أسطورة الميتافيزيقا

١

إنني في الفلسفة نصيرُ الوضعية المنطقية التي ما فَتِئ أصحابها حتى اليوم يجاهدون في تبليغ دعواها؛ وإن دعواها لتتطلَّب جهادًا شاقًّا طويلًا لتستقر في عقول الناس؛ ذلك لأنها حديثة العهد من جهة، لم يكَد عمرها يُجاوِز ثُلث القرن الأخير؛ فلم يمتدَّ بها الزمن بعدُ امتدادًا يُتيح لمبادئها وأصولها أن تَذيعَ في المجلات والكتب وقاعات الدرس؛ ولأنها من جهة أخرى إذا ما استقر بها المقام وطاب لها المَثْوى، فهي قمينةٌ أن تُقوِّض أنظمةً فكرية بناها أصحابها على عُمدٍ من الباطل، وأن تمحو من رءوس الناس ونفوسهم أوهامًا خلَقوها لأنفسهم — جادِّين أو هازلين — ثم طال أمدُ اشتغالهم بها حتى حسبوها حقائق، وحسبوا درسَها جِدًّا لا لهو فيه. والميتافيزيقا على رأس هذه الأنظمة الفكرية التي قِوامُها عبثٌ ووهم، والتي مصيرها إلى زوالٍ محتوم إذا ما مُكِّن للوضعية المنطقية من الذيوع.

وإنما أُناصر المذهب الوضعي المنطقي لأنني مؤمن بالعلم؛ ولما كان هذا المذهب — كما قلت في مقدمة كتابي «المنطق الوضعي»:

هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرةً للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلُقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم، فقد أخذتُ به أخذ الواثقِ بصِدقِ دعواه، وطَفِقتُ أنظُر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحُوَه. وكالهِرَّة التي أكلَت بنيها، جَعَلتُ الميتافيزيقا أوَّلَ صَيْدي، جَعلتُها أول ما أنظُر إليه بمنظار الوضعية المنطقية، لأجدَها كلامًا فارغًا لا يرتفع إلى أن يكون كذبًا؛ لأن ما يُوصف بالكذب كلام يَتصوَّره العقل، ولكن تَدحَضُه التجربة، أما هذه فكلامها كلُّه هو من قبيل قولنا: إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار — رموزٌ سوداءُ تملأ الصفحات بغير مدلول. وإنما يحتاج الأمر إلى تحليلٍ منطقي ليكشف عن هذه الحقيقةِ فيها.

٢

ولكي أحمل القارئ على الإيمان بما آمنتُ به، لا أُرغِمه على شَططٍ من الأمر، ولا أُطالبه بركوب صعابٍ وأهوال؛ وكلُّ ما أريده على التسليم به في بَدْء الأمر، هو أن الكلمات والعبارات التي تتألَّف منها اللغة، رموزٌ اصطلح الناس على استخدامها ليتم التفاهم، فإذا وجَدنا عبارةً لا تؤدي هذا الذي خُلقَت من أجله، أعني لو وجدنا عبارةً قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تَبيَّن أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقلَ إلى السامع شيئًا كان حتمًا علينا أن نرفض قبولها جزءًا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.

على أن الكلام لا يكون مفهومًا عند السامع، إلا إذا كان في مُستطاع هذا السامع أن يتصور طريقة لتحقيقه وتصديقه إذا أراد، فإذا قلتُ لصاحبي: «إن في هذا الصندوق أربعَ برتقالات.» ثم إذا كان صاحبي هذا متفقًا معي على مدلولات «صندوق» و«أربعة» و«برتقالة»، كان في إمكانه أن يُحقِّق هذا الذي أزعُمه له، فإن وجد القول مطابقًا للواقع صدَّقَه، وإلا فهو قولٌ كاذب، وفي كلتا الحالَين، تكون العبارة كلامًا مفهومًا؛ لأنها رسَمَت لسامعها الصورة التي يتوقَع أن يجدها في عالم الواقع.

لكن قارن هذا بكلٍّ من العبارتَين الآتيتَين:
  • (١)

    إن في هذا الصندوق أربع مشقرات.

  • (٢)

    الإنسان حرارة لها زاويتان قائمتان.

تجد أن العبارة الأُولى غيرُ ذات معنًى، لاحتوائها على كلمة «مشقرات» التي لا مدلُول لها، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجدٌ في الصندوق إذا أراد أن يَتثبَّت من صدقِ ما قاله القائل، والعبارة الثانية غير ذات معنًى كذلك، على الرغم من أن كل لفظةٍ منها ذات مدلولٍ متفَق عليه؛ لأن الألفاظ قد وُضِعَت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنًى.

