بيئة المحيطات
بالنظر إلى كوكبِنا من الفضاء، نجد أن خصيصته الطبيعية الأعظم تغلب عليه بوضوحٍ؛ ونقصد تلك الكتلة الشاسعة، والعميقة، والمترابطة من مياه البحار، المتمثلة في المحيط العالمي. تبلغ مساحةُ المحيط العالمي نحو ٣٦٢ مليون كيلومتر مربع، ويبلغ متوسط عمقه ٣٦٨٢ مترًا، ويحوي كميةً هائلة من المياه تُقدَّر بنحو ١٫٣٤ مليار كيلومتر مكعب، وتُشكِّل نحو ٩٧ في المائة من جميع المياه الموجودة على كوكبنا. وكما قال الكاتب العلمي آرثر سي كلارك: «كم هو من غير الملائم أن نُسمي هذا الكوكب كوكب الأرض، في حين أنه محيط.»
جغرافيا المحيط العالمي
عند الحافة الخارجية للرف القاري، تنخفض أرضيةُ المحيط انخفاضًا مفاجئًا وحادًّا مُشكِّلةً ما يُعرف بالمنحدر القاري، الذي يمتد في العمق من كيلومترين إلى ثلاثة كيلومترات. ثم يُفسح المنحدر القاري المجالَ لمرتفعٍ قاريٍّ أقلَّ ميلًا، ينحدر مسافةَ كيلومتر آخر أو نحو ذلك؛ ليندمج في النهاية بامتدادٍ شاسع من قاعٍ مسطَّح وأملسَ للمحيط، يُعرف بالسهل السحيق، ويمتدُّ على عمقٍ من أربعة كيلومترات إلى ستة كيلومترات تقريبًا، ويُمثل نحو ٧٦ في المائة من أرضية المحيط العالمي.
تنقطع السهول السحيقة بحيود وسط المحيط الشاسعة، وهي سلاسل جبلية تحت الماء شكَّلها نشاطٌ بركاني مكثَّف، وترتفع آلافَ الأمتار فوق السهول السحيقة المحيطة. تشكِّل حيود وسط المحيط سلسلةً متواصلة من الجبال تمتد خَطيًّا لمسافة ٦٥ ألف كيلومتر عبر أرضية أحواض المحيط العالمي، فيما يُشبه خيوطَ كرة البيسبول.
في بعض الأماكن على طول حواف السهول السحيقة، تقطع قاعَ المحيط خنادقُ ضيقةٌ تنخفض إلى أعماقٍ هائلة — من ثلاثة كيلومترات إلى أربعة كيلومترات أسفلَ أرضية المحيط المحيطة — ويبلغ طولها آلافَ الكيلومترات غير أن عرْضها لا يزيد على عشرات الكيلومترات. نجد مثالًا تقريبيًّا على ذلك في أبعاد الأخدود العظيم، التي هي في المتوسط نحو ١٫٦ كيلومتر للعمق، و٤٤٦ كيلومترًا للطول، ونحو ١٦ كيلومترًا للعرض في المتوسط. وأعمق نقطة نعرفها في المحيط العالمي — على عمق نحو ١١ كيلومترًا تحت مستوى سطح البحر — هي في قاع أحد هذه الخنادق، وهو خندق ماريانا الذي يقع قبالةَ اليابان وجزر الفلبين.
تُشكِّل الجبال البحرية سمةً مميزة أخرى لأحواض المحيطات. وتتكون في العادة من براكينَ غائصة منقرضة بارتفاع ١٠٠٠ متر أو أكثر فوق أرضية المحيط المحيطة، ولكنها لا تصل إلى سطح المحيط. ومن ثَم تقع قممها على مئاتِ إلى آلاف الأمتار تحت سطح المحيط. توجد الجبال البحرية عادةً في سلاسلَ أو حشودٍ مرتبطة بحيود وسط المحيط، غير أن بعضها يرتفع من أرضية المحيط في حالات متفردة. ويحوي المحيط العالمي ما يُقدر بنحو ١٠٠ ألف أو نحو ذلك من الجبال البحرية التي ترتفع إلى أكثر من كيلومتر واحد فوق أرضية المحيطات العميقة المحيطة، ونحو ١٣ ألف جبل بحري يرتفع إلى أكثر من ١٫٥ كيلومتر.
