الفصل الخامس والثلاثون
كان الإضراب الثاني واضحًا ومباشرًا تمامًا مثل الأول؛ أي لم يكن ثمة متخلِّفون عنه يواصلون العمل في المصنع، وكان يبدو أن ثمة إجماعًا بين صفوف العمال، وإصرارًا واضحًا من قِبل السادة. بدا الإضراب في ظاهره للجميع أنه اختبار قوة مباشر وعنيف بين رأس المال والنقابة العمالية. لم يهتم مارستن كثيرًا بتعاطف العامة، الذي كان يراه جيبونز أمرًا على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية، ولم يكن سارتويل يكترث به على الإطلاق. وفي جميع الأحوال لم يُبدِ العامة اهتمامًا كبيرًا بما يحدث. فكان معروفًا أن الشركة قد رفعت أجور العمال طوعًا منذ مدة قصيرة، وقال أصحاب الشركات بوجه عام إن هذا يدل على حماقة تغليب العاطفة في مجال الأعمال، وإن ما من صاحب عمل يجدر به أن يرفع الأجور إلا إذا كان مجبرًا على ذلك. كما أكَّدوا على أنه لم يكن ثمة أيُّ امتنانٍ من قِبَل العمال، وانتهجت بعض الصحف النهج نفسه. ولكن حتى تلك الصحف التي تحابي العمال شكَّكت في الحكمة من الإضراب في ظل الظروف المذكورة، على الرغم من تمنياتها بنجاح الإضراب.
ولكن لم ينتبه مارستن كثيرًا إلى تعليقات الأصدقاء أو الخصوم؛ فقد كان يدرك أن النجاح أو الفشل ليسا رهنًا بما تكتبه الصحف، بل رهنًا بالتنظيم الجيد والضرب بقوة. كان يدرك أنه إذا فاز، فسيرجع الفضل إلى إصرار العمال والتوقيت الصحيح للإضراب، أما إذا خسر، فسيكون عليه أن يتحمل وحده كل اللوم. قام مارستن بتعيين حراسة لمراقبة المصنع بالطريقة المعتادة، واختار لهذه المهمة أصدقاءه الأكثر ولاءً وصمودًا من بين العمال. وطلب من بقية العمال أن يبتعدوا عن بوابات المصنع، وأن يدعوا إدارة المعركة بالكامل له ولأولئك الذين اختارهم ليكونوا مساعديه.
ما إن بدأت المعركة، حتى قرَّر سارتويل ألَّا تأخذه بالعمال أي رحمة أو شفقة. فقرر أن يملأ المصنع بعمال من الخارج، إن أمكن، وألَّا يُعيد أيًّا من الموظفين السابقين دون أن يوقِّعوا على تعهد بترك النقابة. خلال الإضراب السابق، كان متلهفًا لإعادة عماله إلى أعمالهم كاملين، ولم يُقدم على أي محاولة حقيقية لاستبدالهم. وعرف منذ بداية الإضراب الثاني أنه كان يقاتل من أجل البقاء، وأنه سيستقيل إذا هُزم، والمكان الذي عرفه وألفه طوال سنوات لن يعرفه مجددًا. لم يكن يخشى أن يُطرد من عمل الشركة إذا ما خسر المعركة، بل إنه في الحقيقة كان يدرك أنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لحثه على البقاء، بل كانت كبرياؤه العنيدة، على حد وصف زوجته، هي التي كان يشعر بأنه لن يتمكن من التغلب عليها حتى لو أراد ذلك. فسارتويل، مثل بعض السيوف المصنوعة من الصلب المقوى؛ ينكسر ولكنه لن ينثني. فسنوات من الإصرار الذي لا يتزعزع على ما كان يراه صوابًا، جعلت منه رجلًا لا يملك هو نفسه سوى أقل القليل من السيطرة عليه، وكان يُلاحظ في بعض الأحيان بسخريةٍ سوداويةٍ أنه على الرغم من قدرته على إقناع «رفاقه» بأن يسلكوا مسارًا ملتويًا، ولكنه آمِن فيما يتعلق بأي مشكلة، لم يكن يستطيع حمل نفسه على اتباع أي مسار عدا المسار المستقيم. ظل يعمل ليلًا ونهارًا على مهمة ملء المصنع بعمال جدد. فجاب أرجاء البلاد بحثًا عنهم، وكلَّفته البرقيات وحدها ثروةً طائلة، ولكن كان العمال نادرين، العمال الجيدون نادرون دائمًا، أما الآن، فأصبح من الصعب إيجاد حتى العمال العاديين. قال جيبونز ذات مرة إن عمال العصر الحديث يعانون من حقيقة أنهم مجرد تروس في عجلة كبيرة، ولكن هذه الحقيقة البديهية أيضًا لا تصب في مصلحة صاحب العمل الذي يحاول ملء مصانعه بالعمال. فإذا كان الترس بلا أهميةٍ تُذكر في حد ذاته، يجب ألَّا ننسى أن العجلة أيضًا لن تكون ذات أهميةٍ حتى يوضع الترس في مكانه. من السهل على أي صاحب عملٍ أن يستبدل ترسًا واحدًا، لكن إذا كانت العجلة بأكملها بدون أي تروس، فثمة تسعة وتسعون ترسًا بلا جدوى إذا كان لا يمكن العثور على الترس المائة اللازم لإكمال الدائرة.
