الفصل السابع والثلاثون
طرقت إدنا باب الغرفة القابعة عند مؤخرة قاعة الخلاص برفق، وسمعت صوت مارستن يصيح قائلًا: «ادخل.» تردَّدت للحظةٍ قبل أن تفتح الباب وتدخل. كان الشاب جالسًا بمفرده أمام الطاولة الخشبية وأمامه بعض الأوراق، وكان يكتب عليها بسرعةٍ باستخدام قلم رصاص. وكان يبدو مستغرقًا في عمله، وظل رأسه منكبًّا عليها وهو يقول باقتضاب:
«حسنًا، ما الأمر؟»
وقفت إدنا موليةً ظهرها إلى باب الغرفة؛ حاولت أن تتحدَّث ولكنها لم تستطع. كان قلبها يخفق بسرعة رهيبة حتى بدا وكأنه سيخنقها، وكانت شفتاها جافتين. كانت همهمة الأصوات الكثيرة القادمة من القاعة الرئيسية تخترق الفواصل الخشبية الرفيعة، بالإضافة إلى ضوضاء الأقدام الكثيرة المتزاحمة. استمر مارستن في الكتابة بسرعة، ثم رفع رأسه فجأةً بعصبية، وحدَّق في الظلمة المتزايدة في غير تصديق، ثم هب واقفًا.
صاح مارستن: «يا إلهي … إدنا!» وبدا على وشك التقدم نحوها، ولكنها رفعت يدها فتوقف بجوار الطاولة مرتكزًا ببراجم أصابعه عليها.
تحدَّثت إدنا هامسةً بصوت أجش وغريب للغاية، حتى بدا لها وكأنه صوت شخص آخر: «لقد أتيت … أتيت … لأتحدث إليك … عن الإضراب.»
«وماذا بعد؟»
«يجب أن يتوقف.»
«سيتوقف في خلال يوم أو اثنين. لقد هُزمت شركة مونكتون آند هوب.»
«بل تعني أن أبي قد هُزم. إن الأمر يقتله، يمكنني رؤية ذلك جليًّا، على الرغم من محاولته … إنه لا يعلم بمجيئي إلى هنا. لقد أتيت بواعزٍ من نفسي لأنك … إذا جعلت العمال يعودون لعملهم، أعدك بأنه سيُلبِّي كل المطالب التي تجاهدون من أجل الحصول عليها. كل ما أطلبه منك هو ألَّا تصعِّب الأمر عليه. ولن يهتم العمال ما داموا سيحصلون على مرادهم. هل ستفعل ذلك؟»
«هل تعنين أن أُنهي الإضراب وأتظاهر بأن العمال قد هُزموا؟»
«نعم. ستكون النتيجة واحدةً في النهاية.»
«أوه، لا يمكنني أن أفعل ذلك.»
«لماذا؟ لن يهتم العمال ما دامت مطالبهم ستُلبَّى. أما مع أبي فالأمر مختلف تمامًا. إنه ينهار. أعلم أني أطلب منك الكثير؛ فأنت تشعر بمثل ما يشعر به، ولديك رغبة شديدة في الانتصار والفوز مثله، ولكنه رجل مسن، وأنت لا تزال شابًّا. لا تزال الحياة أمامك. بمَ تهتم إذن إن انتصرت في هذا الإضراب أم لا؟ ثمة الكثير من الإضرابات أمامك لتفوز بها، ولكنه … ولكنه يحارب معركته الأخيرة.»
أصبح صوتها أكثر وضوحًا واستعادت نبرة صوتها الحقيقية، بينما تتوسل لأجل والدها. وحينئذٍ، بدأ شخص ما في المبنى الرئيسي في غناء أغنية مرحة ذات موسيقى راقصة كانت منتشرةً آنذاك كالوباء في شوارع لندن. وشارك كل مَن في المبنى في الغناء الجماعي الراقص، ضاربين الأرض بأقدامهم بالتزامن مع الإيقاع. ولم يبدُ أن أيًّا منهما قد سمع الأغنية، ولكنهما رفعا صوتيهما قليلًا ليسمع كلٌّ منهما الآخر.