موائل المحيطات
تعيش الكائنات البحرية في جميع أنحاء المحيط العالمي؛ من سطحه المضاء بأشعة الشمس إلى قاعِ أعمقِ خنادقه. كما تستطيع العيش في المحيط المفتوح، أو ما يُسمى بمنطقة البحر المفتوح، أو عند قاع المحيط؛ أي المنطقة القاعية. وتُعرف الكائنات الحية الدقيقة العالقة في منطقة البحر المفتوح بالعوالق. العوالق النباتية هي تلك الكائنات الحية العالقة والقادرة على صُنع طعامها بنفسها عن طريق البناء الضوئي، بينما العوالق الحيوانية هي حيوانات عالقة صغيرة. أما الحيوانات الأكبر حجمًا التي تسبح على الدوام في الماء؛ فتُعرف باسم السابحات.
أصبح الآن الاعتقادُ باستعمار الكائنات الحية لكلِّ جزء من أجزاء البيئة البحرية من المسلَّمات على الرغم من الاقتناع الواسع الانتشار الذي ساد في القرن التاسعَ عشر بعدم وجود حياةٍ فيما كان معروفًا في ذلك الوقت باسم «المنطقة العديمة الحياة»، وهي أي جزء من المحيط أسفل عمق ٣٠٠ قامة (نحو ٥٥٠ مترًا). فالبيئة في تلك الأجزاء كانت تُعد منطقةَ ظلام ميتة؛ أي موحشة للغاية لأيِّ شكل من أشكال الحياة. غير أن هذه الفكرة ولَّت إلى غيرِ رجعة بعد البعثة التاريخية لسفينة «إتش إم إس تشالنجر» (١٨٧٢–١٨٧٦)، وهي أول سفينة تستكشفُ بشكل شامل الأجزاءَ العميقة لأحواض المحيط وتكشف عن الحياة البحرية في أعماقٍ تقترب من ستة آلاف متر.
نعلم الآن أن المحيطات تعجُّ في الواقع بتنوعٍ ضخم في أشكال الحياة. فالفيروسات، وهي أكثرُ أشكال الحياة بدائيةً، تتميز بوفرةٍ مذهلة؛ إذ توجد في تجمُّعاتٍ من عشرات المليارات لكل لتر من مياه البحر، وتوجد البكتيريا في تجمعاتٍ من مليار أو أكثر لكل لتر، وتوجد العوالق النباتية بعشرات الملايين لكل لتر، وتوجد العوالق الحيوانية بالآلاف لكل لتر، كما تعيش عدةُ مئات الآلاف من الأنواع من اللافقاريات، والأسماك، والثدييات، والزواحف بأعداد كبيرة في جميع أنحاء المحيط العالمي.
فما هي إذن خصائصُ البيئة التي تَشغلها هذه الوفرةُ في أشكال الحياة؟
الملوحة
الأيون | الحجم (جرام/كيلوجرام من مياه البحر) |
---|---|
كلوريد () | ١٩٫٣٥ |
صوديوم () | ١٠٫٧٦ |
كبريتات () | ٢٫٧١ |
مغنيسيوم () | ١٫٢٩ |
كالسيوم () | ٠٫٤١ |
بوتاسيوم () | ٠٫٤٠ |
الإجمالي | ٣٤٫٩٢ |
ويُطلق على الكمية الإجمالية من الأملاح الذائبة في مياه البحر مصطلحُ الملوحة. تبلغ درجة ملوحة مياه البحر عادةً نحو ٣٥؛ أي ما يُعادل نحو ٣٥ جرامًا من الأملاح في كيلوجرام واحد من مياه البحر. غير أن هذه الدرجة قد تتفاوت، لا سيما في الخلجان شبه المغلقة المعرَّضة لمعدَّلات تبخُّرٍ عالية؛ مما يزيد بدَوره من ملوحتها، أو المعرَّضة لتدفق المياه العذبة في شكل أمطار، أو جرَيان الأنهار، أو ذوبان الجليد، وهي عواملُ تعمل على تقليل الملوحة.
