المُدرَك الحسي
إذا استطعتَ أن تُقرِّر على وجه الدقة ما طبيعةُ مُدركاتكَ الحسية على اختلاف صنوفها، استطعتَ بالتالي أن تحسم القول في مشكلةٍ من أعقد المشكلات التي شُغل بها الفلاسفة واهتم بأمرها علماء النفس على السواء، وعلى طريقة شرحك لتلك المدركات يتوقَّف مذهبُكَ الفكري كله؛ فهذه — مثلًا — برتقالةٌ أُدرِكها لونًا وطعمًا ورائحة ولمسًا، فماذا عساها في حقيقة أمرها أن تكون؟ ما طبيعة هذا الذي أُدرِكه؟ أَجب عن هذا السؤال تَرَ نفسكَ قد أجبتَ عن أسئلةٍ كبرى منها: ما طبيعة المادة؟ بل ما طبيعة هذا العالم الخارجي بأَسْره؟ وإن أنتَ أجبتَ على نحوٍ ما، سلكتَ نفسكَ في هذا المذهب الفلسفي، أو أنت أجبتَ على نحوٍ آخر، سلكتَ نفسك في ذلك المذهب الآخر؛ فإنما تختلف المذاهب الفلسفية اختلافًا قريبًا أو بعيدًا بمقدار ما تختلف في تحديد المُدرَك الحسي وطبيعته.
وتستطيع أن تطمئن بالًا؛ فليس في عزمنا أن ندُور بك على تلك المذاهب المختلفة كلها، لنقول لك إن هذه البرتقالة التي تُدرِكها بحواسِّك، هي في رأي المذهب الفلاني كذا، وفي رأي المذهب الآخر هكذا، بل سنشُق بك الطريق مختصرةً «قصيرة» إلى الرأي الذي نعتقد أنه الصواب.
فالرأي الصواب عندنا في حقيقة البرتقالة وغير البرتقالة مما يعجُّ به الكون من «أشياء» هو ما يُقرِّره الواقع كما تحكُم به الحواسُّ لا أكثر من ذلك ولا أقل؛ فلسنا نتردَّد لحظةً واحدة في صَم آذاننا عن كل لفظةٍ تُقال ولا يكون لها عند الحواسِّ مدلول! فلئن كانت حواسِّي تُدرِك من البرتقالة لونًا وطعمًا ورائحة وملمسًا، كانت هذه الصفات في مجموعها وفي طريقة تركيبها هي البرتقالة، ولا شيء وراء ذلك.
ولنرمُز إلى هذه المجموعة من الصفات بالرمز «أ ب ﺟ د»؛ فلا يتحتَّم أن أُدرك «أ ب ﺟ د» دفعةً واحدة لأقول إني أدركتُ برتقالة، بل إني لم أدركها ولن أدركها دفعةً واحدة قط، وإنما أدركتُها فُرادی، ثم ارتبطَت هذه الأفراد ارتباطًا جعل منها «برتقالة»، فإذا ما أدركتُ في لحظة ما «أ» وحدها (ولتكن اللون مثلًا) دارت في رأسي «عملية استدلالٍ» سريعة، أستدل بها ضرورة أن تكون سائر الصفات «ب، ﺟ، د» ممكنة الإدراك لو تهيَّأت لها الأسباب، فإذا كانت «ب» — مثلًا — رمزًا لطعم البرتقالة، كنتُ بمثابة من يُقرِّر قضيةً شرطية ويقول: إذا وضعتُ هذا الشيء الذي أُدرِك لونه الآن، على لساني، أحسستُ الطعم الفلاني. وبالطبع قد أُخطِئ في هذا الاستدلال، فأضَع ما ظننتُه برتقالةً على لساني وإذا به قطعةٌ من الحجر.
