الفصل الثامن
خرج برونت ومارستن من ظلمة ساحة روز جاردن إلى ضياء شارع لايت، الذي كان في ليالٍ معينةٍ من الأسبوع يبدو كسوقٍ ممتد، إذ كانت تصطف على جانبَيه عربات يد محملة بالفاكهة والخضراوات، مضاءة بمصابيح الجازولين المتوهجة. وكان البخور — ذو الرائحة الكريهة — يُحرق شكرًا لإله الرُّخص. وكانت حشود من النساء، في ثياب رثة، يتفاوضْنَ مع بائعين ليسوا أفضلَ منهن حالًا؛ فقد كانوا يلتقون ويتساومون على مستوى الفقر المشترك بينهم.
انعطف الرجلان إلى شارع جانبي ومنه إلى حارة أضيق، وتوقفا أمام مبنًى ضخم كانت تقدِّم فيه جماعة جيش الخلاص خدماتها؛ مبنًى أُجر مؤقتًا لموظفي شركة مونكتون آند هوب لمناقشة شكاواهم. كان المكان مكتظًّا بالحضور حتى الأبواب، وواجَهَ الوافدان الجديدان بعضَ الصعوبة في شقِّ طريقهما بمحاذاة أحد جانبَي الجدران، الجانب الأقرب إلى المنصة الرئيسية، حيث عثرا أخيرًا على مساحةٍ يمكنهما الوقوف فيها في منتصف المسافة بين الأبواب والمتحدثين.
كان سكيمينس جالسًا في أحد المقاعد يبدو عليه القلق الشديد، وعلى غير طبيعته، لا يعرف المتوقع منه تحديدًا، وترتسم على شفتَيه ابتسامة استهجان شاحبة من وقتٍ لآخر، عندما كان بعض رفاقه المحتشدون يُبدون تعليقاتٍ مسموعةً عن المكانة التي بات يتمتَّع بها، والهيبة الفطرية التي يتصنَّعها في منصبه هذا. وأدلى أحدهم برأيه («إذا ما سُئل») أن سكيمينس يليق به أن يمسك بإناء الخمر في يده اليمنى، بدلًا من المطرقة التي من المفترض أن يحفظ النظام باستخدامها.
جلس أعضاء اللجنة على صفٍّ من المقاعد في مؤخرة المنصة، وبدا على أغلبهم عدم الارتياح الشديد مثلما بدا على رئيسهم. وكان العديد من المراسلين يكتبون على الطاولة المخصصة لهم. ومن وقتٍ لآخر، كان أحدهم يهمس بسؤالٍ إلى رئيس اللجنة أو أحد أعضائها، وكانوا جميعهم يحصلون على الإجابة نفسها تقريبًا: «لا أعلم، اسأل جيبونز.»
كان واضحًا تمامًا أن جيبونز هو رجل الساعة. فقد كان واقفًا على قدمَيه بحكم منصبه رئيسًا للجنة وأمين نقابة العمال، وكان على وشك الانتهاء من قراءة تقرير اللجنة، عندما وجد برونت ومارستن مكانًا ليقفا فيه في جانب القاعة.
«… وأخيرًا، تطلب لجنتكم الإذن لإبلاغكم بأنه من منطلق رفض السيد سارتويل لجميع المبادرات المقدَّمة من لجنتكم، ورفضه التشاور معها سواء من خلال رئيسها، أو باعتبارها هيئة، فقد تقرَّر تجهيز هذا التقرير ورفعه إليكم من أجل اتخاذ إجراءٍ حاسمٍ بهذا الشأن.»
وبعدما انتهى جيبونز من قراءة الوثيقة، وضعها على طاولة المراسلين ليَطَّلعوا عليها عن كثب. كان جيبونز هو من كَتَب التقرير بنفسه، وكان فخورًا نوعًا ما بصياغته بطبيعة الحال، وكان يأمل في أن يراه منشورًا في الصحف. والتفت بعد ذلك ليواجه جمهوره، بعدما حيَّا الرئيس.
