الأدب العلمي
قال قائلٌ منَّا، وكنا أربعة نتحدَّث عن المحنة التي أحاطت بالأدب في مصر هذه الأعوام الأخيرة، فلم تعُد هناك — بحمد الله الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه — صحيفةٌ أدبية واحدة في وادي النيل المبارك، بحيث جاز لناقدٍ أجنبي معروف في بلده بالصدارة الأدبية، أن يزورَ مصر فيقول فيها إني وجدتُها أمةً عدد بنيها اثنان وعشرون مليونًا، ومع ذلك فليس فيها صحيفةٌ أدبية واحدة!
قال قائلٌ منَّا — وكنا نتحدث عن هذه المحنة الأدبية الكبرى: قد لا تكون المحنة أيها الإخوان محنة، فلعل الأمر لا يرتد إلى عجزٍ فينا، بل يرجع إلى مرحلةٍ متقدمةٍ بلغناها من التطوُّر الأدبي. ولم يَتمهَّل محدثنا ليسأله سائلٌ منا: وكيف كان ذلك؟ بل مضى يبسُط وجهة نظره قائلًا إن الأدب في مراحله الأولية يكون مداره الخيال، حتى إذا ما نهض واستقام على قدمَيه نبذ الخيال ولاذ بالحقائق والوقائع، أو بعبارةٍ أخرى، إن الأدب إذا ما شبَّ عن طَوْق طفولته تحوَّلَت مادته إلى كلامٍ يُشبه ما تنطق به ألسنة العلماء من حيث تقريره للحقائق الواقعة، فإن كان ذلك كذلك، فالحق أن مصر اليوم فيها كثرةٌ من الأدباء الذين يكتبون أمثال هذه الحقائق في لفظٍ جميل، وإذن فقد ارتحلَت فيها راحلةُ الأدب بحيث جاوزَت من طريقها خيال الطفولة وبلغَت نُضج الرجولة بسلامة الله ورعايته.
وأوشكتُ أن أجيب بما دار في خَلَدِي عندئذٍ من خواطر، لولا أنني وجدتُ المقام مقامَ سمرٍ خفيف لا يحتمل الأخذ والردَّ في نظرياتٍ وآراء ستَفنَى الإنسانية قبل أن ينتهي فيها الناس إلى رأيٍ حاسم؛ وذلك لأمور كثيرة، منها أن الأدب ليس علمًا، ولو كان من العلم أو ما يُشبِه العلم لانحسَمَت فيه مواضعُ الاختلاف في الرأي كما تنحسم بين العلماء في المعامل.
وأوَّل ما دار في رأسي من خواطر حين قال القائل الفاضل ما قاله، وأضاف إليه بأن تلك هي مراحل التطوُّر في العالم كله، أنْ سألتُ نفسي: إلى أي جزءٍ من أجزاء العالم يا تُرى يُشير المتكلم الفاضل؟ أين في العالم تطبيقُ ما يقوله من أن الأدب قد تطوَّرَت مادَّتُه فأصبَحَت هي نفسها الوقائع التي يتحدث عنها العلماء، لولا أن الأديب — دون العالِم — ينطقها بلفظٍ جميل؟ تُرى ماذا هو صانع بمعياره هذا لو قدَّمتُ إليه ما يُنتِجه الأدباء من قصصٍ ومسرحياتٍ وشِعر؟ بأيِّ مقياسٍ يُريد أن يقيس الجودة الفنية في القصة وفي المسرحية وفي القصيدة؟ ثم لماذا يصيب هذا التطوُّر عالم الأدب وحده دون سائر الفنون؟ لماذا لا تتطوَّر الموسيقى هي الأخرى فتصبح محاكاةً لأصوات آلات المصانع ولماذا لا يتطوَّر التصوير فيصبح رسمًا لأجهزة المعامل وهَلُمَّ جرًّا؟
•••
إني لأراني على مَبعدةٍ في الرأي من صديقنا المتكلِّم بحيث لا يُرجى لنا أن نتلاقى؛ فالرأي عندي هو أن العلم والأدب صِنفان من الكلام مختلفان اختلافًا يستحيل معه أن يتطوَّر أحدهما إلى الآخر كما يستحيل أن تتطوَّر الأغنام فتصبح أبقارًا، لا لأن الأدب متميز من العلم بجمال أسلوبه مع جواز اتحادهما في مادة القول، بل الاختلاف أعمقُ من ذلك وأبعد؛ فالعبارة العلمية من طِراز، والعبارة الأدبية من طِرازٍ آخر، ولن يستطيع جمال الأسلوب أن يعْبُر ما بينهما من فجوةٍ واسعةٍ سحيقة.
