الليلة والبارحة
(أرسلت هذه المقالة من واشنطن.)
***
نعم ما أشبه الليلة بالبارحة في كثيرٍ جدًّا من الأشياء، ما أشبهَهُما في ظواهر الطبيعة وفي مظاهر الفكر سواء بسواء، ها هي ذي أوراق الخريف قد ملأت الطريق، وكلما أزالها الكانسون صبحًا، عادت منها مجموعةٌ أخرى فملأت الطريق من جديد، كما كانت تملؤه في عامٍ سلف وفي عامٍ قبل الذي سلف، والليل والنهار يتعاقبان كما تعاقبًا، والفصول تتتابع كما تتابعت، فديوان الطبيعة قصائده من شعرٍ مُقفًّى، السطر منه يقفو سطرًا في وزنه ورويه، وهكذا قل في الإنسان وفكره، فجديد الفكر يندثر قديمًا، ثم يعود القديم فيطفو على سطح الحياة جديدًا.
خطر لي هذا الخاطر عندما أخذتُ أتعقَّب خيوط النقد الأدبي في أمريكا، لأرى إن كانت هذه الكثرة من أصحاب النقد الأدبي هنا تنطوي في حقيقةِ أمرها تحت مبدأٍ واحدٍ عامٍّ شامل، يصح أن نُسمِّيَه بالمدرسة الأمريكية في النقد الأدبي، وليس بالهيِّن أن ترُدَّ هذه الأشتات المتفرقة إلى وحدةٍ واحدة، فإنه لَمَا يستوقف النظر حتمًا هذا العددُ الكبير من المجلَّات الأدبية التي كُتِبَت للخاصة، أو خاصة الخاصة، والتي لا نكاد نسمع عنها شيئًا في بلادنا؛ لأنها مجلاتٌ محصورة التوزيع، توشك أن تنحصر في مكتبات الجامعات، كأنما المختص يكتب للمختص ولا شأن لهذَين بسائر الناس، ولا بُد أن أذكُر حقيقةً هنا قبل نسيانها، وهي أن الكاتب في أمثال هذه المجلَّات لا يُؤجَر على ما كتَب، وحسبُه غنيمةً أدبيةً أن ينتقل مخطوطه إلى مطبوع، ومن أمثال هذه المجلات التي أعنيها «كِنْيُنْ» و«سيواني» و«هدسن» و«بارتزان»، كل مجلةٍ من هذه الطائفة تصدُر مُترعةً بالمقالات المستفيضة الدقيقة العميقة في النقد الأدبي، وأعودُ فأقولُ إنه ليس من الهيِّن أن ترُدَّ هذه الأشتات إلى وحدةٍ حتى إن كان بينها وحدة.
وإذن فلأبدأ من طرف آخر، لأبدأ من النقاد الذين أصدروا في النقد الأدبي كتبًا، فلعل الكتاب يبلور ما تشتته المقالة، وهنا لم ألبث أن عثَرتُ على الأسماء الضخمة في ميدان النقد، فسِرتُ مع هذه الأسماء راجعًا خطوةً بعد خطوة حتى وجدتُ ما يصلُح أن يكون نقطةَ ابتداء، وهو كتابٌ لأحد هؤلاء الأعلام، هو «سبنجارن» والكتاب عنوانه «النقد الجديد» صدر عام ١٩١١م، فهو معدود هنا كالإمام الذي يتبعه التابعون، و«النقد الجديد» متن يرجع إليه إذا ما أشكل الأمر على من أراد أن يكون في منحاه الأدبي تابعًا ﻟ «النقد الجديد»، فما هذا «الجديد»؟
«الجديد» عند سبنجارن وتابعيه — وسترى بعد قليلٍ أنهم هم الذين يَطْبَعون الحركة النقدية في أمريكا اليوم بطابعهم — هو باختصارٍ شديد: «أن يكون الأثَر الأدبي نفسُه موضع الاهتمام والدرس.»
