الفصل السابع
في أي بلد آخر غير إنجلترا، قد يُعتقد أن تسمية زقاق كريه الرائحة باسم لايت ستريت (شارع النور) أُطلقت عليه من قِبَل أحد الساخرين. كان المكان يُسمى «روز جاردن كورت» (ساحة حديقة الزهور). ولأن ثمَّة سببًا لكل شيءٍ تقريبًا في هذا العالم، فربما كان سبب التسمية أنه كان هناك في وقتٍ ما حديقة في هذا المكان، وربما كانت الزهور تتفتح فيها. كان مدخل الساحة عبارةً عن ممر مقوَّس كُتب اسمها أعلاه من جانب زقاق لايت ستريت. وعلى يمين هذا الممر وقف حانوت «روز آند كراون» والذي كان معروفًا محليًّا باسم «الحانة»، وكان باب قسم الخمور المعبأة يؤدي إلى الممر، الأمر الذي كان مناسبًا تمامًا لسكان الساحة. وعلى يسار الممر المقوس، كان ثمَّة متجر للملابس المستعملة، وكانت البضائع، التي كانت مستعملةً حد الاهتراء، تتدلى من حبال بالية حول بابه.
وقف عمود إنارة على حافة الرصيف في مقابل مدخل الساحة، ملقيًا ضوءَه على أرضية الممر المقوس، وكانت إنارته الضعيفة إلى حدٍّ ما تدعم بضوء شعلةٍ غازيةٍ فوق باب قسم الدورق والزجاجة. وعند الطرف الآخر المظلم من روز جاردن كورت، وقف عمود إنارة آخر. كانت الساحة مرصوفةً على نحو غير مستوٍ بكتل كبيرة من الحجارة، وكانت موحلةً دائمًا بسبب التدفق الزائد للماء من صنبور كان يمد السكان بالماء.
كانت الساحة محاطة بمبانٍ من خمسة طوابق، وفي هذه الهوة المستطيلة التي كوَّنتها هذه البنايات المتداعية، كان الهواء راكدًا، وشديد الرطوبة، وثقيلًا، ومحملًا بالكثير من الروائح. ولم تكن الريح التي تهب على لندن من الجنوب، أو الشمال، أو الغرب، قادرةً على تحريك هواء ساحة روز جاردن السام. وكانت الريح القادمة من تلال سري تُصَفِّر بسعادة فوق أسطح المباني كما لو أنها تصيح في هواء الساحة قائلة: «هيا اخرج، هيا اخرج وأعطِ الناس فرصةً ليتنفسوا»، ولكنها لم تكن تتلقى أي إجابة من الساحة؛ فالهواء في داخلها صامت وكئيب، كما لو أنه اكتسب طابعه من سكان المكان.
في بعض الأحيان، في أوائل فصل الربيع، كانت الريح الشرقية المثابرة تزأر بصخب عبر النفق، وتأخذ الهواء الكريه الرائحة على حين غرة، وتُلقي به رأسيًّا إلى الأعلى فوق أسطح المباني، لتملأ الساحة بزوبعة قارصة، وتُبعثر قصاصات الورق والأسمال رافعةً إياها نحو السماء، إلا أن سكان الساحة لم يكن يعجبهم ذلك. فكانوا يغلقون النوافذ، ويرتجفون، ويتمنَّون لو توقفت الريح عن الهبوب. وفي اليوم التالي، كان الهواء يهدأ ويصمت في الساحة، ويلتقط روائحه مجددًا، فيشعر الجميع بأن الأمور قد عادت لطبيعتها.
