الفصل الثاني والثلاثون
كان من عادة بارني أن يتعامل دون قيود مع سائقي العربات، خاصةً الآن بعدما أصبح المال يُغدَق عليه من كل حدب وصوب. فكان يعطي سائقًا جنيهَين ذهبيَّين أو ثلاثة، أو حتى ورقةً بخمسة جنيهات إذا ما تصادف وعثر على واحدةٍ شاردةٍ في جيب معطفه، ويقول له:
«قد أحتاجك عشرين دقيقةً فقط، وقد أحتاجك طوال فترة ما بعد الظهر، ولكني أريد أن تكون سعيدًا بينما تُقلني هنا وهناك؛ لذا، هاك كل ما سأدفعه لك، وأتمنى ألَّا تجادلني في الأجرة في نهاية الرحلة.» ولم يكن يحدث أي جدل على الإطلاق، وكان بارني محبوبًا للغاية بين معشر السائقين.
عندما تحدَّد موعد الزفاف، استقل بارني، حال عودته إلى لندن، عربة أجرة ودفع للسائق عشرة جنيهات احتفالًا بالحدث القادم. وقال لنفسه إنه لم يكن ليحافظ على احترامه لنفسه إذا ما دفع مبلغًا أقل؛ إذ كان ينوي استخدام عربة الأجرة في استكمال الترتيبات الضرورية للحفل. اتجه بالعربة أولًا إلى مسكن القَس المسئول عن كنيسة القديسين الشهداء؛ إذ قرَّر أن حفل الزواج يجب أن يُقام في هذه الكنيسة؛ لأنها أقرب بيت مقدس من مصنع والده، كما أن السكان المحيطين بها أغلبهم يعملون في الشركة، سواء بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. علاوةً على ذلك، كان بارني يجد متعةً خاصَّةً في فكرة أن جميع الصحف ستُضطر إلى إرسال ممثلين عنها إلى هذا المكان المحلي العتيق الطراز؛ فحفل الزفاف سيكون مميزًا للغاية، كما أنه أصبح الآن مشهورًا للغاية لدرجة أنه إذا تزوج أو مات في أبعد بقعة فوق الجزر البريطانية، فسيُضفي الحدث على هذا المكان طابعًا مميزًا إلى الأبد.
كان القَس العجوز الودود منبهرًا، دون شك، من حقيقة أن رجلًا بهذا الصيت قد اختار كنيسة القديسين الشهداء؛ ليقيم بها مثل هذا الاحتفال المهم.
قال بارني ببهجة ومرح: «بالطبع، وسأُحضر أسقفًا أو اثنين لمساعدتك، وربما بعضًا من رجال الدين الأقل درجة. وإذا ما أعطيتني أسماء أشخاص تفضِّلهم، فسأتواصل معهم.»
قال القَس معترضًا بلطف: «أنت تعني أني من سيساعد الأسقف. فسموه، كما تعلم بالتأكيد، هو من له الأسبقية.»
«أوه، حسنًا، فلترتبوا تلك الأمور فيما بينكم. فأنا لا أفهم مثل هذه الأمور كما تعلم؛ فأنا لم أتزوج من قبل، وأترك جميع التفاصيل لأهل الخبرة. كل ما أريده هو أن يسير كل شيء على خير ما يرام، بغض النظر عن التكاليف. وإذا ما سمحت لي، أود أن أرسل إليك شيكًا بألف جنيه لتوزيعها على الفقراء، وأمور من هذا القبيل، احتفالًا بالمناسبة. أعتقد أن بإمكانك تولي هذه المهمة.»
«سنكون ممتنين كثيرًا لذلك دون شك. لم تكن وفرة المال من العقبات التي كنا نحاول التغلب عليها في هذه الأبرشية على الإطلاق.»
«اتفقنا إذن. هل رأيت عازف الأرغن الذي يعمل بكنيستك مؤخرًا؟ ما اسمه؟ لا أتذكر اسمه حاليًّا.»
«لانجلي. يؤسفني أن أخبرك بأنه لم يكن بخير تمامًا مؤخرًا. لا أعني بالضبط أنه مريض؛ فهو قادر على أداء عمله، ولكنه ليس بخير تمامًا. أعتقد أنه يحتاج إلى مَن يرعاه. إنه رجل شارد، حالم، وأخشى أنه يهمل نفسه.»