البرتقالة — إذن — (وكل شيء في الوجود) هي مجموعة صفاتها، أو إن شِئتَ فقل إنها مجموعةٌ معطياتها الحسية، أو إن شئت مرةً ثانية فقل إنها مجموعةٌ من حوادث، ولا شيء وراء حوادثها العابرة. لكن اللغة تخدعنا خداعًا لا ينتهي مداه، وفي محاولة التغلُّب على خداع التركيب اللغوي تتركَّز مجهوداتُ طائفةٍ كبيرة من الفلاسفة المعاصرين الذين ينعَتون «مذهبهم» باسم «الوضعية المنطقية» وإنما وضعتُ كلمة «مذهب» بين أقواس؛ لأن الوضعيين المنطقيين لا مذهبَ لهم، ولا يريدون لأي فیلسوفٍ في الدنيا أن يكون ذا مذهب؛ فالمذاهب التي هي وَصفٌ لما في الكون إنما تقع على كاهل العلماء وحدهم، كلُّ عالمٍ يصف الكون من ناحيته بالأساليب التي يرضاها العلم الوضعي، وأما الفيلسوف فمهمَّته تحليل اللغة التي يستخدمها هؤلاء تحليلًا يُزيل عنها جوانب خداعها؛ فمن ضروب الخداع اللغوي في الموضوع الذي نحن بصدَده، أننا نستخدم صيغة المضاف والمضاف إليه، فنقول: لون البرتقالة، طعم البرتقالة، رائحة البرتقالة، وهلُم جرًّا. فنتوهم عندئذٍ أن البرتقالة شيءٌ غير لونها وطعمها ورائحتها؛ لأن هذه الصفات كلها مضافة إلى شيءٍ آخر هو البرتقالة نفسها؛ ومصدر الوهم هنا هو تركيب العبارة اللغوية.
ولنعُد إلى رموزنا التي أسلفناها، فالبرتقالة قد رمزنا لها بالحروف «أب ﺟ د» (أ لونها، ب طعمها، ﺟ رائحتها، د ملمسها) وإذا أردنا أن نضع عبارة «لون البرتقالة» في صورتها الرمزية، كانت هكذا أ «أب ﺟ د» ومن هذه الصورة الرمزية يتضح في جلاء أن «أ» لا تزال جزءًا من صمیم البرتقالة، على الرغم من تكرار وضعها خارج الأقواس؛ فلا نستطيع أن نقول إن البرتقالة شيء غير لونها، لأن لونها كما ترى جزءٌ منها، وإنما خَدعَتنا اللغة بتركيبها.
ونستطيع ها هنا أن نحكم برأي في كل فلسفة تقول بوجود «الشيء في ذاته»؛ فهنالك فلسفاتٌ لا يقنعها من البرتقالة ما تُدركه الحواس منها، فذلك عندها قليل، ولا بد أن نضع إلى جانب مُدرَكات الحواس «برتقالة في ذاتها» هي التي تُوصَف بما تُوصَف به البرتقالة من لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ ولمس.
ورأي الوضعيين المنطقيين في مثل هذه المزاعم مُختصَرٌ قوي واضح، فقل ما شئتَ من ألفاظ، على أن تكون مستعدًّا لبيان مدلولات ألفاظِكَ هذه التي تقولها، أما إن قلتَ لفظةً ثم عجزتَ عن بيان مدلولها، كانت لفظةً فارغة لا بد من حذفها غير آسفين.
وعلى هذا الأساس يمكن سؤال الرجل الذي يقول لنا إن وراء صفات البرتقالة الظاهرة «حقيقةً» خافية، هي «البرتقالة في ذاتها». يمكن سؤال هذا الرجل بقولنا: بيِّن لنا مدلولَ هذه اللفظة، كيف أُدرِكه؟ ولستُ أحسب أنه سيجد الجواب عند الحواس.
