العمليات البيولوجية البحرية
تتميز الميكروبات البحرية — وهي كائنات مجهرية وحيدة الخلية — بتنوُّع ووفرة في المحيطات أكثرَ بكثيرٍ مما كان يُظن فيما مضى، وتؤدي أدوارًا رئيسية في إنتاج المواد العضوية والطاقة، وفي تدفقهما وفي تدوير المغذيات في المحيطات. فما يقرُب من نصف الإنتاج الأوَّلي في الكوكب — تخليق المواد العضوية بواسطة الكائنات الحاملة للكلوروفيل باستخدام الطاقة الضوئية من الشمس — يتم داخل المحيط العالمي. توجد الكائنات المنتجة الأولية على اليابسة في أشكال حياة تتميز بالكِبر، والوضوح، وطول العمر النسبي من أشجار، وشجيرات، وعُشب، ومحاصيل غذائية، هي من سِمات المشهد الطبيعي اليابسي. بينما يختلف الوضع تمامًا في المحيطات حيث تكون الكائنات المنتجة الأولية في معظم الأحيان هي الميكروبات من العوالق النباتية العالقة في الطبقة السطحية للمحيطات المضاءة بأشعة الشمس. تُشكِّل هذه الكائنات الحية الدقيقة المُثبِّتة للطاقة — المراعي الخفية في البيئة البحرية — أساسَ الشبكة الغذائية البحرية، وهي شبكة الممرات التي تنتقل عبرها الطاقةُ الغذائية إلى جميع الكائنات الحية الأخرى في النظام البحري؛ بما فيها الميكروبات الأخرى، والعوالق الحيوانية، والأسماك، والثدييات البحرية، والبشر في نهاية المطاف.
محيطٌ من الميكروبات
تتميَّز البيئة البحرية في منطقة البحر المفتوح بوفرةٍ مذهلة في الميكروبات. إذا جمعنا حجمَ جميع الميكروبات في المحيطات، فستصل إلى أكثر من ثلثَي إجمالي الكتلة الحيوية للأحياء البحرية. فالمحيطات بلا شك أشبهُ بوعاءٍ شاسع من حَساء شفاف مليء بالحياة الميكروبية.
بدأت الثورة في فهمنا لأهمية الميكروبات في العمليات البحرية في سبعينيَّات القرن العشرين عندما أدَّى التحسن في الفحص المجهري وتقنيات العد إلى الكشف عن التنوُّع غير المتوقَّع والوفرة الاستثنائية لعالم الميكروبات البحرية، أو ما يُعرف بالميكروبيوم البحري. ومنذ ذلك الحين تقدمَت المعرفة بتركيب الميكروبيوم البحري ووظيفته أكثر بكثير بسبب تكثيف فحص العينات من المحيطات والدمج بين التكنولوجيات الحديثة، التي تشمل: زيادة تحسين التصوير المجهري، والتطوير الحديث في منهجيات الميتاجينوميات التي تُتيح التحليل السريع لجينوماتِ أعدادٍ هائلة من الميكروبات، المأخوذةِ من البيئة الطبيعية عن طريق التحديد السريع لتسلسل مادتها الجينية، علاوةً على الثورة في مجال المعلوماتية الحيوية التي قامت على التقدم في الحوسبة التي تُساعد في تحليل وتفسير الكميات الهائلة من البيانات الميتاجينومية الناشئة.
كان للعديد من بعثات استكشاف المحيطات في القرن الحادي والعشرين، التي تُذكِّرنا برحلات اكتشاف المحيطات الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، أدوارٌ رئيسية في أبحاث الميكروبيوم البحري. من هذه البعثات التي كان هدفها استكشافَ المحيط بعثةُ تارا. وتارا هي مركب شراعي بصاريين يبلغ طوله ٣٦ مترًا، وقد جاب محيطات العالم خلال الفترة ما بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٣، جامعًا أكثرَ من ٣٥ ألف عينة من مياه البحر من السطح وإلى عمقِ ألف متر؛ بهدف إجراء التحليل الميتاجينومي للميكروبات التي تعيش فيها. كشف العمل حتى الآن عمَّا هو بمثابة منجم ذهب من الجينات يقبع في المحيطات، في مخزونٍ يقرُب من ٤٠ مليون جين؛ أي أكثر من ٨٠ في المائة من الجينات التي اكتشفها العلم حديثًا، ما يعكس التنوُّع المذهل للميكروبيوم البحري.