قال بارني: «لقد حاولت مساعدته، ولكنه يأبى أي مساعدة من أي نوع كما لو كانت مرضًا معديًا. إنه لن يزورني أبدًا، وكان وقتي مزدحمًا بالكثير من الأمور مؤخرًا ولم أتمكن من زيارته، رغم أني كنت أنوي ذلك. هلَّا تعطيني عنوان منزله؟ كان معي قبل ذلك ولكن ضاع مني.»
«إنه يعيش في حي فقير وبائس، البناية رقم ٣ في ساحة روز جاردن المتفرعة من شارع لايت. لا أعتقد أنه سيرحِّب بزيارتك له. سيكون من الأفضل أن تراسله. فمن الصعب للغاية أن تفعل أي شيء من أجله، كما تقول، إلا بطريق غير مباشر. عندما زرته بعدما سمعت أنه ليس بخير، رأيت أن وجودي قد أزعجه.»
«كنت أريد التحدث إليك عن مساعدته بطريق غير مباشر. فجميعكم تقدِّرون مواهبه بالطبع.»
«أوه، نعم.»
«ولكنكم لستم أبرشيةً ثرية، كما تقول. هاك شيكًا بمائة جنيه. يمكنني أن أزيد المبلغ، ولكن من المرجح أن يثير ذلك شكوكه. هلَّا تأخذ هذا الشيك وتزيد راتبه بنفس المبلغ المكتوب فيه سنويًّا؟ سأرسل لك شيكًا مماثلًا مرةً كل عام، وأخبره بأن سبب زيادة الراتب هو الإعجاب العام الذي يشعر به الجميع تجاه … حسنًا، هل تفهم ما أعنيه؟ وبذلك سيشعر بالتحفيز.»
«إنه لكرم كبير منك يا سيد هوب، وسأتأكد من تنفيذ رغباتك.»
بعدما انتهت المقابلة مع القَس الودود، قفز بارني في عربته واتجه إلى شارع لايت. كان من المستحيل الدخول بالعربة إلى ساحة روز جاردن؛ فاستعان بارني بأحد أطفال الشوارع ذوي الهيئة الرثة العديدين المتناثرين في أرجاء المكان دليلًا، وشق طريقه صعودًا على السلم المتداعي وطرق باب منزل لانجلي. سمع بارني صوتًا خافتًا يصدر من الداخل يخبره بأن يدخل، وعندما فعل، رأى عازف الأرغن جالسًا على الفراش. كان واضحًا أن لانجلي كان مستلقيًا، ولكنه جلس بصعوبة واضحة، ليستقبل ضيفه غير المتوقع. كان نحيلًا عندما رآه بارني آخر مرة، ولكنه أصبح أكثر نحولًا وطغى على وجهه شحوب مروع.
وقف بارني مكانه فجأةً وصاح: «ماذا بك يا صديقي؟! لا تبدو بخير. هل كنت مريضًا؟»
أجابه لانجلي وقد غزا وجنتَيه ظلٌّ كان سيصبح احمرارًا على وجه رجلٍ بصحة جيدة: «لم أكن بخير، ولكني أفضل الآن، شكرًا لك.»
بدا جليًّا أن لانجلي لم يُعجب بهذا التطفل، وأدرك بارني ذلك حين تذكر كلمات القَس.
فقال: «لانجلي، أرجو أنك لا تمانع زيارتي لك هكذا دون سابق موعد؛ فقد أتيت لأطلب منك معروفًا كبيرًا. أنا أكثر رجل يعتمد على أصدقائه في جميع ربوع لندن، أنا كذلك بالفعل. يبدو لي أني أقضي كامل وقتي في تكليف الناس بالقيام بأشياء من أجلي، والحق أنهم يؤدونها عن طيب خاطر تمامًا. نحن نعيش في عالم مليء باللطف والتسامح، كما تعلم. والآن، استلقِ كما كنت … أرى أني أزعجتك؛ فأنا دائمًا ما أزعج شخصًا ما … ودعني أحادثك كما لو كنت عمك المفضل. سوف أتزوَّج يا لانجلي! ما رأيك في ذلك؟ وأراهنك على ستة بنسات أنك لن تخمِّن أين سأقيم حفل الزفاف.»