وقال: «الآن، أيها السادة، وقد سمعتم التقرير. لقد فعلَت اللجنة التي عُينت من قِبَلكم، وفُوِّضت من قِبَلكم، وتعمل من أجلكم، والمُخَوَّلة بموجب سلطتكم، كلَّ ما في وسعها للتوصُّل إلى حلٍّ ودي لهذه المسألة؛ فقد طرقت جميع الأبواب، ولم تتوانَ عن استخدام أي وسيلةٍ مشروعة، ولم تألُ جهدًا، في سبيل التوصل إلى اتفاقٍ عادلٍ لكلٍّ من رب العمل والموظف على حدٍّ سواء. ولكن، أيها السادة، واجهت لجنتكم منذ البداية عقبةً لم تتمكَّن من تخطيها، عقبةً أجهضت جميع جهودها. لقد أحالت شركة «مونكتون آند هوب» اللجنة إلى السيد سارتويل المدير، الذي رفض رفضًا قاطعًا أن يلتقي اللجنة ويناقش أي شيء معها. هذا الرجل، الذي كان هو نفسه عاملًا ذات يوم، أصبح يتعالى الآن …»
في هذه اللحظة، جذب أحد المراسلين طرف سترة جيبونز، ودار بينهما حديث هامس. وبعدما انتهى، واصل جيبونز حديثه قائلًا: «طرح عليَّ أحد السادة الصحفيين سؤالًا، وهو سؤال جيد للغاية. لقد سألني عما إذا كنا قد هدَّدنا السيد سارتويل بأي شكلٍ من الأشكال بالإضراب عن العمل، كما يُشاع. أيها السادة، نحن لم نهدِّد أحدًا بأي شكلٍ كان.» (تعالَت الهُتافات). «لقد تواصلنا مع السيد سارتويل بنفس الاحترام الذي كنا سنتواصل به مع أحد أعضاء حكومة جلالة الملكة، إذا كان لدينا التماسٌ نرغب في عرضه. لُب المسألة إذن هو أن السيد سارتويل يرفض رفضًا قاطعًا أن يتعامل مع رجاله عندما تكون لهم …»
صدر صوتٌ من جانب القاعة يقول: «هذا ليس صحيحًا.»
التفتَت رءوس الحضور نحو مصدر الصوت، وبدَت عليهم البهجة من المقاطعة. فقد كانَت تبشِّر بمرحٍ سيليها. وصدرت همهمات مِلؤها الترقب الممتزج بالمتعة والبهجة. التفت جيبونز بحدةٍ إلى حيث صدر الصوت.
تساءل قائلًا: «ما الذي ليس صحيحًا؟»
«ليس صحيحًا أن السيد سارتويل يرفض لقاء رجاله.»
«هل أنت أحد رجاله؟»
«نعم. هل أنت منهم؟»
سرت همساتٌ من الاستمتاع الحاد بهذه الضربة المباشرة لجيبونز. حتى الخطيب المُفوه نفسه فُوجئ بهذا الرد السريع، ولكنه تمالك نفسه على الفور.
واصل أمين النقابة حديثه قائلًا: «ظني أنك ربما تكون شخصًا أُرسِل إلى هذا الاجتماع لمقاطعته. سيظل هذا واردًا، ولكننا سنتجاوز تلك النقطة الآن. لن نحذوَ حَذو السيد سارتويل، وإذا كان أحد أصدقائه حاضرًا بيننا، فسيُسعدنا أن نستمع لِما يريد قوله في الوقت المناسب. كنت على وَشْك أن أقول عندما تمَّت مقاط…»
صاح الصوت: «لقد أجبت سؤالك، فلتُجب سؤالي.»
وجَّه جيبونز بصره نحو الرئيس طلبًا للحماية، فطرق سكيمينس بمطرقته بوهنٍ على الطاولة أمامه وهو يقول: «النظام، النظام»، ولكن بصوتٍ بدا يأمل في ألَّا يسمعه أحد.