فالعلم تعميمٌ والفن تخصيص، العلم تجميعٌ والفن تفريد، العلم يُلاحظ الأشباه والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانونٍ واحد ينظمها، والفن يُلاحظ جزئيةً واحدةً يقف عندها ويُحلِّل خصائصها. العلم يستبعد نفس الخصائص التي يستبقيها الفن، فالخصائص الفريدة التي تميز فلانًا من الناس دون سائر الأفراد هي التي يستبقيها الفنان ليُحلِّلها ويُصوِّرها، وهي نفسها التي يستبعدها العالم لأنها ليست مشتركة بين سائر أفراد النوع الإنساني. يقول عالم النبات عن الزهر ما ينطبق على الزهر كلِّه ما دام منتميًا إلى فصيلةٍ واحدة، أما الفنان فيقفُ عند زهرةٍ واحدة في لحظةٍ زمنية واحدة يلقفُها من تيَّار حوادثها الدافق قبل أن تمضي إلى غير عودة، فيُصوِّرها رسمًا أو أدبًا أو ما شاءت له مادته التي يستخدمها وسيلةً لإثبات ما يُريد أن يُثبِته.
قل ذلك في كل شيء مما يعالجه الفن بشتَّى صُنوفه، وعلى أساس هذا المعيار تستطيع أن تُقيم نقدَكَ الأدبي. هَبْكَ بصدَد قصيدةٍ نظمَها شاعرها يُعبِّر بها عن عاطفة الحب عنده، فانظر إلى أي حدٍّ قد تفرَّدَت العاطفة التي يُعبِّر عنها بحيث أصبحَت كائنًا وحدها قائمةً بذاتها لا تشاركها لحظةٌ أخرى من لحظات الحب، لا أقول عند سائر المحبين، بل عند هذا المحب نفسه، إنه لا يكفي أن يتكلم عن «الحب» بصفةٍ عامة لنقول عنه إنه قد أجاد لأن «الحب» بصفةٍ عامة من حيث هو عاطفةٌ إنسانية يشترك فيها أفراد البشر أجمعين بدرجاتٍ مختلفة، هو من شأنِ علم النفس لا من شأن الفنان؛ فعالم النفس هو الذي يتكلم عن هذه العاطفة «بصفة عامة» أي إنه يتكلم عنها كما تبدو آثارها عند هذا الفرد من الناس وهذا وذاك في كل زمانٍ وكل مكان، هذا التعميم في الأحكام يكون علمًا ولا يكون فنًّا ولا أدبًا، أما الفنان أو الأديب فينظر إلى حالاته النفسية في حُبه ليلقَف منها حالةً واحدة، وهو إذ يُبرِز هذه الحالة الواحدة العابرة فإنما يُصوِّر لنا ما ليس يتكرر في سائر حالاته هو، دع عنكَ أن يتكرر عند سواه. إن المحب لا يشعُر بعاطفة الحب على لونٍ واحد وبنغمةٍ واحدة وأصداءٍ واحدة وأثَرٍ واحد، بل تراه إزاء حبيبه الآن بما لم يكُنه بالأمس وما لن يكونه غدًا، ومع ذلك فكلُّها مواقف من حبه، فلا يكفي أن يقول: «إني أحب» أو «إني في جحيم من الحب» أو «إني في نعيم منه» ليكون تعبيره أدبًا، مهما تبلُغ عبارته من الجمال، بل يتحتم أن يُخصِّص لنا خيوط العناصر النفسية التي جعلَت حبه جحيمًا أو نعيمًا أو ما شاء له أن يكون، ولو أجاد الملاحظةَ وأجاد الوصف لعَلِم أن شبكة هذه الخيوط مُحالٌ أن تلتقي على صورةٍ واحدة في لحظتَين متباعدتَين.
