الشعر وألفاظه
لوليم وردزورث (١٧٧٠–١٨٥٠م)
(مُقدِّمة الطبعة الثانية لديوان الحكايات الغنائية المنظومة، سنة ۱۸۰۰م)
يُعَد هذا المقال دستورًا للشعراء الرومانسيين (الابتداعيين) كَتبَه زعيم الشعر الرومانسي في إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر، نُقدِّمه إلى الشعراء المحدَثين في البلاد العربية لعله أن يُوجِّه ويُعين.
***
قد أذعتُ في القُراء قبل اليوم الجزءَ الأول من هذه الأشعار، وكنتُ أرجو حين أذعتُه، أن يكون تجربةً أستعين بها بعض العون في أن أستيقن الى أي حدٍّ أستطيع — إذا أنا صغتُ في قوالب العروض صفوةً مختارة من كلام الناس كما هو، ما دامت تَتوافَر فيه قوة الإحساس — أن أُتيح تلك اللذة، نوعًا ومقدارًا، التي يحرص الشاعر صائبًا أن يُهيِّئها لقارئه.
ولعلَّني لم أُسرف في تجاوُز الدقة حين قدَّرتُ ما عساه أن يكون لتلك القصائد من أثَر؛ فلقد كنتُ أتملَّق نفسي بأن مَن تقع أشعاري منهم موقع الرضى، سيَتلُونها في لذة تُربي على ما ألِفُوه من لذة، كما أنني كنتُ من الناحية الأخرى على يقينٍ أن مَن تُصادِف منهم السخطَ سيقرءونها في كُرهٍ يُجاوز ما عَهِدوه من كُره. ولم تختلف النتيجة عما توقَّعتُ إلا في أن رَضِي عن شِعري من الناس عددٌ أوفرُ مما رجوتُ أن أُرضي.
•••
إن كثيرين من أصدقائي لَيتَمنَّون لهذه الأشعار توفيقًا؛ إذ يؤمنون أنه لو صدَقَت بالفعل وجهة النظر التي على أساسها أُنشِئَت هذه القصائد، لَنتَج ضَربٌ من الشعر يصلُح أن يكون للإنسانية متاعًا لا ينقطع، دون أن يكون غثًّا في جَودتِه أو ضحلًا في نوازعه الخلقية؛ لهذا وَدُّوا إليَّ أن أُنسِّق بين يدَي ديواني دفاعًا عن المذهب الذي نظَمتُ على وَفْقه هذه الأشعار، ولكني أبَيتُ أن أتصدَّى لهذا العمل، مُوقنًا أن القارئ حينئذٍ سيُلقي على دفاعي نظرةً باردة، متهمًّا إياي أنَّ ما قد حدا بي إلى الدفاع، هو قبل كل شيء أملٌ أنانيٌّ أحمق، في أن أُغرِيَه بأدلة المنطق بامتداح هذه الأشعار بذاتها، ثم ازدَدتُ إعراضًا عن العمل حين تبيَّنتُ أنني إن بسَطتُ رأيي بسطًا دقيقًا، وسُقتُ الأدلة شاملة، لاقتضَى الأمرُ حيِّزًا أبعدَ ما يكونُ صلاحيةً لمقدمة ديوان؛ فلو أنني عالجتُ الموضوع بما قد يستدعيه من وضوحٍ واتصال، لَوجَب أن أَستعرِض ذَوقَ الناس الراهن في هذا البلد، وأن أُقرِّر مدى سلامة هذا الذوقِ أو فساده، ولا يَتيسَّر البتُّ في ذلك بغير الإشارة إلى النحو الذي يجري عليه التفاعُل بين اللغة وعقل الإنسان، وبغير أن أتعقَّب ما أصاب منها المجتمع نفسه كذلك؛ لهذا أبيتُ إباءً قاطعًا أن أتصدَّى لمثل هذا الدفاع الشامل المنسوق، ولكني مع ذلك أُحسُّ في الأمر شيئًا من عدم اللياقة، إن فجَأتُ الجمهور بإقحامي فيهم هذه القصائدَ التي تَختلِف أشد اختلافٍ عن القصائد التي تَظفَر اليوم باستحسان الناس، دون أن أتقدَّم إليهم بكلماتٍ قلائل.
ولكني مع ذلك لا يجوز أن أصمَّ آذاني عن الصيحة التي تتردَّد اليوم مُستنكرةً إسفاف العبارة وتفاهة المعنى التي يصطنعها أحيانًا بعضُ المعاصرين فيما ينظمون من شعر؛ وإني لأعترف أن هذه النقيصة، حيثما وجدت، أجلَبُ للضَّعة إلى شخص كاتبها من ذلك الصقل المزيف والطرافة الممجوجة؛ غير أني في الوقت نفسه أؤكِّد أن نتائج الأُولى في مجموعها أهون من الثانية شرًّا. على أن القارئ سيتبيَّن في قصائد هذا الديوان ما يميزها من تلك الأشعار بوجهٍ واحد من وجوه الاختلاف على أقل تقدير؛ وذلك أني نشَدتُ في كل قصيدةٍ من قصائدي غرضًا نبيلًا. ولستُ أعني بذلك أني كنتُ أبدأ الكتابة دائمًا وفي نفسي غرضٌ محدودٌ أُدرِك هيكله، ولكن إطالة التفكير، فيما أعتقد، كانت تستثير مشاعري وتُنظِّمها، بحيث جاءت القصائد الوصفية، التي تتناول من الأشياء ما يثير تلك المشاعر إثارةً عنيفة، ولها غرضٌ تقصد إليه، فإن تبيَّن بطلان هذا الرأي فليس لي إلا أصغر الحق في أن أكون شاعرًا، فما الشعر الجيد بأَسْره إلا فيضُ المشاعر القوية من تِلقاء نفسها. على أنه، وإن كان هذا حقًّا، فإن القصائد التي تستحق شيئًا من التقدير، مهما اختلف موضوعها، لم يَنظِمها قَط إلا رجل، فضلًا عما أُوتيه من حسٍّ مرهفٍ ممتاز، قد أطال التفكير وغاص إلى أعماقه؛ وذلك لأن فكر الإنسان يُشكِّل مجرى شعوره المُتدفِّق المتصل ويأخُذ بزمامه؛ ذلك الفكر الذي إن هو في حقيقة الأمر إلا صورةٌ تُمثِّل كل ما مضى بنا من مشاعر. وكما أن الإنسان إذا أنعم الفكر فيما يربط تلك الصور الذهنية العامة بعضها ببعضٍ من صلات، تَبيَّن له من العلم ما يهمُّه في حياته، فكذلك إن هو عاود هذا التفكير وواصلَه فإن مشاعره سترتبط بتلك الحقائق الهامة ارتباطًا ينتهي به، إذا كان ذا طبيعةٍ موهوبة بالحساسية الخِصبة، إلى اكتساب عاداتٍ عقلية من شأنها — إذا أطاع دوافع تلك العادات إطاعةً آليةً عمياء — أن تُمكِّنه من وصف الأشياء والتعبير عن العواطف التي تُنير عقل القارئ إلى حدٍّ ما وتزيد من عاطفته قوةً وصفاء، بحكم طبيعتها واتصال أجزائها.
لقد سبق لي القول إن لكل قصيدةٍ من هذه القصائد غرضًا. ولا بد أن أشير إلى ناحيةٍ أخرى تمتاز بها هذه الأشعار عما يسود في هذا العصر من شِعر، وهي أن ما بثَثْتُ في القصيدة من شعورٍ يزيد في جلال الحادث أو الموقف، وليس الموقف أو الحادث هو الذي يُضيف إلى الشعور ما له من جلال.