سأل جيبونز بنبرة غضبٍ في صوته: «ما سؤالك؟»
«هل أنت أحد موظفي شركة مونكتون آند هوب؟»
«أنا أمين نقابة العمال التي يمثِّل موظفو هذه الشركة جزءًا منها، واسمح لي بأن أُضيف أنه أقوى اتحاد عمال في لندن. كما أني رئيس هذه اللجنة المُشكَّلة من موظفي هذه الشركة. أنا لم أسعَ لتولي هذا المنصب، ولكني انتُخبت بالإجماع لتوليه؛ ومن ثمَّ أزعم أني فعليًّا أحد موظفي شركة مونكتون آند هوب، وأنه لا أحد هنا أحق مني بالتحدث نيابةً عن هؤلاء العمال، أو الدفاع عنهم في وجه الظلم. وسأخبر الرجل الذي يقاطعني — سأخبره في وجهه — أنه لا شيء سيرهبني للتخلِّي عن واجبي، سواء كان هذا الترهيب من قِبَله أو من قِبَل السيد سارتويل، ما دمت أحتفظ بثقة الرجال الذين وضعوني هنا. فأنا لا أعترف بأي سادةٍ آخرين. وإذا أردت أن تُخاطب هذا الحشد، فاصعد هنا على المنصة وواجه الأمر مثل الرجال، ولا تقف في مكانك متواريًا تنبح كالكلب. دعنا نَرَك.»
تعالى هُتاف قوي لهذه الكلمات. لقد بدأت المعركة، وكان الجمهور مبتهجًا. كان هذا هو نوع الحوار الذي يحبون سماعه.
ضرب برونت مارستن على ظهره ودفعه إلى الأمام.
صاح قائلًا: «كن على قدر التحدي يا فتى. أنا في ظهرك. سأتبعك، وسأخبرهم ببعض الحقائق عن العاطلين. سنسيطر على هذا الاجتماع لو أننا تصرفنا على النحو الصحيح. هلمَّ يا رفيقي.»
توجه مارستن نحو المنصة، وكان الحشد يُفسح له الطريق. تسمَّر جيبونز في مكانه للحظات، وبدا متفاجئًا بهذه المعارضة غير المتوقعة، ثم عاد ليجلس على مقعده على رأس اللجنة. هلَّل الحشد المرح عندما رأوا الشاب يقف أمامهم.
بدأ مارستن حديثه قائلًا: «رفاقي العمال …»
نبَّهه شخص ما في منتصف القاعة حيث سُمعت ضحكة، قائلًا: «خاطب الرئيس.» حتى إن سكيمينس نفسه قد ارتسم على شفتَيه شبح ابتسامة. احمرَّ وجه المتحدث قليلًا وقال في ارتباكٍ وعجلة:
«سيدي الرئيس، رفاقي العمال …»
هلَّل الحشد بحماس، ومرت لحظات قبل أن يتمكن مارستن من حملهم على سماعه مرةً أخرى. تسلل شعور باليأس إلى نفسه بينما كان يقف أمامهم. كان من الجلي أنهم يرَون الحدث برمته مزحةً كبيرة، شيء أشبه بالترفيه في حفلٍ موسيقي ولكن من دون بيرة، وكان هذا عيبًا بالنسبة إليهم بالطبع، ولكنهم أيضًا لم يدفعوا أيَّ رسومٍ مقابل الدخول، وكانت هذه ميزةً بالنسبة إليهم؛ إذ تبقى معهم المزيد من المال لإنفاقه على المسكرات بعد انتهاء هذا التجمع المسلي. وتساءل، بينما كان ينظر إلى الجمع المازح الهائج، عما إذا كان ينظر للموقف بجديةٍ مبالغٍ فيها. ولمعَت في ذهنه جملة سمعها في محاضرةٍ عن الاشتراكية. فقد قال المحاضر: «ليس الرأسمالي أو الحكومة هما مَن عليك قهرهما، بل العمال أنفسهم.»