نحن زاعمون لك الآن أن كل عبارةٍ ميتافيزيقية هي من أحد هذَين النوعَين؛ فهي إما مشتملة على كلمة أو كلماتٍ لم يتفق الناس على أن يكون لها مدلولٌ بين الأشياء المحسوسة، أو مشتملة على كلمة أو كلماتٍ اتفق الناس على مدلولاتها، لكنها وُضِعَت في غير السياق الذي يجعلها تُفيد معناها.

٣

لكنَّني أتحدث حديث الواثق بأن كل قارئٍ يعلم ما هي هذه الميتافيزيقا التي وضعتُها موضع الهجوم؛ كأنني غافل عن حقيقةٍ هامة جدًّا، وهي أنك قَلَّ أن تجد من المشتغلين بالفلسفة أنفسهم من يستطيع أن يُحدِّد لكَ موضوع الميتافيزيقا تحديدًا يُوافِقه عليه سائر زملائه؛ فإنه لمما يستوقف النظر حقًّا — كما يقول كولنجوود: «أن فلاسفةً كثيرين قد أنتجوا في الميتافيزيقا إنتاجًا غزيرًا، لكن هذا الإنتاج كله لم يشمل قَطُّ مراجعةً أساسية للجواب على سؤالنا: ما الميتافيزيقا؟»

ومهما يكن من أَمرِ هذا الخلاف بين المحترفين، فمن حق قارئي عليَّ أن أُقدِّم له تحديدًا مُبسَّطًا مفهومًا، إلَّا يكُن موضع إجماعٍ من هؤلاء، فهو على أقل تقديرٍ مقبولٌ من كثرتهم الغالبة؛ إذ إنه من الإجحاف بحق القارئ أن نمضي في حديثنا معه عن «الميتافيزيقا» وضرورة حذفها من قائمة المعارف الإنسانية، زاعمين له أن هذا الحذف سيكون خطوةً جريئة نحو تخلُّص الإنسان من أحمالٍ بَقِيَت على كتفَيه من عهد طفولته العقلية اللاهية المتعثرة؛ من الإجحاف بحق القارئ أن نمضي في حديثنا معه عن «الميتافيزيقا» وهو لا يدري ما هي ولو على سبيل التقريب.

لقد جرى العرف أن تُطلَق كلمة «فلسفة» على موضوعاتٍ مختلفة فيما بينها اختلافًا بعيد المدى، لكنها على اختلافها هذا يمكن تقسيمها قِسمَين؛ فهي إما موضوعاتٌ تحليلية تتناول الألفاظ والعبارات بالتحليل، وتلك هي المنطق وما إليه، وإما موضوعاتٌ «شيئية» — إن صَحَّ لي هذا التعبير — تتناول «أشياءَ» مُعيَّنة بالبحث.

على أن «الأشياء» التي تتناولها الفلسفة ببحثها تعود فتنقسم نوعَين؛ فهي إما «أشياءُ» لا تقع لنا في الخبرة الحسية؛ أي إننا لا نراها بالعين ولا نسمعها بالأذن ولا نلمسها بالأيدي، مثل «المطلق» و«العدم» و«القيم» و«الشيء في ذاته» … إلخ، وعندئذٍ يُسمَّى البحث بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نُصادِفه في العلوم الأخرى؛ كالإنسان، والمجتمع، واللغة، والتاريخ … إلخ، لكنها تُعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تُعالجها بها العلوم؛ وعندئذٍ يُسمَّى البحث فلسفةً طبيعية أو فلسفةَ التاريخ، أو فلسفةَ اللغة وهكذا.

فالميتافيزيقا — إذن — هي مجموعةُ أقوالٍ قالها قائلوها، ليصفوا بها أشياءَ لا تقعُ تحت حاسةٍ من الحواس. وسنُبيِّن لك أنَّ كل قولٍ يُحاوِل هذه المحاولة إنما يكون قولًا فارغًا ليس بذي مدلولٍ ولا معنًى، لا لأنه يعالج موضوعًا «صعبًا» يتعذَّر على العقل البشري إدراكه اليوم، وقد يستطيع ذلك غدًا، بل هو قولٌ فارغ لأنه لا يُعالج شيئًا على الإطلاق، وإن تَوهَّم قائله غير ذلك، وفراغ العبارات الميتافيزيقية من المعنى يرجع — كما أسلَفنا — لأحد أمرَين؛ فإما هي عباراتٌ فارغة لأنها تتحدث بألفاظٍ لم يتفِق الناس على أنها كلماتٌ دالة على أشياء، أو أنها تتحدَّثُ بألفاظٍ لها معانٍ متفقٌ عليها، لكنها وُضِعَت في غير سياقها المفهوم.