ولن يمنعني التواضع الزائف أن أُقرِّر أن ما يدفعني إلى توجيه نظر القارئ إلى هذه الصفة المميزة هو خطورة الموضوع في إجماله أكثر منه عنايتي بهذه القصائد بذاتها. ألا إنه لموضوعٌ خطير حقًّا! إذ في مقدور العقل البشري أن يتأثر دون أن يتعرض للبواعث القوية العنيفة، وإن من لا يعلم هذا، ومن لا يعلم فوق هذا أن الأحياء تتفاوَت سُموًّا بمقدار ما أُوتيَت من هذه المقدرة، فلا بد أن يكون ضعيفَ الإدراك جدًّا لِما للعقل من جمال وجلال؛ لهذا يلُوح لي أن الجهد في إنشاء هذه الملكة أو إرهافها خدمةٌ جُلَّى جديرةٌ أن تشغل الكاتب في أي عصر، غير أن هذه الخدمة إن كانت جليلةً في كل العصور، فهي أكثر جلالًا في عصرنا هذا، حيث تتآزر اليوم طائفةُ الأسباب التي لم تعرفها الأعصُر السالفة على أن تُثلم ما يُميِّز من قُوًى، وأن تُفقِده القدرة على النهوض بمجهوده طواعيةً، حتى إنها لتُوشِك أن تعود به إلى حالة من العقم المخيف. وأبلغ هذه الأسباب أثرًا ما ينتاب هذا الوطنَ من جِسام الحوادث التي تتجدَّد كل يوم، واحتشاد الناس المتزايد في المدن، الذي أنشأ فيهم — نتيجةً لاطراد ما يؤدونه من عمل — رغبةً قوية في الشاذِّ من الحوادث، التي إن وقعت، تضخَّمَت ساعةً بعد ساعة لسرعة تناقُل الخبر في الناس. ولقد آلى الأدبُ والمسرحُ في هذا البلد على نفسيهما أن يُسايرا هذه النزعةَ من الحياة والأخلاق. إن الآثار القيِّمة التي خلَّفها الأسلاف من كُتابنا، وكِدتُ أُعيِّن تآليف شيكسبير وملتن، لَتنحدِر إلى الإهمال أمام سيلٍ من القصص الهوجاء والمآسي الألمانية المُملَّة الباردة، وطُوفانٍ من القصص المنظومة الجوفاء المُسرِفة في غُلوِّها. إنني إذا ما فكَّرتُ في هذا التعطُّش المخجل المشين من البواعث، كِدتُ أستحي خجلًا مما تحدَّثت به عن المجهود الضعيف الذي بَذلتُه في هذه الدواوين لأُقاوم ذلك الاتجاه. كذلك إذا فكرتُ في فداحة الشر وشُموله لما أثقلتُ نفسي بما يحزُّ فيها من أسفٍ لهذا الشين، لو لم أكن ثابت اليقين بما للعقل البشري من صفاتٍ موروثة تستعصي على الفناء، وبالقُوى التي تكمُن في الأشياء الجليلة الخالدة التي تُؤثِّر في العقل ولا تقل عنه في نظرتنا رسوخًا واستعصاءً على الزوال، لم أكن لأُثقِل نفسي بذلك الأسف لولا ذلك اليقينُ الثابت، وإلى جانبه إيمانٌ بأنْ قد اقترب اليومُ الذي يُقاوِمُ فيه السوء مقاومةً منظمةً رجالٌ أعظمُ عبقريةً وأشدُّ توفيقًا.
أما وقد أطلتُ الوقوف عند موضوع هذه القصائد وغرضها، فإني أستأذن القارئ أن أُحيطه علمًا بقليلٍ مما يتصل بأسلوبها بسبب، وإنما أقصد بهذه الإحاطة إلى أشياءَ كثيرةٍ، منها ألَّا يأخذ عليَّ القارئ أني لم أُؤدِّ شيئًا لم أحاول أداءه قَط؛ فإنه قلَّ أنْ يُصادِف في هذا الديوان تجسيدًا للمعاني المجردة، التي أبَيتُ إباء قاطعًا أن أستخدمها — كمألوف الشعراء — لتسمو بالأسلوب وترفعَه فوق مستوى النثر. إذا أردتُ أن أُقلِّد لغة الناس وأن أقتبس منها ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا، وإنه مما لا ريب فيه أنَّ مثل هذا التجسيد لا يُكوِّن من لغة الناس جانبًا، لا طبعًا ولا تطبُّعًا. نعم هو لون من ألوان البيان قد تستنيره العاطفة الحين بعد الحين؛ ولذا فقد استخدمتُه بهذا الاعتبار وحده، ولكني جاهدتُ أن أَطرحَه وراء ظهري باعتباره طريقةً آلية من طرائق التعبير، أو باعتباره لغةً تسُود بين جماعة الشعراء، الذين يَودُّون فيما يظهر أن تُصبح هذه اللغة خاصة بالشعر في شيءٍ من التحتيم. إنني حريصٌ أن أُتيح للقارئ صحبةً من لحمٍ ودم، مؤمنًا أني بهذا الصنيع أُهيِّئ له شيئًا من المتاع؛ وإنَّ سواي ممن يسلكون سبيلًا غير هذه السبيل ليَودُّون أيضًا أن يبعثوا في نفس القارئ لذةً كما أفعل، ولا يعنيني ما يزعمون من دعوى، ولكني أُريد أن أُؤثِر لنفسي دعواي. كذلك لن يُصادِف القارئُ في هذا الكتاب إلا قليلًا مما يُسمَّى عادةً بألفاظ الشعر، فقد عانيتُ نَصَبًا أن أتجنبها بقَدْر ما يعاني سواي أن يصطنعها؛ وإنما فعلتُ ذلك للسبب الذي سبقَت إشارتي إليه، وهو أن أدنُو بلغتي من لغة الناس، فضلًا عن أن اللذة التي أخذتُ على نفسي أن أُهيِّئها في شعري لتختلفُ في نوعها أشدَّ اختلافٍ عن اللذة التي يظُن كثيرون أنها غرضُ الشعر الصحيح. وإذا أردتُ ألا أتورَّط في خطيئة التخصيص فلستُ أدري كيف أصف لقارئ الأسلوب الذي وددتُ واعتزمتُ أن أكتب فيه، وصفًا أدق من القول بأنني جاهدتُ دائمًا أن أضع موضوعي نُصبَ عينيَّ فلا أحوِّل عنه النظر، فجاءت نتيجة ذلك أن لم تَحوِ هذه القصائد، فيما آمل، إلا قليلًا من الزيف في الوصف ولقد صغتُ خواطري في عبارةٍ تكافئ ما لها من شأنٍ عظيم. ولا بد أن أكون بعد هذه المحاولة قد ظفِرتُ بشيءٍ يلازم إحدى خصائص الشعر الجيد، ألا وهو المعنى الجيد، ولكن تلك المحاولة قد أبعدَتني بالضرورة عن كثيرٍ من الصبغ وألوان البديع التي طالما عَدَدناها، خلفًا بعد سلف، إرثًا مُشاعًا بين الشعراء. ولقد ذهب بي الظن كذلك ألَّا مندوحة عن التزام قيدٍ آخر، إذ لم أُبِحْ لنفسي أن تستخدم كثيرًا من العبارات الجيدة الرائعة في حد ذاتها ولكن لاكَتْها ألسنةُ الحُثالة من الشعراء في غباء، حتى أُحيطَت بشعور الابتذال الذي يكاد يستحيل على أيِّ فن من فنون المعاني أن يمحُوَه.
