجه إدنا عندما تحدث بارني عن كسر القواعد، ثم رفعت عينَيها الصادقتَين إلى عينَيه وقالت: «أخشى أني لم أعُد أهتم كثيرًا بالقواعد بعد كل هذه الفترة من التظاهر بالتقيد بها. فأنا أكسر إحدى القواعد بوجودي هنا الآن، لكنني كنت متلهفةً للغاية للحصول على جريدة لدرجة أنني خرجت خلسةً من المدرسة لأشتري واحدة. وهذا هو سبب وجودي هنا، ولا يجدر بي أن أقف وأتحدث إليك هكذا، بل يجب أن أعود إلى المدرسة على الفور.»
فقال بارني معترضًا على حديثها: «ولكن يا آنسة سارتويل، إذا كنت كسرت إحدى قواعد المدرسة لمجرد شراء جريدة، فلا بأس من أن تكسري قاعدةً أخرى، أو أن تداومي على كسر القاعدة نفسها، إذا عرفتِ مقدار السعادة التي سأشعر بها باصطحابكِ في جولةٍ قصيرةٍ بالعربة.»
«أوه، لا أستطيع التفكير في أمر كهذا يا سيد هوب، لا أستطيع حقًّا، ويجب ألَّا تطلب مني ذلك! لقد أردت الحصول على الجريدة لأرى إن كانت ثمة تطورات متعلقة بالحريق. لم أكن لأعرف شيئًا عن الحريق لولا أن أرسل إليَّ أبي برقيةً قصيرة لا تحوي أي تفاصيل. أظن أنه لم يكن لديه وقت للكتابة.»
«أي حريق؟»
«الحريق الذي اندلع في المصنع.»
«يا إلهي! هل وقع حريق؟»
«ألم تكن تعرف؟ لقد شب حريق مريع دمر الجناح الشرقي بالكامل، وفقد رجلان حياتهما، اثنان من العمال. وكانت ستحدث خسائر فادحة في الأرواح لولا تدخُّل أحد الرجلَين المُتوفَّيَين. وتُرجِّح الصحف أنه فقد حياته أثناء محاولته إنقاذ الرجل الآخر.»
«يا إلهي! كم هذا مريع! أتساءل لماذا لم يرسل إليَّ السيد سارتويل برقيةً ليخبرني في ظل غياب أبي ومونكتون. أنا لا أقرأ الصحف إطلاقًا، وليس لديَّ أدنى اهتمام بها. لو تمكن المرء من معرفة متى ستحوي أخبارًا ذات قيمة، لَمَا كان أمر قراءتها بهذا السوء، ولكن لا يمكن للمرء أن يداوم على شرائها كل يوم، على أمل أن يجد فيها شيئًا ذا قيمة في وقتٍ ما. كما أن الناس عمومًا يخبرونني بجميع الأخبار، فلا حاجة لي للقراءة. بل إنني أسمع من الأخبار أكثر مما أريد أن أسمع، دون أن أتصفح الصحف، ولكني لا أعرف أحدًا هنا؛ ولذا لم تصلني أخبار اليوم.»
استمعت إدنا إلى تعليقاته بانزعاج لم تتمكن من إخفائه، وكرَّرت قولها: «لا بد أن أنصرف الآن.»
صاح بارني بلهفة شديدة: «أوه، ولكن هذا هو ما يجب ألَّا تفعليه! ليكن لديك بعض الشفقة، إن لم يكن لوحدتي في هذا المكان، فعلى الأقل لجهلي الميئوس منه بأمر كان يجب، من بين جميع الآخرين، أن أهتم به، بل أهتم به كثيرًا. قد لا يكون ثمة تأمين، وربما أُصبح شحاذًا، وربما أُضطر لبيع عربتي، والتضحية بجميع لوحاتي، وكل هذه الأمور. يجب أن أعلم تفاصيل الحريق، وكل شيء عنه. إن هذا الأمر أهم حتى من أوضاع العمال، وبالنسبة إليَّ على الأقل، على نفس القدر من الأهمية، والأمر برمته جزء لا يتجزَّأ من … آه … من كِياني، إذا جاز التعبير، أقصد موضوع العمال، كما تعلمين.»
اعترضت المستمعة القلقة قائلة: «ولكني لا أعرف شيئًا عن التأمين، لا أعلم أي شيء. عليك أن تعود إلى لندن على الفور على متن أول قطار. فقد أُجري تحقيق، وأتوقع أن تجد تقريرًا عنه في هذه الجريدة. يمكنك أن تشتري جريدةً من محطة القطار، وحينئذٍ ستعرف كل شيء يمكن معرفته حتى تصل إلى لندن.»