كانت هذه المرة الأولى التي يلمس فيها سارتويل كفاءة خصمه وقدراته، وتلاشى غضبه في خضم إعجابه بذكاء الشاب وإلمامه بعالم الأعمال. أُديرت المعركة بهدوءٍ تام حتى إنه لا أحد من سكان الحي كان يدرك أن ثمة حربًا دائرةً في ظل عدم وجود أي دلالاتٍ على حدوث اضطراب. لم يحاول مارستن أن يرشو العمال الجدد الذين كانوا يدخلون ويخرجون من المصنع في حرية، دون أن يعترضهم أيٌّ من الحراس. كان مارستن يتحدث إلى أولئك الغرباء في بعض الأحيان ويخبرهم عن الإضراب، ويسألهم من أين أتَوا، ناصحًا إياهم بالبحث عن عمل في مكان آخر، ولكنه لم يحاول قط أن يُجبرهم على شيء أو يرشوهم. تعجَّب سارتويل من ذلك، وتمنَّى لو استمر مارستن في الحرب بذلك الأسلوب الوديع الحميد، إلا أن وداعته تلك تحديدًا كانت هي مبعث قلقه، وحذر موظفيه الجدد من إعطاء المضربين أي معلومات، رغم علمه جيدًا بعدم جدوى محاولة فرض ستارٍ من السرية؛ لأن العمال سوف يتحدثون. في الواقع، كان مارستن حريصًا على أن يكون مطلعًا دائمًا على ما يحدث داخل المصنع، وأدرك أن المدير يحاول التركيز بذكاء على فرع واحد من قسم واحد، بدلًا من محاولة ملء المصنع بالكامل دفعةً واحدة. فكان يجمع تروسه المائة تدريجيًّا من كل حدب وصوب، وشيئًا فشيئًا سيحصل على عجلة واحدة كبيرة وترس مسنَّن يدوران من بين جميع العجلات والتروس المسننة. في ظهيرة أحد الأيام، عندما خرج العمال، كان مارستن يمرِّر عينَيه عليهم سريعًا، ورأى رجلًا جديدًا، وأدرك في الحال أن سارتويل قد حصل على الترس المائة أخيرًا.
اقترب مارستن منه وبادره قائلًا: «هل أنت وافد جديد؟»
أجابه الرجل: «نعم؛ لقد بدأت عملي صباح اليوم.»
فقال مارستن وهو يسير معه جنبًا إلى جنب: «أود أن أتحدث إليك.»
«لا فائدة من ذلك. فأنا أعلم بأمر الإضراب. لقد أتيت هنا لأعمل، ولا أبالي بالنقابة على الإطلاق!»
«لن يضرك إذن أن نناقش المسألة.»
«ولن يفيدني. فلم أخرج لأتحدث، بل لتناول عشائي.»
«بالطبع. أنا أيضًا جائع، تعالَ معي. يمكننا أن نتحدَّث بينما نأكل.»
«يمكنني دَفْع ثمن عشائي.»
«بالطبع، أنا لا أحاول أن أعرض عليك دَفْع ثمنه. ولا أعتقد أني أحصل على عُشر أجرك، يمكنني أن أستنبط من مظهرك أنك عاملٌ جيد. أنا أمين النقابة العمالية، ولا أتقاضى سوى بضع شلنات أسبوعيًّا. يمكنني أن أخبرك بأجري الزهيد، ولكن من المحتمل أنك لن تصدِّقني؛ إذ يمكنني أن أجني المزيد من صنعتي.»