قال مارستن: «لا يعنيني أي نصر شخصي … لا يعنيني على الإطلاق. ولو كان بإمكاني مبادلة الأماكن مع والدك وتقبُّل الهزيمة من أجله، فسأفعل عن طيب خاطر. ولكن العمال وثقوا بي …»
صاحت إدنا واللون القرمزي يطارد اللون الأبيض في وجنتَيها، وعيناها تلتمعان وصوتها يرتفع: «العمال! ماذا يهم العمال؟ استمع إليهم!» وأشارت بيدها إلى القاعة. «سيظلون يغنون ويصيحون هكذا حتى وإن كان أعز صديق لديهم يُحتضر. مَن فعل لرجاله أكثر ممَّا فعل والدي؟ لقد جازف بحياته من أجلهم أثناء الحريق، وهو على استعداد لتكرار ذلك مرةً أخرى. وهو مَن بنى المصنع الذي منحهم وظائفهم وجنَّبهم البطالة. وظل يملأ المصنع بالعمال متكبدًا الخسائر خلال الأوقات العصيبة، حتى لا يتضوَّر العمال جوعًا. كان كل عامل مطمئنًّا في وظيفته ما دام يستحقها، ولم يكن في لندن رب عمل أكثر كرهًا منه لطرد أي عامل.» وخفضت عينَيها عندما تذكرت فجأةً أن ثمة رجلًا واحدًا طرده والدها من عمله دون سبب، ومن دون أن ترفع عينَيها، توسلت مرةً أخرى قائلة: «لمَ لا يرضيك نصر حقيقي دون مسمًّى؟»
«لأن هذا النصر ليس فقط لهؤلاء العمال الذي يهلِّلون الآن بينما أقاتل. إن أعين إنجلترا بأكملها موجهة إلى هذا الإضراب. إن نصرًا مظفرًا على شركة ذات نفوذ قوي مثل «مونكتون آند هوب» سيعني نصرًا أسهل لكل عامل يكسب قوت يومه في هذا البلد اليوم، ولا يمكنه الحصول على حقه العادل من دون أن يُضرِب عن العمل. إنه نصر سيشدد عزم كل عامل، وسيكون بمنزلة تحذير لكل صاحب عمل.»
قاطع الغناء الجماعي في القاعة ثلاث ضربات قوية بالمطرقة على إحدى الطاولات. فانحسر صوت الغناء وسُمع صوت شخص ما يدعو لعقد الاجتماع.
رفعت إدنا عينَيها ببطء ونظرت نحو مارستن، وقد لمعت عيناها بتحدٍّ ممزوج بالخوف. ثم تحدثت بصوتٍ هامسٍ مضطرب.
«لعلك تذكر ما قلت لي في الحديقة في إيستبورن. إذا فعلت ما أطلبه منك، فسأفعل ما تريد عندما … عندما تطلبه مني.»
تقدَّم مارستن خطوةً إلى الأمام وكانت يده اليمنى ترتجف، وكان يضم قبضتها ويفردها في عصبية.
فصاحت إدنا: «لا، لا! ابقَ مكانك. أجبني، أجبني!»
همس مارستن: «أوه، إدنا. يعلم الله أني على استعدادٍ لفعل أي شيء لأفوز بك … أي شيء … نعم، أي شيء تطلبينه!»
فصاحت إدنا: «نعم أم لا؟ أجبني!»
«لا يمكنني أن أكون خائنًا للعمال!»
تصاعد صوت تهليل قادم من القاعة، كما لو كان استحسانًا لشعوره هذا. كان أحدهم يتحدَّث، وحتى في ظل التعاسة التي كان يشعر بها مارستن، تمكَّن من تمييز صوت جيبونز.
استدارَت إدنا دون أن تنطقَ بأي كلمةٍ أخرى وفتحت الباب. وتبعها مارستن إلى الخارج.
فقالت باكية: «ابقَ حيث أنت.»
«سأوصلك إلى المحطة.»