ولعله من المفيد في هذا الموضع، أن أذكر لك أن المذهب الوضعي المنطقي الجديد، يقصُر الفلسفة على العمليات التحليلية وحدها، ويأبي عليها التعرُّض لوصف «الأشياء»؛ لأن هذه «الأشياء» إن كانت مما لا يقع تحت حاسةٍ من الحواس — وهو موضوع الميتافيزيقا — فالقول فيها فارغٌ لأنه قولٌ في غير موضوع، وإن كانت مما تتعرض العلوم الأخرى لبحثه، كالإنسان والطبيعة وما إلى ذلك، فينبغي أن يتركَ أمرها للعلماء بمعاملهم وتجاربهم ومشاهداتهم؛ إذ ليس من حق الفيلسوف أن يُغلِق على نفسه أبواب داره، ثم يقول إن الطبيعة وصفها كذا والإنسان صفته كيت، إلا إذا أراد أن يجعل نفسه أضحوكة الضاحكين.

٤

ونضرب لك مثلًا مما يقوله الميتافيزيقيون، لنُبيِّن لك ما نريده حين نتهم الميتافيزيقا بأنها أقوالٌ فارغة من المدلول والمعنى:

يقول «برادلي» وهو من أكبر الفلاسفة الإنجليز المحدَثين، يقول هذه العبارة الآتية في سياق كتابه المشهور «المظهر والحقيقة»:

يدخل المُطلَق في تطوُّر العالم وتقدُّمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطوُّر أو تقدُّم.

ومعنى ذلك عنده — فيما أظن — أن العالم في سيره التطوُّري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن بما فيها من نبات وحيوان وإنسان، قد تأثَّر بعدة عوامل من بينها عاملٌ اسمه «المطلق»، لكن هذا «المطلق» على الرغم من أنه قد عَمِل على تطوُّر العالم وتقدُّمه من حالة إلى حالة، فإنه هو نفسه ثابت على حالةٍ واحدة، لا تطوُّر فيها ولا تقدُّم.

لو قال لنا عالمٌ بيولوجي إن اختلاف البيئة يُؤدِّي إلى تطوُّر الحيوان من حالة إلى حالة، رأيتَه يقول القول وفي كراساته الأدلة التي جمعها من مشاهداته؛ لأنه حين يقول مثل هذا القول لزملائه علماء البيولوجيا، لا يفترض أن هؤلاء الزملاء سيتلقَّون منه القول كأنه وحيٌ أُوحي به إليه من السماء، وفي مستطاع كل زميل أن يدحضَ له قولَه بمشاهداتٍ أخرى إن كانت عنده مشاهداتٌ أخرى من شأنها أن تدحضَ ما زعم، وهكذا يجري الأمر بين العلماء إثباتًا ونفيًا؛ الذي يثبت أمرًا إنما يُثبِته بما قد شاهَد، والذي ينفي أمرًا إنما ينفيه بما قد شاهَد كذلك.

ولو قال لنا متحدِّث في الشئون اليومية إن إخراج الحكومة للتسعيرة قد أدَّى إلى تطوُّر الأسعار من حالة إلى حالة، رأيته أيضًا يقول القول وعلى لسانه الأمثلة مما قد رأى في السوق؛ فقد كان البرتقال ثمنه كذا وأصبح كَيْت، ولك — إن أردتَ — أن تذهب إلى السوق لتُثبِت أو تنفي.

أما المتكلم أو الكاتب إذا ما تحدَّث في الفلسفة أو كتب، فإنه يُجيز لنفسه، ويُجيز له الناس — فيما يظهر — أن يُرسِل ألفاظه إرسالًا بغير حساب أو عتاب؛ لأنني إذا طالبتُ «برادلي» بأن يشير لي إلى شيء من الأشياء التي أعرفها، أو في مستطاعي أن أعرفها إذا شئتُ، إذا طالبتُه بأن يشير لي إلى شيء يكون هو «المطلق» المزعوم، لأرى أكان عاملًا من عوامل تطوُّر العالم — كما زَعَم — أم لم يكن، أنكَر عليَّ سؤالي؛ لأنه فيلسوفٌ ميتافيزيقي كتَب له الله في لوحه المحفوظ أن يَعرُج إلى السماء من حينٍ إلى حين، ليعلم هناك أن «المُطلَق» يفعل هذا ولا يفعل ذاك.