لقد قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس عبارته المشهورة: «إنك لن تخطُو في النهر مرتَين.» مريدًا بذلك إلى شرح رأيه القائل إن كل شيء في الوجود تتغير حالاته تغيُّرًا دائمًا دائبًا فكأنما حالاته المتابعة هي مجرى النهر الدافق، فأنتَ إذا ما خطوتَ في ماء النهر خطوةً ثم أردتَ أن تُعيد قدمكَ مرةً ثانية إلى حيث خطَت أول مرة وجدتَ أن الماء قد تغيَّر، وأن ما ستغوص فيه قدمُك الآن ليس هو نفسه الماء الذي غاصت فيه أوَّل خطوة. قال هرقليطس هذا القول ليصف به حقائق الأشياء كيف تتغيَّر وإن بدت للعين الغافلة ثابتةً ساكنة، ولئن صدَق هذا القول عن الثوابت ظاهرًا كالشجرة والجبل، فهو أصدقُ بالنسبة لمجرى العواطف والمشاعر عند الإنسان، التي لا تبدو ثابتةً حتى في ظاهرها الواضح للعيان.
فماذا يصنع العالِم وماذا يصنع الفنان وكلاهما قد ينظُر إلى نفس ما ينظُر إليه زميله؟ ماذا يصنع ذلك وماذا يصنع هذا إزاء هذه التيارات الدافقة من حوادث؟ أما العالم فيُحاول أن يتلمَّس بينها اطراداتٍ تتكرَّر على غرارٍ واحد، فإن وَجَد جعَل الاطِّراد المُتكرِّر واحدًا من قوانينه، ثم راح يقيس الأبعاد المكانية والزمانية في ذلك الاطِّراد الذي شَهِده بين الحوادث، لينتهي إلى صياغة قانونٍ فيه دقةٌ كمية، وأما الأديب أو الفنان فشأنه آخر، هو لا يلتمس اطِّرادًا في الحوادث بل تستوقفه حادثةٌ واحدة أو حالةٌ واحدة فيُثبِتها على اللوحة رسمًا أو يُثبِتها باللفظ أدبًا أو في أنغامِ الألحان موسيقى.
وليست كل حالةٍ جزئية في صلاحيتها للفن على حدٍّ سواء مع سائر الحالات، بل إن الفنان الحق لَيقَع على الجزئيات ذات الدلالة، أي الجزئيات التي تكونُ أكثر إيحاءً عند القارئ أو الرائي، فكاتب القصة أو المسرحية مثلًا لا يُجيد فنًّا إذا راح يَسرِد التفصيلاتِ عن شخصياته سَردًا بغير تمييز، بل صميم الفن هو الاختيار المُوفَّق فأيُّ التفصيلات في حياةِ هذا الشخص الذي أُصوِّره أهدى إلى حقيقةِ شخصِه وسِر نفسِه وكُنه وجوده؟ انظر إلى الأشخاص الأدبية التي ارتفَعَت إلى السماكين في سماءِ الأدبِ من حيث جودة التصوير؛ هاملت، الملك لير، دون كيشوت وغيرهم وغيرهم، انظر إلى هؤلاء جميعًا وسَلْ نفسك: ما سِرُّ الجودة الفنية في هذه الصورة الأدبية؟ وستجد السر في حُسن اختيار التفصيلات التي يُجريها الأديب كلامًا أو سلوكًا بحيث يتكوَّن له في النهاية شخصٌ متكامل فريد، أنه لا يرسم «الإنسان» بصفةٍ عامة، وإلا كان عالمًا بل يرسم هاملت، أو لير، أو دون كيشوت، يرسمُ فردًا واحدًا ذا طابعٍ متميز يستحيل أن يتكرَّر له في الوجود كله مثالٌ يُطابِقه كل المطابقة على الرغم من أن هذا الفرد المُتميِّز ذاته يَصِح اتخاذُه بعد ذلك نموذجًا من نماذج البشر تقربُ من طِرازه طائفةٌ من الناسِ قُربًا يزيد أو يقل عند مختلفِ أفرادِ هذه الطائفة.