فلو أُقيم ليَ الدليل على أن القافية والوزن وحدهما يُكوِّنان فارقًا يعكس ما زعمناه الآن من تشابُهٍ دقيق بين لغتَي الشعر والنثر، ويُمهِّد الطريق لفوارقَ أخرى مُصطنَعةٍ يُسلِّم بها العقل راضيًا، لأجبتُ أن لغة هذا الشعر الذي أُقدِّمه في هذا الديوان نخبةٌ اختيرت بقَدْر المستطاع من لغة الناس كما ينطقون بها؛ فهي حيثما صيغت في ذَوقٍ سليم وشعورٍ صادق تُميِّز نفسها بنفسها أكثر جدًّا مما تظُن عند الوهلة الأولى، ويكون فيها الفارق الذي يُباعِد مباعدةً تامة بينها وهي مصوغة في الشعر وبين حَوْشية الحياة العادية وضَعَتها. وإني لأُومِن أنه بإضافة الوزن إلى تلك اللغة ينشأ فارقٌ يكفي لإقناع العقل المنطقي، ولكن تُرى هل ثمَّة فارقٌ آخر؟ أنَّى عسى أن يجيء؟ وأين يُنتظَر أن يكون؟ يقينًا إنه لن يكون حيث ينطق الشاعر على ألسنة أشخاصه؛ فها هنا لا تُحتِّم الضرورة ذلك الفارق، لا من حيث التسامي بالأسلوب ولا من حيث ما يزعمون له من زخرف؛ إذ لو كان الشاعر مُوفَّقًا في اختيار شخصه، فإنه سيتأدَّى بحكم ذلك الشخص وفي الفرصة الملائمة، إلى عواطفَ لو انتُقيت عبارتُها في صدق وفطنة، لجاءت نبيلةً وبارعةً وحيةً بما تحوي من ألوان البيان والبديع. وإني لأمسك هنا عن الحديث فيما يُصيب القصيدة من تشويهٍ يُصعَق له القارئ الذكي، إذا ما خلَط الشاعر في شِعره أبهةً يُضيفُها من عنده إلى ما تُوحي به طبيعةُ العاطفة، وحسبي أن أقول إن هذه الإضافة لا تُحتِّمها الضرورة، ويقيني أنه من الجائز جدًّا أن يكون لتلك العبارات التي تُزخرِفها ألوان البديع والبيان زخرفةً مُنسَّقة ما هي جديرةٌ به من أثَر، على أن تُساق في مواضعَ غير هذه، حيث تكون العواطف رخيَّة قليلة العنف، على شريطة أن يجيء الأسلوب كذلك طيِّعًا هادئًا.
ولمَّا كانت اللذة التي أرجو أن أُهيِّئها بأشعاري التي أُقدِّمها اليوم للقارئ، إنما تعتمد كل الاعتماد على صحة الرأي في هذا الموضوع الذي هو في ذاته ذو شأنٍ عظيم في ذَوقِنا وشعورنا؛ فليست تكفيني هذه الملاحظات المُفكَّكة. وإذا كنتُ في رأي بعض الناس، بما أشكُّ أن أقوله، إنما أؤدِّي عملًا لا حاجة إليه، وأنني كمن يحارب موقعةً بغير أعداء، فلا بد أن أذَكِّر أمثال هؤلاء أنه مهما تكن لغة التفاهم بين الناس، فإن العقيدة العملية بالرأي الذي أُريد أن أسُوقه تكاد تكون مجهولة. أما إذا قوبلَت آرائي بالتسليم ثم ذَهبَتْ في تطبيقها إلى الحد الذي يجب أن تذهب إليه ما دامت قد وُوفق عليها، فإن أحكامنا على آثار العباقرة من الشعراء قديمهم وحديثهم ستختلف اختلافًا بعيدًا عما هي عليه الآن، ستختلف في المَدْح والقَدْح على السواء، كما أن مشاعرنا الخلقية التي تؤثِّر وتتأثَّر بهذه الأحكام ستَصِحُّ وتصفو فيما أعتقد.
فلننظر إلى الموضوع من حيث أُسُسه العامة، وليسمح لي القارئ أن أسأل: ماذا نعني بكلمة «شاعر»؟ من هو الشاعر؟ ومن ذا يُخاطِب بشعره؟ وأيُّ عبارةٍ تُرجى منه؟ هو إنسانٌ يُخاطِب الناس، حقًّا إنه لرجلٌ أُوتي حسًّا أرهف وحماسةً أحَرَّ وشعورًا أرقَّ ودرايةً أشملَ بطبيعة البشر ونفسًا أوسعَ أُفقًا مما يحتمل أن يكون لعامة الناس. إنه رجلٌ تسُره عواطفه ونوازعه، ويغتبط أكثرَ مما يغتبط سائر الناس لروحِ الحياة التي تدِبُّ فيه، ويُمتِعه أن يُفكِّر في العواطف والنوازع التي تُشبِه ما له منها والتي تتجلَّى في جوانب الكون، وكثيرًا ما يُضطَر إلى خلقها إن لم يجدها، ثم يتميز الشاعر فضلًا عن هذه الصفات بميلٍ إلى التأثُّر أكثر ممن عَداهُ بالأشياء الخافية كأنها باديةٌ لناظرَيه، كما أن له مقدرةً في أن يُنشئ في نفسه عواطفَ هي في حقيقة الأمر أبعدُ شبهًا بالعواطف التي تنشأ بما يقع فعلًا من الحوادث، ولكنها مع ذلك (وبخاصة فيما يسُر ويُمتع من نواحي العاطفة العامة) أكثر شبهًا بالحوادث التي تُثيرها الحوادث الواقعة، مما تعَوَّد سائر الناس أن يُحسُّوا في أنفسهم بفعل عقولهم وحدها؛ لهذا ولِما يكتسب من مرانٍ تراه أشدَّ استعدادًا وأعظمَ مقدرةً على التعبير عما يُفكِّر فيه وما يشعُر به، وبخاصةٍ تلك الخواطر والمشاعر التي تنزو في نفسِه بمحضِ اختياره أو بطبيعةِ تركيبِ عقله، دون أن يُثيرها مُؤثِّرٌ خارجي مباشر.
ولكن مهما أُوتي أعظم الشعراء من هذه المَلَكة، فلا سبيل إلى الشك في أن ما يُوحَى إليه من لغةٍ لا بُد أن يكون في أغلب الأحيان أقصرَ مدًى في صدقِه وحيويتِه من اللغة التي ينطق بها الناس في الحياة الواقعة، مُتأثِّرين بتلك العواطفِ الحقيقية التي تارةً يُنشئ الشاعر في نفسه بعضَ ظلالها، وتارةً يُحِس أنها قد نشأَت في نفسه بذاتها.