ارتسمت على وجه لانجلي ابتسامة شاحبة وهز رأسه، بينما ظل جالسًا على حافة فراشه متجاهلًا مطلب بارني بالاستلقاء.
«كنت أعرف أنك لن تتمكن من التخمين. حسنًا، سيقام الحفل ﺑ «فخامة» تخطف الأنظار، كما تقول الصحف، في كنيسة القديسين شهداء الشرق. أزعم أن كنيسة القديسين العتيقة ستشهد للمرة الأولى في تاريخها حفل زفاف عصريًّا. لقد حضرت الآن من عند القس، ورتَّبنا جميع التفاصيل. يا له من رجل لطيف! كان يجب أن تسمعه وهو يمتدحك ويثني على موسيقاك يا لانجلي! من الرائع أن يجد المرء من يقدِّره؛ أنا نفسي يُعجبني ذلك.»
تورَّد وجه لانجلي خجلًا، على الرغم من شحوبه، عندما سمع هذا، ولكنه لم يقُل شيئًا.
«وعلى ذكر الموسيقى، دعنا نتحدث عن موسيقى حفل الزفاف؛ فهذا هو سبب حضوري. أنت من سيعزف على الأرغن بالطبع.»
غمغم لانجلي قائلًا: «سأبذل قصارى جهدي.»
«ولا أتمنى أكثر من ذلك. ولكن إليك ما أريد، وأعرف أني أطلب منك معروفًا كبيرًا. أريد منك أن تؤلف لحن زفاف خصِّيصى لنا. وسأنشره لك فيما بعد، وأعلم يقينًا أنك عندما ترى العروس، لن تحتاج إلى أي رجاء مني لتهديه لها.»
قال عازف الأرغن: «أخشى أني …»
قاطعه بارني قائلًا: «أوه، لا، لا تفعل. أنت شخص متواضع يا لانجلي، وأعلم أنك ستخرج بالكثير من الأعذار، ولكني لن أعفيك. لقد هيأت نفسي للحصول على لحن زفاف استثنائي. يمكن لأي زوج من الحمقى أن يتزوجا على أحد ألحان مندلسون كما تعلم، ولكننا نريد لحنًا خاصًّا بنا وحدنا. فالمرء لا يتزوج كل يوم.»
«كنت سأقول إني لا أشعر بأني في مثل براعتي السابقة … لا أظن أني سأوفيكما حقكما … ولكني ألَّفت لحنًا منذ عام أو نحو ذلك، ولم يعزفه أو أُسمعه أي شخص سواي. وإذا أعجبك …»
«بالطبع سيعجبني. سيكون اللحن المنشود.»
«يمكنني أن أؤلف لك لحنًا، ولكني واثق من أني لن أتمكن من تأليف لحن أفضل من هذا، وأريد أن أعطيك أفضل ما لديَّ.»
«أنا واثق من ذلك. قُضي الأمر إذن. والآن يا لانجلي، فلتستمع إلى حديث العم. لقد أخبرتك بأني سأتحدث إليك كما لو كنت أحد أعمامك. يجب أن تخرج من هذا الجُب، ويجب أن تخرج الآن. إن البقاء في هذا المكان كفيل بالقضاء على أقوى الرجال. ثمة عربة تنتظرني في الشارع؛ تعالَ معي لنبحث عن مسكن محترم به امرأة عجوز رءوم تعتني بك كأمك.»
بدا الإحراج جليًّا على وجه لانجلي. وأخيرًا، قال في تلعثم:
«لا يمكنني تحمُّل تكلفة مكان أفضل من هذا. أعلم أنه قد لا يبدو مريحًا بالنسبة إليك، ولكنه كل ما أحتاج.»