درجة الحرارة
تعيش معظم الكائنات البحرية في مياه البحر التي تظل في نطاقٍ معتدل نسبيًّا من درجة الحرارة مقارنةً بالظروف المتطرِّفة للبيئات على اليابسة. تكون المياه السطحية في الأجزاء الاستوائية من أحواض المحيطات دافئةً باستمرار طوال العام؛ إذ تتراوح من ٢٠ درجة مئوية إلى ٢٧ درجة مئوية، وبحدٍّ أقصى ٣٠ درجة مئوية تقريبًا في الخلجان الاستوائية الضحلة في ذروة الصيف. بينما من ناحية أخرى قد تصل مياهُ البحر السطحية في الأجزاء القطبية من أحواض المحيطات إلى −١٫٩ درجة مئوية.
تمثِّل طبقة التغيُّر الحراري سمةً قوية، وواضحة المعالم، ودائمةً في مياه المحيطات الاستوائية. قد تبدأ من عمق نحو ١٠٠ متر وتكون في سُمك ١٠٠ متر تقريبًا. وقد تكون درجات الحرارة في المحيط فوق طبقة التغيُّر الحراري استوائية؛ ٢٥ درجة مئوية أو أكثر، بينما لا تزيد على ستِّ أو سبع درجات مئوية أسفلَ طبقة التغيُّر الحراري. وبدايةً من ذلك العمق تنخفض درجة الحرارة بالتدريج البطيء مع زيادة العمق. وتُمثل طبقات التغيُّر الحراري في مناطق المحيط المعتدلة ظاهرةً تتحكم فيها المواسمُ بشكل كبير؛ إذ تكون مستقرة في الصيف عندما تُسخِّن الشمس المياهَ السطحية، ثم تنهار في الخريف والشتاء. بينما لا توجد طبقات التغيُّر الحراري عادةً في المناطق القطبية للمحيط العالمي.
كما يؤدي تغيُّر المناخ العالمي الذي يتسبَّب فيه الإنسان، والذي يَنتج عنه زيادةُ متوسط درجات حرارة الهواء العالمية، إلى ارتفاع درجات الحرارة في المحيطات. إذ تمتص المحيطات تقريبًا كلَّ الدفء الزائد الناتج عن انبعاثات غازات الدفيئة من الأنشطة البشرية وظاهرة الاحتباس الحراري الناتجة عنها؛ فقد استوعبَت المحيطات خلال الأربعين سنةً الماضيةِ نسبةً مذهلة من الحرارة الزائدة، وهي ٩٣ في المائة. وبذلك فإن لهذا التسرُّب للحرارة في المحيطات دورًا كبيرًا في حماية البشرية من تغيُّر المناخ بتخفيف الارتفاع في درجات حرارة الغلاف الجوي الذي كان من شأنه أن يحدُث لولاه. ولتتضحَ الصورة؛ لو كانت الحرارة المتولدة بين عامَي ١٩٥٥ و٢٠١٠ قد تسربَت جميعها إلى الغلاف الجوي بدلًا من المحيطات، لكان متوسط درجات حرارة الهواء السطحي العالمية قد زاد بنحو ٣٦ درجة مئوية، بدلًا من زيادته الحاليَّة التي تبلغ ١٫١ درجة مئوية.
ولكن نتيجةً لذلك تقترب المياه السطحية لمعظم أجزاء المحيط العالمي الآن من أن تكون أكثرَ دفئًا بمعدَّل درجة مئوية ممَّا كان عليه الأمر قبل ١٤٠ عامًا، وبمعدَّل ثلاث درجات مئوية في بعض الأماكن. وستبدأ درجات الحرارة في وقتٍ لاحق من هذا القرن في الارتفاع في الأجزاء العميقة من المحيطات، فضلًا عن اختلاط مياه البحر السطحية الأكثر دفئًا ببُطءٍ على أعماقٍ أكبر. يتسبَّب هذا الاتجاهُ نحو الاحترار في انخفاضٍ سريع في سُمك الجليد البحري وفي المساحة التي يُغطِّيها في المحيط المتجمِّد الشمالي، وكذلك في ترقُّق الرفوف الجليدية في القارة القطبية الجنوبية. كما يؤثِّر على الكائنات البحرية وعلى عمل النُّظم البيئية البحرية بمجموعةٍ متنوعة من الطرق المهمة التي سنستكشفها على مدار فصول الكتاب.