لكنه سيَسهُل عليه أن يقول: هذا شيءٌ «أستدلُّه» بالعقل ولا ضرورة هنا لإدراك الحواس. ألست تعلم أن علماء الفلك قد رأوا «أورانوس» يتحرك حركاتٍ لم يستطيعوا تعليلها إلا بفرضهم وجود جِرمٍ سماويٍّ آخر لم يكونوا قد رأَوه بعدُ، وأطلقوا على هذا الجِرم السماوي المفروض اسم «نبتون»؟ فلماذا تُجيز لعلماء الفلك أن يستدلوا بعقولهم جرمًا لم يكونوا قد رأوه بعدُ بحواسِّهم، ولا تُجيز لنا أن نَستدِل وجود «البرتقالة في ذاتها» من ظواهر البرتقالة، حتى ولو لم تستطع الحواسُّ أن تدرك تلك البرتقالة الحقيقية الخافية؟
وجوابنا على ذلك بسيطٌ وهام، وهو أنكَ إذا فَرضتَ وجودَ شيء ثم تبيَّن أن العالم لا تتغير صورته إذا ثبَت فرضُك أو إذا أخطأ؛ فالفرض «لغوٌ باطلٌ لا معنى له»، فإذا قلتَ لي — مثلًا: إن وراء هذا الستار رجلًا مختبئًا. كان قولك ذا معنًی؛ لأن العالم تتغير صورتُه إذا صدَق قولُكَ عنه إن كذَب. لكن ما الذي يتغيَّر في العالم إطلاقًا إن صدَق أو كذَب افتراضُنا بأن وراء ظواهر البرتقالة «برتقالة في ذاتها»؟ إن البرتقالة ستظل في إدراكك لها هي هي سواءٌ صَحَّ الفرض أو أخطأ، إذن فليس هو بالفرض المقبول إطلاقًا، بل ليس هو بالكلام إطلاقًا، إنما هو ضرب من ضروب الخداع اللغوي التي ينبه لها الوضعيون المنطقيون، فلا تحسبن أن كل عبارةٍ لغوية تكون ذات معنًی مقبولٍ منطقيًّا إذا كان تركيبها اللفظي مقبولًا عند النحويين.
الشيء هو مجموعة معطياته الحسية، هو مجموعةُ آثاره على الحس، لا فرق في ذلك بين صفاتٍ ثانوية وأُخرى أولية، ولا فرق بين عَرضٍ وجوهر، فاجمع معطيات الحس حزمةً واحدة تكن لك طبيعة الشيء الذي تُدرِكه، ولا حقيقة له وراء ذلك؛ معطياتنا الحسية هي الأول والآخر والظاهر والباطن!
لكن مهلًا! ماذا أنت قائلٌ في خداع الحواس؟ أليست الحواسُّ ترى العصا مكسورةً في الماء وما هي كذلك في حقيقتها؟ هذا ما يُسارِع بقوله أعداء الحوا، وردُّ اعتراضهم هو أهوُن الهيِّنات؛ فالعصا مكسورةٌ فعلًا عند النظر وهي في الماء، مستقيمة عند اللمس؛ فإذا سُئلتَ ما حقيقة العصا؟ وجب أن تقول إن حقيقتها عندئذٍ هي أنها مكسورة في الرؤية مستقيمة في اللمس؛ لأن ذلك هو الواقع، وما خدعَتْك عينُكَ حين أدركتَ العصا مكسورة في الماء، لأن الموجات الضوئية المنبعثة من العصا عندئذٍ هي كذلك، وإنما تُخدَع العين لو رأَت العصا مستقيمةً في الماء رغم الأثَر الذي يطبعه الواقع كما هو.
ولو رأيتَ العصا مكسورة في الماء ثم استنتجتَ أنها ستكون منحنيةً كذلك عند اللمس، فالخطأ هنا في الاستدلال لا في الإحساس؛ لأنكَ أخطأتَ حين ظننتَ أن الرؤية واللمس لا بد أن يتفِقا مهما يكن وضعُ العصا.
إذا رأيتَ القرش مستديرًا من موضعٍ بيضاويًّا من موضعٍ آخر، فلا تقل مع بعض القائلين: تُرى ما حقيقة شكل القرش الثابتة وراء هذه الظواهر المختلفات؛ لأن حقيقة القرش هي هذه الظواهر المختلفات نفسها، حقيقة القرش هي مجموعةُ معطياته الحسية، ولو كان للقرش ألفُ ألفِ ظاهرةٍ مختلفة من مواضعَ مختلفةٍ فحقيقته هي هذه الآلاف كلها مجتمعة، ما دامت هذه الآلاف المختلفة كلها هي القرش في الواقع؛ إنه لا ضير عليك إذا سُئلت: ما حقيقة شكل القرش؟ أن تسأل بدورك: من أي موضع؟ لأنه مع اختلاف الموضع يختلف الشكل، ومن المكابرة الحمقاء أن أُغمض عيني عن الواقع لأصف شيئًا آخر ليس له وجود.
