الشك الفلسفي
من لُطفِ الله ببعض رجال الفلسفة أن قد جَعلَ لكلٍّ منهم قلبَين في جوفٍ واحد، بحيث يقولون شيئًا، ويفعلون شيئًا آخر، ولو لم تكن هذه حالَهم في كثيرٍ جدًّا من الأحيان لهلَكوا بين عشيةٍ وضُحاها!
فما يُسمُّونه بالشك الفلسفي، هو من بين هذه الأشياء التي يقولونها ولا يتصرَّفون على أساسها أبدًا، كأنما هم عالمون في قرارة نفوسهم أنهم إنما ينطقون هُراء، بل إن هذا هو بعينه ما أردتُ أن أكتُب لك فيه اليوم، فأنا زعيمٌ لك بأن رجال الفلسفة لا يُسمُّون «بالشك الفلسفي» إلا موقفًا لا يكون فيه مجالٌ قَطُّ للشك عندهم ولا عند غيرهم من عباد الله.
ولعل خير طريقةٍ نتناول بها الموضوع، أن نضرب مثلًا أو مثلين للشكِّ كما يفهمه الناس في حياتهم، ثم نُعقِّب على ذلك بالنظر في أمر الفلاسفة لنرى إن كانوا يعيشون مع الناس في دنياهم ويتكلمون بلغاتهم، أم إنهم اختصُّوا أنفسهم بصفةٍ عجيبة، وهي أن يستعملوا ألفاظ اللغة في غير معانيها ليَضِلوا عن عمد، ولا أقول ليُضلِّلوا؛ لأن أحدًا والحمد لله لا يَضِل بضَلالهم.
إذا قلتُ لزميلي ونحن سائران في ظلمة الليل: هنالك إنسانٌ واقف على حافة الطريق. ثم قال لي زميلي: لا، بل إنه جذعُ شجرة يشبه الإنسان على بُعدٍ في الظلام. فقد أسأله: وأنَّى لكَ ذلك؟ فيُجيب: إني أمر بهذا المكان كل يوم وأعرف ما فيه. فإما صدَّقتُه، أو ذهَبتُ معه إلى المرئي الذي أُشير إليه، فأراه على مقربةٍ أو ألمسُه بيدي إن شئت.
ذلك موقف يصور «الشك» كما نفهمه في حياتنا العملية، فقد كنتُ «أشك» إذا كان ما أراه شجرة أو إنسانًا، وكان هنالكَ أمامي طريقٌ أو أكثر لإزالة شكي هذا؛ فحسبي — وحسب كل إنسانٍ عاقل — أن أذهَبَ إلى الشجرة لأراها عن قرب، أو لألمَسَها، لكي يتبيَّن في يقينٍ ألَّا سبيل إلى الشك بعد ذلك.
ولكن اصطحِب معك في مثل هذا الموقف فيلسوفًا وستسمع منه عجبًا، سيذهب معك إلى الشيء المشكوك في أمره، وسيراه معك على مقربة، وسیلمَسُه معك بيديه، و«سيُوقِن» معك أنه «يرى» جذع شجرة لا إنسانًا، لكنكَ ما تكاد تقول له في براءة: إذن لقد زال الشك. حتى يضحك من جهلك؛ لأن «الشك الفلسفي» إنما يبدأ بعد زوال الشك كما يُفهم في الحياة العملية، فليس من الشك الفلسفي عنده ألَّا تدري أشجرةٌ أمامك أم إنسان، ثم تستخدم حواسَّك لتفصل في الأمر، إنما ينشأ الشك الفلسفي حين لا «يشُكُّ» الفيلسوف نفسه بأنه إزاء شجرة كما تدلُّه الحواس!
فسيسألك فيلسوفنا: من أدراك أن هذا الذي نراه شجرةً ونلمسه شجرة، لا يكون في حقيقة أمره حُلمَ حالم أو تخليطَ ذاهل؟ ألستَ أحيانًا تحلُم بأنك واقفٌ أمام شجرة ولا شجرة هنالك؟ ألا يَهذِي المحموم فيقول تلك شجرة، ولا شيء أمامه من الشجر أو ما يُشبهه؟ فلماذا لا نكون — أنا وأنت معًا — حالمَيْن أو هاذِيَيْن؟! هذا هو الشك الفلسفي!
