شيوخ الأدب وشبابه
عندما تلقَّيتُ من صديقي الأستاذ أنور المعداوي كتابه «نماذج فنية من الأدب والنقد» وأدرتُ غلافه لأجده منذ فاتحة الكتاب يُعلِن الثورة ويتعجل الإصلاح في ميدان الأدب والنقد، شاعت في نفسي النشوة وقلتُ هامسًا: هذا ثائرٌ يلتقي بثائر وساخطُ يصافح ساخطًا؛ فكلانا على السواء «يضيق بأضواء الشموع، هذه الأضواء الضئيلة الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترُدَّ عادية الظلام.» وكلانا على السواء يريد «هدمًا للقيم البالية المتداعية يعقبُه بناءٌ على رُكَام الأنقاض.»
فالصديق الأديب قد نظر — كما يقول في مستهل كتابه — إلى أدبنا، فوجده في أكثر حالته «أدب المحاكاة الناقلة، لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد، لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابعٌ خاص وليست له شخصيةٌ مستقلة، وإنما ضاع طابعُه واختفت شخصيتُه في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بُغْية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان …»
كلام جميل! ولعل صديقنا الأديب قد أشفَق علينا من هذه الحال التي يستحيل ألا يُشفِق منها قلبٌ شاعرٌ حساس، وهو يقول هذا الكلام الجميل مقصورًا على الأدب، وأقوله أنا مطلقًا بغير قيد؛ فليس في حياتنا الفكرية كلها ذرةٌ من أصالةٍ خالقة؛ فلا العالم يكشف كشفًا جديدًا ولا الأديب يخلُق خلقًا جديدًا، وإني لأنظر إلى تاريخنا وأعجب كيف استحالت الرءوس عندنا إلى جماجمَ خاوية، تنفُذ إلى أجوافها أصداءٌ غامضة مما يقوله سوانا، فتَتردَّد الأصداء في جنبات الجماجم لتخرج على الألسنة والأقلام هشيمًا هو أقرب إلى فضلات النفاية. ولقد كتبت منذ أربعة أعوامٍ سلسلةً من ثلاث مقالات كان عنوانها «لماذا لا نخْلُق؟» بسَطتُ فيها تفصيلًا ما أُوجزه هنا: كيف أننا لا نخلق شيئًا جديدًا؟ وأذكُر أني حاولتُ التعليل لهذه الظاهرة، فردَدتُها عندئذٍ إلى علة، لا أزال أعتقد في صدقها، وهي أننا نتخلَّق بأخلاق العبيد، والخلْق لا يكون إلا لأحرار؛ لأنه إن كان العبد هو من يأتمر في حركته وسكونه بأوامرَ تأتيه من خارج نفسه، فنحن نحن العبيد في أخلاقنا وفي تفكيرنا على السواء؛ فالخُلق الصحيح عندنا هو ما أرضى السلطة الخارجية — أيًّا كان نوعها — والتفكير عندنا هو قطراتٌ تسرَّبَت من أرصفة الجمارك.
فما أحراني أن تَشيعَ النشوة في نفسي إذا ما صادفتُ كتابًا كتبه ثائرٌ على ما يُحيط بنا من قيمٍ وأوضاع، ويضع لنا «نماذج» جديدة لعلها تهدينا في مجاله — مجال الأدب والنقد — سواء السبيل؛ وإن النشوة لتشتد في نفسي حين أعلم أن صاحب هذه الثورة «شاب» بكل معنى الشباب الفتي الطموح؛ فلم أكن أعلم أنه «لم يتخطَّ الثلاثين» بعدُ إلا حين قرأتُ الكتاب، وهو كذلك «شابٌّ» في الأدب كما شَممتُ من مقدمة كتابه، بمعنى أنه جاء — على حد قوله — والمعولُ في يده يُحطِّم القيم كما هي في أيدي الشيوخ.
ففي مصر بدعةٌ أدبية لا أعرف لها نظيرًا في الآداب الأوروبية، وهي أن يُقسِّموا الأدباء إلى شيوخ وشباب، على أساس الأعمار؛ فهؤلاء شبابٌ لأنهم صغار في السن، وأولئك شيوخ لأنهم كبارٌ فيها؟ ولست في الحق أدري أي عامٍ على وجه التحديد يجعلونه فاصلًا بين القسمَين؛ لأنني أعرف كثيرين ممن يشتغلون بالأدب تتراوح أعمارهم بين الأربعين والخمسين، ولا أدري أين أضعهم؛ فلو وضعتهم مع الشيوخ كما ينبغي، ألفيتُ الشيوخ الأقحاح من أُدبائنا يستنكرون أن يدخل في زمرتهم دخلاءُ لم يألفوهم أعضاء في أُسرتهم على سفوح الأولمب، ولو وضعتُهم مع الشباب جافيتُ طبيعة الحياة، وظلمتُ أبناء العشرين والثلاثين.
