صفقة المغبون
(هذه المقالة أُرسِلَت من واشنطن.)
***
هي صفة أولئك الذين أراد لهم الله أن تكون أقلامهم هي موارد أرزاقهم، وقد كنتُ أحسب أن هؤلاء المساكين إن كان نصيبهم في سائر أنحاء الأرض بؤسًا وحرمانًا، فلا يكون ذلك نصيبهم في هذه البلاد — أمريكا — التي تسيل أباطحها ذهبًا نضَّارًا، لكني سرعان ما سمعتُ من أمرهم عجبًا، فالكاتب الأمريكي الذي يعتمد في كسب قوته على الكتابة وحدها — إذا استثنينا قلةً نبغَت فأثْرت — يُعاني في سبيل العيش قلقًا وعسرًا.
فإذا أخذتَ كاتبًا وسطًا، لا هو بالعبقري الذي أسمع صوتَه للعالمين فجاء إليه الناشر يسعى ويمنح فيسخو له في العطاء، ولا هو بالمغمور الذي يُرسِل المخطوط إلى الناشر قانعًا بالرزق القليل، ألفيتَ ذلك الكاتب الوسط في حالٍ شديدة الشبه بحالة الفلاح المصري أيامَ أن كان في بؤسه يقترض من مالك الأرض مالًا ينفق منه على نفسه وعلى الأرض التي يُفلِحُها حتى تُثمِر، فإذا ما أثمرت الأرض كاد ثمرها لا يُوفي ما اقترضه، دع عنكَ أن تتبقَى له بقيةٌ ينعم بها جزاء ما عمل، فكذلك الكاتب هنا في معظم الحالات، إن لم أقل في كل حالة، يتعاقد مع الناشر على كتابٍ يتعهد بإخراجه بعد عامٍ أو عامَين مثلًا، ويُقرِضه الناشر شيئًا فشيئًا، حتى إذا ما فرغ الكاتب من كتابه لم يجد شيئًا! ولو أن ما اقترضَه الكاتب سلفًا يكفي حاجته لقُلنا نعم ونعام عين، لكنه يعطيه بكفٍّ مغلولة إلى عنقه، فيقترض الكاتب من أبوابٍ أخرى، راجيًا في مستقبلٍ قريب يحلُّ له ما تعقَّد من أموره، فإذا هذا المستقبل بعيد، وإذا الكاتب يَرزَح تحت دَينٍ متصل، يكون له ذلًّا بالنهار وهمًّا بالليل.
وأعجبُ العجب أن يكون مورد الكتابة بهذا النضوب كله، ومع ذلك يزداد الواردون! فقد أحصى إحصاء سنة ١٩٥٠م ستة عشر ألفِ كاتبٍ محترف في الولايات المتحدة — عدا من يكتبون هوايةً ويرتزقون من عملٍ آخر — فكان لهذا العرض الكثير نتيجتُه الطبيعية، وهي أن يقل ربح الناشر نفسه من الكتاب الذي يتعهده؛ ولذلك تراه حريصًا في اختياره منذ البداية، شحيحًا في عطائه، فالكاتب مجدودٌ إن قبل الناشر كتابه، وهو مجدودٌ مرةً أخرى إن أعطاه الناشر شيئًا، وهو مجدودٌ مرةً ثالثة إذا بلغ ما أُعطِيَه ألفي دولار؛ أي ما يعادل سبعمائة جنيهٍ مصري، وربما قال القارئ المصري، وأين منا الكاتب الذي يصيبه هذا المال كله على كتاب؟ لكنه بهذا القول ينسى الفرق بين الحياتَين، والفرق بين مستويَين في الأسعار، وحسبي أن أُقرِّب له الحقيقة فأقول إن الطالب المصري في أمريكا يصيبه من الحكومة المصرية في العام الواحد نحو تسعمائة جنيهٍ مصري؛ أي إن الطالب المصري في أمريكا يعيش في بحبوحةٍ من المال لا يحلُم بها تسعة أعشارِ حَمَلَة الأقلام من أهل البلاد. والأمر سائر مع أصحاب القلم من سيئٍ إلى أسوأ؛ فقد كان متوسط النسبة المئوية التي يتقاضاها الكاتب من كتابه عشرين من كل مائة سنة ١٩١٠م، ثم أصبح خمسة عشر سنة ١٩٢٥م، وهو الآن عشرة من كل مائة، ذلك إن كان المطبوع من الكتاب خمسة آلاف، وهي الحالة في الكثرة الغالبة من الكتب، على غير ما كنتُ أظنُّه بادئ الأمر، إذ كنت أظُن أن كل كتاب هنا يُطبَع بمئات الألوف، وتزيد النسبة كلما زاد المطبوع من الكتابة، وأضرب لذلك مثلًا، فالقصة التي تُباع في السوق بما يساوي مائة وخمسين قرشًا للنسخة الواحدة، لو طُبع منها خمسة آلاف أخذ كاتبها نحو ستمائة جنيه مصري، ولو طُبع منها عشرة آلاف أخذ كاتبها نحو ألف وأربعمائة جنيه مصري، وهكذا، ولكن الكاتب الوسط — كما قُلتُ — يندُر أن يُطبَع من قصته هذا العدد.
فكان من النتائج الطبيعية لهذه المَعسَرة، لا أن يُطوِّح حملة الأقلام بأقلامهم في النار ليبحثوا عن عملٍ آخر، بل أن يلتمسوا لأقلامهم موردًا آخر غير كتابة الكتب، فكان هذا المورد الآخر هو المجلات والصحف، أما الصحف اليومية فأتركها الآن إلى فرصةٍ أخرى، لأحصُر الحديث في المجلات الأسبوعية أو الشهرية باعتبارها موردًا أساسيًّا لمن حرفتهم الكتابة.
لقد تعود القراء في مصر أن يروا كُتَّابهم، كبيرهم وصغيرهم على السواء، يتخذون من المجلات (والصحف اليومية) أهم ميدانٍ لأقلامهم، حتى ظنُّوا أن الأديب هذا مجاله، لكن ليست الحال كذلك في البلاد التي يخصب فيها الفكر ويعمق البحث ويتسع مدى التحليل، في هذه البلاد الغنية بفكرها قد لا يلجأ الكاتب أبدًا طُولَ حياته الأدبية إلى مجلة أو صحيفة ينشر فيها مقالًا أو سلسلة من مقالات، إنما سبيله الكتاب الكامل؛ قصة، أو مسرحية، أو كتابٌ يتناول بالبحث موضوعًا معينًا. إن المقالة الواحدة تكفي الكاتب عندنا لأنه في معظم الحالات أضيَق أفقًا وأضحَل عمقًا من أن يُحلِّل فكرته في كتابٍ بأَسْره، وما هكذا الحال في معظم بلاد الغرب، وما هكذا كانت الحال في أمريكا، حتى تعسَّر الرزق في هذه السوق المزدحمة. وأنا أخص بالحديث الآن الكتَّاب المحترفين الذين لا عمل لهم يرتزقون منه سوى الكتابة، وأما الهواة الذين يكتبون في أوقات فراغهم، فما زالوا بخير يتفرَّغون لكُتبهم ولا يسعون وراء المجلات كل هذا السعي الحثيث.