«لا، يجب ألَّا تقترب مني. آمل ألَّا أراك مرةً أخرى أبدًا.»
فكرَّر مارستن العبارة السابقة في عناد: «سأوصلك إلى المحطة.»
لم تُضِف الفتاة شيئًا، وأسرعت الخطى عبر الممر الضيق، والشاب في أثرها. ثم قفزت في العربة التي تنتظرها، وصاحت: «إلى محطة ووترلو، بسرعة!»
انطلقت عربة الأجرة مسرعةً تاركةً مارستن خلفها واقفًا على الرصيف حسير رأس. وظل واقفًا في مكانه بضع لحظات يحدق في الاتجاه الذي سلكته العربة، ثم استدار متنهدًا وسار ببطء عبر الممر المؤدي لغرفته. بدت له الغرفة عاريةً وخالية أكثر من أي وقت مضى، وأدرك بالكاد أنها كانت تقف في داخلها منذ لحظات معدودة. سمع، دون اكتراث، الضوضاء الآتية من القاعة وكأنها زمجرة خافتة لحيوان بري. ثم نظر إلى الأوراق الموضوعة على الطاولة، وقطَّب حاجبيه في محاولة منه لفهم ما بها. بدا الأمر وكأن دهرًا قد انقضى منذ كان جالسًا هناك يكتب، ولم يعد يسمع شيئًا الآن سوى كلمة «أجبني!» ترن في أذنيه. أفزعته طرقة أخرى على الباب فقفز نحوه وفتحه بلهفة على أمل أن تكون قد عادت. ولكنه وجد حارس بوابة شركة «مونكتون آند هوب» الطويل الأشيب بزيه الرسمي والوسام المتدلي من صدره، يقف على عتبة الباب، وقد أصابه الذهول على الأرجح من انفتاح الباب المفاجئ، ولكن لم تختلج عضلة واحدة في وجهه دليلًا على دهشته. ألقى الحارس التحية في جدية.
«خطاب من الشركة يا سيدي.»
«آه! تفضَّل بالدخول. هل يطلبون ردًّا؟»
أجابه الحارس الذي كان يقف مستقيمًا وثابتًا كما لو كان في عرض عسكري.
فتح مارستن الظرف وأعادته قراءة الخطاب إلى وعيه من جديد. كان خطابًا موجزًا يفيد بأن شركة «مونكتون آند هوب» قد وافقت على شروط العمال. وسيكون السيد سارتويل منتظرًا في مكتبه حتى العاشرة للقاء السيد مارستن، للترتيب لفتح المصنع في الصباح.
كتب مارستن ردًّا رسميًّا في عجالة، قال فيه إنه سيحضر إلى مكتب السيد سارتويل خلال نصف ساعة. أعطى مارستن هذه الرسالة إلى الحارس، الذي حيَّاه مرةً أخرى وانصرف، وفتح مارستن الباب المؤدي إلى المنصة، والخطاب لا يزال في يده، وخرج منه أمام جميع الحاضرين في الاجتماع. قوبل ظهوره بصيحات استهجان، وصياح حشد غاضب لو سمعه المرء مرةً واحدة، فلن يأمل في سماعه مرةً أخرى أبدًا.
صاح جيبونز، الذي كان واضحًا أن ظهور مارستن قد قاطع الخطاب الذي يلقيه: «ها هو ذا. ها هو ذا، ولينكر إذا تمكن من ذلك!»
صاح مارستن: «أُنكر ماذا؟»
«تُنكر أنك كنت على اتصال بالعدو! تُنكر أن ابنة سارتويل قد غادرت مكتبك الآن!»
«هذا أمر لا شأن لكم به، ولا شأن له بالإضراب. إنجلترا بلد حر، ومن حق المرء أن يتحدَّث إلى أي أحد يشاء.»