وكان الأمرُ يستقيم بين أيدينا، لو فهمنا الشباب والشيخوخة في الأدب بمعنًى آخر؛ فشيوخ الأدب هم من ساروا على نهجٍ مُعيَّن في فهمهم للأدب ومعيارهم للإبداع الفني، حين يكون ذلك النهج قد استَقرَّت به القواعد منذ حين، ولا فرق عندئذٍ فيمن ينهج هذا النهج بين من تقدَّمَت بهم السن أو تأخَّرَت؛ فكلهم «شيوخ» في الأدب لأنهم يُلاحِقون الزمن من قفاه، ويتأثَّرون السلف في الأهداف والوسائل، وشبابُ الأدب هم من خلَقوا مدرسةً جديدة يُناهِضون بها النهجَ القديم السائد، ولا فرق عندئذٍ بين من تقدَّمَت بهم السن أو تأخَّرَت؛ فكلهم «شباب» في الأدب لأنهم نباتٌ جديد تَتفتَّح أكمامه للشمس والهواء. إن أدباء الابتداع في الأدب الإنجليزي في أول القرن التاسع عشر — مثلًا — كانوا في مجرى الأدب شبابًا نَضرًا تَتفجَّر الحياة الجديدة من سطورهم، ولسنا نسألُ بعد ذلك كم كان عُمْر «وردزورث» حينئذٍ — أو «كولردج» — فليكن عمره ما يكون في حساب السنين، لكنه «شابٌّ» في خَلْقه وإنتاجه.
وأعود وأقول إن نشوتي بكتاب الصديق المعداوي قد اشتدَّت في نفسي، حين لمحتُ في مقدمته بوادر الشباب بمعناه الأدبي، فضلًا عن شبابه الذي «لم يتخطَّ به الثلاثين»، ورجوتُ أن أقرأ الكتاب فأجد المعول في يده قد حطَّم القديم فعلًا، وقد أقام «النماذج الفنية» الجديدة فعلًا، وألَّا يكون الأمر كلامًا في كلام ووعودًا في وعود، فنقرأ البُشرى على الغلاف، ويشتد بنا الحنين في المقدمة، ثم لا شيء!
وسأكون في هذه الكلمة صادقًا، اعتمادًا على رحابة صدر الأديب صاحب الكتاب؛ فهو هو نفسه الذي هاجم رأيًا للدكتور طه حسين في عنف، وقال معتذرًا عن هجمته العنيفة: «إني لا أعرف في النقد صداقة ولا مجاملة» (ص٩٤).
إن للموضوع عندي أهمية وخطرًا؛ فهذا كتاب يكتبه كاتبٌ «ثائر»، يقول به للناس هاكُم «النماذج الفنية» التي تستطيعون منذ اليوم أن تحتذوها بعد أن ضِقتم وضِقنا ذَرعًا بما كان يكتب الشيوخ، وأنظُر في الكتاب وأقرؤه حرفًا حرفًا، فيفتنني سِحر أسلوبه، نعم إن لهذا الكاتب أسلوبًا حلوًا تنزلق عليه انزلاقًا وكأنما تحيط بكَ طُولَ الطريق أنغام تشجيكَ وتسحركَ وتفتنك؛ ولستُ في ذلك بالذي ينثر الأوصاف نثرًا بغير حساب؛ لأن ذلك ما قد لقيتُه أنا — على أقل تقدير — لقيتُ فيه السحر الذي خُيِّل لي معه أن الكاتب قد صدَق وَعْدَه حين وعد القارئ على الغلاف وفي المقدمة بأنه مهيئ له «نماذج» جديدة من الأدب، ولم أثُبْ إلى رشدي، وأَستعِدْ قواي العاقلة المُحلِّلة إلا بعد حين؛ وعندئذٍ فقط — وقد زال عني كثيرٌ من سحر النغم الذي يفتن اللُّب ويخلب السمع — قلت لنفسي: أين هي «النماذج» الموعودة؟
فالكتاب بادئَ ذي بَدءٍ مجموعةُ مقالات، وقد جف ريقي من كثرة ما قلته في مواضع كثيرة من أننا لا نكاد نستطيع أن نكتب في الأدب إلا المقالة، على حين أن أدب الدنيا المُتحضِّرة بأسرها لا يجعل للمقالة في دولة الأدب إلا ركنًا ضئيلًا، تراه بالمجهر إذا أردتَ أن تراه، والأدب بعد ذلك عندهم — إذا استثنينا الشعر — قصة ومسرحية «تخلُق» أشخاصًا من لحمٍ ودمٍ تنطق وتتحرك، وهذا هو يا سيدي الخلق الأدبي بمعناه الصحيح؛ أن تخلُق رجالًا ونساءً يُفكِّرون ويسلُكون، ويجيئون من صدق التصوير بحيث نَستشهِد في حياتنا بما يقولون وما يعملون، كما ترى الأوروبيين يستشهدون — مثلًا — ﺑ «هاملت» وغيره من مئات الأشخاص الذين خلقَتْهم أسنَّة الأقلام هناك خلقًا.