عندما انحسر الهرج والفوضى وأصبح من الممكن سماع صوت مارستن، واصل حديثه قائلًا:
«لقد أكد السيد جيبونز أن المدير رفض التشاور مع موظفيه، وزعمت أنا أن هذا ليس صحيحًا. فقد أخبرني السيد سارتويل نفسه أنه على استعدادٍ لاستقبال وفدٍ من عمال المصنع. وقال إن …»
صاح جيبونز وقد هبَّ واقفًا وخطا خطوةً نحو الأمام: «ماذا يعني ذلك؟»
صاح برونت من بين الحشد المتجمِّع في القاعة: «لا تقاطع المتحدث.»
صرخ جيبونز وقد بلغ منه الغضب مبلغه: «لقد قاطع حديثي أيضًا.» ثم التفت نحو الشاب، الذي ظلَّ واقفًا في مكانه صامتًا ينتظر توقُّف النقاش الدائر بينهما، وسأله أمين النقابة:
«متى أخبرك سارتويل بذلك؟»
«مساء يوم الثلاثاء.»
ردَّد جيبونز العبارة وهو يتقدم نحو مقدمة المنصة: «مساء يوم الثلاثاء! مساء يوم الثلاثاء! وها أنت ذا تقف أمامنا بكل صفاقةٍ لتعترف بذلك.»
سأل مارستن، وقد بدا يحاول تمالك أعصابه، ولكنه كان يزم شفتَيه بقوة حتى ابيضتا: «ولمَ لا أفعل؟»
«لمَ لا تفعل؟ سأخبرك بالسبب. لأنك تسلَّلت من خلف ظهور أعضاء اللجنة التي شاركت في تعيينها. هذا هو السبب.»
«لم أشارك في انتداب اللجنة.»
«لقد شارك جميع عمال المصنع في انتداب اللجنة. وإن لم تكن قد صوَّتت، فقد تخلَّيت عن واجبك. وإذا كنت قد صوَّتتَ ضد اللجنة، فأنت ملزمٌ بنتيجة التصويت مثلما كانت اللجنة ستلتزم بالنتيجة لو كانت خسرت التصويت. هكذا تسير النقابات العمالية، إما أن ننهض معًا وإما أن نسقط معًا. ولكنك رغم معرفتك بانتداب لجنةٍ للتعامل مع هذه المسألة بالذات، ذهبت زاحفًا إلى سارتويل، وقوَّضت جهود رفاقك في نقابة العمال.»
تحدَّث مارستن من بين أسنانه المطبقة، مصدرًا هسيسًا حادًّا، رغم خفوته، لدرجة أنه وصل إلى الطرف الآخر من القاعة، قائلًا: «محض كذب!» ثم اتجه الشاب ناحية خصمه بخطوات واسعة وهو يضم قبضة يده اليمنى ويفردها. كانت لحظة مشحونة، وكتم الحضور أنفاسهم. وتوقع الجميع أن الخطوة التالية ستكون لكمة.
ظل جيبونز واقفًا في مكانه دون أن يطرف له رمش. ولم تتحرك عضلة في وجهه سوى جفنَيه اللذَين انغلقا على عينَيه جزئيًّا ليتركا شقَّين ألقى من خلالهما نظرةً قاسيةً على مارستن، إلا أن إجابته لم تكن في نفس قسوة نظراته.
فقال بهدوء، الأمر الذي بدا مخيبًا لآمال مستمعيه: «إذا كان هذا محض كذب، فلست أنا مصدره. كل ما فعلته هو أني صُغت ما قلته أنت في عبارة أكثر اقتضابًا؛ هذا كل ما فعلت.»
في هذه اللحظة صرخ برونت، الذي ظل مسيطرًا على غضبه بصعوبة خلال هذا الحوار الدائر على المنصة، بأعلى صوته قائلًا:
«أعطِ الفتى فرصةً ليتحدث وأغلق فمك السخيف هذا. لقد دعاك بالكاذب مثلما يفعل الرجال ولم تجرؤ على مواجهته بوصفك رجلًا. اجلس أيها الأحمق!»
اعترض أمين النقابة وهو يلتفت إلى سكيمينس قائلًا: «لا بد أن أطلب الحماية من الرئيس.» نهض سكيمينس واقفًا في تردد نوعًا ما، شاعرًا بأنه من المتوقع منه أن يفعل شيئًا، وضرب سطح الطاولة أمامه بالمطرقة ثلاث أو أربع مرات.