كانت الساحة ملكيةً تُدر أرباحًا طائلة. ولم يكن أيٌّ من سكانها يعلم مَن هو مالك المباني أو الأرض. وكان الرجل الذي يتولى جمع إيجارات الغرف يجمعها مقدمًا قبل أن يحين موعد سدادها، وقال ذات مرة لمالك حانة «روز آند كراون» إن الساحة مربحة باعتبارها استثمارًا أكثر ممَّا لو كانت موجودةً في منطقة جروسفينور سكوير. وكان المتعارف عليه بين الناس أن المالك أوكل إدارة هذه الملكية لإحدى الشركات، وأن جامع الإيجارات يمثِّل هذه الشركة. لم يكن من الممكن أن ينتظر أحد من الشركة أن تُنفق أي أموال على الإصلاحات، ولم يكن التواصل مع المالك ممكنًا، وفضلًا عن كل ما سبق، كان ثمَّة طلبٌ متواصلٌ على الغرف، فإن لم تُعجب التجهيزات أحد المستأجرين، كان يمكنه أن يرحل؛ فثمَّة عشرات آخرون جاهزون ليحلوا محله.
لم يكن سكان هذا الجُحر البشري مجرمين. فكان أغلبهم يؤدون أعمالًا مفيدة لكسب قوت يومهم. بل إن المجرمين، حال إدانتهم، يوضعون في أماكن صحية أكثر من ذلك بكثير، مع ضمان الحصول على ما يكفيهم من طعام، على النقيض من سكان الساحة. وإذا كان حال أي سجن في المملكة بنفس سوء أحوال ساحة روز جاردن، لانخلع قلب الأمة العطوف من فرط الاستياء، ولشعر بعضٌ من المسئولين الوضيعين بوطأة الاحتقار الشعبي الصادق. لم تكن الساحة إلا مثالًا واضحًا على مساكن الطبقة العاملة البريطانية، في أكثر مدن العالم رشادًا، واتساعًا، وفخرًا، وثراءً، في نهاية القرن التاسع عشر، بعد ألف عام، أو نحو ذلك، من بداية التقدم. كانت منازل بعض العمال أفضل حالًا، ولكن بعضها أيضًا كان أسوأ حالًا؛ فعلينا ألَّا ننسى أن «مساكن الحرفيين والعمال المُحسَّنة» موجودة بيننا. كان سكان «المساكن المُحسَّنة» مُكبَّلين بقيود شتى تحدُّ من حريتهم، أما الساحة فكانت تنعم بالحرية؛ حرية الخروج والدخول كما يحلو لك، حرية الشرب حتى الثُّمالة، حرية التسكع أو العمل، حرية التضور جوعًا.
كانت الميول الشخصية لسكان الساحة تشبه كثيرًا ميول «مرتادي» نوادي ويست إند الفاخرة. فكانوا يهوَون الشرب والمقامرة. كانت «الحانة» عند المدخل، وهناك، أو عند الحلاق، كان يمكنهم المراهنة بالقليل من المال على حصان لا يعلمون عنه شيئًا هناك. من مميزات البلد الحر أن المرء يمكنه أن يشرب حتى الثمالة من البيرة أو الشمبانيا على حدٍّ سواء، وبتكلفة أقل بكثير. وتكون النتائج في كلتا الحالتَين واحدةً على نحوٍ يثير التعجُّب. وثمة اعتقاد عام بأن رجل الشرطة في بيكاديللي قد يرفق بسكيرٍ يرتدي ملابس سهرة أكثر ممَّا قد يرفق زميله في طريق ووترلو برجل يرتدي معطفًا من الفرو.