الضوء
تتفاوت كميةُ ضوء الشمس التي تضرب سطح المحيطات تفاوتًا كبيرًا؛ تبعًا لاختلاف أوقات اليوم، وتغطية السُّحب، وأوقات السنة، وخطوط العرض. ويعتمد العمق الذي يتمكَّن ضوء الشمس المتاح من اختراق سطح المحيطات إليه (الطبقة المضاءة بأشعة الشمس أو المنطقة الضوئية للمحيطات) إلى حدٍّ كبير على كمية الجسيمات العالقة في مياه البحر. وتتكوَّن هذه الجسيمات من خليطٍ من الرواسب العالقة والمواد العضوية الحية والميتة. من المتعارف عليه أن الضوء لا يخترق إلى عمقٍ يَزيد على ١٥٠ مترًا إلى ٢٠٠ متر في معظم أنحاء المحيط العالمي، مع امتصاص الضوء الأحمر في الأمتار القليلة الأولى واختراق الضوءَين الأخضر والأزرق لأمتار أعمق. وقد لا يزيد عمقُ اختراق الضوء في البحار الساحلية المعتدلة على بضع عشرات من الأمتار في أوقات معينة من السنة بسبب كثرة عدد الجسيمات في مياه البحر.
الضغط
يُشكِّل الضغط إحدى السمات المميزة للبيئة البحرية. ويزداد الضغط في المحيطات بمعدَّل وحدةِ ضغطٍ جوي واحدة كل ١٠ أمتار (تعادل وحدةُ الضغط الجوي الواحدة تقريبًا ضغطَ الهواء عند مستوى سطح البحر). وبذلك يتعرض الكائن الحي الذي يعيش على عمق ١٠٠ متر على الرف القاري لضغطٍ أكبر ١٠ مرات من الكائن الحي الذي يعيش على مستوى سطح البحر، ويتعرض الكائن الحي الذي يعيش على عمق خمسة كيلومترات في أحد السهول السحيقة لضغط يزيد نحو ٥٠٠ مرة عن ذلك الذي يتعرض له كائنٌ حي يعيش على السطح، وتتعرض تلك الكائنات الحية التي تعيش في الأجزاء الأعمق في خنادق المحيطات لضغطٍ يزيد بنحو ألف مرة عن تلك التي تعيش في مستوى سطح البحر؛ حيث يُعادل الضغط في هذه الأعماق ١٠ آلاف طن لكل متر مربع.
الأكسجين
تتمتع معظم أجزاء المحيط العالمي بوفرةٍ نسبية من الأكسجين الذائب. غير أن كمية الأكسجين في مياه البحر أقلُّ بكثيرٍ مما في الهواء؛ إذ تحتوي مياهُ البحر عند درجة حرارة ٢٠ درجة مئوية على قرابة ٥٫٤ مليلترات من الأكسجين لكل لتر من مياه البحر، بينما يحتوي الهواء في درجة الحرارة هذه على نحو ٢١٠ مليلترات من الأكسجين لكل لتر. وكلما كانت مياه البحر أكثرَ برودة، زادت نسبة الأكسجين بها، فعلى سبيل المثال تحتوي مياه البحر عند درجة حرارة صفر مئوية على نحو ٧٫٨ مليلترات من الأكسجين لكل لتر.
أسفل منطقة الحد الأدنى للأكسجين، يزداد محتوى الأكسجين مع الازدياد في العمق بحيث تحتوي أعماق المحيطات على نسبٍ شديدة الارتفاع من الأكسجين، على الرغم من أنها عادةً لا تكون بذلك الارتفاع الذي تتميز به الطبقة السطحية. تعكس المستويات الأعلى من الأكسجين في أعماق المحيطات إلى حدٍّ ما أصلَ كتل مياه البحر في الأعماق، التي تتكون من مياه البحر الباردة الغنية بالأكسجين التي تغوص بسرعةٍ من سطح المحيطات القطبية؛ ومن ثَم تحافظ على محتواها من الأكسجين. علاوةً على ذلك، وبالمقارنة مع الحياة في المياه القريبة من السطح، فإن الكائنات الحية في أعماق المحيطات شحيحةٌ نسبيًّا وذات معدَّلات أيض منخفضة؛ ومن ثَم لا تستهلك سوى القليل من الأكسجين المتاح.