إنه مهما اشتد إعجابنا بشخصية الشاعر فلسنا نرتاب في أنه وهو يصف العواطف أو يحاكيها فهو إنما يُؤدِّي عملًا آليًّا إلى حدٍّ ما بالقياس إلى الحرية والقوة اللتَين تكونان في الفعل أو الألم في الحقيقة والواقع. حتى إن الشاعر ليرجو أن يدنو بشعوره من شعور الأفراد الذين يصف شعورهم. لا، بل إنه لَيوَدُّ أحيانًا أن يفلت بنفسه ولو إلى فترةٍ وجيزةٍ من الزمن، فيغوص في وهمِ نفسه لكي يمزُج بل يُطابِق بين شعوره وشعورهم، وهو في أثناء ذلك لا يزيد على أن يصُوغ اللفظ الذي يُوحَى إليه به؛ بقصدِ أنه إنما يصفُ لغرضٍ معين، وذلك أن يتيح للقارئ لذة. وهنا إذن تراه يُطبِّق قاعدة الاختيار التي أطلنا فيها القول سابقًا؛ فهو باختياره ما يختار سيَتَمكَّن من أن يمحُو من العاطفة جوانبها المُفكِّرة المُؤذِيَة، وسيُحِس أنْ ليس ثَمَّةَ حاجةٌ إلى مخادعة الطبيعة أو إلى التسامي بها؛ فإنه كلما أمعَن في تطبيق تلك القاعدة ازداد إيمانًا أنْ ليس بين الألفاظ التي يُوحيها إليه خيالُه أو وَهمُه ما يدنو من الألفاظ التي انبعثَت من الصدق والواقع.
ولكن قد يزعُم الذين لا يجادلون في صحة هذه الملاحظات من حيث جوهرها العام أنه ما دام مستحيلًا على الشاعر أن يجد في كل الظروف عبارةً تتكافأ مع العاطفة التي يُعبِّر عنها تكافُؤًا دقيقًا بحيث تجيء في قوة العبارة التي تنبعث من العاطفة الحقيقية حين تختلج في نفس صاحبها، فلا جُناحَ عليه أن يقف موقف المُترجِم الذي لا يَضيرُه أن يستبدل بما يعجز عن ترجمته أفكارًا بارعةً ولكنها تختلف عن الأصل المنقول، ولا غضاضةَ أن يُحاوِل حينًا بعد حين أن يسمُو عن ذلك الأصل لكي يُعَوِّض عجزه الذي لا حيلة له فيه، ولكنا لو سمحنا للشاعر بذلك كان مَدعاةً للكسل واليأس الذي يُنافي الرجولة الصحيحة، هذا فضلًا عن أن تلك حيلةُ مَن ينطقون بما لا يفهمون، والذين يتحدَّثون عن الشعر كأنه وسيلة للتسلية واللهو السخيف، أولئك الذين سيُجادِلوننا في ذَوقِ الشعر، على حدِّ تعبيرهم، بنفس الجِدِّ الذي يجادلون به في توافه الأمور، كذوق الألعاب البهلوانية، أو ألوان الخمر المتباينة. لقد أُنبئتُ أن أرسططاليس قال عن الشعر إنه أعمق ألوان الكتابة فلسفة؛ وإنه لكذلك بلا ريب. إنه ينشُد الحق، ولستُ أعني الحق الذي يرتبط بفردٍ من الناس أو بمكانٍ من الأرض، ولكني أقصد الحقَّ العام ذا الأثَر الفعَّال، نعم لست أعني الحق الذي يعتمد صِدقُه على بُرهانٍ خارجي عنه، بل أقصد الحق الذي تسكُبه العاطفة في القلب حيًّا نابضًا؛ أقصد الحق الذي ينهَض بنفسه على نفسه دليلًا لصدقه، الحق الذي إذا احتكَم في أمره إلى قاضٍ ألهمه الثقة واليقين واستمد منه بدوره ثقةً ويقينًا. الشعر هو صورة الطبيعة والإنسان، وإن العثرات التي تعترض سبيل المؤرخ والراوية اللذَين يتوخَّيان الأمانة فيما يكتبان، والتي تعترض سبيل القُراء فيما بعدُ، لأَشدُّ هولًا مما ينبغي على الشاعر أن يُذﻟِّله من عقَبات، لو كان الشاعر يُدرِك ما لفنِّه من جلال. إن الشاعر لا يلتزم فيما يكتب إلا قيدًا واحدًا؛ إذ يَتحتَّم عليه أن يُتيح الطربَ بشِعرِه لكائنٍ من كان من البشر إذا ما توافَر لديه من المعرفة ما يُفرَض فيه. ولستُ أعني بتلك المعرفة عِلْمَ المحامي أو الطبيب أو الملَّاح أو الفلكي أو الفيلسوف الطبيعي، ولكنني أقصد معرفة الإنسان باعتباره إنسانًا، فإذا استثنيتَ هذا القيد الواحد لَمَا ألفَيتَ من العوائقِ ما يحول بين الشاعر وبين تصوير الأشياء، في حين أن آلافًا من تلك الحوائل تتوسط بين المؤرخ أو الراوية وبين ذلك التصوير.
ولا تظُننَّ أن في إلزام الشاعر أن يُهيِّئ لقارئه لذةً مباشرة بشعره حَطًّا من قَدْر فَنِّه، بل إنه على نقيضِ ذلك اعترافٌ بجمال الوجود اعترافًا يزيد من صِدْقه أنه صريحٌ لا مُواربةَ فيه؛ وإن تيسير تلك اللذة لعملٌ يسهُل ويهُون على من ينظُر إلى العالم نظرةً ملؤها الحب، فضلًا عن أنه فريضةٌ واجبة يؤديها إجلالًا للإنسان من حيث هو إنسان، فريضةٌ يؤديها في سبيل اللذة التي هي من بنائنا أُسٌّ جوهري عظيم؛ فباللذة يعلم الإنسان ويُحس ويعيش ويسعى. إن الإنسان لا يُعاطِف الإنسان إلا فيما يُوفِّر له السرور، ولستُ أُحب أن يُخطئ القارئ فَهمَ ما أريد؛ فحيثما نُشاطِر الناس ما يشعرون من ألَمٍ فإنما تنشأ تلك المشاركةُ وتتصلُ بفعل الروابط الدقيقة التي تربطها بإحساس اللذة؛ فإننا لم نُحصِّل من العلم، وأقصد به المبادئ العامة التي استقَيناها من التفكير في الحقائق الجزئية، اللهم إلا ما استَعنَّا على تكوينه بشعور اللذة، ثم لا يستقر في نفوسنا هذا العلم المُتحصَّل إلا بما نُحِسُّ نحوه من لذةٍ كذلك. وإن العلماء، كرجال الكيمياء والرياضة، ليُقِرُّون هذا ويُحسُّونه في أنفسهم، مهما يكن ما يلاقونه في سبيل علمهم من صِعابٍ تضيقُ بها النفس؛ وإنه مهما أصاب عالمَ التشريحِ من عَناءٍ في سبيل أغراضه العلمية فهو يُحِسُّ لذةً في عمله، وحيث لا يجد اللذة لا يُحصِّل العلم، فماذا تُرى يصنع الشاعر؟ إنه يرقُب الإنسان وما يُحيط به من أشياءَ تُؤثِّر فيه وتتأثَّر به بحيث ينشأ في نفسه مزيجٌ لا حَدَّ له من السرور والألم. إن الشاعر لينفُذ إلى الإنسان فيراه على سَجيَّته وفي مجرى حياته المعتاد، حيث يتأمل تلك المشاعرَ من لذةٍ وعَناءٍ في قَدْرٍ محدود من المعرفة المباشرة، وتُحدِّد نظَرَه طائفةٌ من العقائد والتقاليد وشذَراتٌ من العلم تتخذ بحكم العادة صبغة التقليد؛ نعم إن الشاعر لينفُذ إلى الإنسان وهو ينظُر إلى هذا الشتيت المترابط من الخواطر والمشاعر فيُصادفُ أينما وَجَّه النظر أشياءَ لا تلبث أن تُثير في نفسه من العواطف ما تقتضي طبيعةُ تكوينه أن تقترن بغبطةٍ تَرْجَحُها فتطغى عليها.