التنوُّع الميكروبي البحري
تُشكِّل البكتيريا جزءًا من مجموعة من أشكال الحياة تُعرف ببدائيات النوى، وهي كائنات وحيدة الخلية لا تحتوي على نواة. والبكتيريا البحرية دقيقة الحجم؛ إذ يبلغ قطرها عادةً أقلَّ من ميكرومترين. وقد تكون غيرَ قادرة على الحركة أو تمتلك واحدًا أو أكثرَ من الزوائد الشبيهة بالسَّوط، يُطلق عليها الأسواط، وتُمكِّنها من القدرة على الحركة داخل العالم الدقيق الذي تتغذى، وتنمو، وتتكاثر فيه. كما تتراوح كثافة انتشار البكتيريا في مياه البحر من نحو مليار إلى ١٠ مليارات مذهلة في اللتر الواحد. وبسبب حجمها المجهري، لا يزيد وزنُ مليار من البكتيريا البحرية على ٠٫١ مجم، ويحتلُّ مساحةً هزيلة مقدارها ٠٫٠٠٠٠٠٠١ في المائة لكل لتر من مياه البحر. وهكذا، فعلى الرغم من أعدادها المدهشة، تحتل البكتيريا مساحة صغيرة جدًّا في المحيطات.
العتائق، مثلها مثل البكتيريا، هي من بدائيات النوى وتبدو للوهلة الأولى كالبكتيريا في الحجم والشكل، غير أن كيمياءها الحيوية الأساسية مختلفة للغاية. كان أول اكتشاف للعتائق في بيئات قاسية، مثل الينابيع الساخنة والبحيرات الشديدة الملوحة، وعُدَّت في البداية من «محبَّات الظروف القاسية» التي لا توجد سوى في هذه البيئات القاسية. ولكنه أصبح من المعروف الآن توافرُها في العديد من الموائل الأخرى، بما في ذلك منطقة البحر المفتوح للمحيطات؛ حيث تُشكل مكونًا وفيرًا ومتنوعًا من الكتلة الحيوية الميكروبية.
أما الطلائعيات فهي من حقيقيات النوى؛ أي إن خلاياها تحتوي على نواة، غير أنها أحاديةُ الخلية وليست متعددةَ الخلايا كحقيقيات النوى الأخرى. يتراوح حجم الطلائعيات البحرية من نحو ميكرومتر واحد إلى ٢٠٠ ميكرومتر، وتتراوح كثافة انتشارها من مليون إلى ١٠٠ مليون كائن طلائعي لكل لتر من مياه البحر. والطلائعيات هي المجموعة الأكثر تنوعًا من بين الكائنات الحية في المحيطات؛ إذ تشهد تنوُّعًا يفوق بكثيرٍ تنوُّع البكتيريا البحرية والحيوانات البحرية. يشير التحليل الميتاجينومي إلى وجود مئات الآلاف من الأنواع المختلفة من الطلائعيات في المحيطات، معظمها معروف فقط من خلال توقيعه الجيني. على الرغم من كون الطلائعيات البحرية أحاديةَ الخلية؛ فقد طوَّرت مجموعةً رائعة من الأشكال والهياكل الخلوية الفرعية الخاصة. فبعضها له أهدابٌ أو سوطٌ للحركة، وبعضها الآخر أميبي، ولبعضها هياكلُ داخلية، فيما يُكوِّن بعضُها الآخر أصدافًا خارجية، وقد طوَّر العديد منها هياكلَ خاصة لالتقاط الطعام واستشعار البيئة فيما حوله. يمكن أن تكون الطلائعيات البحرية ذاتيةَ التغذية أو غيريةَ التغذية، بينما بعضها خلطيُّ التغذية. يفترس النوع الغيريُّ التغذية البكتيريا وغيرَها من الطلائعيات، وعادةً ما يُشار إليه بالأوَّليات. كما تعيش بعضُ الطلائعيات كطفيليات أو متكافلات مع كائنات حية أخرى.
تُعد الفيروسات إلى حدٍّ كبير أكثرَ «أشكال الحياة» وفرةً في المحيطات، وتقع على الخط الفاصل بين كونها كيانًا حيًّا وغير حي. هي أصغر بكثير من البكتيريا، بقطر في العادة يتراوح ما بين ٠٫٠٢ و٠٫٣ ميكرومتر وتتراوح كثافةُ انتشارها المذهلة من ١٠ إلى ١٠٠ مليار فيروس في كل لتر من مياه البحر.