لو طالبتُ «برادلي» بأن يُشير لي إلى «المُطلَق» الذي يُحدِّثني عنه، كان أقل ما يعترض به عليَّ، هو أن ما يُشار إليه إنما يكون في مكانٍ معلوم وزمانٍ معلوم، أما «المُطلَق» فلا مكان له ولا زمان، وإلا لَمَا صَحَّ وصفُه بأنه مُطلَقٌ من كل قيد. كيف إذن عرفتَه يا صاحبي؟ إنكَ لا تعرف إلا الأشياءَ ذواتِ المكان المعين والزمان المعين، أم وهَبكَ الله بابًا من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي؟ أليست حواسِّي وحواسُّك سواء؟

لا، لا، يا صديقي — هكذا أتصوَّر المجيب قائلًا — ليس الأمر هنا موكولًا إلى الحواسِّ من عيون وآذان وأصابع، بل الأمر طريقه «الحَدْسُ» أو العيان العقلي المباشر.

هذا جميل، ولستُ أُريد أن أُضيِّق عليكَ ما قد وَسَّعه الله لكَ فأدرِكْ بحدْسِكَ هذا آفاق السماء ما استطعت؛ لكنكَ الآن تُحدِّثني أنا بما قد أدركت، وإذن فمن حقِّي عليكَ أن تُترجِم إدراككَ هذا باللغة التي أفهمها، أنا الذي لم يهَبْني الله ما وهَبكَ من «عِيانٍ عقلي مباشر»، فإن استطعتَ كان عيانُك العقلي هذا اسمًا آخر على ما أُسمِّيه أنا الإدراك بالحواس، وإن لم تستطع كان عليك أن تصمُت، أو كان لي أن أسُدَّ أذني فلا تسمع؛ إذ ما غَناءُ موجةٍ صوتية تُرسِلُها شفتاكَ لا تدلُّني على شيءٍ مما أفهم؟

إن كلمة «المُطلَق» لها معناها الذي اتفَقنا عليه، فإن سألتَ الخادم: أربطتَ الكلب إلى سِلسلتِه أم تركتَه مطلقًا؟ وأجابني الخادم: بل تركتُه مُطلقًا. ارتسَمَت عندي صورةٌ لِما وقَع، وفي مستطاعي أن أراجع الخادم فيما يقول، فأبحث عن الكلب لأرى أهو على الصورة التي رسمها لي الخادم أم هو على غيرها، وإن سألتُ التاجر: أأسعار الفاكهة مُقيَّدةٌ بتسعيرٍ رسمي أم هي مُطلَقة؟ ثم أجابني بأنها مُطلقة، فقد رسَم لي صورةً أستطيعُ أن أُراجع الأمور الواقعة لأتبيَّن أصدَق في رسمه لصورة الواقع أم كذَب.

هذا هو معنى «مطلق» كما اتفقنا، فيجيء فيلسوفٌ ميتافيزيقي ليزعُم «أن المطلق يدخل في تطوُّر العالم وتقدمه، لكنَّه هو نفسه لا يطرأ عليه تطوُّر أو تقدُّم.» فلا يكون لعبارته معنًى، لأنه استخدم لفظًا متفقًا على معناه في غير السياق الذي يحفظ له ذلك المعنى، وإلا فحدِّثني ماذا عساي أن أجد في ظواهر الطبيعة كلها مما يُثبِت هذا القول أو ينفيه؟ هَبْني قلتُ لذلك الفيلسوف: لا، بل ليس يدخُل المطلق في تطوُّر العالم وتقدمه. أو قلتُ له: لا، بل المطلق نفسُه يتعرض للتطور والتقدُّم. فما الذي يتغير في صورة الكون بين حالتَي الإثبات والإنكار؟ إن الكلام إذا كان له معنًى مفهوم، يستحيل ألا يكون هناك في عالم الأشياء الواقعة فرقٌ بين إثباته ونفيه؛ فالفرق واضح بين قولي: «إن الكلب مُطلَق.» وقولي «إن الكلب ليس مطلقًا.» وما دمتُ أُدرِك كيف تتغير صورة الأشياء بين حالتَي نفي القول وإثباته، فالقول ذو معنًى مفهوم، وإلا فهو فارغٌ لا يدُل على شيء.