وصاح قائلًا: «النظام، التزموا النظام. إذا حدثت أي مناوشاتٍ أخرى من أيٍّ من الحضور، فسيُطرد مسبِّبها من الاجتماع.»
صاح برونت: «ماذا! تطردني من الاجتماع! يا إلهي! سأمنحك الفرصة لتفعلها.»
شق الرجل الضخم طريقَه نحو المنصة مُزيحًا من أمامه بعضًا من الرجال الذين حاولوا اعتراضه؛ حفاظًا على القانون والنظام. أما أغلب الحضور فبدا جليًّا أنهم يرَون أنه يجب ألَّا يُمنع الرجل الغاضب من التقدم نحو المنصة، فهلَّلوا لتدخُّله وصاحوا بتعليقاتٍ مشجعة.
قفز برونت على المنصة وتوجَّه مباشرةً نحو الرئيس، وضرب سطح الطاولة بقبضته المضمومة وصاح:
«ها أنا ذا يا سكيمينس. أَخرِجْني من الاجتماع الآن؛ هل تسمعني؟»
صمت برونت منتظرًا سماع رد، ولكنه لم يتلقَّ أي رد. وبدا سكيمينس، الذي تراجع إلى الخلف، متأهبًا للفرار حال حاول برونت أن يهجم عليه. حدَّق الرجل من يوركشاير فيه غاضبًا، إلا أن الرجال الواقفين على المنصَّة بدا أنهم يفكِّرون في أن وقت الاعتراض لم يَحِن بعد. وفي الوقت نفسه، كان الحضور يطالبونه بصوتٍ عالٍ أن يلقي خطابًا.
قال برونت وقد هدأ قليلًا عندما لم يعارضه أحد: «ليس لديَّ الكثير لأقوله يا رفاق، كما أني لست خطيبًا مفوهًا. فما أنا إلا عامل، وكل ما أريده هو فرصة لأجني قوت يومي. ولكني سأقول الآتي: قرأت في الصحف منذ وقتٍ ليس ببعيد أن ثمَّة سبعةً وعشرين ألف عامل مثلنا عاطلون عن العمل في إنجلترا حاليًّا. سبعة وعشرون ألف عامل متلهفون للحصول على عمل. والآن، ما الذي يطلبه منكم جيبونز هذا؟ إنه يطلب منكم التخلي عن وظائفكم وترك أماكنكم؛ ليأخذها بعضٌ من السبعة والعشرين ألف عامل أولئك. وكل ما سيكون على سارتويل فعله حينها أن ينشر إعلانًا في الصحف، وسيمكنه أن يملأ المصنع بخمسة أضعاف عددكم من العمال في غضون يومَين. لطالما كان تَرْك وظيفة أسهل من الحصول على واحدةٍ جديدةٍ في العصر الحالي. أعلم هذا لأني جربته بنفسي. وأغلبكم جربه. فاستمعوا إلى نصيحتي ولا تُمضوا أكثر من ذلك في هذا الهراء. وإذا كان سارتويل، كما قال مارستن، على استعدادٍ لمناقشة الشكاوى، فرأيي أن نُرسل له وفدًا مؤلفًا من عمال الشركة، ليس بينهم غرباء مندسون. ماذا فعلت النقابة من أجلنا؟ إنها تأخذ أموالنا كل أسبوع، هذا كل ما أراه. والآن وبعد أن أصبح لديهم الكثير منها، ها هم يُريدون إهدارها في محاربة رجلٍ ذي نفوذٍ قويٍّ مثل سارتويل.»
كان مارستن جالسًا على حافة المنصة. دائمًا ما ندرك أخطاء الآخرين أسرع مما ندرك أخطاءنا، ولم يعجبه هجوم برونت على النقابة العمالية في حديثه. فقد كان يرى أنه كان من الأفضل عدم قول ذلك على الملأ، كما أنه كان يؤمن بجدوى النقابة العمالية إذا ما حظيَت بقيادةٍ رشيدة. لقد كانت حربه على جيبونز لا على المؤسسة.