فصاح جيبونز بأعلى صوته قائلًا: «لا يمكنه إنكار ذلك! فثمة الكثير من الشهود هذه المرة. إنها لم تكن تعلم أن ثمة اجتماعًا سيُعقد. أين ذلك الرجل الذي صاح من مؤخرة القاعة قائلًا إني أكذب؟ قلت لكم إني سأُثبت لكم الأمر بواسطة مارستن نفسه.»
صاح مارستن ملوحًا بالخطاب المُرسل من الشركة الذي يحمله في يده، لجذب انتباه الحضور: «دعوني أقرأ عليكم هذا الخطاب.» رأى مارستن أن الحشد في تلك الحالة الخطرة من الإثارة التي لا تتطلَّب إلا كلمة واحدة غير محسوبة ليندلع شغب. بدا جليًّا أن أصدقاء مارستن قد شعروا بالخجل عند دخوله، فانزوَوا في مؤخرة القاعة في صمت وحرج. أمَّا جماعة جيبونز فاحتشدوا في مقدمة القاعة ملوِّحين بأيديهم في وحشية، ويصيحون مهدِّدين ومتوعدين. وكانوا يصيحون به بصوتٍ عالٍ لكي ينزل من على المنصة. كما رأى أن اللجنة القديمة وآخرين من أتباع جيبونز كانوا يقفون على المنصة من خلفه، ووقف الكثير منهم وأعينهم مصوَّبة نحو جيبونز، وذكَّره الموقف بما حدث عندما رُكل برونت من على المنصة وأُلقي خارج القاعة.
فكرَّر ما قاله سابقًا: «دعوني أقرأ عليكم هذا الخطاب.»
قال جيبونز: «ليس الآن، ليس الآن. ستحصل على فرصتك فيما بعد. فالكلمة معي الآن.»
قال مارستن متمسكًا بموقفه: «أنا أمين النقابة، وأطلب منكم سماعي. وبعد ذلك يمكنكم أن تفعلوا ما يحلو لكم.»
في هذه اللحظة، نهض رئيس اللجنة وصاح بصوتٍ عالٍ قائلًا:
«النظام، التزموا النظام! السيد جيبونز معه الكلمة. وأُضيف لمعلومات السيد مارستن، بما أنه اختار التغيب عن الاجتماع رغم علمه بانعقاده، فقد انتُخب السيد جيبونز أمينًا للنقابة بالإجماع، وأطلب من السيد مارستن أن يغادر المنصة حتى يُستدعى للحديث.»
صاح مارستن محاولًا أن يرفع صوته فوق الجلبة التي يُحدثها الحضور: «معي خطاب من الشركة!»
انطلقت صيحات استهجان صاخبة في صوتٍ واحدٍ: «أطع الرئيس، أطع الرئيس!» «انزل!» ثم هم أحد الرجال الواقفين خلف مارستن بدفعه وهو يصيح: «أطع الرئيس!» وكانت هذه هي الإشارة لهجوم شامل، وحين أمسك مارستن بتلابيب مهاجمِه، سقطا معًا على أرضية القاعة. وفي الحال تحوَّل الجمع إلى حشد خارج عن السيطرة، وظل جيبونز يصيح بأعلى صوته: «لا عنف أيها الرجال!» وظل يلوِّح بذراعيه إلى الحشد الهائج الغاضب بلا طائل. فقد كانت مناشداته بلا جدوى مثل أوامر كانوت للبحر. طرق رئيس اللجنة بمطرقته على الطاولة دون أن يسمعه أحد. وبعد قليل حرَّر مارستن نفسه من بين أيدي الحشد ووقف على قدميه. وارتفعت يده اليمنى، التي كانت لا تزال قابضةً على الخطاب المهترئ، فوق رءوس المتعاركين للحظة، ثم اختفت فجأة، وفي النهاية هوى مارستن تحت أقدام القطيع الهائج.
اقتحم رجال الشرطة القاعة بسرعة وفاعلية. ففتح الباب الجانبي وسُحب مارستن عبره إلى الخارج، ومعه العديد من مثيري الشغب المتشاجرين الممزَّقي الملابس الذين ينزفون الدماء، والذين قُبض عليهم باسم القانون. وبالتدريج أصبح صوت الطرق على الطاولة مسموعًا، وكذلك صوت جيبونز الأجش كان في هذه اللحظة قد بُح من الدعوة إلى السلام دون جدوى.