٥

كلام الميتافيزيقي فارغ من الدلالة والمعنى؛ لأن كل عبارةٍ منه إثباتها ونفيها سواء من حيث ما تكون عليه صورة العالم. إن اعتراضنا على العبارات الميتافيزيقية لا يقوم على أساس خطئها في ذاتها؛ لأننا لو قلنا إنها خطأ، كان معنى ذلك أنها تُصوِّر شيئًا، وغاية الأمر أن الصورة لا تُطابِق ما يجري هناك في الخارج، بل اعتراضنا قائم على أساس أنها ليست بذات معنًى على الإطلاق من الوجهة المنطقية؛ إنها لا تكون خطأ ولا تكون صوابًا؛ لأنها لا تصور شيئًا، وهي لا تُصوِّر شيئًا لأنها قد استخدمَت الألفاظ اللغوية استخدامًا يخرج على القواعد التي اتفق الناس عليها لكي يجيء كلامهم مفهومًا مقبولًا.

لقد سبق «كانت» إلى القول باستحالة الميتافيزيقا، لكنه بنى تلك الاستحالة على أساسٍ آخر، بناها على أساسِ أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات؛ وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده، حقيقةٌ واقعة، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي الذي أُناصره؛ هي عند «كانت» حقيقةٌ واقعة بمعنى أنه لو كان الإنسان على غيرِ ما هو عليه في إدراكه للأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة؛ هي مستحيلة الآن لأن العقل الإنساني لم يُخلَق لإدراكها، كما لم تُخلق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنَى بحكمِ ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة؛ إنها أقوال لا تدل على شيء إطلاقًا، بحيث يجوز لنا أن نسأل أيمكن حقًّا أن يدرك الإنسان هذا الشيء أم لا يدركه.

أئذا قال لك قائل: «إن الإسكبرانوس يدخل في تطوُّر العالم وتقدُّمه لكنه هو نفسه لا يتطوَّر ولا يتقدَّم.» — حين يكون «الإسكبرانوس» رمزًا ملفقًا لا معنى له — جاز لك أن تقول: إن عقلي قاصر عن إدراك ذلك؟ كلا؛ فرفضك لمثل هذه العبارة إنما يقوم على أساسِ أن هذه الرموز التي وضَعها صاحبها في هيئة العبارة اللغوية، ليست هي من العبارات اللغوية في شيء، وبالتالي وجب منطقيًّا حذفها؛ إنها ليست خطأ كما أنها ليست صوابًا، لأن الوصف بالخطأ أو بالصواب لا يكون إلا للعبارات المقبولة من ناحية الاتفاق اللغوي أولًا.

إنك إذا زعمتَ للعقل الإنساني حدًّا لا يستطيع أن يُجاوزَه، ثم زعمتَ في الوقت نفسه أن وراء ذلك الحد «أشياء» هي فوق إدراكه، كنت تُناقِض نفسَك بنفسِك؛ لأن اعترافك بوجود تلك «الأشياء» وراء الحد المزعوم، هو في ذاته دليلٌ على عبورك إلى المنطقة المحرمة، ومثل هذا النقد نُوجِّهه إلى «كانت»، الذي جعل استحالة المعرفة الميتافيزيقية مسألةً سيكولوجية لا منطقية؛ إذ إنه يجعل الاستحالة متوقفةً على قدرة العقل وعدم قدرته، أما أصحاب الوضعية المنطقية فرأيهم في هذه الاستحالة هو أنها قائمة على أن أقوال الميتافيزيقا تَفقِد الشروط الأولية للغة التي يمكن فهمها، وإذن فهي مرفوضة منذ البداية على أساسٍ منطقي، ولا شأن هنا لقدرة العقل أو عدم قدرته.

وما دامت الميتافيزيقا كلها كلامًا فارغًا على النحو الذي بينا، فماذا نحن صانعون بهذه الأسفار الضخمة التي تراكمَت لدينا على مَرِّ القرون مما كتبه الميتافيزيقيون؟ إنه لعزيز عليَّ وعليكَ أن تُلقى هذه الأسفار — كما كان ينبغي لها — طعامًا لألسنة النار، أو أثقالًا في قاع المحيط، وإذن فلنُبقِ عليها، ليقرأها القارئ — إذا أخذَه الحنين إلى الماضي — كما يقرأ أساطير الأولين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