كان جيبونز جالسًا في مقعده، وسرعان ما قيَّم المتحدث. ورأى أن الخطاب كان له تأثيرٌ على الحضور، وأن سيطرته عليهم تتسلَّل من بين يدَيه. كان القرار الذي اتخذه ينطوي على مخاطرةٍ كبيرةٍ مع هذا الرجل القوي، ولكنه عزم أمره على أن برونت يجب أن يُقاد إلى الغضب، حيث من المرجح، في غمرة عنفه، أن يخسر الأفضلية التي كسبها. وبهدوء، وبإشارة من عينه، جمَّع جيبونز أتباعه المخلصين الذين كانوا متناثرين في أرجاء القاعة؛ ليعطوا انطباعًا بأن الهتاف ليس جماعيًّا عندما يحين وقته، وتقدَّم هؤلاء الرجال في تلك اللحظة بالتدريج نحو المقدمة أثناء حديث برونت. وصعد واحد أو اثنان منهم بهدوء إلى المنصة ودخل في حوارٍ هامسٍ مع أمين النقابة، ثم اتخذا مكانَيهما ومعهما آخرون خلف مقاعد أعضاء اللجنة. وعندما ذُكر اسم سارتويل، نهض جيبونز من مقعده.
وقال: «سيدي الرئيس، لا يمكنني أن أسمح ﺑ…»
حينها التفت برونت نحوه كأسد هائج.
وصرخ وهو يشمِّر عن ذراعيه: «إياك أن تقاطعني وإلا ألقيتك من تلك النافذة.»
قال الرئيس بصوتٍ واهن: «النظام، التزموا النظام.»
فصاح الرجل الثائر: «وسألقيك فوقه! فعلتها من قبل.»
قال جيبونز بهدوء: «فلتحترم الاجتماع إن لم تكن تحترم الرئيس.»
وصاح رجل في مقدمة القاعة: «أنت تحادثنا كما لو كُنا مجموعةً من الحمقى.» التفت برونت بعينَيه المتقدتَين بالغضب، كثور محاصر لا يعلم إلى أين عليه أن يندفع، نحو آخر من تكلم. ووجه قبضته المضمومة نحوه، ولوَّح بذراعه المكشوفة نحو الحضور.
وصاح بأعلى صوته كأسد يزأر قائلًا: «وماذا أنتم غير ذلك؟ مجموعة من الحمقى الملاعين، جميعكم. مسلوبو الإرادة منساقون كالأنعام خلف رجل يفوقكم حمقًا. نعم، ما أنتم إلا مجموعة من ببغاوات حمقى، هذه حقيقتكم، لا يكفي مجموع ذكائكم أجمعين ليُدير حجر رحًى. ما أراكم سوى شرذمة أصابتكم البيرة بالبلادة، ولم يتبقَّ لكم من إدراك إلا ما يكفي لترَوْا ما إذا كان الكوب في أيديكم ممتلئًا أم لا.»
في هذا الوقت كان الحاضرون في القاعة قد صاروا في حالة سخط وعلى وشك الانفجار غضبًا. وانفتح باب صغير على يمين المنصة يؤدي إلى زقاق، وانسلَّ عددٌ من ضعاف القلوب، لدى رؤيتهم لعاصفةٍ على وَشْك الاندلاع، وانسلوا إلى الخارج في هدوء. وتحوَّل الاجتماع إلى حشدٍ هائج، يطالب أفراده بسفك دم الرجل الذي وقف يتحدَّاهم ويكيل لهم الإهاناتِ ويحقِّر من شأنهم.
خطا جيبونز، وقد شحبت شفتاه رغم الحزم البادي عليهما، خطوةً إلى الأمام. وقال: «لقد اكتفينا من حديثك. فلتغادر المنصة!»