«إنك لأحمق كبير إذن أن تعمل مقابل أجر زهيد.»
«ربما. أنا أريد رفع أجور العمال في جميع أنحاء المملكة؛ لذا فأنا راضٍ بالعمل مقابل أقل القليل إذا كان بإمكاني تحقيق ذلك. من أين أتيت؟»
«أنا من بولتون.»
«هل أسرتك هنا معك؟»
«لا.»
«لماذا؟»
«وفيمَ يعنيك هذا، أريد أن أعرف؟»
«إنه يعني الكثير بالنسبة إلينا جميعًا؛ لأنه يدل على أنك لست واثقًا من استمرارية عملك هنا.»
«إنه لا يدل على أي شيءٍ من هذا القبيل. فأنا أضمن وظيفتي.»
«تضمن! وما قيمة أي ضمان من أحد السادة؟ سننتصر في هذا الإضراب، وحينئذٍ هل تعلم أين سيذهب الوافدون الجدد؟ أنت تعرف ما يحدث عندما يعود العمال إلى أعمالهم. لن يستمر أيٌّ منكم في الشركة. ولنفترض أنك حصلت على راتب جيد لبضعة أسابيع، ماذا ستكون الفائدة في النهاية؟ إن راتبًا أقل مع وظيفة دائمة أفضل.»
«ومن قال إنه ليس كذلك؟ ولكن ليس لديَّ عمل دائم.»
«أصبحت تتحدث بتعقلٍ الآن. هل أنت عضو في النقابة؟»
«كنت عضوًا. لقد تشاجرت مع رئيس العمال، وطردني.»
«في أي شركة حدث ذلك؟»
«في شركة سميجدن.»
«لا أعرفها. وكم كان أجرك فيها؟»
«ثلاثين شلنًا أسبوعيًّا.»
«هل تعرف شركة ماركام آند ساربري وشركائهما في بولتون؟»
«نعم.»
«هل ترتضي بثلاثين شلنًا أسبوعيًّا هناك؟»
«نعم؛ إذا كان بإمكاني ضمان الحصول عليها.»
«يمكنك أن تضمن ذلك. سأُرسل برقيةً إلى رئيس العمال على الفور، وسيصلنا رده قبل أن ننهي طعامنا. لقد وعدني بتوفير أماكن لثلاثة عمال، ولم أرسل له أحدًا بعد. ولكن لا تقل شيئًا لأي شخص هنا؛ فأنا أريد الاحتفاظ بالوظيفتين الأُخريين لعمال بولتون إذا ما حضروا للعمل هنا.»
«لن أعود إلى هذه الشركة أبدًا إذا استطعتُ ضمان وظيفة في بولتون.»
وهكذا خسر سارتويل ترسه المائة، ولم يرَ هذا الترس قط أن الأمر يستحق منه عناء تفسير سبب مغادرته لمديره السابق. وغادر مستقلًّا أول قطار إلى مانشستر.
تكرَّر الأمر نفسه عدة مرات قبل أن يدرك سارتويل تمامًا الطريقة التي يستخدمها مارستن. كان يعتقد في البداية أن مارستن كان محظوظًا فقط في استمالة العمال، عندما تتسبَّب هذه الاستمالة في تعطيل جميع سُبل التقدُّم. كان الأمر يُشبه سحب مسمار التثبيت من محور عربة. راسل سارتويل زملاءه مديري الشركات في مختلِف أنحاء البلاد، محذرًا إياهم من أن رؤساء العمال لديهم يوظفون عمالًا من شركة «مونكتون آند هوب»، ووصلته ردود تفيد بأنهم سيبذلون أقصى ما في وسعهم لمنع هذا النقل، ولكن لمَّا كان من الصعب تتبُّع وجهة العامل، لم يؤدِّ التحذير إلى نتيجة تُذكر؛ إذ لم يُطرد منهم إلا قلة. لو أن هذا النزوح للعمال جاء جماعيًّا، لربما فعل سارتويل شيئًا لإحباط نجاح هذه المحاولة، بمساعدة أقرانه من مديري الشركات الأخرى، إلا أن طبيعة علاج مارستن للأمر القائمة على معالجة الداء بالداء جعل من الصعب التعامل معها. وفي هذا الوقت، طغى على سارتويل شعور المهزوم، وعلى الرغم من أنه لم يقل شيئًا ولم يستجدِ أي تعاطف من أحد، حفر هذا الشعور في وجهه تجاعيد أكثر من تلك التي حفرتها سنوات العمل الشاق. ورأت ابنته، التي عادت إلى المنزل بعد انتهاء الدراسة، بحزن عاجز تلك الأخاديد العميقة التي يحفرها الهم في وجهه الصارم.
