نزعتان
لقد تعجَب أشد العجَب لهذَين الصديقَين، يتلازمان حتى لا يكادا يفترقان في غُدوٍّ أو رواح، فإذا هما اجتمعا لنقاشٍ رأيتَ فيهما نقيضَين لا يجتمعان، ولطالما سعيتُ إلى مجلس هذَين الصديقَين أستمتع بما يدور بينهما من حوار، يَعمُق أحيانًا ويضحل أحيانًا، ولكنهما فيه طَرَفا نقيضٍ على كل حال، ولست أذكُر أني جالستُهما مرةً دون أن يَرِد إلى خاطري هذا التقسيم الذي اقتَرحَه وليم جيمس، والذي يَقسِم الناس شَطرَين، يُطلَق على أحدهما «أصحاب العقول الحساسة»، ويُطلَق على الآخر «أصحاب العقول الصارمة»، ويضع في الفريق الأول المتفائلين والمُتديِّنين والمُوحِّدين والمُحافظين والقائلين بحرية الإرادة عند الإنسان، كما يَنظِم في الفريق الثاني المتشائمين والمُلحِدِين والمتشكِّكين والقائلين بالجبر في إرادة الإنسان والذين يعتمدون في الرأي على التجربة والحواس.
جلس الصديقان ذات مَساءٍ يتحدثانِ حديثًا حافلًا شاملًا، كأنما أرادَ كلٌّ منهما أن يبسُط نفْسَه بسطًا فلا يُخفي من مكنونها شيئًا.
قال الأول: سبحانكَ اللهُم ربي، قد خلقتَ هذا الوجود فسوَّيتَ، فكأني بهذي الكائناتِ أنغامٌ من لحنٍ متَّسِقٍ جميل، كل شيءٍ في الكون يُجاوِبُ كل شيء! انظر إلى غريزة الأمومة عند الحيوانِ تزدادُ شدةً ورسوخًا كلما ازداد النسل ضعفًا، وهي تزداد فتورًا كلما كان الصغار أقوى على احتمال الحياة بغير حنانِ الأمومة، وانظُر إلى هذه الزهرات التي لا تخصب إلا إذا وَجدَت ما ينقل اللقاح من ذكرها إلى أُنثاها، قد بدَتْ أروعَ ما يكون الزهر جمالًا في أعين النحل، فينجذبُ مشُوقًا إليها، ينتقلُ فرحًا مرحًا من زهرة إلى زهرة، فينقلُ معه اللقاحَ المُخصبَ من الذكر إلى الأنثى وهو لا يدري، ثم انظر إلى هذا الذي يَروِيه هيرودوت من أن الحيوان الخَطِر — كالأفاعي — لا ينسلُ إلا قليلًا وفي عُسرٍ شديد؛ لأن خطَرها وحده كفيلٌ ببقاء هذا النسل القليل، أما الحيوان الذي يقع فريسةً لغيره؛ لعجزه عن الدفاع ولأنه يصلُح أن يكون طعامًا — كالأرانب — قد مُكِّن له من النسل اليسير الكثير ليَضمَن البقاءَ بكثرة الأبناء؛ تلك وأشباهها — عندي — آياتٌ بينات على ما في الكون من تدبيرٍ حكيم.
فأجابه الثاني: وهي عندي أدلةٌ ناهضاتٌ على أن الطبيعة قد قست حتى أسرفَت؛ فهي في ذلك كرجل أراد أن يصيد أرنبًا في مزرعة، فأقفل المزرعة على ألوف الأرانب وجمع آلاف البنادق، وأخذ يصُبُّ ناره صبًّا حاميًا ليظفَر بالأرنب الذي يريده، أو كرجلٍ أراد لنفسه بيتًا يسكنه، فابتنى مدينةً بأَسْرها، سكَن منها منزلًا وخلَّف باقیها للدمار؛ إن هذه الطبيعة يا صاحبي تُهلِكُ شيئًا لتُبقي على شيء؛ إنها تُفني أمة لتُبقي على أمة، وتقتُل فردًا لتمهد الحياة لفرد؛ إنها تتلف زَرْعَ الزارع لتُسقِط المطر، وتَفتِكُ بحيوان ليحيا بلحمه حيوان.
قال الأول: أرسل بصَركَ يا أخي إلى الأُفق وانظر إلى هذا الجمال الفتَّان! انظر إلى الشفَق وقد خضَّب السماء، وإلى الأشجار السامقة وقد انتَثرَت في نظامٍ بديع، ثم إلى …
فقاطعه الثاني: صه! ماذا أسمع؟ إن طائرًا يصيح في هذه الأشجار نفسِها صَيْحة الفزَع، فلعل طيرًا جارحًا قد فتَكَ به ليَطعَم.