استدار برونت كما لو كان يدور على محور ارتكاز، واندفع نحو أمين النقابة. تراجع الأخير إلى الخلف برشاقة، بينما عدا أحد أتباعه وقفز ضاربًا برونت بقدمه في معدته مباشرة. كانت الدفعة شديدة، وكان الهجوم مفاجئًا وغير متوقع، لدرجة أن برونت، رغم قوته الغاشمة، تراجع إلى الخلف بعنف وتكوَّم جسده مثل شريط قياس معدني، ثم سقط على ظهره من فوق المنصة على الأرض. وعلى الفور، انقض عليه مجموعة من الرجال، وطاردوه، على الرغم من اللكمات التي راح يوزعها يمينًا ويسارًا، عبر الباب المفتوح المؤدي إلى الزقاق. وفي لمح البصر، أُغلق الباب وقُفل بالمزلاج، ليصبح برونت في الخارج والمعتدون عليه في الداخل. حدث كل هذا بدقة وسرعة بالغتين، لدرجة أن رجال الشرطة، الذين كانوا متأهبين منذ بعض الوقت، لم يصلوا إلى الباب إلا بعدما أُغلق بالمزلاج. أما الحضور، الذين لم يُكَوِّنوا فكرةً عامةً واضحةً عما حدث، خلاف السقوط المفاجئ لبرونت على ظهره، فقد صاحوا مهللين بأعلى أصواتهم، الأمر الذي جعل جيبونز يشعر بالامتنان لذلك. فلم يكن يريد أن يعلموا أن الشرطة قد ألقَت القبض على برونت في الخارج، وكان حريصًا بشدة على ألَّا يحدث أي اعتقال داخل القاعة إذا كان الاعتقال حتميًّا لا مفر منه؛ ففي هذه الحالة، لن يحول حتى سب برونت العنيف للعمال دون التعاطف العام معه من قبلهم. وبينما كان صوت الهتاف يصم الآذان، سمع جيبونز صوت ضربة هائلة على الباب، ضربة كادت تقصم المزلاج، وجعلت وجوه الواقفين بالقرب منه تشحب. وكسرت ضربة قوية أخرى إطار الباب وظهرت أصابع دامية للحظة قبل أن تختفي. ثم كانت ثمَّة دلالة على حدوث عراك قوي لم يستمر طويلًا في الزقاق، ثم هدأ كل شيء عدا صدى صوت الهتاف الرنان.
اتجه جيبونز إلى مقدمة المنصة ورفع يده في إشارة للحضور بأن يصمتوا.
وقال: «أشعر بأسف بالغ لما أبداه ذلك المتحدث الأخير من ملاحظات، وعبارات لم يكن ينبغي أن تصدر منه، ولكن دعونا نتذكر جميعًا أن الكلمات القاسية لا يمكنها كَسْر العظام. ولكن يكفي ما قيل الليلة، وحان الوقت للعودة إلى قضيتنا. أيها السادة، لقد سمعتم تقرير اللجنة؛ فما رأيكم؟»
وقف رجل من الجالسين في وسط القاعة وقال: «رأيي أن نُضرب عن العمل.»
وصاحت عدة أصوات قائلة: «أنا أؤيد ذلك.»
همس جيبونز في أذن الرئيس الحائر: «ابدأ التصويت.»
نهض سكيمينس واقفًا.
وقال: «لقد سمعتم الاقتراح جميعكم. فليقل الموافقون نعم.»
وارتفعت صيحة شبه جماعية ﺑ «نعم». وكان الرئيس على وشك العودة إلى مجلسه، إلا أن جيبونز سرعان ما أضاف قائلًا: «المعارضون.»
فنادى الرئيس، وهو متذبذب بين الجلوس والوقوف: «لا يوجد معارضون.»
لم تُسمع أي أصواتٍ معارضة؛ إذ كان مارستن قد غادر ليرى ما حل بصديقه، وتسلَّل الرجال الخوَّافون هاربين عندما شعروا ببوادر اضطراب.
قال سكيمينس وهو يعود لمقعده وقد بدت على وجهه أمارات الارتياح التام: «تمَّت الموافقة على الاقتراح.»
فأضاف جيبونز بصوت عالٍ، دون أن يتمكن من إخفاء رضاه عن النتيجة، قائلًا: «وبالإجماع.»