ثاني أكسيد الكربون وتحمُّض المحيطات
تتميز مياه البحر طبيعيًّا ببعض القلوية، برقم هيدروجيني يتراوح من نحو ٧٫٧ إلى ٨٫٢، وقد تكيفَت الكائنات البحرية جيدًا للحياة ضمن هذا النطاق. يصل عادةً الرقم الهيدروجيني لمياه البحر بالقرب من سطح المحيطات إلى أعلى طرف النطاق؛ وذلك لأن الكائنات الحية الوفيرة التي تقوم بالبناء الضوئي في الطبقة المضاءة تمتصُّ ثاني أكسيد الكربون. علاوة على ذلك، تكون مياه البحر السطحية أكثرَ دفئًا بشكل عام من مياه المحيطات العميقة، وكلما ارتفعَت درجة حرارة مياه البحر، قلَّ ثاني أكسيد الكربون الذي يُمكنها امتصاصه. في الأجزاء العميقة الأكثر برودةً من المحيطات، حيث تغيب عملية البناء الضوئي، تكون تركيزات ثاني أكسيد الكربون أعلى، ويصل الرقم الهيدروجيني في الغالب إلى أدنى طرف النطاق.
نتيجةَ الاتزان بين كلٍّ من ثاني أكسيد الكربون وحمض الكربونيك والبيكربونات والكربونات في مياه البحر، يمتلك المحيط العالمي مخزونًا ضخمًا من الكربون غير العضوي، الذي له آثار مهمة في الحياة البحرية والمجتمع البشري. من منظور بيولوجي، فإن الكربون لا يمثل على الإطلاق عاملًا مقيدًا لنمو الكائنات الحية البحرية التي تقوم بالبناء الضوئي كما هي الحال في النباتات الأرضية. ومن منظورٍ شامل للكوكب، يمثل المحيط العالمي مصرفًا طبيعيًّا هائلًا لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وهو أحد غازات الدفيئة الفاعلة في تغير المناخ.
في الوقت الحاضر، يمتصُّ المحيط العالمي ٢٥ في المائة على أقل تقدير مما يقرب من ٤١ مليار طن من ثاني أكسيد الكربون الذي يُبث في الغلاف الجوي كل عام نتيجة نشاطات البشر من حرقٍ للوقود الأحفوري وإزالة الغابات من على سطح الكوكب، ويمثِّل هذا ما يقرُب من ١٫٢ مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الساعة. وثمة ٢٥ في المائة أخرى أو نحو ذلك تمتصها الغابات، مع تراكم الكمية المتبقية في الغلاف الجوي. والنتيجة النهائية هي ارتفاع تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي حاليًّا بمعدَّل نحو ثلاثة أجزاء من كل مليون جزء في السنة، وهذا هو السبب في ارتفاع تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للكوكب من ٢٧٨ جزءًا في المليون فيما قبل العصر الصناعي إلى ما يزيد على ٤٠٥ أجزاءٍ في المليون الآن، وازديادها بمعدَّلات سريعة. من المفجع معرفةُ أنه لولا امتصاص المحيط العالمي لكميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون البشري المنشأ، لتخطَّت تركيزاتُ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي الآن ٤٦٠ جزءًا في المليون.
ومن ثَم فإن المحيط العالمي يؤدي دورًا أساسيًّا في تثبيط معدَّل تغيُّر المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان؛ ليس فقط عن طريق امتصاص الحرارة الزائدة من الغلاف الجوي، ولكن أيضًا بتطهيره من الكثير من ثاني أكسيد الكربون الزائد المنبعِث في الغلاف الجوي منذ وقت الثورة الصناعية. من المؤسف أن كل هذه الكمية من ثاني أكسيد الكربون المُمتصَّة تبدأ في تغيير الكيمياء الأساسية للمحيط العالمي؛ مما يجعله أكثرَ حمضيةً في المتوسط، وهي عملية تُعرف باسم تحمُّض المحيط.
كان متوسط الرقم الهيدروجيني لمياه البحر السطحية في عام ١٨٧٠ نحو ٨٫١٨. وهو الآن نحو ٨٫٠ إلى ٨٫١، ومن المتوقَّع أن يصل بحلول عام ٢١٠٠ إلى نحو ٧٫٧ إلى ٧٫٨ إذا استمر البشر في إطلاق ثاني أكسيد الكربون البشري المنشأ بمعدَّلات إطلاقه الحاليَّة. تبدو هذه وكأنها تغييرات صغيرة من الناحية العددية، ولكن نظرًا إلى أن الرقم الهيدروجيني هو مقياس لوغاريتمي، فإنها تُعادل نحو ٣٠ في المائة، ومن ثَم ١٧٠ في المائة زيادة في الحموضة. معدَّل التغيير هذا أسرعُ بنحو ١٠ مرات من أي شيء حدث خلال آخر ٦٥ مليون سنة. عندما تختلط مياه البحر السطحية المُحمَّضة تدريجيًّا بالمياه العميقة، يتأثر المحيط العالمي بأكمله.