الغريب في الأمر أن أساليب مارستن الهادئة والفعالة التي أقنعت رجلًا فطنًا نافذ البصيرة مثل سارتويل بأن العمال سينتصرون في النهاية، عادت بتأثير عكسي تمامًا على المضربين أنفسهم. فلم يكن العمال يستوعبون اللعبة، وكانوا يرَون بقلق متزايد أن المصنع يمتلئ بالعمال ولا أحد يفعل شيئًا لمنع ذلك. فلم يكن مارستن يدعو إلى عقد اجتماعات ويُفصح بحماسة عمَّا في جعبته بدفقة من الجزالة والفصاحة، كما جرت العادة مع جيبونز. واعتقد العمال أنه لا يفعل شيئًا لمجرد أنه لم يكن يقول شيئًا، وحتى أصدقاء مارستن المقربون بدءوا يتشككون في تحقيق النتيجة المرجوة. فلم يكن ثمة أي دلالةٍ على الاستسلام من جانب السادة، وكانوا يرَون كل يوم عددًا متزايدًا من العمال يخرجون أمام أعينهم من البوابات. وعلى الرغم من نهي مارستن لهم عن ذلك، بدأ المضربون يتجمهرون حول البوابات منددين بالموظفين الجدد أثناء خروجهم؛ فقد بدا لهم أن الهتافات وصيحات التنديد سوف تحقق شيئًا، وكانت على الأقل تنفيسًا عن مشاعر العمال العاطلين المكبوتة. راقب مارستن أمارات التمرد تلك بقلق، ولكنه فكَّر في أنه بما أن العمال لم يكونوا يتضورون جوعًا هذه المرة، وكانوا جميعًا يدركون أن النقابة لا تزال تمتلك أموالًا كافية، فإن بإمكانه السيطرة على المضربين حتى يوجه ضربةً قاصمة من شأنها أن تنبِّه شركة «مونكتون آند هوب» بأنه لا فائدة من المزيد من المقاومة. وكان يدبِّر هذه الضربة في هدوء، وكان يتوقع انتهاء الإضراب بالنصر عند توجيه هذه الضربة.
كان وفد من المضربين، يترأسه جيبونز، ينتظر مارستن، وطالبوه بضرورة عقد اجتماعات عامة، كما كان يحدث من قبلُ دائمًا، حتى يظل العمال على دراية بالتقدم المحرز في نزاع أثَّر بصورة حيوية على مصالحهم. تحدَّث جيبونز بقوة ومشاعر فياضة عن الموضوع، كرجل يتحدث من قلبه، وتأثر أعضاء الوفد بشدة. كان جيبونز يرى أن من الخطأ أن يظلوا يتحسَّسون طريقهم في الظلام لفترة أطول من ذلك، وأنهم يريدون أن يعرفوا إلى أين وصلوا، وما الإجراءات التي ستُتخذ لإجبار سارتويل على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
قال مارستن معترضًا: «ولكن، ألَا ترى أن أي معلومات أُفصح عنها لأصدقائي على الملأ تصل إلى العدو في الحال؟ لم أرَ أي شيء يتحقَّق من قبلُ بالكلام. ونزاع مثل هذا يتخلَّله الكثير من الكلام بوجه عام.»