لم يحدث الكثير من المشكلات بين ساحة روز جاردن والشرطة، على الرغم من أن سكان الساحة، ولا سيَّما النساء، يحتقرون الشرطة إلى حدٍّ ما. كان كل ما تطلبه الشرطة من سكير من سكان الساحة، إذا ما كان يرغب في العراك، أن يتعارك داخل الساحة، وليس في طريق عام مزدحم مثل لايت ستريت. وفي داخل الساحة، كانت زوجات المتعاركين يتدخلن عادةً للفصل بينهم قبل أن تصل المعركة إلى نهايتها، وفي بعض الأحيان، كان يقف شرطي طويل القامة يراقب الفصل بين الخصمَين في معركتهما المؤقتة، دون أن يقول شيئًا إلا إذا قاوم أحد المتعاركَين زوجته التي تدفعه ناحية عتبة باب منزله صارخة، إذ يقول الشرطي حينها: «كفى أيها الرجل، لا تفعل ذلك»، وحينئذٍ، وعلى نحو يثير الاستغراب، تمتعض المرأة من تدخُّل الضابط لحمايتها، ولكن عندما يشرع زوجها في سب أحد رجال الشرطة وإهانته، سرعان ما تطلب من زوجها أن «يخرس فمه اﻟ… هذا»، مستخدمةً صفةً دموية ومعبرة في الوقت نفسه. وعادةً ما يمسك رجل شرطة قوي البنيان بأحد سكان الساحة من مؤخرة عنقه، عندما يراه يسير مترنحًا عبر شارع لايت ستريت، مالئًا الأجواء بصخب غنائه أو صياحه في تحدٍّ سافر؛ ومن ثم يجرجره بسرعة عبر الشارع، وتتأرجح ساقا الرجل دون أن يتمكن من التحكم فيهما، كما لو كان إنسانًا آليًّا مصنوعًا من الشمع، حتى يصلا إلى مدخل الساحة، وبعد أن يتلقى الدفعة المطلوبة من الضابط، يندفع الرجل عبر الممر المقوس، وبمجرد أن يصبح في الداخل، من المفترض أن الضابط قد أتم مهمته: على أي حال، بمجرد أن يدخل إلى الساحة، لن يمكنه الخروج إلا من الطريق نفسه الذي دخل منه، وقلة فقط هم مَن كانوا يثملون، لدرجة نسيان أن ثمَّة رجل شرطة يتجول في الحي بصورة دائمة. كان الدفع عبر الممر المقوس هو طريقة شارع لايت العطوفة المشابهة لما يحدث في شارع بيكاديللي، عندما يوضع رجل برفقٍ في عربة أجرة ويخبَر السائق بوجهته. قلةٌ قليلة فقط هم من كانوا يُلقى القبض عليهم في منطقة لايت ستريت، ولا بد أن يكون ما فعلوه شائنًا لدرجةٍ جعلتهم يستحقُّون استخدام العنف ضدهم كملاذٍ أخير.
عبر لايت ستريت، كان مارستن يسير بخطوات رشيقة، وواسعة، ومفعمة بحيوية شاب بصحة جيدة، يأخذ هذه الحياة على محمل الجد، ويؤمن بأن ثمَّة ما يمكن تحقيقه فيها. توقَّف مارستن برهةً أمام حانة «روز آند كراون» وأومأ بتحيةٍ لبعض الرجال الذين يتسكَّعون هناك.
سألهم قائلًا: «هل ستذهبون إلى الاجتماع الليلة يا رجال؟»
هز أحدهم رأسه بالنفي، وهزَّ آخر كتفَيه في لا مبالاة؛ وبدا جليًّا في الحال أنه لا أحد منهم لديه أدنى اهتمامٍ بالاجتماع ما دامَت «الحانة» لا تزال مفتوحة.
قال مارستن: «إنه اجتماع مهم. ستقدم اللجنة تقريرها الليلة، ومن المرجَّح أن يتم التصويت على القيام بالإضراب أو عدم القيام به. هل أنتم واثقون من أنكم لا تحبذون القيام بإضراب؟ احضروا الاجتماع إذن وصوتوا ضده.»
قال أحدهم وهو يُخرج غليونه من فمه: «لست واثقًا من ذلك. إن الأجر الذي سنتقاضاه خلال الإضراب جيد مثل أجر صاحب العمل، ولكننا سنؤدي عملًا أقل مقابله. فأنا بحاجة إلى عطلة قصيرة.»
ردَّ مارستن قائلًا: «ربما كان أجر الإضراب جيدًا مثل أجر صاحب العمل ما دام مستمرًّا، ولكنه لن يستمر.»
فأجابه الرجل قائلًا: «عندما ينتهي الإضراب سنعود إلى العمل.» وضحك الرجال الآخرون.
قال مارستن: «بعضكم لن يعود إلى العمل. هكذا هو الحال دائمًا بعد انتهاء أي إضراب. لطالما كان من الأفضل الحفاظ على وظيفة جيدة ما دامت متوافرة لنا.»