وعلى ذلك فالشك الفلسفي لا يقوم إلا إذا «اتفَقتُما معًا» على أن ما تَرَيانِه شجرة؛ عندئذٍ فقط، أعني عندما لا يكون هناك شكٌّ في أمرٍ ما أنتما بصدَد النظر فيه، يبدأ الشك الفلسفي سائلًا: كيف تعلم أنها شجرةٌ حقيقة؟ وهذا بعينه ما قاله دیكارت زعيم الشك الفلسفي، حين أخذ يتشكَّك.
لكني سأجيب الفيلسوف الذي يشُك أمام الشجرة أنه قد يكون حالمًا غير يقظان، بجوابٍ بسيط، وهو: إنك كاذب في ادعائك الشك؛ إنك لا تشك أبدًا أنك حالم، بدليل أنك لا تَتصرَّف على هذا الأساس، لو كنت صادقًا في زعمك، لرأيتُكَ تفعل ما يفعله الناس حين يشُكُّون حقًّا أحالمون هم أم أيقاظ، إنهم عندئذٍ يصُبُّون على رءوسهم الماء البارد، ويهزُّون رءوسهم وسائر أبدانهم، ويسألون من إلى جوارهم: هل ترون ما نرى أم نحن حالمون؟ وأنت لا تصنع شيئًا من هذا، فأنت إذن على يقينٍ من أمرك، وادعاؤك الشك كذبٌ لا يليق، أو هو على أقل تقديرٍ استخدامٌ للفظة «الشك» في غير ما اصطلحنا عليه نحن البشر في حياتنا العملية!
أريد لقارئي أن يتصور دیكارت نفسه — هذا الذي اتخذ «الشك الفلسفي» منهجًا — وقد جلس في غرفته أمام المدفأة؛ ثم أُريد لقارئي أيضًا أن يفرض أن دیكارت عندئذٍ سيشك فعلًا — بالمعنى الذي نفهمه من الكلمة في حياتنا اليومية — سيشُكُّ في أن النار ما زالت هناك في المدفأة، فماذا هو صانع؟ إنه سينهض ليُحرِّك النار، أو ليقذف فيها بفحم أو خشبٍ جدید، أعني أنه سيتصرف تصرفًا معينًا على أساس شكِّه، لكن ماذا يقول القارئ في دیكارت، إذا ما قال له: من أدراني أن النار التي أمامي ليست حُلمًا من الأحلام أو هذیانًا من الهذيان؟ لو قال له ذلك، ثم نهض ليضع إبريق الشاي على هذه النار «المشكوك في أمرها» ليصنع لنفسه فنجانًا من الشاي، ماذا يقول القارئ إزاء ذلك؟ ألا يقول: إن الرجل يهزل حين يقول إني أشُك في أن هذه النار حلم، ثم لا يأخذه الشك أبدًا في أنها ستصنع له فنجان الشاي الذي يريد؟! إن أعجبَ العجبِ في هذا كله أن الفلاسفة لا يعدُّون الموقف موقفَ شكٍّ إلا إذا لم يكن في الموقف ما يدعوهم هم أنفسهم إلى الشك، فتراهم يتصرفون على أساس أن الأمر مقطوع باليقين فيه، وما هذا «الشك الفلسفي» إلا كلامٌ يُراد به تزجية الفراغ وتسرية الهموم — فيما أظن!
ثم أريد لقارئي أن يُصوِّر لنفسه صورةً أخرى، أريد أن يُصوِّر لنفسه فیلسوفًا وقف يُحاضر الناس في «الشك الفلسفي» فيقول لهم: من أدراني حين أقول إن هذا القلم الذي أمامي هو حقًّا قلم كما تدُلُّني الحواس؟ ألا يجوز أن أكون هاذيًا أو ذاهلًا، والحقيقة هي أن ما أمامي حيةٌ تسعى؟ سيقول ذلك وهو غاية في اطمئنان النفس، لا تختلج عضلاته ولا ترتجف أعصابه! ماذا تُراه كان يفعل لو كان صادقًا في شكِّه؟ أما كان يُمسك بشيءٍ صُلبٍ أمامه ليقتُل هذه الحيَّة قبل أن تفتكَ به؟ وهو إذ يفعل ذلك لا يكون بكل هذا الهدوء الذي نراه فيه، إنه سيضطرب لأن الموقف يتطلب اضطرابًا، لكنه لا يفعل من ذلك كله شيئًا، لسببٍ بسيط جدًّا، وهو أنه في الحق «لا يشك»، وإنما هو كلامٌ يقوله، لا يُريد من معانيه المفهومة للناس شيئًا!