«تتحمل تكلفة مكان أفضل! بالطبع يمكنك تحمل تكلفة مكان أفضل! أوه، لقد نسيت. لم يخبرك أحد، أليس كذلك؟»
«يخبرني بماذا؟»
«لا أعلم إن كان يجدر بي أن أذكر لك هذا الأمر أم لا. في الواقع (لقد عرفت كل شيء بمحض الصدفة عندما كنت أتحدَّث إلى القَس؛ لقد أخبرتك أنه كان يمتدحك!)، أعتقد أنهم يُعدون لك مفاجأةً بسيطة، فلا تخبر أحدًا أني أخبرتك بذلك، ولكني لا أحب المفاجآت. لطالما أُخبر أصدقائي بأنهم إذا كانوا يُعدون مفاجأةً لي، فليخبروني بها مقدمًا حتى أجهِّز التعبير المناسب الذي سأرسمه على وجهي. ما لا يعجبني بشأن المفاجآت أنها تقفز في وجهي دون سابق إنذار. حسنًا إذن، كما قلت لك، لم يكن يجدر بي أن أخبرك بذلك، ولكن وكلاء الكنيسة والقَس وعددًا من رعايا الأبرشية قرَّروا أن يرفعوا راتبك بمقدار مائة جنيه سنويًّا. وقد سعدت للغاية بسماع هذا الخبر، وقلت لهم ذلك. وقال القَس بالحرف الواحد: «فلنظهر له تقديرنا لموسيقاه.» إنه لرجل رائع ذلك القَس! يعجبني كثيرًا.»
كان بارني يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا أثناء حديثه، ولم ينظر ولو مرةً واحدة إلى مستمعه. اغرورقَت عينا لانجلي بالدموع، حاول أن يتحدث، ولكن اختنقَت الكلمات في حلقه. ثم استلقى على الفراش ودفن وجهه في الوسادة. وواصل ضيفه حديثه، وهو يتحرَّك دون توقف، دون أن يلاحظ المشاعر التي انتابَت لانجلي، حتى استعاد لانجلي تماسكه وقال في امتنانٍ واضح:
«إنه لكرمٌ كبير جدًّا منهم. لطالما أظهروا عطفًا شديدًا نحوي.»
«أوه، إنها مسألة عمل لا أكثر. فهم لا يريدون أن تغريك كنيسة أخرى لكي تغادرهم وتحصل على خدماتك. ثق بما يقوله وكيل الكنيسة! فهو يعرف كل شيء دائمًا. والآن، عليك أن تأتي معي يا لانجلي. وإذا رفضت، فسأحملك بين ذراعيَّ وأهبط بك السلم إلى عربتي كما لو كنت طفلًا رضيعًا. تشجَّع يا صديقي، وهيا بنا!»
اعترض لانجلي بوهن، ولكنه لم يقاوم بسبب ضعفه، وسار مترنحًا نحو شارع لايت مستندًا على ذراع بارني. وخلال نحو نصف ساعة، عُثر على سكن مريح بالقرب من الكنيسة، وأُرسل حمَّال إلى ساحة روز جاردن ليُحضر أغراض الموسيقي ومتعلقاته.
•••
حضر مراسمَ الزفاف جميع الأصدقاء المقربين الذين تمنى الزوجان السعيدان حضورهم. لم تشهد كنيسة القديسين في تاريخها مثل هذا الجمع المذهل. وكان «لحن الزفاف» الرائع مذهلًا، وملأ الكنيسة الواسعة بنغماته المبهجة الساحرة، وعُزف كما لم يُعزف لحن من قبل.
استرق بارني بضع لحظات، بينما كان أصدقاء العروسَين ملتفين حول العروس، وانفرد ببيستون، أهم رجال الصحافة بين الحضور، في أحد الأركان.
وقال له: «بيستون، لقد سمعت هذه الموسيقى.»
فأجابه الصحفي: «إنها عظيمة!»
«إنها كذلك بالطبع، وتذكر أنها أُلفت خصيصى لهذه المناسبة. يمكنك أن تسيء إليَّ في الصحف إذا أردت يا بيستون، إذا ما رأيت أي شيء خاطئًا — رغم أني لا أعتقد أن ثمة أي خطأ — ألقِ باللوم عليَّ أنا، ولكني ألتمس منك شيئًا واحدًا فقط، وأخبر الآخرين بأن يحذوا حذوك أرجوك، هل ستفعل؟ اكتب ولو سطرًا أو اثنين من المدح المستحق لعازف الأرغن وموسيقاه. افعل ذلك إذا كنت تحبني يا بيستون! هذا الرجل عبقري! ولست الوحيد الذي يقول ذلك، وإن كنت أول من لاحظ هذه الحقيقة. ستكتب مقالًا في مدحه، أليس كذلك؟ وستُخبر الصحافيين الآخرين بأن يفعلوا المثل.»