إلى هذا اللون من المعرفة الذي يصطحبه الناس جميعًا أينما ساروا، وإلى هذه العواطف التي يستمتع بها الإنسان بحكم جِبلَّته مدفوعًا بطبيعة حياته السائرة دون سواها، ينبغي أن يبذُل الشاعر أعظم عنايته. إنه لينظُر إلى الإنسان والطبيعة وكأنما قد أُعِدَّ كلاهما في جوهرهما ليكونا عُنصرَين متلائمَين، كما يَعُدُّ عقلَ الإنسان مرآةً طبيعيةً تعكس أجمل خصائص الطبيعة وأمتعها. وعلى ذلك ترى الشاعر يُناجي الطبيعة في مجموعها مدفوعًا بشعور اللذة الذي يرافقه فلا يفارقه طَوالَ دراسته، إنه يُناجي الطبيعة وفي مشاعرَ شديدةِ الشبه بتلك التي يستثيرها العالِمُ في نفسه فتنشأ خلال عمله وعلى الزمن من طولِ ما يتحدث إلى جزئيات الطبيعة التي تُكِّون موضوع دراسته. إن معرفة الشاعر والعالِم كليهما إن هي إلا اللذة، غير أن معرفة الشاعر تُكِّون جزءًا لازمًا من وجودنا، وإرثًا طبيعيًّا لا ينفك ملازمًا لنفوسنا، أما عِلم العالِم فلا يعدو شخصه ونفسه، فإن سار إلى نفوسنا كان وئيد الخطى، وهو لا يُثير فينا عاطفةً مُباشرة تربطنا بسائر إخواننا من البشر. إن العالِمَ لينشُد الحقيقة كأنما هي مَعِينُ خيرٍ مجهول لا تَصِلُه بنفسه الصلات؛ فهو يعشَقُها ويُحبُّها، وحيدًا لا يُشاطِره الحُبَّ إنسان، أما الشاعر فإذا غرَّد أنشودةً شاركَته في تغريده الإنسانية بأَسْرها، وإنه ليَغتبِط إذ يرى الحقيقة صديقهً للإنسان سافرةً عن وجهها ورفيقةً تُلازِمه ولا تَهجُره. إن الشعر من المعرفة كلها أنفاسُها المتردِّدة وروحُها الشفَّاف، إنه هو ما ترى على جبين العِلم من علائمِ العاطفة، وتستطيع أن تقول في الشاعر صادقًا ما قاله شيكسبير عن الإنسان من «أنه يَستذكِر الماضي ويتسلَّف مُقبلَ الأيام.» إن الشاعر حِصنٌ يذُبُّ عن الطبيعة البشرية فهو يحفظُها ويحميها، وينشُر الحُب والقُربي أينما ارتحل. إنه رغم ما يضرب بين البشر من تبايُن في الأرض والهواء واللغة والأخلاق والعادة والقانون، ورغم ما يتسلَّل من العقل فينمحي، ورغم ما تَعصِف به الأيام فيَنقَوِض، تراه يُوشِّج الأواصر بين الجماعة الإنسانية المترامية أطرافها بعاطفتِه ومعرفتِه، فيصِل ما قطَع الزمان وما نثَر المكان بين أفرادها. إن الشاعر أينما وَجَّه النظر صادفَ موضوعًا لخواطره، فلئن كانت نواظر الإنسان وحواسُّه هي بحقٍّ دليله الأمين، إلا أنه يُؤثِر أن يتجه إلى حيثما يجد مجالًا من الإحساس يسمو فيه بجناحَيْه ويُحلِّق. وإذن فالشعر من ضروب المعرفة بأَسْرها هو الأول والآخر؛ فإنه باقٍ على الزمان ما بقي قلب الإنسان، فإن جاء اليوم الذي يُكتب فيه لبُحوثِ العلماء أن تُشعِل في نفوسنا وفي آرائنا ثورةً خطيرة أيًّا كان لونها، مباشرةً كانت أو غير مباشِرَة، إذن لنهَض الشاعر مما يغُطُّ فيه اليوم من سُباتٍ، ولأخذ الأُهْبة ليقتفيَ أثر العالِمِ، فلا يتأثَّر بنتائجه العامة غير المباشرة وحدها، بل يقفُ إلى جانبه يجول بإحساسه بين الأشياء التي يغُوص فيها العلم نفسه. إن أعمق ما يكشِفُه علماء الكيمياء والنبات والمعادن لموضوعاتٌ جديرةٌ بالشاعر وفنِّه كأي موضوعٍ آخر مما يستخدم فيه الشعر. نعم إنه إذا أقبل اليوم الذي نألف فيه هذه الدقائق العلمية، والذي نُحس فيه بأن لتلك الجوانب التي يسبح فيها أبناء العلوم بأفكارهم شأنًا في حياتنا صريحًا جليًّا باعتبارنا كائناتٍ تَشْقى وتَسْعد، أقول إنه إذا جاء ذلك اليوم الذي يشيع فيه بين الناس ما نُسمِّيه اليوم بالعلم، شيوعًا يدنو به من قلوبهم حتى يكتسي ثوبًا من لحم ودم؛ عندئذٍ ترى الشاعر يجود بروحه الإلهية ليُعين العلم أن يتخذ صورة الحياة، ثم تراه يستقبل هذا الوليد الجديد، صديقًا مخلصًا حميمًا لعشيرة الإنسان، فلا ينبغي إذن أن يذهب الظن بقارئٍ إلى أن رجلًا هذا إيمانه بمنزلة الشعر السامية، تلك المنزلة التي حاولتُ أن أبسُطها فيما سلف، سيُشوِّه ما في أشعاره من قداسةٍ وحقٍّ بزخارف اللفظ الزائلة الفانية أو يُحاوِل أن يستثير الإعجاب بنفسه بأن يصطنع فنونًا لا يَتحتَّم اصطناعُها إلا إذا صدَق ما يزعمون لموضوع الشعر من ضَعَةَ.
إن ما قلتُه حتى الآن يصدُق على الشعر إجمالًا، ولكنه يَصدُق بصفةٍ خاصةٍ على الأجزاء التي يَنطِق فيها الشاعر على ألسنةِ شُخوصه. وجديرٌ بنا في هذا الصدَد أن نَعترِف بأن ثَمَّةَ نفرًّا ممن أُوتوا الحِسَّ الرهيف لا يُسلِّمون بأن المواضع التمثيلية من الشعر تكون مَعيبةً بمقدارِ ما تنأى عن اللغة الطبيعية التي يتحدَّث بها الناس في حياتهم، وبنسبةِ ما يَصبغُها الشاعر بألفاظه هو، سواءٌ كانت تلك الألفاظ خاصةً به بصفته الشخصية، أو باعتباره عضوًا في أُسْرة الشعراء؛ أعني باعتباره منتميًا إلى قومٍ ينتظر الناسُ منهم أن يتخذوا ألفاظًا خاصةً بهم ما دامت عبارتهم قد انفَردَت دون غيرها بالوزن.