فأنتَ تعلمُ أن الناقدِين ليسوا في ذلك على كلمةٍ سواء، فإذا ما صدَر أثَر أدبي، ولنضربْ مثلًا بكتاب «الأيام» لأديبنا الدكتور طه حسين، كان هنالك بصدوره أربعةُ أشياء؛ الكتاب الذي صدر، والكاتب الذي أصدره، والمحيط الذي ظهر فيه مكانًا وزمانًا، والناقد الذي يُريد أن يتناوله بالدراسة الأدبية، فأيُّ هذه الأربعة يكون محور الدراسة الأساسي وموضع الاهتمام الأول؟ هل نتناول «الأيام» نُحلِّله ما وَسِعَنا التحليل، ونُحلِّله عبارةً عبارة، لنرى خصائص الكلام على صفحاتِه ما هي بغض النظر عن شخص كاتبه أو زمان كتابتِه ومكانها؟ وعندئذٍ لا يكون ثَمَّةَ فرقٌ كبير عند الدارس بين أن يكون كتاب «الأيام» قد صدَر أمسِ أو منذ ألفِ عام، أصدَره الدكتور طه حسين أو أصدَره سواه، نُشر في مصر أو في البرازيل؟ هذه مدرسةٌ نقدية، ومدرسةٌ أخرى تقول إن كتاب «الأيام» إن هو إلا عبارةٌ عبَّر بها أديب عن بعض نفسه، إن هو إلا مشيرٌ يُشير إلى حقيقةٍ كائنة وراءه أهمَّ منه لأنها الأصل، وأشملَ منه لأنها وَسِعَت أكثر منه، وتلك الحقيقة الكامنة وراء الكتاب هي الكاتب الذي كتَب، هي الأديب الذي عبَّر، وإذن فليكن «الرجل» نفسه موضع دراستنا واهتمامنا، وهذه مدرسةٌ نقدية أخرى، ومدرسةٌ ثالثة تُريد أن تتعمَّق الأمور إلى أصولها الأُولى، فلئن كان الكتاب فرعًا عن أصل هو كاتبه، فالكاتب نفسه فرعٌ على أصلٍ هي ظروفه التي أحاطت به، كيف تستطيع أن تفهم كتاب «الأيام» حق الفهم دون أن تُلِمَّ مثلًا بالأزهر وبالريف المصري، ودون أن تُلِمَّ بكثيرٍ جدًّا من العلاقات الإنسانية كما وهي قائمة في الأسرة المصرية وغيرها من وحدات المجتمع؟ وتلك مدرسةٌ نقدية ثالثة، وأما المدرسة النقدية الرابعة فهي التي يُؤْثِر الناقد فيها أن يرتَد إلى نفسه هو، فلا الكتاب في ذاته، ولا صاحب الكتاب، ولا الظروف التي صدَر فيها الكتاب بذات قيمةٍ كبرى بالقياس إلى أثَر الكتاب في نفس ناقده؛ إذ بغير هذا الأثَر لا يكون ناقد ولا نقد، وإذن فلتكن المقالة النقدية هي تعبير الناقد عن إحساسه هو عندما قرأ الكتاب.
ونعود إلى مدرسة «النقد الجديد» في أمريكا، التي بدأها «سبنجارن» بكتابه هذا، لنقول إن «الجديد» عندها هو أن يكون النقد مُنصبًّا على الأثَر الأدبي نفسه، مُنحصرًا في النص ذاته، فأمام الناقد ترقيمٌ على صفحة من كتاب، هذا الترقيم هو مجاله الذي لا مجال له سواه، فمهمَّتُه — إذن — هي أن يُحلِّل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشَرت أمامه على صفحات الكتاب ليرى كيف رُكِّبَت أجزاؤها. على الناقد أن يسأل نفسه سؤالًا، هو: ما الغاية التي يستهدفها الكاتب، وهل هذه العبارات التي أمامه، هذه الرموز اللفظية التي يقرؤها، تؤدي إلى ذلك الهدف؟ وعملية النقد بعد ذلك النقد هي الإجابة عن هذا السؤال.