كرَّر المتحدث باسم الحشد المتجمع في «الحانة» ما قاله سابقًا في لا مبالاة: «حسنًا، أنا بحاجةٍ إلى عطلة قصيرة.»
صاح مارستن مستاءً: «يا إلهي! إذا لم تهتموا بأحوالكم أكثر مما تفعلون الآن، فكيف تتوقعون أن تتحسن؟»
أجابه الرجل الآخر بمرح: «حسنًا، لقد فكرت، عندما رأيتك قادمًا نحونا، أنه من الأفضل أن تدعونا لشرب البيرة معك.»
قال الشاب باقتضاب: «لقد أسكرتك البيرة بالفعل»، ثم استدار واختفى في ظلام الساحة.
راح الجمع يدخِّنون في صمت بضع دقائق بعدما غادرهم.
ثم قال أحدهم أخيرًا مشيرًا بغليونه في الاتجاه الذي غادر فيه مارستن: «إنه شاب مغرور.»
وعلق آخر ساخرًا: «أوه، إنه يعرف أكثر مما نعرف.»
ثم حلَّ صمت أطول من سابقه، قبل أن يتحدث المتحدث باسم المجموعة، الذي كان يمعن التفكير في المسألة، قائلًا:
«ما رأيكم أن ندخل إلى الحانة ونشرب المزيد من البيرة؟ بعد ذلك، نذهب إلى الاجتماع ونصوت لصالح الإضراب. ونلقنه درسًا. تعجبني وقاحته حقًّا. لقد تحدث عن السُّكر، سنريه إذن من السكران.»
وافق الجميع على هذا الاقتراح باعتبار أنه يوضِّح موقفهم. ومن المؤسف أن مارستن لم يعلم نتيجة حواره القصير مع رفاقه من العمال.
كان مارستن شابًّا غضًّا قليل الخبرة وأمامه الكثير ليتعلمه. فلم يكن يعلم أن الرغبة في تحسين المرء أحواله ليست رغبةً عامة لدى الجميع، وحتى وإن كانت ثمَّة بوادر رغبة في ذلك، لا يحب الناس أن يُكرهوا على تحسين أحوالهم. فالكياسة، كما أخبرته السيدة هوب، تحقِّق أكثر ممَّا تحقِّقه النوايا الحسنة. فبعض البيرة وتربيتة ودودة على الكتف كان من شأنهما أن يضمنا له عدة أصوات ضد الإضراب. والخطأ الذي ارتكبه بافتراض أن الإنسان العادي يُحركه العقل والمنطق لم يُسدِ له شيئًا سوى أن قوَّى شوكة «ذلك الأحمق جيبونز».
في غضون ذلك، عبر الشاب من أسفل الممر المقوَّس وسار عبر الساحة، حتى وصل إلى مدخل المنزل رقم ثلاثة. كانت الباحة وأزواج الدرج الخمسة القذرة أقل ارتيادًا قليلًا من بقية منازل الساحة، التي كانت بدورها أقل ارتيادًا قليلًا من منازل لايت ستريت؛ نظرًا لقلة الأقدام التي كانت تخطو عليها. صعد مارستن الدرجات المؤدية إلى الطابق الأول، وتوقف عند أحد الأبواب عند بسطة السلم. ومن خلف الباب، تصاعد صوت نغمات دندنة صادرة من أرغن مزماري، فأحجم مارستن عن طرق الباب بينما كان يستمع إلى ذلك الصوت. ثم ظهرت امرأة رثة المظهر تهبط الدرج من الطابق الثاني حاملةً دورق ماء في يدها. توقفت المرأة عندما رأت غريبًا يقف في الطابق الأول، وراحت تنصت إلى صوت الموسيقى بدورها. لم يتمكن اللحن الحزين الذي كان يُعزف من تهدئة الثورة التي تعتمل في صدر المرأة، التي انفجرت ثائرةً ضد قاطني الغرفة.