قال الأول: أفهم ما تريد، ولولا أننا في صدر الربيع، حيثُ الأرض قد لبِسَت زُخرُفَها وازَّیَّنَت في أعين الناظرين، فانتعش بين أحيائها الأمل والرجاء، لعَذَرتُكَ في هذه النظرة السوداء. إن كل ما حولنا ناطقٌ بنشوة الحياة وجمالها، وهذه الزهور اليانعة وحدها لحقيقةٌ أن تسلُكَكَ في لحن الوجود، ولكن …
فقاطعه الثاني: نعم، كانت هذه الزهور كفيلةً بهذا، لولا أني رأيتُ في طريقي إليك صبيًّا يبيعُها، وكان الصبي عاريًا جائعًا لا يَرحمُه الراحمون، فقلتُ لنفسي: أيكون في الدنيا جمال وبين دفَّتَيْها مثل هذا البائس المسكين؟!
واتجهَت أنظارُ الصديقَين إليَّ كأنما يستطلعان رأيي، فقلتُ: ليس لي معكما رأي، غير أني آمنتُ أن المنطق هُراءٌ في هُراء، إن تفكير الإنسان مُتأثِّر بمزاجه، إن اعتَدلَ هذا اعتَدلَ معه ذاك، وإن مالَ مال؛ فلا مناص من أن تری أنماطُ الناس المختلفة أنماطًا مختلفة من التفكير، ولا سبيل إلى وحدة الرأي إلا إن اتحدَ المزاج، وهذا محال؛ فحسبُكَ أن تعلم عن شخصٍ ما مزاجه لتَعلمَ كيف يُفكِّر؛ إن الدنيا لتعرض حقائقها أمام أبصارنا، فينظُر كلٌّ منا إلى هذه البضاعة المعروضة من ناحيةٍ تتفق ونَزْعَتَه، والعجيب أن كلًّا واجدٌ منها ما يُؤيِّد وجهة نظره؛ ذلك لأن ميل الإنسان يُمسِك بزمام انتباهه فيُوجِّهه الوجهة التي يريد، فيرى المتفائل من الظواهر جانبًا، ويرى المتشائم منها جانبًا آخر، ومن مجموعةِ ما يرى الإنسان ينشأ مذهبه.
فقال صاحب العقل الحساس لصاحب العقل الصارم — على حد تعبير وليم جيمس: لستُ أشُك في هذا الذي يقوله فلان؛ فلن يصلُح أمرك إلا إن طرحت المنطق الصارم جانبًا، وبدَّلتَ من مزاج نفسك لتُصبحَ قادرًا على فهم الوجود فهمًا صحيحًا؛ إنك لن تبلُغ حقائق الوجود العليا إلا إن أقبلتَ عليها إقبالًا على غير هذا النحو التحليلي الذي تَنهَجه، أما إن أصررتَ على تشريحه بمبضعِ العقل الجافِّ فلن تصل منه إلا إلى قمةٍ باردةٍ لا حرارة فيها ولا حياة، وإن أردتَ لنفسك الخيرَ فاصطنع في ذلك أسلوب المُتصوِّفِين.
فسأله زميله: وما ذاك؟
فأجابه: ألا تَعمِد في فهم الدنيا إلى عقلِكَ وحواسِّك؛ لأن حقائق الدنيا فوق العقل والحواس؛ إن التصوُّف يشترط مزاجًا خاصًّا بغيره لا يمكن الفهم، ولا يعتَدُّ كثيرًا أو قليلًا بما عند الباحث من علم ومعرفة.
فقال الثاني: إن كانت حقائق دنیاكم فوق مقدور الحواس والعقل، فهي عندي ليست جديرةً بمشقة البحث والفهم، إنني أدعو كل شيء أمام محكمة العقل، فإن استطاع أن يبسُط نفسه بسطًا واضحًا فذاكَ علمٌ صحيح، وإلا فهو نفايةٌ منبوذةٌ لا أقيم لها وزنًا ولا قدرًا؛ إن هؤلاء الذين يفِرُّون من حُكم العقل ليحتموا وراء الإيمان هم طبقةٌ دنيا من المفكِّرين، هم أصحاب عقولٍ عاجزة لا تملِكُ لنفسها دفاعًا من هجمات أصحاب العقول المنطقية الراجحة، إنِ التقَوا بهم في معترك مكشوف؛ هم فئة حُرِمُوا القدرة العقلية القوية فتراجعوا قائلين إنه حصرم، وإن حقائق الحياة العليا؛ الله، والنفس، وطبيعة الوجود لا يمكن فهمها بالعقل مهما بلغَت قُدرتُه.