لسنا إذن نُريد أن تُكتب الأجزاء التمثيلية من الشعر بأسلوبٍ ممتاز؛ فقد يكون هذا الأسلوب الممتاز مستساغًا وضروريًّا حينما يُحدِّثنا الشاعر بنفسه وعن نفسه، بل إني لأُنكره حتى في هذا، وأعود بالقارئ إلى الوصف الذي أسلفناه للشاعر، فلن يجد بين صفاته التي عدَدْناها جوهرية في تكوين الشاعر صفةً يختلف بها عن سائر الناس من حيث النوع؛ إذ هو يُباينهم في الدرجة وحدها. ومجملُ ما قيل هو أن الشاعر يتميز عن سائر الناس قبل كل شيءٍ بقابليَّته العظيمة للتفكير والشعور حين لا يكون ثَمَّةَ مُؤثِّرٌ خارجي مباشر يستثير ذلك التفكير أو الشعور، ثم هو يتميز عن سائر الناس بمقدرته الفائقة على التعبير عن تلك الخواطر والمشاعر على نحوِ ما نشأَت في نفسه. وهذه العواطف والأفكار والمشاعر هي نفسها ما يختلج في نفوس الناس من عواطفَ وأفكارٍ ومشاعر، وإحساساته الحيوانية كما تتناول الأسبابَ التي تخلُق تلك المشاعر والإحساسات. إنها تبحث في فعل العناصر الأُولى وفيما تراه العين من مظاهر الوجود، فهي تستعرض الزعازع العاصفة وضوء الشمس الساطع، ودورة الفصول، وما يتعاوَر الأرض من بَردٍ وحَر، وما يُصيب الناس من فقد الأصدقاء والأقرباء، وما يُثير في الناس الأذى والشحناء، والأمل وعرفان الجميل، وما يدور في صدُورهم من خوف وأسى. تلك وأشباهها هي ما يصف الشاعر من أشياء وما يبسُط من مشاعر، وهي هي الأشياء والمشاعر التي تظفَر عند سائر الناس بالحب. إن الشاعر ليشعر ويُفكِّر بروح العواطف البشرية، فكيف إذن يجوز أن يختلف أسلوبه اختلافًا جوهريًّا عن اللغة التي يتحدث بها الناس جميعًا، وأُريد بهم من يشعرون في قوة ويَرَوْن في وضوح؟ إنه لمن الهيِّن أن نُقيم البرهان على استحالة ذلك، ولكن هَبْه مستطاعًا لا استحالة فيه، إذن فيجوز للشاعر أن يستخدم لغةً ممتازة حين يُعبِّر عن مشاعره هو إن كان في ذلك إرضاءٌ لنفسه ونفوس من يشاكلونه. غير أن الشعراء لا يكتبون للشعراء وحدهم، وإنما هم يخاطبون الناس بشعرهم؛ وعلى ذلك، فإذا لم يكن الشاعر من دعاة ذلك اللون من الإعجاب الذي يعتمد على الجهل، وتلك اللذة التي قد يستشعرها من يُنصِت إلى كلامٍ لا يفهمه، نقول إذا لم يكن الشاعر من أنصار ذلك اللون من الإعجاب وتلك اللذة لوجب أن ينزل من عليائه المزعومة؛ فلكي يثير عاطفةً مبصرة ينبغي أن يُعبِّر عما يدور بنفسه على نحوِ ما يُعبِّر سائر الناس عما يدور بنفوسهم؛ لأنه إذا عمَد إلى اختيار لفظه مما يتحدَّث به الناس في حياتهم الواقعة، أو إذا هو أنشأ ما يُنشِئ من شعر وروحُه مُشبعٌ بما يستخدم الناس من ألفاظ — إذ لا فرق بين الحالتَين — فإنه يُجنِّب نفسه التواء السبيل، ويُمكِّن القارئ أن يتهيأ لشعره، وذلك بعينه هو ما يَدفعُني أن أحتَفِظ للشعر بوزنه؛ فخليقٌ بي أن أُذكِّر القارئ بأن صفة الوزن هذه تجري على قاعدةٍ معروفةٍ ونظامٍ مطَّرد، وهي تختلف في ذلك عن الصفة التي تُسمَّى عادةً «بالألفاظ الشعرية»؛ إذ الشاعر وحده هو الذي يتحكَّم في هذه الألفاظ، فهي لذلك تخضع لما لا نهاية له من تقلُّب الأهواء، الذي لا يُمكِّن القارئ أن يُهيِّئ نفسه في شيء من اليقين لأسلوبٍ مُعيَّن من الشعر. إن مبدأ «الألفاظ الشعرية» يضع القارئ تحت رحمة الشاعر المطلَقة، عليه أن يرضى بما يحلو للشاعر من صور وألفاظٍ مما يرتبط بالعاطفة التي يُنشِئ فيها الشعر. أما الوزن فهو بعكس الألفاظ الشعرية يسير وَفْقَ قانونٍ معلوم، يُسلِّم به الشاعر والقارئ كلاهما راضيَين؛ لأنهما يسلُكان به سبيلًا قصدًا، ولا يعترضان به مجرى العاطفة إلا فيما أجمعَت شواهدُ العصور المتتابعة على أنه يسمو ويرتفع باللذة التي تُثيرها تلك العاطفة.
وحقيقٌ بي الآن أن أجيب سؤالًا لا إخال القارئ إلا سائله، وهو: ما دمتُ أنشُر هذه الآراء، فلماذا كتبتُ ما كتبتُ شعرًا؟ وجواب هذا السؤال مُتضمَّن فيما سلف، ولكني أضيفُ إلى ذلك جوابًا آخر؛ فقد لجأتُ إلى الشعر أولًا لأنني مهما أسرفتُ في التزام القيود، فلا تزال معروضةً أمامي تلك العناصر التي تُكوِّن أنفسَ جوانب الكتابة بأَسْرها، نَثرًا كانت أم شِعرًا، فما تزال أمامي عواطف الناس النبيلة وأعمالهم الممتعة، بل ما تزال الطبيعة بأَسْرها منشورة الصفحات أمام ناظري، وكلُّ هؤلاء يُمدُّني بما ليس يُحصى من صور الخيال ووسائل التعبير، ولكن لنفرض جدلًا أن كل ما يأخذ باللب من هذه الأشياء نستطيع أن نصِفه بالنثر وصفًا رائعًا، فماذا يُغريني بالانزلاق في هذا الزلَل بأن أُضيف إلى ذلك الوصف النثري فتنةً أجمعَت الأمم كلها على أنها من خصائص الكلام المنظوم؟ سيقول المعارضون إن شطرًا ضئيلًا جدًّا من لذة الشعر يجيء من الوزن، وإنه من الغفلة أن أكتب كلامًا منظومًا ما لم تصحبه زخارفُ الأسلوب الصناعيةُ الأخرى التي تُلازم النظم عادة، وإنني إذا عرَّيتُ عبارتي عن ذلك التنميق حرمتُ قارئي مما يفعله الأسلوب في إثارة الخواطر حرمانًا يَرجحُ على كل متعةٍ يهيئها له الوزن القوي، فإلى هؤلاء الذين ما يزالون يكافحون دفاعًا عن ضرورة اقتران الوزن بضروبٍ معينة من زخرفة الأسلوب حتى يكونَ له ما نرجو من أثَر، والذين أراهم يبخسون جدًّا من قوة الوزن في ذاته، إلى هؤلاء أُلاحظ — وحسبي فيما أظن هذه الملاحظة تبريرًا لهذا الديوان — أن هنالكَ من القصائد ما يدور حول موضوعاتٍ أكثر من هذه تواضعًا، وصيغت في أسلوبٍ أشدَّ من هذا الأسلوب بساطةً وتجرُّدًا عن الزخرف، ومع ذلك فهي خالدةٌ باقية، يستمتع بها الناس جيلًا بعد جيل، فإذا كانت البساطة والتجرُّد عن التنميق عيبًا، فإن هذه الحقيقة التي ذكرتُها لتنهض دليلًا أقوى دليلٍ على أن قصائدي — وهي أقلُّ بساطةً من تلك القصائد المشار إليها وأقلُّ منها تعرِّيًا عن وسائل التزويق — قادرةٌ على إثارة اللذة في نفوس الناس في يومنا هذا. وإن ما أردتُه الآن قبل كل شيءٍ هو أن أُبرِّر ما كَتبتُه مُتأثرًا بهذا الرأي.