صاحَت المرأة قائلة: «أوه، نعم. إن أمثال هؤلاء يستمتعون بوقتهم دائمًا. أرغن مزماري، حقًّا. فليحفظنا الرب! نحن لا نرقى لمستوى هؤلاء. أرغن مزماري! هنا في ساحة جاردن! لا خير يأتي من مثل هذا البذخ. ماذا يفعلون، أريد أن أعرف؟ هراء!»
أشاحت المرأة بيدها تعبيرًا عن احتقارها لما يحدث، وهبطت الدرج حاملةً الدورق. كان زوجها يُنفق فائض ماله في «الحانة»، مثلما يفعل الرجال، وليس على توافه مثل الآلات الموسيقية المستعملة. لم تكن تطيق البذخ، ومعها كل الحق في ذلك.
طرق مارستن الباب عندما توقف العزف، وفتح جو برونت الباب بنفسه.
قال بِود: «ادخل يا بني»، ودخل مارستن.
نهضت فتاة طويلة القامة، ربما كانت في الرابعة عشرة، أو السادسة عشرة، أو الثامنة عشرة، من فوق مقعدٍ مواجه للأرغن المزماري. كانت الفتاة نحيلةً وشاحبة ذات عينَين واسعتَين مثيرتَين للشفقة أضافتا لمحةً من الجمال الحزين على قَسَمات وجهها. قال مارستن وهو يصافحها: «كيف حالكِ يا جيسي؟ هل تحسَّن السعال بأي حال؟»
أجابته الفتاة: «أعتقد أن الحال كما هو لا يتغير أبدًا.»
قال والدها بخشونة: «من الصعب أن تتحسن حالتها في هذا الجحر.»
كان برونت يتحدث بلكنة سكان يوركشاير. وكانت قامته وبنيته تدلان على المقاطعة التي ينتمي إليها، وكان «من الصعب تصديق أن هذه الفتاة النحيلة ابنته. وعلى الرغم من أن الكثير من جيران جو برونت كانوا ناقمين على تعاليه عليهم، واعتبار نفسه وابنته النحيلة العديمة الفائدة أفضل منهم، كانوا حريصين تمامًا ألَّا يعبروا عن آرائهم هذه في وجوده؛ فقد كان رجلًا صارمًا ومستبدًّا، صموتًا ومتجهمًا، تسبق قبضته لسانه، ولم تكن متأهبةً فحسب، بل فعالة أيضًا. كان كل من في الساحة يخشَونه، وكانوا يتعاملون معه بمبدأ دع الفتنة نائمة. كان مع السيدة التي تحمل الدورق كل الحق في سخطها على جو برونت. فقد كانت تجر «زوجها» للمنزل بصعوبة ذات ليلة من «الحانة»، على الرغم من محاولاته الكثيرة للفرار. ونجحت بالفعل في دفعه وجره وصولًا إلى بسطة الطابق الأول، عندئذٍ أدرك فجأةً قسوتها التي بلا داعٍ حين جرجرته من الحانة العامة بإضاءتها الباهرة، وما يملؤها من مرحٍ وخمرٍ وصحبة جيدة، إلى الغرفة الخلفية الكئيبة الكائنة في الطابق الثاني من المنزل التي لا تحوي أي صحبة سوى لسانها السليط، فأطبق قبضته وطرحها أرضًا، فاصطدمت مؤخرة رأسها بباب برونت أثناء سقوطها. وعندما فتح برونت باب غرفته، رأى الزوج يسير — أو ربما كان من الأدق أن نقول يترنح — فوق جسد زوجته المُسجى على الأرض. فأمسك جو بتلابيب الرجل الثمل، وأطاح به في الهواء كالريشة من فوق درابزين السلم. فتدحرج الرجل الذي عُومِلَ بقسوةٍ على السلم حتى خرج إلى الساحة، حيث رقد مكوَّمًا يتألم. ثم حمل برونت المرأة إلى غرفتها. لم تكن المرأة تعي ما حدث بالكامل، وشرعت من فورها تبدي لمنقذها رأيها فيه بكلمات لم تكن مترابطةً في البداية. قالت له إنها تريد أن تعرف مَن يظن نفسه ذلك الوحش الضخم، حتى يتدخل بين رجلٍ وامرأته. وإن زوجَها لو كان واعيًا لأذاقه الأمرَّين، ولكنه استأسد على رجلٍ أفرط في شرب الخمر. فهبط برونت الدرج وحمل الرجل «الفاقد الوعي»، الذي أفرط في شرب الخمر دون شك، إلى غرفته وتركه هناك مع زوجته.