فقال جيبونز الفصيح اللسان: «أتفق معك تمامًا، ولكن في غياب الكلام نود أن نرى دليلًا من فعل. وهذا النوع من الأمور لا يمكن إخفاؤه إلى الأبد. إن سارتويل يملأ المصنع تدريجيًّا بالعمال، وقد ضقنا ذرعًا بما يحدث. يجب أن نعرف ما يدور من حولنا؛ فلن يكون ثمة عزاء في أن تخبرنا بعد أسبوع، أو اثنين، أو ثلاثة، أنك اكتشفت أنك لا تملك أي فرصة لتحقيق النجاح، وأن علينا أن نتوصل إلى أفضل اتفاق يمكننا الوصول إليه. يجب أن تتذكر ذلك، على الرغم من أنك لست بصدد خسارة وظيفة، فإننا بصدد خسارة وظائفنا. هل ستعقد اجتماعًا لتوضِّح للرجال فرصنا في تحقيق النجاح؟»
«لن أفعل شيئًا من هذا القبيل. إن القائد العسكري لا يجمع جيشه ليشرح لهم ما ينوي فعله في المرحلة القادمة. أنا قائد هذا الإضراب، وسأقوده بطريقتي أو أتنازل عن قيادته تمامًا. أنت تقول إن المصنع يمتلئ بالعمال وأنا أقول لك إنه لم يؤدِّ أي عمل على الإطلاق منذ بداية الإضراب. كل ما يمكنني أن أعدكم به هو أن أُخبركم بانتهاء أموالنا قبل انتهائها بأسبوعين، وإذا رأيتم أننا لن ننجح، فسيكون أمامكم ما يكفي من وقت لاتخاذ أي ترتيبات تريدونها، وتعزلوني من منصبي.»
«أوه، إن هذه الطريقة الاستبدادية لا تصلح لهذا الزمن. تذكَّر، أنت لست الحاكم بأمره. إن العمال يملكون كل الحق في المطالبة بمعرفة ما تفعل بهم وبأموالهم.»
«عندما كنت أنت قائدًا يا جيبونز، انتهت أموال العمال قبل أن تُخبرهم بأي شيء عن ذلك. وكان ثمة الكثير من الكلام في تلك الأيام، والقليل من المعلومات القيمة. لن أقود الإضراب بفمي، ولن أقبل تدخلًا من أحد.»
«أرجو أن تتذكر أنك خادمنا، وليس في ذلك تدخل أن نسألك عما يحدث وما تنوي فعله. والآن، إما أن تدعو لعقد اجتماع مع العمال في قاعة جيش الخلاص وإما أن نفعل نحن. أيهما تختار؟»
«لن أدعوَ لعقد اجتماع. وإذا ما دعوتم لعقد اجتماع، فأنتم من ستتحمَّلون مسئولية التدخُّل في أمرٍ لا تفهمونه. من المرجح أنكم قد تستطيعون إحراجي، أو ربما هزيمتي، ولكن إذا فعلتم، فسيأتي وقت سيلعنكم فيه العمال على تدخُّلكم. أؤكد لكم أننا سننتصر في هذا الإضراب إذا ما رفعتم أيديكم عنه. إن الدعوة إلى اجتماع ستبرهن لسارتويل أننا قلقون، وهو لا يتمنى شيئًا سوى أن تدبَّ الفرقة في صفوفنا. لقد كان صريحًا بما يكفي لأن يخبرني بذلك بنفسه.»
«ومتى أخبرك بذلك؟»
«قبل أن نبدأ الإضراب.»
نظر جيبونز إلى الوفد نظرةً ذات مغزى، وأومأ بعضهم برءوسهم في أسًى، كما لو أنهم يقولون إنهم لم يكونوا ليصدقوا ذلك لولا أن الأمر أصبح جليًّا الآن، بعدما اعترف أمين نقابتهم بنفسه بأنه يتواصل مع العدو سرًّا.
قال جيبونز بجدية: «أعتقد، بعد ما قلته بنفسك، أن ثمة سببًا وجيهًا تمامًا يدعوك إلى الاجتماع بالعمال؛ لتخبرَهم بما جعلك تتناقش مع سارتويل في احتمالية فشل الإضراب قبل حتى أن يبدأ. لقد كنت تعلم أن هذه النقطة شائكةٌ بالنسبة إلينا منذ الإضراب السابق، وإذا كان سارتويل عدوك، كما قلت، فقد حاولتُ جاهدًا أن أرى سببًا يدعوك إلى …»
«أوه، لا حاجة لأي سريةٍ بشأن هذا الأمر يا جيبونز. في واقع الأمر، ثمة القليل من الغموض يكتنف أي شيءٍ نفعله، وهذا أحد الأسباب التي تدفعني لرفض الدعوة إلى عقد اجتماع عام. فالأمور سيئة بما يكفي كما يحدث الآن. لقد اكتشفت أن سارتويل يعرف بوجه عام ما سنفعل قبل أن يعرفه الكثير منا. لقد ذهبت إلى سارتويل لأنه طلب مني الذهاب إليه. فقد كان يعرف بهذا الإضراب، على الرغم من أني تخيَّلت أني لم أناقش هذا الأمر سوى مع نفسي ومع بعض الأشخاص الآخرين. وعرض عليَّ منصب مساعد مدير الشركة في مقابل الاستقالة من منصبي أمينًا للنقابة. ولكني رفضت، وأخبرني بأن هذا الإضراب سيفشل لا محالة؛ لأن العمال لن يخلصوا لي. يمكنك أن تخبر العمال بكل تفاصيل حديثي مع سارتويل، ولكن لا داعي لعقد اجتماع لمناقشتها.»