قال بارني بنبرة رجل جريح: «آنسة سارتويل، لا يمكنك أن تتوقعي مني أن أفهم المكتوب في الجريدة! لم أستطع قط أن أفهم ما يُكتب بها من قبل. يبدو لي أنهم لا ينشرون سوى الهراء. يمكنك الآن أن تشرحي لي الأمر برمته خلال وقتٍ قصير؛ فأنتِ دائمًا ما تجعلين كل شيءٍ واضحًا. إذا ما قبلت ركوب عربتي هذه، فسأقودها إلى خارج البلدة وبالقرب من المدرسة من الخلف، وبذلك لن يرانا أحد، ويمكنك أن تصلي إلى المدرسة أسرع بكثير ممَّا لو عدتِ إلى هناك سيرًا.»
قطَّبت الفتاة جبينها، ودُهش بارني عندما رأى أنها تملك بعضًا من نفاد صبر والدها. وشعر بأنه لا يحرز تقدمًا إيجابيًّا كما كان يتمنى، إلا أن بضع كلمات من شأنها أن تصحح الأمور، إذا ما تمكن من حملها على الذهاب معه في جولة بالعربة.
قالت إدنا في حدة: «سيد هوب، أرجو أن تعذرني إذا قلت لك إنه في ظل الظروف الراهنة، يجدر بك أن تكون منشغلًا في لندن بدلًا من التسكع في إيستبورن. لقد حدثت فاجعة غير متوقعة، وتعطَّل عمل الشركة، وأصبح العمال عاطلين عن العمل وهم في أمس الحاجة إليه، ولكنك لا تزال تقف هنا متسكعًا تتحدث عن العربات ذات الحصانَين والقيادة!»
اتسعت عينا بارني في ذهول. فكان ما سمعه الآن توبيخًا واضحًا وصريحًا. لم يتعرض بارني للتوبيخ من امرأة من قبلُ في حياته، ربما فيما عدا والدته، وهو لا يضعها في حسبانه؛ إذ كانت أول شخص سيستاء من أي لوم يوجَّه إليه من قِبل أي شخص على حد علمه.
تلعثم الشاب التعس الحظ وقال مشددًا بقوة على ضمير المتكلم: «ولكن … ولكن ماذا بوسعي أنا أن أفعل؟»
«لا أعرف بالطبع، ولكن هذا بالضبط ما كنت سأحاول معرفته لو كنت مكانك.»
«لا أحد يستمع لما أقول؛ لم يفعل أحد ذلك من قبل، ومن غير المرجح أن يبدءوا في الاستماع إليَّ الآن. إن والدَكِ لم يكلف نفسه حتى عناء إرسال برقيةٍ لي رغم علمه بوجودي هنا.»
«هل يعرف أنك هنا؟»
«بالطبع. كان من المفترض أن يأتي معي، وكنا سنزورك معًا، ولكن لسوء حظي، لم يتمكن من المجيء، وها أنا ذا عالق في هذا المكان، وعندما تتحدثين معي بهذه الطريقة، أشعر بقسوة القدر عليَّ.»
لان تعبير وجه إدنا وهي تنظر إليه؛ فقد شعرَت بأنها مجحفةٌ له، وكانَت تملك حسًّا قويًّا بالعدالة.
فقالت: «لم أكن أنوي أن أوجِّه لك أي كلماتٍ قاسية. لقد أخبرتك فحسب باعتقادي حيال ما يجدر بأيِّ شخصٍ في مكانك أن يفعله. ألَا تتفق معي؟»
«أنا أتفق معك دائمًا يا آنسة سارتويل. أنا غبي، في أفضل الأحوال، ولكني عادةً ما أدرك الاتجاه الصحيح عندما يوضحه لي أحد. وهذا عيب خطير في شخصيتي: لا تتضح لي الأمور إلا بعدما تتضح للجميع، ثم تبدو لي واضحةً تمامًا؛ حتى إنني أتساءل كيف أني لم أُلاحظها قبل ذلك. ولا يصبر الناس على من هم مثلي لدرجة أني أشعر بالأسف على نفسي في بعض الأحيان؛ أؤكد لك أن هذا ما يحدث! لو أنهم يكلفون أنفسهم بعض العناء … ولكن بالطبع لا أحد يهتم بما إذا كان المرء سيسلك طريقًا صائبًا أم خاطئًا.»