يتكون الفيروس من غلافٍ بروتيني يحتفظ بكميةٍ صغيرة من المعلومات الوراثية في صورة أحماض نووية. والفيروسات ليست ذاتيةَ التخلُّق ويجب أن تصيب كائنًا حيًّا عائلًا من أجل البقاء على قيد الحياة والتكاثر. وفي المحيطات، فإن البكتيريا، والعتائق، والطلائعيات عوائلُ يسهُل توافرها. تسمَّى الفيروسات التي تصيب مثل هذه العوائل بالعاثيات، وتتسبَّب الإصابة بالعاثيات في نهاية المطاف في موت خلايا العائل، مطلِقةً أعدادًا كبيرة من النُّسخ المتطابقة من الفيروس الأصلي مع بقايا الخلايا في مياه البحر. ولذلك تُعد عدوى العاثيات من العوامل الرئيسية المسهِمة في وجود مخزون كبير من المواد العضوية الذائبة والمواد العضوية الدقائقية في المحيطات.
تنوُّع العوالق النباتية البحرية
العوامل المؤثِّرة على الإنتاج البحري الأولي
يُعد البناء الضوئي عمليةً معقَّدة ومتعددة الخطوات، غير أنه يمكن تلخيصها بالمعادلة المبسَّطة التالية:
المادة العضوية التي تُنتِجها العوالق النباتية هي قاعدة الطاقة، أو المستوى الغذائي الأول، للمحيط العالمي؛ إذ تمثل المصدر الرئيسي للطاقة التي تدعم الحياة في المحيطات. تستهلك الطاقة في المستوى الغذائي الأول مجموعةً متنوعة من الكائنات البحرية في المستوى الغذائي الثاني — المُستهلِكات الأولية أو آكلات العشب — تتناولها تباعًا مُستهلِكاتٌ في مستوياتٍ غذائية أعلى في النظام.
يتناقص معدَّل البناء الضوئي، ومن ثَم الإنتاج الأولي، مع ازدياد العمق في المحيطات؛ بسبب تناقص شدة الضوء. نظرًا إلى أن الطبقات العليا من المحيطات تُمثل بيئةً مضطربةً طبيعيًّا؛ فإن العوالق النباتية تختلط على مختلِف الأعماق داخل عمود الماء حسب قوة الدوران العمودي. كي تنموَ العوالق النباتية وتتكاثر، يجب أن تقضيَ الوقت الكافيَ فوق عمقٍ معين في المنطقة الضوئية، عادةً ما يُشار إليه بمصطلح «العمق الحرج»، لتصبح قادرةً على القيام بعملية البناء الضوئي لطاقةٍ أكبر من تلك المطلوبة لمتطلبات تمثيلها الغذائي الأساسية. وإن لم يحدث ذلك، تُستنشَق جميع الطاقة الناتجة ولا يتبقى شيءٌ منها لنموِّ العوالق. لذلك فإن توافر الضوء وقوة الخلط العمودي هما عاملان مُحدِّدان مهمان في عملية الإنتاج الأولي في المحيطات.
يتوافر النيتروجين غير العضوي ومركَّبات الفوسفور بشكلٍ أكبر في أعماق المحيطات حيث تُحلل البكتيريا وتعيد تدوير وابلٍ من المواد العضوية الميتة الغاطسة من المياه السطحية إلى أشكالٍ غير عضوية من النيتروجين والفوسفور. عندما تكون الطبقة العليا من المحيط مختلطةً جيدًا، أو غيرَ طبقية، تختلط هذه المياه العميقة الغنية بالمغذيات في الطبقة المضاءة، موفرةً إمدادًا وفيرًا من العناصر الغذائية للسطح. ولكن في حالة وجود طبقة التغيُّر الحراري، فإنها تعمل حاجزًا لتجدد المغذيات من مياه المحيطات العميقة أسفلها. في ظل هذه الظروف، وفي حالة غياب عمل مستويات الضوء كعامل مُحدِّد، ستعمل الكائنات الحية التي تقوم بالبناء الضوئي على الاستنفاد السريع للمغذيات من الطبقة السطحية فوق طبقة التغيُّر الحراري. في الواقع لا تُستنفَد مركَّبات النيتروجين والفوسفور غير العضوية بمعدَّلاتٍ متساوية. ومن ثَم سينضب أحدها قبل الآخر ويُصبح العامل المغذي المُحدِّد عندئذٍ، مما يحول دون مواصلة عمليات البناء الضوئي والنمو للكائنات المنتجة الأولية البحرية حتى يُعاد الإمدادُ به. يُعد النيتروجين بوجهٍ عام العاملَ المغذيَ المُحدِّد للمعدَّلات في معظم البيئات المحيطية، لا سيما في المحيط المفتوح.