لو كنتُ آليتُ على نفسي أن أكتب دفاعًا شاملًا عن المذهب الذي أُؤيِّده في هذه المقدمة، لكان حتمًا عليَّ أن أتناولَ بالتحليل مختلفَ الأسباب التي عنها تَنشَأ اللذة التي نتذَوَّقُها في تلاوة الشعر. وإننا لنذكُر بين الرئيسي من هذه الأسباب مبدأً يعرفه جيد المعرفة أولئك الذين اختصُّوا فنًّا من الفنون، كائنًا ما كان، بتفكيرٍ دقيق، وأعني به استمتاع العقل بإدراكه أوجُهَ الشبه في أوجِه الخلاف؛ هذا المبدأ هو المعين الأكبر لفاعلية العقل، كما أنه المورد الأساسي الذي يستمد منه العقل غذاءه؛ فها هنا في هذا المبدأ ينشأ اتجاه الشهوة الجنسية وكل ما يتصل بها من عواطف، وهو الذي ينفُخ في أحاديثنا السائرة ما فيها من حياة. وعلى دقة إدراكنا لأوجه الشبه في أوجه الخلاف، أو لأوجه الخلاف في أوجه الشبه، يتوقَّف ذوقنا وشعورنا الأخلاقي، وقد يكون من المجدي أن أُطبِّق هذا المبدأ على وزن الشعر، فأُبيِّن أن هذا هو الأساس الذي يُمِدُّ الوزن بما يحمله إلينا من لذةٍ عظمى، كما أُبيِّن على أي نحوٍ تنشأ تلك اللذة، غير أن حدود المقدمة لا تأذن لي بالدخول في هذا الموضوع، فلأكتفِ من هذا بموجزٍ عام.
لقد أشرتُ إلى أن الشعر فيضُ المشاعر القوية فيضًا ذاتيًّا، وأنه ينبع من عاطفةٍ نستذكرها في حالة الهدوء، فما تزال تلك العاطفة المُستذكَرة موضع التأمُّل، حتى يحدث شيءٌ من ردِّ الفعل فينمحي على أثَره ما يشتَمِلنا من هدوء، ثمَّ تنشأ بالتدريج عاطفةٌ أخرى قريبةُ الشبه بالعاطفة الأُولى التي كانت موضعًا للتفكير، فلا تلبثُ هذه العاطفة الثانية أن تملأ شِعابَ العقل. في مثل هذه الحالة الشعورية يبدأ إنشاءُ الشعر الصحيح، ثمَّ يتصل الإنشاء في حالةٍ شعورية شبيهة بتلك، ولكن العاطفة، أيًّا كانت نوعًا ومقدارًا، تُثير ضروبًا مختلفة من اللذة تَختلِف باختلاف أسبابها؛ فالعواطف — مهما تباينَت — إذا وصَفَها العقل راضيًا، استَمَد منها العقل بصفةٍ إجمالية شعورًا مرِحًا، فإذا كانت الطبيعة كما تراها من الحذَر بحيث لا تسكُب في نفسِ الشاعرِ عاطفةً إلا إذا قَرَنَتها بنشوةٍ حتى يظلَّ في غبطته، فواجب الشاعر أن يُفيد بهذا الدرس الذي تُلقِّنه إياه الطبيعة، وحَتمٌ عليه بنوعٍ خاص أن يَقرِن دائمًا العواطف المختلفة التي يبثها في شعره لقارئه، بقسطٍ وافر من اللذة إن كان عقل القارئ قويًّا سليمًا؛ فجَرْسُ الكلام المنظوم وموسيقاه، وإدراك ما لَقِيَه الشاعر في نَظمه من عُسر، واللذة التي تَقترِن في أذهاننا اقترانًا أعمى بالكلام الموزون المقفَّى لمجرد أننا قد استمتعنا بمثل تلك اللذة من قبلُ في عبارةٍ تُطابِق هذه أو تُماثِلها وزنًا وقافية، والإدراك الغامض الذي ما ينفَكُّ يتجدد، بلغةٍ شديدة الشبه بلغة الحياة الواقعة ولكنَّها مع ذلك تُبايِنها أشد التبايُن لما ينظم ألفاظها من وزن؛ كل هذه تُحدِث في نفس القارئ شعورًا مُركَّبًا بغبطةٍ تتسلَّل إليه من حيث لا يدري، وهي غبطةٌ مفيدة جدًّا في تخفيف الألم الذي نُحسُّه دائمًا في ثنايا الوصف القوي للعواطف العميقة. ويحدُث هذا الأثر دائمًا إذا ما التهَب الشعر بالعاطفة والشعور، أمَّا في الشعر الخفيف فإن القارئ يستمد مُتعتَه بغير شكٍّ من سلاسة الوزن وتدفُّقه. وكل ما ينبغي أن أُشير إليه في هذا الموضوع أن أذكُر ما سيُنكِره أفرادٌ قليلون؛ ذلك أنه إذا كان ثَمَّةَ وصفان لعاطفة أو لأخلاق أو لأشخاص، وكان كلا الوصفَين جيِّدَ العبارة غير أن أحدهما نثر والثاني شعر، كان الشعر خليقًا أن يُتلى مائةَ مرة إذا قُرئ النثر مرةً واحدة.
أما وقد بسطتُ قليلًا من الأسباب التي دفعَتْني إلى اصطناع الشعر فيما كتبتُ، والتي حدَث بي أن أَتخيَّر موضوعاتي من الحياة العامة، وأن أُحاول الدنُو بعبارتي من لغة الناس الحقيقية، فإنني إذا كنتُ كذلك أسرفتُ في تفصيل الدفاع عن قضيةٍ هي قضيتي فلقد كنتُ كذلك أُعالج موضوعًا يهمُّ الناسَ أجمعين؛ لهذا سأُضيف كلماتٍ قلائل، أُشير بها إلى هذه القصائدِ المعيَّنة وحدها، وإلى بعض ما يُحتمَل فيها من عيوب؛ فأنا أعلم أن ما طرقتُ من موضوعاتٍ لا بد أن يكون في بعض المواضع خاصًّا وكان يجب أن يكون عامًّا، وأنني نتيجةً لذلك ربما أكون قد أخطأتُ في تقدير الأشياء فكتبتُ في بعض الموضوعات التي لم تكن جديرةً بالكتابة فيها، ولكني لستُ أخشى هذا النقصَ بقَدْرِ ما أخشى أن أكونَ في عبارتي قد تعنَّتُّ أحيانًا في أن أربط مشاعر وأفكارًا بألفاظٍ وعباراتٍ معينة؛ فذلك عَيبٌ ما أحسب أحدًا بمستطيعٍ أن ينجُو منه نجاةً تامة. وإني لذلك لا أشُكُّ في أنني قد سُقتُ لقُرائي في بعض المواضع مشاعر تثير السخرية، في عبارةٍ رقيقةٍ مليئة بالعاطفة، ولكني لو كنتُ على يقينٍ أن مثل هذه العباراتِ زائفةٌ حقًّا وضرورةُ الشعر وحدها تُحتِّم بقاءها رغم بطلانها، لارتضيتُ طائعًا أن أحتملَ كلَّ ما أستطيعُ من عناءٍ في سبيل تصحيحها، ولكن من الخطر أن أُحدِث هذا التحوير لمجرد أن أفرادًا قلائل ليس لرأيهم في الموضوع وزنٌ راجح، أو حتى لمجرد أن طبقةً خاصةً من الناس، تُريد ذلك؛ لأنه إذا لم يقتنع عقل الكاتب، أو إذا أصاب مشاعِرَه شيءٌ من التحوير، كان في ذلك أذًى جسيمٌ لنفسه؛ لأن مشاعِرَه هي قِوامُه ودعامتُه، فإذا أطرحها مرةً جاز له أن يُكرِّر هذا العمل، حتى يفقد عقلُه الثقة في نفسه، ويُصيبَه الفساد التام. وإني لأُضيفُ إلى ما تقدَّم أنه ينبغي للناقد أن يذكُر دائمًا أنه هو أيضًا مُعرَّضٌ لنفس الأخطاء التي يَتعرَّض لها الشاعر، بل قد يكونُ أشدَّ من الشاعر استهدافًا للخطأ؛ إذ لا يجوز أن نَفرِض في مُعظَم القُراء ترجيحَ ألا يكونوا على أتم العلم بمراحل المعاني المختلفة التي اجتازتها الألفاظ، أو بما تتصف به الروابط التي تصلُ تلك المعاني بعضها ببعض من تقلُّبٍ أو ثبات، كلا ولا يجوز بصفةٍ خاصة أن نقول إنه ما دام القُراء أقلَّ منا شَغفًا بالموضوع، فسيَقْضُون بحكمهم في الأمر في استخفافٍ وإهمال.