صاحت الفتاة على الفور: «أوه، على العكس، إنهم يهتمون! أنا واثقة من أنني أهتم كثيرًا.»
رد عليها بارني في إحباط: «أنت تظنين أنك تهتمين، ولكنك لن تخاطري حتى بتلقي ولو قليلًا من التوبيخ في المدرسة، لتسديني النصيحة التي أنا في أمس الحاجة إليها في الوقت الحالي.» واستطرد الشاب الذي يملؤه الشعور بالظلم بتنهيدة قوية: «ولكن هكذا يسير العالم. كل ما أريده منك هو الخروج برفقتي في جولة قصيرة بالعربة، وإخباري بكل ما تعرفينه عن الكارثة التي وقعت، وإبداء رأيك فيما يجب عليَّ فعله في ظل هذه الظروف. لقد أحضرت هذا الموكب من لندن خصِّيصى لكي أصحبكِ في نزهة. ليس المقصود أن أعرض عليكِ أي شيء تخجلين منه؛ فقد أتيت إلى هنا بموافقة والدك. وأرسلت رسالةً إلى مديرة المدرسة أخبرها بذلك، ولكنها ردت بتأنيب شديد. ثم أرسلت لك مباشرة، ولكن خطابي أُعيد لي مع تلميحٍ بأنني أحاول أن أفعل شيئًا في الخفاء. وهكذا، وكما ترين، لقد بذلت قصارى جهدي لكي أكون نزيهًا وصادقًا، ولكن الصادقين لا يبلغون ما يصبون إليه. وهذا تحديدًا ما يدفع الناس لارتكاب الجرائم. ثم لجأت إلى طرق أكثر ريبة، واستعنت بذلك الشاب — نسيت اسمه — ليحمل رسالةً لك. وقد أغضبك ذلك …»
«أوه، لا!»
واصل بارني حديثه في أسف قائلًا: «لطف منك أن تقولي ذلك، ولكني معتاد خيبة الأمل، والمزيد منها لن يضر. لقد أدركت الآن أني أخطأت عندما أرسلت لك الخطاب بهذه الطريقة؛ فلطالما أُدرك مثل هذه الأمور بعد وقوعها، ولكني كنت مجبرًا على ذلك. أتوقع أن ينتهي بي المطاف سجينًا ذات يوم، دون أن أدرك ما ارتكبت من جرم إلا بعد أن يُصدر القاضي حكمه. أعتقد أنه يجدر بي أن أترفَّع عن الحاجة لسماع كلمة تحفيز من وقت لآخر، ولكن يبدو أنني لا أفعل.»
سألته الفتاة وقد غشيت وجهها مسحة من الحيرة: «ماذا تريدني أن أفعل؟»
«كل ما أريده منك هو نصيحة مباشرة من عقل راجح. إن الفن يوجهني في اتجاه واحد، وينصحني بألَّا أتدخل في شئون الشركة. وقد قلتِ الآن إني لا بد أن أكون في المصنع الآن، وإنه لا يجدر بي أن أتسكع هنا بينما ثمة الكثير لفعله هناك. ويبدو جليًّا أن السيد سارتويل يأمل في أن أظل بعيدًا عن الصورة، وإلا أخبرني بأمر الحريق. يبدو أني شخص بلا قيمة ولا حاجة لأحد لي؛ حتى الشرطة. ماذا أريد منك إذن؟ أريد منك أن تسمحي لي باصطحابك في جولة قصيرة بالعربة في الريف، وتخبريني بما يمكنني فعله لأساعد والدك في تخطي هذه الأزمة.»
قالت إدنا وهي ترمق العربة ذات الحصانَين بتشكك: «سألفت الأنظار كثيرًا في هذه العربة. لا؛ دعنا نَسِر حتى نهاية الموكب. وهناك يمكننا أن نجلس وسأخبرك بكل ما أعرفه عن الحريق، وإذا كان لنصيحتي أي قيمة، فلتأخذ بها. بعد ذلك، عليك أن تدعني أسير إلى المدرسة بمفردي.» كان بارني مجبرًا على تقبُّل ذلك، وأمر سائس الخيل على مضضٍ بأن يأخذ الحصانَين إلى الإسطبل.
وسار الاثنان بمحاذاة الموكب نحو المقعد الأكثر انعزالًا حيث جلسا معًا. كان عقل الشاب يدور في دُوامة؛ فقد جعله استقبال إدنا البارد له يضطرب، ويخشى فقدان ما كان يعتقد، حتى هذه اللحظة، أنه طلب مُجاب.
لقد تقدم للفتاة ورفضته.