نعود فنُكرِّر ما أردنا تقريره، وهو أن المُدرَك الحسي هو مجموعةُ معطياته، وليس لنا الحق في افتراض وجود «شيء» بذاته يكمن وراء تلك المعطيات، وكأنما يُسلِّمنا هذا القول إلى عَرضِ أهمِّ النظريات السائدة اليوم عن الإدراك الحسي، التي أراد بها أصحابها أن يُخفِّفوا بعض الشيء من حدَّة هذه الواقعية المُتطرِّفة التي بسَطْنا خُلاصتها فيما سلف؛ فأصحاب هذه النظريات التي سنذكرها لك الآن قد هالهم أن يُقال إن المعطيات الحسية هي نفسها المُدرَك الحسي دون أن يكون هنالك «شيء» يبعثها! أو إن شئتَ فقل إن «الشيء» لم يعُد سوى نسيجٍ من الصفات كما تقع في الحواس! هالهم أن يُقال هذا وأرادوا أن يُنقِذوا «شيئية» المدرك الحسي من هذا الإسراف.
وفي رأينا أن «وایتهد» قد أخطأ هنا خطأَين؛ الأول هو أنه لم يلتزم حدود الملاحظة الصرفة كما ينبغي لأي عالمٍ أن يفعل! فالملاحظة التي لا تتحزب ولا تتعصب ولا تعرف الهوى تُقرِّر أن القرش في موضعٍ ما بيضاوي وفي موضعٍ آخر دائري، وإذن فالشكلان في حكم النظر سواء، وليس لنا أن نقول عن أحد الشكلين دون الآخر إنه يصِفُ القرش في حقيقته! ولعل ما دفع «وايتهد» إلى هذا الخطأ. هو احتفاظه بالفكرة التقليدية التي لا سنَد لها عند الملاحظة الدقيقة، وهي أن هنالك «شيئًا في ذاته» له حقيقةٌ ثابتة غير هذه الظواهر المتغيرة، ولكن حَذارِ أن يفهم القارئ من ذلك أني لا أُفرِّق أبدًا بين شكلَي القرش الدائري والبيضاوي؛ لأن هنالك فرقًا نُدرِكه بحاسةٍ أخرى هي حاسة اللمس؛ فالقرش عند اللمس دائري دائمًا، وإذن فلنا أن نقول إن دائرية القرش أبدی من بيضاويته، لا على أساس أن «القرش في ذاته» دائري، فليس هناك «شيء في ذاته» وراء معطياته الحسية كما قلنا، بل على أساس اشتراك حاسة اللمس مع حاسة النظر في إدراك هذه الدائرية أحيانًا، على حين أن اللمس لا يُدرِكه بيضاويًّا أبدًا، وإذن فنحن قد نُثبت للقرش دائريته دون أن تخرج من نطاق معطياتنا الحسية التي نُدرِكها، لنضرب في مجاهل «الشيء في ذاته».
والخطأ الثاني الذي أخطأه «وایتهد» هو أنه قال كلامًا أطلَق عليه «نظرية» وليس هو في حكم المنطق بنظرية على الإطلاق؛ لأننا نُعيد ما أسلفناه من أن الكلام لا يكون «نظرية» إلا إذا كان هناك فرقٌ في العالم بين صدقِ هذا الكلام وكذبه؛ عندئذٍ يكون في مستطاعنا أن نُثبِت أو ندحض هذه «النظرية»، أما إن كنا لا نستطيع قَطُّ أن نتصوَّر اختلافًا في إدراكنا للأشياء بين حالتَي صِدْق الكلام الذي يُقال لنا وكَذِبه، فمن حقنا أن نرفُض رفضًا قاطعًا أن يُوصَف لنا مثل هذا الكلام بأنه «نظرية».
وانظر إلى ما يقوله «وایتهد» من أن «القرش في ذاته» بغَضِّ النظر عن أوضاعه المختلفة وبغَضِّ النظر عن إدراك الحواسِّ له، دائريٌّ في حقیقته، واسأل نفسك: تُرى كيف تكون حالة القرش لو كان هذا الكلام صحيحًا، ثم كيف تكون حالتُه لو كان هذا الكلام خطأ؟
ولا أحسبُكَ مستطيعًا أن تُجيب؛ فإدراكاتنا للقرش لن تتغير، صَدَق هذا القول أو كَذَب، وإذن ﻓ «النظرية» المزعومة ليست «نظرية» على الإطلاق، بل ليست قولًا على الإطلاق؛ لأن القول شَرطُه أن يخبرنا بشيء، والخبر شَرطُه احتمالٌ أن يصدُق أو يكذِب، وليس يتحقَّق هذا الشرط فيما نحن الآن بصدَده.