صرخت الزوجة قائلة: «لقد قتلت الرجل الثمل وهو لم يؤذك يومًا.»
فقال برونت: «لم يحالفني الحظ بعد، إنه سكران ولا يمكنه أن يؤذي حشرة.»
وقد كان كذلك بالفعل. خرج جو من الغرفة وأغلق بابها خلفه، وتركهما ليُنهيا شجارهما إذا أرادا ذلك.
تعاطف سكان الساحة مع السيدة سكيمينس عندما قصت عليهم الواقعة. وكانت النساء أكثر سخطًا من الرجال. فكن يرين أنه من المشين أن يتدخل عملاق متوحش متجهم مثل برونت، في نقاشٍ بسيطٍ بين زوجَين يحدث في كل الأسر العادية المترابطة. وبقدر ما كن يكرهن الشرطة، بدا لهن أن استدعاءها قد بات ضروريًّا الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.
قالت سيدة ضخمة الجثة: «لو أنه حاول أن يكسر كل عظمة في جسد زوجي يا سيدة سكيمينس، لأمسكت به من شعره.»
قالت السيدة سكيمينس: «لا أعلم إن كنت سأتمكن من فعل ذلك يا سارة»، فلم تكن ترغب في الاستسلام لاتهامات النساء بأنها لم تبذل كل ما في وسعها، وفقًا لملابسات الواقعة، من أجل زوجها وهو بهذا العجز. «لقد تلقيت ضربات في الرأس، والوجه، والظهر، ثم اصطدم رأسي بالباب، وفقدت الرؤية في إحدى عينيَّ، وبعد كل هذا، كان زوجي يدوس عليَّ، لو كنت مكاني لما تبقَّى لديكِ نَفَس يمكنكِ من القبض على شعر أحد.»
تحسَّست السيدة سكيمينس برفقٍ الجزءَ من وجهها تحت عينها، الذي لا يزال مكدومًا ومتورمًا، وشعرت أنها قد عرضَت قضيتها جيدًا؛ ففي واقع الأمر، قُبل دفاعها باعتباره حُجةً دامغة زادت من قتامة فعل برونت الوحشي الذي لا مبرر له.
اندهش الرجال مما حدث بالطبع، ولكنهم لم يكونوا متشددين في إدانتهم لفعلة برونت مثلما فعلت الزوجات. فلم يكن سكيمينس يُكن في صدره أي ضغينة تجاه المعتدي، إلا أنه قال إنه لم يستطع استيعاب السبب الذي دفعه لأن يلقيه من فوق الدرج. وردًّا على التساؤلات المتعاطفة من رفاقه في حانة «روز آند كراون»، قال لهم إنه، على الرغم من أنه كان خائفًا، فقد ظل ثابتًا ولم ينسحب من المعركة.
واستطرد قائلًا بصوتٍ أقرب للأسف من الغضب: «فليرحمنا الرب! ماذا حلَّ بالعالم؟ إن سألتموني فسأجيب بأني على وَشْك أن أفقد الأمل. حين يتكالب برونت والشرطة على رجلٍ إذا ما رفع يده ليضرب امرأته، فهذا يعني أن الساحة لم تعُد مكانًا يصلح لرجلٍ سكيرٍ كادحٍ ليعيش فيه.»
ولكن لم يجرؤ أحد على الاعتراض على الرجل القادم من يوركشاير، وعلى رأسهم سكيمينس نفسه، بالرغم من أن الساحة باعتبارها مجتمعًا قد أصبحت تتجنَّبه أكثر من أي وقت مضى.
سأل مارستن الشاب بعدما حيَّا الأب وابنته: «هل ستحضر الاجتماع الليلة يا سيد برونت؟»
«لا، لن أحضر.»