وإن أردتَ زيادة في العجب من أصحاب «الشك الفلسفي» فاعلم أنهم لا يرضون بكلِّ ما يرضى به الصادق في شكه؛ فالصادق في شكه يريد شيئًا يزيل له الشك؛ فإذا شككتُ مثلًا وأنا في مخدعي أن رجلًا تسلل إلى غرفتي، كان هنالك أمامي طريقة أو طرق لإزالة الشك، منها مثلًا أن أضغط على زر المصباح لتنكشف لي الغرفة وأرى، فينقطع الشكُّ باليقينِ ويتغير نوعُ سلوكي بعد زوال الشك عنه قبل ذلك، أما «صاحب الشك الفلسفي» فلا يريد لشكه أن يزول، بل يستحيل لشكه أن يزول لو أراد زواله؛ لأنه يُسمي بالشك ما لا شك فيه. لو شك الفيلسوف على طريقته هل تسلَّل إلى الغرفة رجلٌ في ظلام الليل، ﻓ «هو»: أولًا، لا يتصرف أبدًا على أساس أنه شاك، فلا ينير مصباحه ليرى. ثانيًا، ولو رأى «قطعة» من الأثاث أمامه، فسيظل يسأل: ومن أدراني أن «هذه» ليست رجلًا قائمًا؟ ثالثًا، لن يستمع إلى خادمه أو زوجته أو كائن من كان إذا قال له: اطمئن. ﻓ «هذه قطعة» من أثاث، لأن هذه كلها أدلةٌ لا تُرضي؛ لماذا؟ لأنه «مقتنع» مع الناس بأنها «قطعة» من الأثاث ويُسمِّي نفسه شاكًّا، وما هو من الشاك في شيء، وإلا لسلَك مثل سلوكي حين شَككتُ في وجود إنسانٍ معي في الغرفة، وإلا لتغير سلوكه بعد أن رأى، ورأى الناس معه، ألَّا رجل هناك. الواقع هو أن الشك لا يكون «فلسفيًّا» إلا إذا استحال استحالةً قاطعة أن تجد ما يزيله، وكيف تزيل ما ليس له وجود؟ لقد أسلفتُ لك القول بأن الفيلسوف لا يشُك «فلسفيًّا» في أن ما أمامه شجرة، إلا إذا كان لا يشك «فعلًا» في أن ما أمامه شجرة!
ومما يستوقف النظرَ عند أهل الشك من الفلاسفة، أنهم يبحثون عن طريقةٍ واحدة لإزالة شكهم كله، مع أن الشك الحقيقي لا يكون إلا في موقفٍ معين، وطريقة زواله تكون خاصةً بهذا الموقف وما يحيط به؛ فقد تكون الوسيلة هي العين أحيانًا، أو السمع أحيانًا، أو اللمس، وقد تكون الوسيلة أداةً مُكبَّرة إذا تطلَّب الموقف ذلك وهكذا، أما أن تكون هناك طريقةٌ واحدة أعرف بها هل ما أمامي شجرةٌ حقًّا، وهل ما في الوعاء لبنٌ أو ماء، وهل الولايات المتحدة مؤلفة من تسعٍ وأربعين ولاية أو خمسين، فهذا مطلبٌ عجيب! لكن لا تعجب؛ فكل هذه الأمثلة لا يقبلها الفيلسوف أمثلةً للشك الفلسفي، أليس هنالك من الوسائل ما يدُل الشاكَّ في أمرها على الجواب الصحيح؟ حسبه هذا مُبررًا لرفضها؛ لأنه يُريد شكًّا، لا وسيلة للجواب الصحيح فيه، حتى يكون في رأي نفسه، وفي عُرف الناس، فیلسوفًا.