يتسبَّب تحمُّض المحيطات بالفعل في انخفاض الرقم الهيدروجيني للعديد من مناطق المحيط العالمي إلى مستوياتٍ أقلَّ من النطاق التي اعتادت الكائنات البحرية العيشَ فيه بشكل طبيعي. أصبح القياس الشائع للرقم الهيدروجيني للمياه السطحية في الوقت الحاليِّ أقلَّ من ٨٫٠، بينما قيسَت قِيَم الرقم الهيدروجيني في بعض المناطق بأقلَّ من ٧٫٦. يؤثِّر الآن انخفاض الرقم الهيدروجيني في المحيطات على العديد من أنواع الكائنات البحرية، خاصةً تلك التي تملك أصدافًا خارجية أو هياكلَ عظمية داخلية تحتوي على كربونات الكالسيوم، مثل الشعاب المرجانية، والحلزون الصدفي، والمحار، وقنافذ البحر، ونجم البحر وبعض أنواع العوالق والطحالب. تستخدم هذه الكائنات الحية الكربونات في مياه البحر لتصنيع أصدافها أو هياكلها العظمية. وكما ذكرنا آنفًا، عندما ينخفض الرقم الهيدروجيني، تقلُّ نسبة الكربونات في مياه البحر، ما يجعل من الصعب على هذه الكائنات الحية أن تبنيَ أصدافًا أو هياكلَ عظمية مناسبة أو أن تنموَ. علاوة على ذلك، فكلما زاد نضوب الكربونات، تبدأ مياه البحر في سحب الكربونات من الأصداف والهياكل العظمية لهذه الكائنات؛ مما يؤدي إلى تآكلها وإضعافها مع إحداث تأثيرات واضحة على صحتها.
تكشف الأبحاث الجارية عن العديد من الأمثلة على الآثار السلبية لتحمُّض المحيطات على الحياة البحرية. وقد لوحظَت تلك الآثار بالفعل في الفورامنيفرا، وهي كائنات مجهرية توجد بوفرةٍ في العوالق، وتُكوِّن أصدافًا من كربونات الكالسيوم. أصداف الفورامنيفرا في المحيط المتجمد الجنوبي أرقُّ الآن بشكلٍ ملحوظ، مقارنةً بعيناتها المحفوظة من حِقبةِ ما قبل الثورة الصناعية. وقد أظهرت الدراسات التي أُجريَت على الشعاب المرجانية أن تحمُّض المحيطات يُقلل بشكل كبير من قدرة بعض الأنواع على إنتاج هياكلها العظمية، وهو ما يؤثِّر على نموها وقدرتها على التعافي من الضغوط البيئية الأخرى. كما تبيَّن أيضًا أن أصداف فراشات البحر، أو جناحيات الأرجل — وهي قواقع بحرية عالقة صغيرة — تذوب في مستويات الرقم الهيدروجيني المتوقَّع الوصولُ إليها في المحيطات بحلول عام ٢١٠٠. لفراشات البحر أهميةٌ بالغة في المحيطات القطبية وشبه القطبية حيث تأكُلها الحيتان، والطيور البحرية، والأسماك التجارية مثل السلمون، والرنجة، وسمك القُدِّ، والماكريل. وقد وجَد استعراضٌ شامل لحساسية الحيوانات البحرية لتحمُّض المحيطات أن نسبةً كبيرة من ١٥٣ نوعًا مختلفًا من اللافقاريات البحرية والأسماك التي شملتها الدراسة قد أظهرت آثارًا سلبية من نوعٍ ما. يشير هذا إلى أن تحمُّض المحيطات سوف يُحدث تغييراتٍ جوهرية في الأنظمة البيئية للمحيطات خلال هذا القرن، وأن ذلك سيشمل التحولات الدائمة في تركيب الأنواع.