«ولمَ لا؟»
«ولمَ أحضر؟»
«كما تعلم يا سيد برونت، ثمَّة أزمة على وشك الحدوث. ستقدم اللجنة تقريرها. لقد رفض السيد سارتويل لقاءهم، ومن المرجح أن هذا التصرف سيُغضِب جيبونز والآخرين. وسيتم التصويت على خوض الإضراب من عدمه، وأنا من المعارضين للإضراب؛ على الأقل ليس في الوقت الحالي.»
قال برونت: «وأنا مثلك تمامًا.»
«احضر الاجتماع إذن وأعلن رفضك للإضراب.»
«لا أجيد الحديث. تحدث أنت.»
«لن يستمعوا إليَّ، ولكنهم سينتبهون لما ستقوله أنت.»
«على الإطلاق يا بني. ولكن لا يهمني ذلك على الإطلاق، ولو مثقال ذرة.»
«ما الذي لا يُهمك؟ خوض الإضراب أو عدم خوضه؟»
«أنا لن أُضرب عن العمل. يمكنهم أن يفعلوا ما يحلو لهم.»
«ولكن، إذا أمرتنا النقابة بالإضراب، فسيكون علينا أن نفعل.»
«لا، لن أفعل.»
«بفرض أن الإضراب قد نجح في تحقيق أهدافه، وقد يحدث ذلك — فالنقابة العمالية قوية للغاية — ماذا ستفعل حينها؟»
«سألتزم بعملي، ولن أشغل بالي بأي شيء آخر.»
«ولكن لن تدعك النقابة وشأنك. إذا فشل الإضراب، فسيحمل جميع العمال ضغينةً ضدك، وإذا نجح، فستجبرك النقابة على ترك العمل في المصنع. فلا فائدة من ضرب رأسك بالحائط يا سيد برونت.»
قال برونت: «تحدث أنت؛ فقد حُبيت بفصاحة اللسان.»
«أنا صغير السن للغاية. لن يستمعوا إليَّ الآن. ولكن سيأتي يوم يستمعون فيه إليَّ، وكذلك السادة. وحينها سأكرس حياتي طواعيةً لقضية العمال.»
كان مارستن يتحدث بحماسة الشباب، واعتراه شعور ببعض الارتباك عندما أخرج محدثه غليونه من فمه وضحك.
«علامَ تضحك؟»
«أضحك عليك. يُسعدني أن أعرف أن ثمَّة شخصًا يؤمن بنا، ولكن كما قلت بنفسك، أنت لا تزال صغيرًا وستتعلم المزيد في المستقبل.»
«ألَا تؤمن بنفسك وأقرانك من العمال؟»
«لا أفعل. فأنا أعرفهم جيدًا أكثر من اللازم. بعرق جبينهم يجنون خبزهم. ربما لم أقُل المثل بدقيق عبارته، ولكن هذا هو المعنى المقصود. ولطالما كان الأمر كذلك في الماضي، والحاضر، وسيظل كذلك إلى الأبد. آمين.»
صاح الشاب وقد نهض من مقعده وظل يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا منفعلًا: «لست معترضًا على ذلك يا سيد برونت. ثق في ذلك. ولكني أريد أن أرى الجميع يعملون. ما أعترض عليه هو أن يجني المرء خبزه من عرق جبين رجل أجير، كما قال أحدهم. يا إلهي! انظر إلى أعدادنا. نحن نفوق أولئك المتبطلين عددًا بنسبة عشرة إلى واحد، بل مائة إلى واحد، في كل دول العالم. وكل ما نحتاج إليه هو قائد إيثاري.»
نظر له الرجل العجوز، وقد ارتسمَت على شفتَيه المزمومتَين ابتسامة ساخرة.