إنك يا سيدي قد ذكرتَ في غضونِ كتابكَ أسماءَ كثيرينَ من أُدباء الغرب ذِكرَ من درس آثارهم ووعاها؛ ذكرت — مثلًا — شو، ومرجريت ميتشل، وبلزاك، ودستويفسكي، وأوسكار وايلد، فهل وَجدتَ «نموذج» الأدب عند هؤلاء أن يكتبوا المقالات؟ هل وَجدتَ الأدب هنا خطفاتٍ يخطفها الأديب من هنا وهناك؟ إن المقالة يا صديقي — في الأعم الأغلب — حيلةُ العاجز، حيلةُ مَن لا يُسعِفه الخيال القوي والخلق البديع، ولقد كانت هي القسط الأكبر من بضاعتنا؛ لأننا جميعًا نكتب للصحف، ونقول: «هذا أدب.» بل قد نقول: «هذه نماذج.» يحتذيها من أراد أن يكتب أدبًا، والأمر بعدُ، لا يعدو عُجالاتٍ يكتبها الكاتب عندنا؛ القلم في يمناه، وفنجان القهوة في يسراه، ليسرع بها إلى المطبعة قبل أن يحين حينُ صدور المجلة أو الصحيفة التي يكتب لها. وأنت — فيما أرى — أعلم مني بآيات الأدب الأوروبي، ولا بُد أن تكون قد عَلِمتَ عنها أنها نتاجُ فكرٍ طويل وخيالٍ قوي، وأناة وصبر؛ لأنها «تخلُق» للدنيا كائناتٍ جديدة.
وإذن فالشابُّ الثائر في حقيقته شيخٌ مُعمِّر، لا يختلف في شيء عن سائر الشيوخ في الأدب إلا بأسلوبه؛ فلكل كاتبٍ أسلوبه، وصديقنا المعداوي كاتبٌ لا شك في رَوعةِ ما يكتبه، لكننا مع ذلك لا نحب أن يفهم ناشئة الجيل الجديد أن كتابه يحتوي على «نماذج» لما ينبغي أن يكون عليه الأدب الجديد.
ثم يزول عني السحر مرةً أخرى، ذلك السحر الذي فتنَني عن نفسي عند القراءة الأولى، وأثوب إلى قُواي العاقلة المُحلِّلة لأجد أديبنا الشابَّ في عُمْره، شيخًا في جَرْيه وراءَ السُّنَّة التي استنَّها الأدباء الشيوخ في أدبهم بوجه الإجمال، وهي أن يكتفوا بفُتات الموائد! اسمح لي يا صديقي أن أُكذِّبك فيما تزعُمُه لنفسك من خُلقٍ ينبذُ الترديد والتقليد، لأنني استعرضتُ فصولَكَ كلها بعد أن زال عني سِحر أسلوبها، لأجدها — في أغلبها — تعليقًا على رجلٍ أو كتاب، وهذا هو ما أسميه بفُتات الموائد التي قنعنا بها قناعةَ الأذلاء؛ تُرى ماذا كنتَ تكتب لو لم يكنِ الله قد خلق برناردشو، ولورد بايرون، ومدام ريكامييه، وتوفيق الحكيم، وأبا العلاء، ورابعة العدوية، وعمر بن الخطاب، وعلي محمود طه، والمازني، ولن يوتانج، وبيكاسو، وأوسكار وايلد، وجميل بثينة، وجمهرةً أخرى كبيرة من أدبائنا المعاصرين كتبتَ عن كُتُبهم؟ هبنا قد رضينا بما قَسَم الله لنا من نصيبٍ قليل في الأدب، وهو أن نكتب المقالة القصيرة، ونفرُكَ أكُفَّنا بعدها حمدًا لله وشكرًا على فضله العميم، أفتكون هذه المقالة القصيرة نفسها تعليقًا على رجلٍ من الفحول أو كتابٍ حديث أو قديم، ولا تكون — إلا في القليل النادر جدًّا — عن مشكلة من المشاكل الحية التي يعجُّ بها الهواء من حولك؟ ثم أتكون هذه حالنا من حيث الصورة ومن حيث المادة، مقالة قصيرة مرتكزة على إنتاج الآخرين، ونقول لناشئة الجيل القادم: هاكُم «النماذج» التي تحتذونها في الأدب إن قصدتم إلى حمل الأقلام، وأردتم أن تكتبوا في تاريخ الأدب صفحةً جديدة؟
لا، لا تُصدِّقوا الأستاذ المعداوي في ثورته؛ إنه ليس بالثائر كما رجَوْنا لشبابه الفتي الطموح أن يكون؛ إنه لا يزال يسير على النهج الذي لا بُد من الثورة الحقيقية على أُسُسه وأوضاعه؛ إنه لا «يخلق» جديدًا على نحوِ ما يخلُق الأدباء الفحول؛ إنه لا يزال — مثلنا — عبدًا من العبيد الذين يقنعون بما يُملَى عليهم من خارج نفوسهم.
إن في هذا الكتاب لسحرًا، وإني لأخشى على قُرائه من سحره، لأنه سيشُدُّهم في فهم الأدب إلى الوراء، ونحن نَتمنَّى لهم أن يتقدَّموا خطوة إلى أمام.