وما دمتُ قد وقفتُ بالقارئ هذه الوقفةَ الطويلة فأرجو أن يأذن لي في أن أُحذِّره من نوعٍ من النقد الباطل الذي يُوجَّه إلى الشعر الذي صِيغَ في لغةٍ شبيهة بلغة الحياة الواقعة. ولقد استطاع النقدُ أن ينتصر على مثل هذا الشعر حيثما صِيغ فيه الجِد بقالبِ الهَزْل، ولعل أقوى مَثلٍ لهذا النوع هذه الأسطرُ الآتية للدكتور جونسون:
ولنَعرِض بعد هذه الأسطر مباشرةً مقطوعةً من أجدر الشعر بالإعجاب، وأعني بها مقطوعة «الأطفال في الغابة»:
ولا بُد أن أتقدَّم إلى قارئي برجاءٍ واحد، وذلك أنه إذا حكَم على هذه الأشعار فليَحتكِم إلى شعوره الخاص، دون أن يركن إلى التفكير فيما يُحتمَل أن يحكم به الآخرون، فما أكثر أن تسمع إنسانًا يقول: أنا نفسي لا أمجُّ هذا الأسلوب في الإنشاء، ولا أكره هذه العبارة أو تلك، ولكنه قد يبدو وضيعًا سخيفًا لهذه الطائفة من الناس أو لتلك! ويكاد هذا اللون من النقد الذي يهدم كل رأيٍ سليمٍ صادقٍ يكون عامًّا بين الناس أجمعين، فليتشَبَّث القارئُ بشعورهٍ هو غير مُتأثِّرٍ بشعورٍ سواه، فإذا أحس في نفسه استمتاعًا بما يقرأ فلا ينبغي أن يسمح لهذه الأقاويل بأن تحُولَ دون استمتاعه.
وإني لعلى يقينٍ أن آخر ما يُدنيني من غايتي التي أقصد إليها هو أن أُبيِّن أي نوع من اللذة نصادفه، وكيف ينشأ، فيما نتلوه من أساليب الشعر التي تُخالِف أشد اختلاف هذه القصائد التي أُحاوِل أن أُقدِّمها الآن؛ إذ لا ريب في أن لتلك الأساليبِ لذةً لا تُنكَر، فسيقول القارئ إنه قد استمتع فعلًا بذلك الأسلوبِ وماذا تراه يرجو من الشعر غير هذا؟ إن قوة الفنون على اختلاف أنواعها محدودة، فإذا زعمنا للقارئ أننا إنما نقدم له صديقًا جديدًا بهذا الأسلوب الجديد خَشِيَ أن يكون ذلك على شرط أن ينبذ أليفة القديم؛ هذا فضلًا عما أشرتُ إليه فيما سلف من أن القارئ قد أدرك بنفسه المتعة التي لَقِيَها من الأسلوب القديم، ذلك الأسلوب الذي اختصه باسم الشعر وهو اسمٌ ما أعزَّه على النفس، وإنه لمن طبيعة البشر جميعًا أن يشعروا بواجب الثناء، وأن يدعُوَهم الشرف إلى الاستمساك بالأشياء التي لَبِثَت أمد طويلًا مصدرًا لاستمتاعهم، فلا يريد الإنسان أن يستمتع فحسب، بل إنه لَيميلُ أن يستمتع بطريقةٍ معيَّنة ألِفَها فيما مضى. ويكفي أن تكون هذه المشاعر كامنة في الناس لتدحَضَ ما شئتَ من براهين؛ ولذا فما أحسبني مُوفَّقًا في محاربتها؛ لأنني أوَدُّ أن أُقرِّر بأن القارئ لن يستمرئ الشعر الذي أُقدِّمه له الآن على النحو المرجو إلا إذا اطَّرح كثيرًا مما ألِفَ أن يستمتع به، ولو كانت حدود هذه المقدمة تأذن لي أن أُبيِّنَ كيف تنشأ اللذة بقراءة الشعر إذن لأزلتُ كثيرًا مما يعترض الطريق من عقبات، ولعاونتُ القارئ أن يُدرِك أن قوى اللغة ليست من الضيق بحيث يتوهَّم، وأن في مقدور الشعر أن يُهيِّئ متعًا أخرى أصفى طبيعةً وأدومَ بقاءً وأروعَ جلالًا. نعم إني لم أُهمل هذا الجانب من الموضوع إهمالًا تامًّا، ولكني في الوقت نفسه لم أقصِد إلى إقامة الدليل عليه بحيث أن أُبيِّن للقارئ أن اللذة التي تُحدثها ضروب الشعر الأخرى ضئيلةٌ وليست خليقةً أن تُستخدَم من أجلها قوى العقل السامية؛ إذ لو بيَّنتُ ذلك لكان ثَمَّةَ ما يُؤيِّدني إن زعمتُ أني لو حقَّقتُ بهذه الأشعار أملي لأنشأتُ بها نوعًا جديدًا من الشعر، هو الشعر بأدق معناه، الشعر الذي أُعِدَّ بطبيعته ليَبعثَ في الإنسانية كلها سرورًا لا ينقطع، والذي يعظُم شأنُه لما فيه من تَعدُّد الروابط الخُلقية وسُموِّها.
إذا ألمَّ القارئ بما قلتُه، وإذا قرأ هذه الأشعار، استطاع أن يَتبيَّن في وضوحٍ ما أقصد إليه من غرض، وسيرى إلى أيِّ حدٍّ قد دنَوتُ من غايتي، كما أنه سيُدرِك ما هو أخطَر من ذلك شأنًا؛ إذ سيُحقِّق لنفسه إن كانت غايتي جديرةً بالسعي لها أم لم تكن، وسيتوقَّف على قراره في هاتَين المسألتَين حقي في المطالبة باستحسان الجمهور.