سبيل العلم وسبيل الأدب مختلفان ولن يتطوَّر هذا إلى ذاك، ولستُ أُريد هنا أن أَتتبَّع شتى الفروق التي تُباعِد بينهما وتُبايِن، لكني أُريد أن أُثبت هنا رأيًا قد يبدو غريبًا عند القائلين بالنظرية التي أسلفتُ ذكرها في أول المقال، وهي أن الأدب اليوم في مرحلةِ رُقيِّه يكتب عن الوقائع والحقائق؛ إذ الرأي عندي هو نقيضُ ذلك؛ فبمقدار ما يكون الكلام وصفًا للوقائع والحقائق الخارجة عن نفس الإنسان بمِقدارِ ما يَبعُد عن الكمال الفني.
فالصورة الفوتوغرافية تُصوِّر الحقيقة الواقعة تصويرًا أمينًا؛ ولذلك لم تكن فنًّا بالمعنى الذي نَقصِد إليه حين نقولُ عن «بيكاسو» مثلًا أو «ماتيس» إنه فنان؛ فكثيرًا ما تقف وراء صورةٍ رسمَها «بيكاسو» أو «ماتيس» أو سواهما من أتباعِ هذه المدرسة الفنية المعاصرة فلا تدري ماذا أراد المُصوِّر أن يُصوِّر؛ ذلك لأنه لم يُرِد قَط أن يُصوِّر شيئًا خارجًا عن ذات نفسه؛ فهذا الخليط اللوني قد تَردَّد في خياله كما تَتردَّد الأنغام في أُذن الموسيقي فرسَمَها على لَوحتِه لتجيء موسيقى للعين أنغامًا من ضوء.
قف إلى جوار الجبل الذي يبهرُكَ شموخه واجعل زميلك الجغرافي يقف إلى جوارك إزاء الجبل نفسه، فإن أردتَ أن تُطالعنا بالأصداء النفسية التي تردَّدَت في فؤادك إذ أنت تنظر إلى الجبل، بلغتَ من الجودة الفنية بمقدار ما تَبعُد عن «الحقيقة» الخارجية كما يصفها زميلُكَ الجغرافي؛ فالجغرافي مطالبٌ بما لا يطالبكَ به أحد إذا وقفتَ من الجبل وقفة الأديب؛ الجغرافي مطالَبٌ بوصف الحق والواقع، وأما أنتَ فمطالَبٌ بحقٍّ آخر وواقعٍ آخر. هو مُطالَب بنقل الواقع الخارجي بعيدًا عن تأثراتِ نفسه، وأنتَ — على نقيض ذلك — مُطالَبٌ بنقل تأثُّراتكَ النفسية بغض النظر عن الواقع الخارجي.
إن الآلام والأفراح لا تكونُ إلا داخل نفوس أصحابها، وكذلك يكون الحب وتكون الكراهية وكل عاطفةٍ إنسانيةٍ أخرى، فماذا يُريدُنا أصحاب «الأدب العلمي» أن نصنع بهذه العواطف إذا ما همَمْنا بكتابة الأدب؟ الحق أننا قد تعوَّدنا من أدبائنا أن يكتبوا لنا في الصحف عن السياسة وغير السياسة من شئون، فحَسِبنا بحكم العادة أن الأدب إنما يكون هكذا معالجةً لموضوعاتٍ مما يصح أن يدقُّ فيها البحثُ بعض الشيء فيكون الحاصل علمًا، لكن ما هكذا الأدب الأصيل الخالق المبدع.
إذا أردنا أن نُقيم للنقد الأدبي ميزانًا عادلًا، فلنبدأ أولًا بتصور الأدب تَصوُّرًا صحيحًا. ومهما تكن هذه الصورة الصحيحة، فهي ليست مما يتصل بالعلم بسببٍ من الأسباب.