وقال: «انظر إلى عدد حبات الرمال على الشاطئ. هل يمكن لأي قائد أن يصنع منها حبلًا؟ الأعداد لا تُهم يا صديقي. اعتنِ بنفسك يا مارستن ولا تعبأ بالعمال، هذا هو قانون العالم. يمكنك أن ترفع نفسك لأعلى، ولكنك لن تتمكن من رفعهم جميعًا معك. لقد كسروا قلوب، بل ورءوس، كثيرين حاولوا أن يحسنوا من أحوالهم. ربما تعتقد أنك تواجه السادة ورأس المال فقط. لن يؤذيك السادة، بل الرجال الذين تقاتل من أجلهم هم مَن سيخذلونك. انتظر حتى يرتفع رأسك قيد أنملة فوق الحشد، وستهبط عليه عصا كل حقيرٍ منهم يرى أن له الحقَّ مثلك تمامًا في أن يكون قائدًا. ليس المال هو نقطة قوة السادة، بل قدرتهم على تمييز الرجل الجيد بمجرد رؤيته، ومساندته عندما يصبح في صفهم. فلا تغرنك الأعداد. ما نفعها؟ إن رجلًا واحدًا يتمتع بالإصرار ولا يحتاج إلى أن ينشغل بمَن سيسانده؛ إذ يدرك جيدًا أن رؤساءه سيدعمونه في السراء والضراء، يمكنه أن يهزم أي شرذمة من الدهماء. لمَ تتمكن فرقة صغيرة من الجنود أن تنهي أي أعمال شغب؟ لأنها تحت إمرة رجل واحد. عندما يقول لهم «اقفزوا»، يقفزون، وعندما يقول «أطلقوا النار»، يطلقونها. هذا هو سر نجاحهم.»
وضع برونت غليونه في فمه مرةً أخرى، وبدأ يدخِّن بعنف وعاد إلى صمته المعتاد. فلم يكن مارستن قد سمعه يطيل الحديث هكذا من قبل، وظل واقفًا في مكانه متأملًا ما قيل. وكان برونت هو من بادر بالحديث وكسر الصمت.
قال بخشونة: «اعزفي «اللحن الجنائزي» يا جيسي.»
ترددت الفتاة لحظة، وبدت غير راغبة في بدء العزف في وجود مارستن، وعلا وجنتَيها القليل من حمرة الاضطراب، ولكن نزعة الطاعة لديها كانت قويةً ومتأصلة؛ فلم يكن والدها رجلًا يمكن عصيانه. قرَّبت الفتاة مقعدها من الأرغن المزماري، وبدأت تعزف «اللحن الجنائزي» لشوبان، وعلى الرغم من سوء عزفها، فقد ظل بالإمكان تمييز اللحن.
بدا الهدوء يغمر برونت أثناء استماعه للحن الحزين. فاتكأ في استرخاء في المقعد، ورفع بصره إلى السقف وهو يدخِّن بلا توقف. جلس مارستن يتأمل فيما قاله برونت. فهو لم يكن في سن تؤهله لأن تكون آراؤه راسخة، وغير قابلة للمعارضة؛ لذا أرَّقته ملاحظات برونت. كان يأمل ألَّا تكون صحيحة، ولكنه خشي أنها قد تكون كذلك بالفعل. أقحم الإيقاع الحزين للموسيقى المعزوفة، التي بدت أنها تهدئ نفس الرجل العجوز، نفسه في أفكار الرجل الشاب وجرها جرًّا نحو القنوط؛ فقد لاحت في ذاكرته لا مبالاة الرجال أمام الحانة وأصابته بالإحباط. وتمنى لو توقفت جيسي عن العزف.
قال برونت متنهدًا بعمق عندما توقفت عن العزف: «آه. هذه أعظم معزوفة موسيقية على الإطلاق. إنها تُعزف في رأسي طوال اليوم. اهتزازات الماكينات في المصنع تبدو مُنغَّمةً معها. ويمكن سماعها في صخب الشوارع. هيا يا فتى، سأذهب معك؛ لأنك تريد ذلك، وليس لأني أرى أنه سيعود بأي نفع. سأتحدَّث إذا أردت، ولكني أعلم أنهم لن يهتموا كثيرًا بما سأقول؛ لن يصغوا على الأرجح. ولكن دعنا نذهب يا فتى.»