بدأ جيبونز حديثه قائلًا: «يُؤسفني أن يقع اضطراب هنا الليلة ولو شكلًا من أشكاله. سيُستغل هذا الحدث ضدنا من قبل أعدائنا، ولكن كما تعلمون جميعكم، حدث كل هذا بسبب عدم إطاعة رئيس اللجنة. لا أريد أن أقول شيئًا يسيء إلى رجل ليس متواجدًا بيننا، وأنا واثق من أننا جميعًا نأمل في أنه لم يصب بأذًى (هتافات)، ولكن لو كان أمين نقابتنا السابق تقبَّل إرادة المجتمعين، وامتنع عن مد يده على الرجل الذي لم يفعل له شيئًا سوى مطالبته بأن يطيع رئيس اللجنة، لما وقع هذا الحدث المؤسف. بعد الإضراب السابق، عندما فقدتم ثقتكم بي، انصعت لإرادة الأغلبية دون نقاش، وكما تعلمون جميعًا، لقد بذلت أقصى ما في وسعي منذ ذلك الحين لأساعد خليفتي، والآن بعدما دُعيت مرةً أخرى لشغل هذا المنصب، على غير رغبة مني في نيله، لا يسعني إلا الامتثال للأمر الموجه إليَّ. أعتقد أنكم ستسعدون بإنهاء هذا الإضراب الآن. فعلى الرغم من أني لم أقل ذلك من قبل، فقد كنت دائمًا أعتبر الإضراب الحالي غير ضروري ومجحفًا. لقد رفعت الشركة، منذ فترة وجيزة، أجورنا طواعية؛ ولهذا السبب لم يحظَ هذا النزاع بتعاطف الرأي العام على الإطلاق، الذي من دونه لا يمكن الفوز بأي نزاع كبير. لا أجرؤ حاليًّا على تقديم أي اقتراحات، ولكن إذا كان لدى أيٍّ منكم اقتراح، فسأفسح له المجال لتقديمه.»
كان جيبونز يُحب نبرة صوته، وبدا أنه يُسعد أغلب الحضور؛ إذ هلَّلوا بصوتٍ عالٍ لكل ما أبداه من مشاعر نبيلة.
نهض أحد العمال واقفًا فجأة، وقال إنه كان واضحًا للغاية مؤخرًا أن مارستن قد خاض هذا الإضراب ليعزِّز تقدُّمه الشخصي، مستغلًّا العمال، الذين وثقوا به، كأدواتٍ لتحقيق غايته. لم يكن جيبونز قد تحدث عن هذه النقطة، ولكن كان الجميع ينتابهم شعور بالضيق والألم إزاء هذا الأمر، وعلى الرغم من إعجابه بطيبة قلب جيبونز لرفضه الإساءة لخصم مهزوم، فلا بد أن تُثار المسألة. واقترح تكليف جيبونز بلقاء سارتويل في أقرب وقتٍ ممكن وأن يرتِّب معه شروط العودة إلى العمل، والحصول، إن أمكن، على وعدٍ بطرد «مفسدي الإضراب» من العمل. فسيكون ثمة شعورٌ عامٌّ بالرضا إذا ما أمكن الحصول على هذا الوعد.
طُرح هذا الاقتراح للتصويت وتمَّت الموافقة عليه بالإجماع. نهض جيبونز واقفًا مرةً أخرى.
وقال: «عاد رسول أرسلته منذ بضع لحظاتٍ يقول إن سارتويل لا يزال في مكتبه. إنه يسهر في مكتبه حتى وقتٍ متأخرٍ منذ فترة؛ لذا خطر لي أنه ربما يكون في مكتبه الآن. سأذهب إليه على الفور وأتباحث الأمر معه، وسأعود في أقرب وقتٍ ممكنٍ وأُخبركم بنتيجة الاجتماع. وفي الأثناء، يمكنكم أن تتعاملوا مع أي أمورٍ أخرى قد تُعرض في الاجتماع.»