حركة المحيطات
تُقدم الدوَّامة المحيطية في شمال المحيط الأطلنطي مثالًا جيدًا على المنظومة الحركية لأنظمة الدوَّامات المحيطية. فهنا تدور المياه السطحية حول مركزٍ مستقر يُعرف باسم بحر سارجاسو. تتكون الحافة الغربية المتدفقة نحو الشمال لهذا التيار من تيار الخليج. تيار الخليج هو تيار سطحي سريع الحركة بعرض ٥٠ إلى ٧٥ كيلومترًا، وينقل كمياتٍ هائلةً من مياه البحر الاستوائية الدافئة والمالحة، بسرعات تتراوح من ثلاثة إلى أربعة كيلومترات في الساعة في المتوسط، على طول الحافة الشرقية لقارة أمريكا الشمالية. يغادر هذا التيار الدافئ ساحلَ أمريكا الشمالية عند ساوث كارولاينا تقريبًا، ويعبر شمال الأطلنطي في صورة تيار الأطلنطي الشمالي، مُطلِقًا حرارته في الغلاف الجوي على طول الطريق. تتَّجه الدوَّامة المحيطية بعد ذلك نحو الجنوب، وتنعطف للأسفل على طول الحافة الغربية لأوروبا وأفريقيا حيث تُنتج تيار الكناري الأكثر برودةً، والأوسع نطاقًا، والأبطأ حركةً. ثم ينحني هذا التيار غربًا على طول خط الاستواء ليُشكِّل التيار الاستوائي الشمالي الذي يتدفق إلى منطقة البحر الكاريبي ليُكمِل الدوَّامة المحيطية.
أسفل السطح، تكون كتل المياه العميقة في المحيط العالمي في حالة حركة كذلك. غير أن هذه الحركة ليست من فعلِ الرياح كما هي الحال في التيارات السطحية، وإنما نتيجة تغيُّرات الطفو في مياه البحر التي تحدُث في المحيطَين القطبيَّين. ينتج عن هذا تدفقٌ أضخم يُعرف باسم الدورة الحرارية الملحية؛ نظرًا إلى حدوث تغيرات الطفو نتيجةَ التغيرات في درجة حرارة مياه البحر وملوحتها.
للتيَّارات التقلبية الجنوبية في المحيط الأطلنطي دورٌ مهم في نقل الحرارة شمالًا من المناطق الاستوائية، وإطلاقها في الغلاف الجوي فوق شمال المحيط الأطلنطي. وهكذا فإن لها تأثيرًا كبيرًا على أنماط المناخ في نصف الكرة الشمالي. وقد افترض علماء المحيطات أن من شأنِ تغيُّر المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان أن يؤثِّر على هذا النظام عن طريق زيادة المياه المنخفضة الملوحة في الشمال القطبي للمحيط الأطلنطي؛ بسبب الزيادة في ذوبان الجليد البحري وصفيحة جرينلاند الجليدية. هذا من شأنه أن يجعل المياه السطحية أكثرَ قابليةً للطفو؛ مما يُقلل من معدَّل غوص مياه البحر، ويُضعِف التيارات التقلبية الجنوبية في المحيط الأطلنطي.
ثمة أدلةٌ متزايدة على احتمالية انتهاء هذا السيناريو. فقد أظهرت الدراسات الحديثة أن معدَّل تدفُّق التيارات التقلُّبية الجنوبية في المحيط الأطلنطي أبطأُ الآن بنسبة ١٥ في المائة عن أي وقت مضى منذ ١٦٠٠ عام. غير أنه لم يتضح بعدُ بشكلٍ جلي إلى أي مدًى يرجع هذا الضَّعف؛ للتقلب الطبيعي في المناخ، أو لتغيُّر المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان. من المحتمل أن لكِلتا الآليتَين يدًا في الأمر؛ حيث يعمل الاحترار البشري المنَشأ جنبًا إلى جنب مع التقلب الطبيعي في المناخ على استمرار معدَّلات ذوبان الجليد وإضعاف التيارات التقلبية الجنوبية في المحيط الأطلنطي أو على الزيادة فيها. لذا يلزم الأمرَ مزيدٌ من العمل للتنبؤ بشكلٍ أفضل بحالة التيارات التقلبية الجنوبية في المحيط الأطلنطي على مدى نصف القرن المقبل؛ حيث سيؤدي المزيد من إضعافها أو، في أسوأ الأحوال، انهيارِ النظام إلى تغييراتٍ عميقة في أنماط المناخ في جميع أنحاء نصف الكرة الشمالي.