انتقَل الميدان إذن من الكتاب إلى المقالة أو ما إليها، في مجلة تُؤْجِر صاحبها ما يقتات به، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لخفَّ البلاء، لكن المجلَّات الأمريكية نفسها تغيَّرت من أساسها تغيُّرًا جوهريًّا في الأعوام الأخيرة، مما كان له أعمقُ الأثر على طريقة التفكير وطريقة الكتابة؛ فلم تعُد هناك المجلة التي يتسع صَدرُها لكل شيء، بل أصبح الأمر تخصصًا ضيقًا، فإما أن تختار المجلة لنفسها طائفةً واحدةً معينةً من الناس تخاطبها وتُحدِّد نفسها بما يعني تلك الطائفة، أو تختار جانبًا واحدًا من جوانب الحياة تتخصَّص فيه وقد يَهتَم بهذا الجانب عدةُ طوائف؛ فهناك المجلَّات النسائية، بل هذه نفسها تعودُ فتَتخصَّص أكثر من ذلك، فترى المجلة النسوية تهتم بالحديقة، أو بأثاث المنزل، أو بالبدْع الجديد في أنواع الثياب؛ وهناك مجلَّاتٌ مُصوَّرة لا شأن لها بمقالة أو قصة؛ هناك مجلَّاتٌ للسينما، ومجلاتٌ لصيد السمك، مجلاتٌ لتلخيص الموقف السياسي في العالم، مجلاتٌ تُخاطِب أعمارًا مُعيَّنة، فتُسمِّي المجلَّة نفسها — مثلًا — «السابعة عشرة»؛ أي إنها تُخاطب من هم أو هنَّ في هذه السن بما يهتمُّون له؛ هناك مجلَّاتٌ للمُختارات المُقتطَفة من الكتب أو المجلَّات … إلخ إلخ.
وما مُؤدَّى هذا الاتجاه؟ مُؤدَّاه أن الكتابة المأجورة لم تعُد مقالةً أو قصةً إلا في القليل النادر، بل أَصبحَت فنًّا آخر، يجمع الدقائق والحقائق عن شيءٍ مُعيَّن ويُحسِن عَرْضَها على صفحات المجلة، ولمَّا كان ذلك شيئًا لا يقتضي فكرًا، بالمعنى الخاص لهذه الكلمة، بل يقتضي فنًّا صحفيًّا، فلا بد لمن يُريد أن يعيش بقلمه أن يُساير الاتجاه الجديد.
وليس معنى هذا أن المقالة والقصة قد اندثَرتا، بل معنى هذا أن مركز الاهتمام قد تحوَّل من قطب إلى قطبٍ آخر، لكن سيظل هناك من يضطرب رأسه بفكرة يريد عرضها في مقالة أو قصة، وسيجد لذلك سبيله، لكنه سيُعاني في ذلك السبيل ضِيقًا في رزقه وعُسرًا في عيشه، وما دمتُ قد ذكرتُ المقالة والقصة، فلأذكر تحوُّلًا أصاب النسبة فيهما؛ فمنذ ربع قرن كانت نسبةُ ما يُنشر من القصص سبعين في المائة من الكلام المنشور، والثلاثون الباقية في كل مائة كانت للمقالات، وأما الآن فقد انعكس الوضع، وأصبح للمقالة سبعون في المائة من مساحة الكلام المنشور والثلاثون الباقية للقصة، ويُؤيِّد هذا الاتجاه في الأدب الأمريكي أنه منذ سنة ١٩٥٠م والسوق أَروَجُ لغير القصص منها للقصص، ففي العام ١٩٥٣م، بيع من الكتب العشرة الأُولى (أُولى في الرَّواج) من غير القصص ثلاثةُ أمثالِ ما بيع من الكتب العشرة الأُولى من القصص، كأنما القوم جادُّون في سؤالهم الذي يُلقونه الآن على أنفسهم: أتكون القصة من الأدب أو لا تكون؟