كان سارتويل جالسًا بمفرده في مكتبه يترقَّب حضور مارستن، وفوجئ بطبيعة الحال عندما دخل جيبونز بدلًا منه، ولكنه حيَّا الوافد الجديد من دون أن يُظهر له أنه لم يكن يتوقَّع زيارته.
دخل جيبونز في صلب الموضوع مباشرة، وبدأ حديثه قائلًا: «سيد سارتويل، لقد عُدت لشغل منصب أمين النقابة. إذا ما أنهيت الإضراب، فهل تعيِّنني مساعدًا لمدير المصنع؟»
ضيَّق سارتويل عينَيه، وظل ينظر باهتمامٍ إلى زائره عبر الفتحتَين الضيقتَين للحظاتٍ دون أن يجيب.
فتململ جيبونز في قلق.
ثم أضاف أمين النقابة الجديد وهو يضحك في انزعاج: «جميعنا نلعب لمصلحتنا الخاصة كما تعلم، وأعلم أنه عند التعامل معك من الأفضل أن يُفصح المرء عمَّا يعنيه مباشرة.»
قال سارتويل ببطء: «جميعنا نلعب لمصلحتنا الخاصة … نعم. هل يمكنك إنهاء الإضراب؟»
«أعتقد ذلك.»
«تعتقد ذلك فحسب. حسنًا يا سيد جيبونز، عُد عندما تكون واثقًا، وحينها سأتحدث إليك.»
«أنا واثق، إذا كان ذلك ضروريًّا.»
«آه، هذا أمر مختلف. هل اتُّخذ قرار إذن بإنهاء الإضراب بعدما نصَّبك الاجتماع أمينًا للنقابة؟»
«ليس هذا ما حدث تحديدًا يا سيد سارتويل. لقد كلفوني بالتفاوض معك. والآن، إذا وعدتني بالحصول على منصب مساعد المدير، فسأُعيد العمال إلى المصنع غدًا.»
«كان الإضراب سينتهي قريبًا دون قطع أي وعود على نفسي. لقد أرسلت خطابًا إلى السيد مارستن الليلة بهذا الشأن. هل تعني أنه لم يقرأ الخطاب على الاجتماع؟»
«لم يفعل. حاول أن يقرأه، ولكن العمال ضاقوا ذرعًا بمارستن، ورفضوا الاستماع له.»
«حسنًا إذن. هل سيكون عليَّ أن أتعامل معك أنت فقط؟ هل خرج مارستن من الموضوع؟»
«هذا هو الوضع الآن.»
«حسنًا، معذرة، لا يمكنني أن أعرض عليك منصب مساعد المدير، ولكني آمل بالطبع أن ينتهي الإضراب في أسرع وقت ممكن.»
«قال مارستن إنك عرضته عليه؛ هل هذا صحيح؟»
«أعتقد أن مارستن لا يقول سوى الحقيقة عمومًا. لنتوقف عن المناورة يا جيبونز. إما أن العمال قرَّروا الليلة العودة إلى العمل، وإما أنهم لم يقرِّروا ذلك. إذا كانوا سيعودون إلى العمل، فسيعودون سواء اتفقت معك أم لا. وإذا لم يقرِّروا ذلك، فلا أفهم كيف يمكنك أن تقول شيئًا أكثر من أنك ستبذل قصارى جهدك لتعيدهم. والآن، كل ما سأعدك به هو الآتي: إذا ما أعدت العمال إلى المصنع غدًا، فسأحرص على تحسين أوضاعك في المصنع.»
«هذه قسوة منك يا سيد سارتويل. لقد تسبَّب مارستن في الإضراب، وعرضتَ عليه منصب مساعد المدير. وأنا سأُنهي الإضراب، دون أن أظفر منك بوعودٍ محددة.»