«سأذهب للقائه أولًا، ثم يمكنني بعد ذلك أن أكتب مقالًا خاصًّا عنه.»
«آمل أن تفعل، ولكن تذكر أنه خجول للغاية، وإذا خمَّن الغرض من لقائك به، فلن تحصل منه على أي شيء. إنه زاهد ومنغلق للغاية. تحدَّث معه عن آلات الأرغن والموسيقى، ودعه يعتقد أنك مجرد معجب بفنه.»
«لا تقلق. سأتعامل معه.»
طوال أسبوع كامل، ظل لانجلي يخشى أنه لن يكون على قدر التجربة المقبل عليها. كان متلهفًا، لأجل بارني، لأن يبلي بلاءً حسنًا، ولكنه بالكاد كان قادرًا على الذهاب إلى الكنيسة والعودة منها إلى مسكنه، رغم أنه عندما كان يجلس أمام لوحة المفاتيح، كان يبدو وكأن الحياة قد دبَّت في أوصاله من جديد وحرَّكت جسده الهزيل، ولكن عندما كانت حماسة العزف تخبو، كان الاكتئاب يتملكه أكثر من ذي قبل. كانت الموسيقى بالنسبة إليه كالمنشط، وكلما زادت فترة نشوة الصوت، كانت الانتكاسة التالية أكبر.
سرت رعشة في جسد لانجلي برمته، عندما رأى الجمهور الكبير الذي سيستمع إلى عزفه يوم الزفاف، ودعا الرب أن يمنحه القوة ليعزف مقطوعته دون أخطاء. وعندما حانت اللحظة الموعودة، نظر لاهثًا بخوفٍ إلى يدَيه المرتجفتَين وهما تحومان فوق المفاتيح، ولكن عندما لمسَت أصابعه المفاتيح، سمع الأنغام الخفيضة السلسة ذات الصفاء والعذوبة تخرج محكمةً وثابتة، كما لو كانت أنغام ناي رخيم، وغمرته البهجة عندما لاحظ الصمت اللحظي الذي خيَّم على الحضور الكبير، كما لو أن الجميع قد توقفوا عن التنفس في آنٍ واحد؛ خشية أن تفوتهم نغمة واحدة من اللحن الساحر، أو يفوتهم ذلك الاختلاط الساحر لها في ذلك التناغم السماوي الخفيض، كما لو أن جَوقة من العنادل تغرِّد من بعيدٍ من خارج مجال السمع تقريبًا، ولكن ليس خارجه تمامًا. وعندما تصاعدت وتيرة الموسيقى من بدايتها الناعمة وارتفعت حتى وصلت إلى ذروتها، أدرك لانجلي أنه برع في العزف على الآلة كما لم يفعل من قبل. وغادره خوفه تمامًا، وحلت محله نشوة جامحة. لم يعُد يعنيه إن كان من يستمع إليه شخصًا واحدًا أو ألف شخص. وعندما نظر إلى أعلى، بوجهٍ جذل منتشٍ، بدَت له النغمات وكأنها تتخذ هيئة حشود لا حصر لها من الملائكة، تطير حول الأنابيب التي تعلوه كأنها جرف بارز، وأن روحه تطفو معها هناك. وظل لانجلي، في غمرة افتتانه بهذه الرؤية الخيالية الجميلة، يعزف بنفس مهارته الإعجازية حتى النهاية، وعندما خبت آخر النغمات رأى الملائكة تضم أجنحتها الواحد تلو الآخر وتختفي دون أثر. ثم ضغط على زر الإيقاف الذي يوقف عمل محرك المنفاخ، وظلت أصابعه الواهنة للحظاتٍ تلمس المفاتيح الصامتة التي غادرتها أنفاس الحياة. وخيَّمت على عينَيه غيمةٌ رقيقة، ومال رأسه ببطء نحو الأمام حتى توسد المفاتيح الصامتة برفق، وقد غادرته الحياة.