للكاتب في هذه البلاد الغنية صفقة المغبون، حتى لقد أحدث ذلك مرارةً في نفوس الكتاب تلمَسُها منذ العبارة الأُولى إذا ما جلَسْتَ مع أحدهم تتحدَّث إليه، فإذا كان الكاتب الأديب بطبعه — في كل مكان وفي كل زمان — أَميَل إلى الثورة على قومه وأشَدَّ رغبةً من بقية الناس في تغيير الأوضاع والقيم، فالكاتب الأمريكي يُضيف سخطًا على سخط؛ يتساءل الأدباء والكُتَّاب أحيانًا وهم في عجَبٍ من أمرهم: لماذا تكون هذه هي حالهم من ضيق الرزق بالنسبة إلى غيرهم؟ ألا تُؤدِّي حرفة الكتابة إلى رواجٍ في سوق الأعمال وتستخدم عشراتِ الألوف من العمال؟ كم طابِعٍ في البلاد يتوقَّف عيشه على أن يكون هنالك كاتبٌ فكتب ما تدُور به المطبعة؟ كم ناشرٍ لولا الكاتب ما كان؟ كم بائعٍ للكتب والمجلَّات والصحف ينتظر أن تجري الأقلام حتى تكون له سلعةٌ يبيعها؟ كم أمينٍ في المكتبات العامة رِزقُه قائمٌ على أن تكون هناك كُتبٌ يُخرِجها مؤلِّفون؟ وبغير الكاتب، ماذا يكون مصير السينما والمسرح والراديو؟ احسبْ كم ألف ألفٍ من الناس يقتاتون من هذه الحِرَفِ كلها يكُن لكَ الناتج الاقتصادي لحملة الأقلام. ألا يكون — إذن — من نكَد الدهر أن يكتب الكاتب فيَطعَم غيره وهو جائع؟ ولا نقول شيئًا عن الفكر ومنزلته؛ لأن دنيانا اليوم تُترجِم الأشياء إلى أرقام لتُفهَم.
ما خَطْبهم وهذه حقيقتهم؟ الجواب عند كثيرٍ هو كلمةٌ واحدة «نقابة»، ليس لأصحاب القلم نقابةٌ يكون لها من القوة ما لسائر النقابات. إن للطابعين نقابةً بحيث إذا لم تُعجبْهم الحال يومًا فأضربوا اهتزَّت لهم البلاد واستَمعَت إلى شكواهم في اهتمام. أما هؤلاء الذين يُمدُّون الطابعين بما يُطبع فليست لهم هذه القوة كلها؛ فللكاتب الواحد وهو على حِدَة قوةٌ تضيع إذا ما ضمَمْتَه إلى غيره من الكُتَّاب بحيث جعلْتَ منهم طائفة، فإذا كان اجتماع الزميل إلى زميله في سائر المهن يزيد الزميلَين قوة، فاجتماع الكاتب إلى الكاتب يزيدهما ضعفًا، حتى تكون لهم نقابة.
نعم هناك في أمريكا جماعةٌ تُسمَّى بجمعية المؤلِّفين، تضُم سبعة آلاف عضو، ثم انقسمَت فروعًا؛ فجماعة لكُتَّاب المسرحية، وأخرى لكُتَّاب القصة، وثالثةٌ لمؤلِّفي الكتاب الفكري وهكذا. لكن «الجمعية» شيء والنقابة المُعترَف بها شيءٌ آخر؛ فجمعية المؤلِّفين في أمريكا تبحُّ صوتها بالشكوى، لا تنفك تُطالب الناشرين بزيادة في نصيب المؤلِّف، لكنها تفعل ذلك كله بالمُحاجَّة الكلامية التي إن أجدت مرة فإنها تُخفِق مائة مرة.
قال «توكفيل» في القرن الماضي يصف أمريكا عندئذٍ بما كان يجوز له أن يصفها به اليوم: «كل لسانٍ هنا في حركة دائبة، بعضهم ينشُد القوة وبعضهم ينشُد المال، وفي هذا البحر الزاخر بصخبه، في هذا الصراع المتصل بين المصالح المتضاربة، في هذا الكَدْح الدائب وراء الغنى، أين عسانا أن نجد الركن الهادئ الذي لا بُد منه لعقل يريد أن يستجمع فكره؟» أخشى أن أقول إن الركن الهادئ المنشود للفكر المطمئن، يتعذَّر وجوده في أمريكا على رحبها، وعلى من يريد أن يعمُق بفكره في هذه البلاد أن يَطمئِن على عيشه أولًا بطريقٍ آخر غير طريق القلم المحترف.