«لقد عرضت المنصب على مارستن قبل أن يبدأ الإضراب. وما إن بدأت المعركة، حتى أصبح من الواجب القتال إلى النهاية. وها قد حانَت النهاية، وأعتقد أنه من الأفضل أن تقبل الشروط الوحيدة التي يمكنني تقديمها لك. ألَا تدرك أنني لو كنت رجلًا لا يحترم كلمته، لأمكنني بسهولة أن أعدك بأي شيء، ثم أطردك من العمل في غضون شهر؟»
«حسنًا، سأثق في كرمك يا سيد سارتويل. والآن، بمَ ستعد العمال؟»
«بمَ يطالبون؟»
«يريدون منك أن تطرد كل مفسدي الإضراب الذين عيَّنتهم.»
«أخشى أني لا يمكنني أن أعد بذلك أيضًا يا جيبونز. ولكني سأُسرح كل من يرغب في ذلك ويمكنه أن يعثر على وظيفة أخرى، ولكن لن يعاني رجالك بسبب الموظفين الجدد. فلديَّ من العمل ما يكفي الجميع، وسيكون ثمة الكثير من العمل لتعويض ما ضاع من وقت.»
«أنت في الواقع لا تعرض علينا أي شيء يا سيد سارتويل.»
«أوه، على العكس؛ فأنا أقدِّم تنازلات أكبر ممَّا تتخيل. لقد قلتُ في نوبة غضب، عندما أضرب العمال، إنني لن أسمح لعامل منتمٍ إلى النقابة بأن يضع قدمًا في أرض المصنع أبدًا؛ ولكن بما أنهم اختاروا الآن أمينًا معتدلًا وعاقلًا، فأنا على استعداد لقَبول عودتهم، بل والسماح لهم بالبقاء أعضاءً في النقابة. ألَا يُعد ذلك تنازلًا؟ أعتقد أنني بلغت أعلى درجات السعي للتصالح في ظل الظروف الراهنة.»
«لا يزال الاجتماع منعقدًا يا سيد سارتويل. هل تمانع في أن تأتي معي لتُخبر العمال بأنك ستضمن وظيفةً لكل واحد منهم، وأنك لن تتدخَّل فيما يتعلق بعضويتهم في النقابة العمالية؟»
«لا أمانع الذهاب معك، ولكن ربما يمكنك تحقيق أقصى استفادة من التنازلات أكثر مني؛ فأنت أكثر فصاحةً وتجيد الارتجال. لن أفعل شيئًا سوى تأييد ما تقول، وإخبار العمال بأن أبواب المصنع ستكون مفتوحةً أمامهم غدًا. خلال ذلك، انتظرني عند البوابة. فلديَّ بضعة أوامر يجب أن أُصدرها لحارس البوابة.»
حضر الرجل في حلته الرسمية تلبيةً لاستدعاء سارتويل له، ووقف في مكانه كالصنم ليتلقَّى الأوامر. أغلق مدير المصنع الباب.
وقال بصوت خفيض: «أخشى أنك لن تحظى بما يكفي من النوم الليلة أيها الحارس، ولكننا سنعوضك عن ذلك بطريقة أخرى، وعندما يعود العمال إلى المصنع غدًا، يمكنك أن تنام الأسبوع القادم بأكمله إذا أردت. بمجرد أن نخرج أنا وجيبونز وتغلق المكتب، أريدك أن تبحث عن مارستن. ستجده في غرفته على الأرجح. لا أعلم أين يسكن، ولكن سيكون عليك أن تعرف طريق مسكنه في هدوء تام، هل تفهم. واطلب منه على لساني أن يعيدَ لك الخطاب الذي حملتَه إليه هذا المساء. وإذا رفض، فاطلب منه ألَّا يُطلع عليه أحدًا حتى يلتقيني في الصباح.»
ضمَّ الحارس كعبَيه معًا بقوة، وانطلق من فوره في رحلة بحثه عن مارستن ولكن دون طائل؛ إذ حُمل مارستن فاقدًا للوعي في سيارة إسعافٍ إلى مستشفى القديسين الشهداء، ولا تزال قبضته مضمومةً بقوةٍ على ما تبقَّى من الخطاب.