فقال الأول: قل ما شئت، وحسبي أن العقل الصِّرف لم ينتج على مرِّ الزمن إلا فلسفاتٍ متضاربة، ولو ركن هؤلاء الأفذاذ إلى البصيرة لكان شأنهُم غير هذا الشأن.
•••
ثم استَطرَد الصديقان يتجادلان في شتى نواحي الفكر؛ فصاحب العقل الحسَّاس لا يتصور أن يكون الكون مادةً تخلو من الروح، بل الكون عنده نفسٌ كبری كهذه النفس الإنسانية الصغرى؛ إنه لا يُطيقُ أن يكون الإنسان دابةً على الأرض لا تربطها بأطراف الوجود أقوى الوشائج؛ فذلك في رأيه يؤدي به إلى عُزلةٍ روحيةٍ لا يحتملها، وأما صاحب العقل الصارم فلا يُريد أن يرى في الكون إلا ما تدُل عليه الحواس، مادة صماء، وما هذه الحياة الإنسانية في هذا الخضم الزاخر من المادة إلا فقاعةٌ ماضية عابرة، هي ظاهرة كهذه الظواهر الكثيرة لا أكثر ولا أقل.
وصاحب العقل الحسَّاس يرى في الإنسان كائنًا حر الإرادة، عقله يُملِي وهو يُنفِّذ، ولو لم يكن كذلك ما كانت له قيمته بين سائر الكائنات، وأما ذو العقل الصارم فمن رأيه أن الإنسان لا يملك الإملاء؛ إن الرغبة في شيءٍ ما، تلك الرغبة التي فُطِرت في طبائعنا، هي التي تريد، والعقل أداة تُدبِّر الطريق الذي يوصل إلى الغاية التي تنشدها الإرادة.
يرى العقل الحسَّاس أن الفكرة إذا امتزجَت بالعاطفة وأصبحَت شعرًا، زاد ذلك من قَدْرها، وأما زميلُه فمذهبه أن العاطفة تُقلِّل من شأنها، وخير للفكرة أن تُصَبَّ في قالبٍ واضح ولفظٍ مستقیم كالذي تَصطَنِعه العلوم.
•••
للصديقَين نزعتان مختلفتان في كل شيء، وإلى هاتَين النزعتَين ينقسم الناس جميعًا، فئة تحس نبض الحياة، وأخرى لا تُبصِر حولها غير الموت؛ فئة يلفِت نظَرها ما بين الكائنات من أوجُه شَبَه فتُوحِّد الوجود وتُوحِّد خالق الوجود، وأخرى يلفِتُ نظَرَها ما بين الكائنات من أوجُه خلافٍ فتُحلِّل الوجود في المعامل، فإذا به ذرَّاتٌ كثيراتٌ تكاد تخلو من المعنى؛ النزعة الأولى هي نزعة الفن والأدب وما إليهما، والثانية نزعة العلوم؛ الأولى تَتمثَّل في أفلاطون الذي تشابهَت في عينه الموجوداتُ فطَوَاها تحت نماذجَ من المُثُل؛ والثانية يُصوِّرها أرسطو الذي حلَّل كلَّ شيءٍ ونظَر إلى الأفراد على أنها حقائقُ في ذواتها تستحق البحث والنظر.
النزعة الأولى تسود الفكر الألماني؛ فالوجود على وجه العموم هو الحقُّ والأجزاء لا شيء، ومن ذلك اشتَقُّوا نظريتهم في الدولة، الدولة هي الحق والأفراد لا شيء، والنزعة الثانية تسود التفكير الإنجليزي؛ فلا بد في هذا التفكير من التحليل، بدأه بيكون وعقبه لوك، ويُمثِّله الآن برتراند رسل، فالأجزاءُ كل شيء والكل ليس إلا مجموعةَ أجزائه، ومن هنا استَمدُّوا رأيهم في الدولة، الأفراد كل شيء والدولة مجموعهم.
وعُدتُ بعد هذا الحوار الجميل معتبرًا مُتدبِّرًا، فاختلاف الصديقَين في الرأي هو في صميمه اختلافٌ بينهما في المزاج والتكوين، ومن العبث أن يُطلَب إلى أحدهما أن يُفكِّر على غِرارِ أخيه إلا إذا جاز أن يطلُب إلى لابسِ المنظار الأزرق أن يرى الدنيا كما يراها لابسُ منظارٍ أحمر، فأخَذتُ على نفسي منذ ذلك الحين أن يكون التسامُحُ عندي أوَّلَ الأخلاق.