يظل «سبنجارن» يُعيد في كتابه مرةً بعد مرة قوله «النص ولا شيء إلا النص.» «الكلمات المرقومة على الصفحة» هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هي مهمة الناقد، إن الأثَر الأدبي لا ينبغي أن يعتمد في تفهُّمه على شيءٍ سواه، وإذن فلا بد أن تكون كل العناصر كائنةً فيه وبين دفَّتَيه؛ فإن اضطَرَّتكَ كلمةٌ في الكتاب أو عبارةٌ فيه إلى الرجوع إلى شيء في البيئة لتفهم معناها، فلا يزال معنى الكلمة أو العبارة هو الذي يشغَلُك.
هذا هو «الجديد» الذي أعلَنه «سبنجارن» فجاء بعده كثيرون ينحُون نحوه، وأعظمهم اليوم هو «بلاكمير» الذي تستطيع أن تعُدَّه عنوان النقد الأدبي في أمريكا الآن؛ يتناول «بلاكمير» الكتاب الذي يُريد نقده، يتناوله سطرًا سطرًا في دقة وتعقُّب يهُولانِك، وهو صارم جدًّا في تطبيق هذا المذهب «الجديد» ويعسُر الحساب إيما عُسرٍ مع الكاتب أو الشاعر، فلا بد لكل كلمة أن تُؤدِّي معناها الذي تعارفنا عليه، ولا بد لكل عبارةٍ أن يكون لها مدلولها من منطوقها، ومن كلامه أن الشاعر يستحيل أن يستبيح لنفسه نسبة المعاني إلى الألفاظ كما شاء هو لا كما شاء العُرف والاصطلاح الجاري، ويظل مع ذلك شاعرًا عظيمًا، إن للألفاظ معاني اكتسَبَتْها على مَرِّ الأيام، فإنْ أراد الشاعر أن ينقل إلينا شعوره مُحدَّدًا واضحًا لا لبس فيه ولا إبهام، فعليه باستخدام الألفاظ لتدُل على معانيها.
•••
تلك هي مدرسة «النقد الجديد» في أمريكا اليوم، فهل يسع دارسًا عربيًّا إلا أن يسأل: أين الجديد؟ وأين إذن ذهب عبد القاهر الجرجاني والآمدي؟! فقد رأيتُ شبهًا شديدًا بين «سبنجارن» و«عبد القاهر الجرجاني» كما رأيتُ شبهًا بين «بلاكمير» و«الآمدي».
فإن يكن «سبنجارن» قد ألحَّ في أن تكون عبارة النص الأدبي هي مدار النقد، وأن يكون الحكم على الأثَر الأدبي قائمًا على مقدار أداء العبارة للمعنى المراد ولا شيء غير ذلك، فقد ألحَّ قبله عبد القاهر الجرجاني بتسعة قرون أو نحوها.
معروف بأن جودة الأثر الأدبي إنما تعتمد على «المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام» كما تعتمد على مواقع العبارات بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض، ألحَّ عبد القاهر قبل سبنجارن بتسعة قرون في القول بأن تكون «الألفاظ خدم المعاني» وبأن العبرة لا تكون في الألفاظ مفردة، بل فيها مُركَّبةً في عبارات؛ لأن اللغة — كما يقول عبد القاهر — «ليست مجموعة ألفاظ بل مجموعة علاقات.» ومهمة الناقد الأدبي هي البحث في تركيبة العلاقات اللفظية التي يراها أمامه ليحكم بمقتضاها، فإن قال الناقد: هذه عبارةٌ جميلة. ثم إذا سألناه: ما أساس جمالها؟ عَرفَ كيف يُجيب لأنه سيُشير إلى خصائصَ في العلاقة الكائنة بين ألفاظها من حيث الاختيار والتقديم والتأخير والحذف والتصريح وما إلى ذلك.