«قد يكون كل ما قلته صحيحًا، ولكني أُقر بأنه يبدو مريبًا نوعًا ما. فأنا أشك في أن سارتويل يخشاك إلى هذه الدرجة. على أي حال، لا ضير من معرفة حقيقة موقفنا. سأبذل أقصى ما في وسعي لتهدئة مخاوف العمال، ولكني أحذِّرك من أن ثمة مشكلات ستقع إذا لم يرَوا شيئًا جديدًا مشجعًا أكثر ممَّا رأينا مؤخرًا خلال أسبوع من الآن. وسيدعو العمال إلى اجتماع بأنفسهم إذا لم تفعل أنت.»
«إذا لم يحدث شيء خلال أسبوع، فسأعقد اجتماعًا وأخبرهم بما جرى حتى تلك اللحظة بالتفصيل، ولكني لا أحبذ الاجتماعات، ولن أدعو إلى عقد أي اجتماع إلا مجبرًا. إنك تجبرني على فعل شيء لا أُريده يا جيبونز رغم وعدك لي باللعب النزيه.»
«يبدو لي أنك حصلت على وقتٍ أكثر من كافٍ، وأعتقد أننا كنا صبورين للغاية بارتضائنا الانتظار أسبوعًا، رغم أننا لا نعلم إلى أين تقودنا.»
انصرف الوفد بعد ذلك، وظل مارستن يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، متسائلًا عما إذا كان مجلس الإدارة يُذيق سارتويل الأمرين مثلما يفعل العمال معه. ومثلما كان الحال خلال الإضراب السابق، وُضعت قاعة الخلاص تحت تصرُّف العمال. ولم يدعُ مارستن لأي اجتماعات فيها عدا ذلك الاجتماع الذي أعلن فيه عن بدء الإضراب. ولكنه جعل مقره في غرفة تفتح على المنصة، وتتصل أيضًا بممر ضيق يمتد على طول القاعة من الخارج إلى الشارع. وفي هذه الغرفة، كان خفراؤه يقدِّمون له التقارير، وكان يؤدي الأعمال التي يقتضيها الإضراب من حسابات ومراسلات. وفي هذه الغرفة أيضًا كان يتم استلام الخطابات والبرقيات. كانت غرفةً بسيطة لا تحتوي من الأثاث إلا على بضعة مقاعد وطاولة خشنة بسيطة. وعُلق العديد من الشعارات الدينية والأخلاقية على الألواح الخشبية التي شكَّلت الجدران. «أحبوا بعضكم»، كانت هذه الجملة هي ما تقع عليها عينا مارستن كلما رفع بصره من مقعده عند الطاولة. وكان في بعض الأحيان يبتسم في أسًى وهو ينظر إليها. توقف مارستن عن السير، وجلس إلى الطاولة عندما سمع طرقًا على الباب الخارجي. دخل الغرفة رسول توصيل البرقيات وسلمه مظروفًا. فتح مارستن المظروف، وقرأ الكلمتين الوحيدتين المكتوبتين بداخله «لقد أُوقِفت.» جاءت هاتان الكلمتان من الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وسافرتا من سيدني، إلى نيو ساوث ويلز، وصولًا إلى لندن. أضاء بريق من سعادة وحشية عينَي الشاب، ولدهشة الرسول، ضرب مارستن سطح طاولة المفاوضات بقبضته بقوة.
وقال للصبي الذي ينتظر متذكرًا فجأةً أنه ليس وحيدًا: «لا يوجد رد»، ثم أضاف محدثًا نفسه: «ولن يكون ثمة رد إلا من شركة مونكتون آند هوب.»
وعاد مجدَّدًا ليذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، وجسده يرتجف بالكامل من لذة المعركة واستشراف النصر المحقَّق. ولمع شعار «أحبوا بعضكم» في سلام على الجدار، ولكن دون أن يلاحظ.