كذلك وجدتُ شبهًا قويًّا بين «بلاكمير» و«الآمدي» في هذا البحث التفصيلي الذي لا يُبيح صاحبه لنفسه أن يقول حكمًا عامًّا على كاتبٍ أو شاعر، بل يحكُم على هذه العبارة من كلامه، أو هذه الصفحة من كتابه، وحتى إن عمَّم الحكم بعد هذا التخصيص فسيكون تعميمًا على أساسٍ علمي صحيح، «بلاكمير» و«الآمدي» كلاهما يضطلع في النقد بمهمة الجبابرة، كلاهما حتى الضمير يُقلِقه أن يترك بيتًا من الشعر من غير فحصٍ اعتمادًا على بيتٍ سواه، كلاهما ينقُد ما أمامه من نصوص ولا يتحزب قبل ذلك سلبًا أو إيجابًا، وإذن فهؤلاء الأربعة؛ الأمريكيان «سبنجارن» و«بلاكمير»، والعربيان «الآمدي» و«عبد القاهر الجرجاني» — إذا لم أكن مخطئًا في هذه الموازنة — يقيمون أحكامهم الأدبية على دراسة النص جزءًا جزءًا؛ ولذلك ففي مُستطاعِهم أن يُعلِّلوا أذواقهم بما يمكن أن يُسمَّى تعليلًا علميًّا.
على أنَّ الأعظم لا يكون دائمًا هو الأشهر والأوسع ذيوعًا وشيوعًا، ففي منزلةٍ أدنى من منزلة «بلاكمير» اليوم، نضع ناقدًا آخر هو «بيرك» على الرغم من أن «بيرك» أقربُ إلى نفوس القُراء وأكثر بينهم ذكرًا؛ ذلك لأنه يجعل من النقد تحليلًا نفسيًّا، ثم يجعل تحليله النفسي على أساسٍ من نظرية فرويد، تراه — مثلًا — يقول: لماذا أكثَر هذا الكاتب من ذكر الجبال؟ لا بد أن يكون ذلك رمزًا إلى شيء في عقله الباطن؛ فالجبال تُوحي بالصعود، والصعودُ بما فيه من خطواتٍ متتابعةٍ متناغمة دليلٌ على شيءٍ مكبوت في نفس الكاتب! مهمة النقد عند «بيرك» أن يكشف عن نفس الكاتب من كتابته، إذن فهو من مدرسةٍ نقدية غير المدرسة التي أنشأها سبنجارن وتَبِعه فيها بلاكمير؛ لأن مدار البحث هنا هو الكاتب لا الكتاب.
ويُخيَّل إليَّ أن هذا الاتجاه النفسي في النقد الأدبي هو الذي يُسيطِر على المشتغلين بالنقد عندنا في مصر، وخصوصًا أساتذة كليات الآداب، ولستُ أنا بمن يستطيع القول الفصل في ذلك؛ فلهم دراساتهم ولهم آراؤهم، لكني أعتقد — وهو اعتقادُ رجلٍ ليس البحث الأدبي الجامعي اختصاصه — أعتقد أن الاتجاه النفسي في دراسة الأدب مجالٌ للتخمين، وهو بعد ذلك يبحثُ شيئًا غير الأدب؛ لأن الكاتب إنسان وليس هو بالقطعة الأدبية، والمنوط بدراسته باعتباره إنسانًا هو عالم النفس لا الناقد الأدبي، وفي رأيي أن النقد الأدبي لن يكون جادًّا مجديًا إلا إذا جَعلْنا النصوص الأدبية مَدارَ التحليل والدرس.
هذان اتجاهان ملحوظان في النقد الأدبي في أمريكا، وليسا هما بكلِّ ما عساك ملاقيه فيما يكتبه النقاد؛ لأنك ستجد مجموعةً كبيرة جدًّا من أساتذة الجامعات ينقدون نقدًا شارحًا؛ فالشرح عندهم هو النقد، وستجد مجموعةً كبيرة جدًّا من نَقَدَة الصحف اليومية والمجلات الشعبية، يُجيدون العرض، لكنه سلعةٌ في السوق لا يظهر فيه مذهبٌ أدبيٌّ واضح المعالم.