اقترح بعضُ الباحثين أن التخصيب الاصطناعي بالحديد للمناطق الغنية بالمغذيات الفقيرة في الكلوروفيل بهدف بدءِ الإنتاج الأولي في تلك المناطق الغنية بالمغذيات الأخرى من شأنه أن يكون إحدى طرقِ التخفيف من تغيُّر المناخ. الفكرة في ذلك هي أن إزهار العوالق النباتية الناتج سيسحب كمياتٍ كبيرةً من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وعندما تموت العوالق النباتية، ستغوص في أعماق المحيط حيث من المحتمل أن يُحبَس الكربون في أنسجتها في رواسبَ بحرية، وذلك إذا وصلَت إلى أرضية المحيط. بعبارة أخرى، في حالة إجراء الأمر على نطاقٍ واسع بما يكفي، فقد يُعزز إزهارُ العوالق النباتية الناتج اصطناعيًّا هذا من «ضخ» العوالق النباتية النامية طبيعيًّا لثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي إلى داخل المحيط وربما إلى تخزينٍ طويل الأجل في رواسب أعماق المحيط. وقد وضعَت بعض الشركات في الواقع خططًا لتحويل النظرية إلى واقع عملي، واقترحَت إجراء تخصيب المحيطات بالحديد على نطاق واسع وكسب الدخل من إنشاء أرصدة الكربون وبيعها في أسواق تداول الكربون العالمية.
أُجريت أكثرُ من ١٢ تجرِبةً صغيرة النطاق (على نحو ١٠٠ كيلومتر مربع) تضمَّنَت تخصيبَ رقعٍ من المحيط المفتوح بنحو طنٍّ من الحديد المذاب المتناثر من السُّفن الخاصة بالأبحاث، وقد أظهرت إمكانيةَ تحفيزِ الإنتاج الأولي بهذه الطريقة على مدى أوقاتٍ تمتدُّ من بضعة أيام إلى أسابيع. غير أنه من غير المؤكَّد على الإطلاق إن كان ذلك سيصبح في وقتٍ من الأوقات طريقةً عملية من طرق «الهندسة الجيولوجية» للتخلص من ثاني أكسيد الكربون على نطاقٍ واسع في الغلاف الجوي أم لا. وكي تعمل هذه الطريقة بشكل جيد وتحبس كميات كبيرة من الكربون في الرواسب البحرية؛ فإن العملية يجب أن تُحفز النوع الصحيح من إزهار العوالق النباتية؛ أي خلايا الدياتوم الكبيرة التي تقاوم رعي الكائنات الحية عليها في المستوى الغذائي الثاني، والتي تغوص سريعًا في أرضية البحر. فإن لم يحدُث ذلك، فستستهلك العوالق الحيوانية الكائنات المنتجة الأولية سريعًا ويرجع الكربون المنطلق في صورة ثاني أكسيد الكربون مرةً أخرى إلى المياه السطحية. أظهرت التجارب حتى الآن أنه من الصعب للغاية التأكدُ من كمية الكربون، في حالة وجوده، التي تُنقل إلى أرضية المحيط وما إذا كانت العملية ستُحدِث فرقًا فعليًّا في حال تطبيقها على نطاق واسع. والأكثر أهمية أنه لا يمكن لأحد التنبؤ بالآثار الضارَّة التي قد تلحق بالنظام البيولوجي البحري الأكبر من جراء تخصيب المحيطات بالحديد على نطاق صناعي. ولكن يكاد يكون من المؤكد أن ثمة تغييرًا سيلحق بتكوين مجتمعات العوالق النباتية وتطوُّرها على نطاقٍ واسع ويؤثر على الشبكات الغذائية البحرية بطرق غير مقصودة. وقد وافق بالفعل أطرافُ اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التنوُّع البيولوجي في عام ٢٠٠٨ على وقف جميع مشروعات التخصيب الاصطناعي للمحيطات باستثناء المشروعات الصغيرة في المياه الساحلية. ومن ثَم على الرغم من أن البحث في مجال التخصيب بالحديد يُعزِّز فهمنا بعمليات الإنتاج الأولية في المحيطات؛ فمن غير المحتمل أن يُسفر عن تقنيةٍ قابلة للتطبيق وآمنةٍ يمكن استخدامها للمساعدة في الحدِّ من تغير المناخ، الذي يتسبَّب فيه الإنسانُ بالحد الأدنى من المخاطر.
قياس الإنتاجية البحرية الأولية
يُعد قياس الإنتاجية الأولية في المحيطات عملًا مليئًا بالتحديات. يمكن إجراؤه عن طريق وضع عيناتٍ من مياه البحر في زجاجات، وتعريضها للضوء، وقياس مقدار الأكسجين الذي تُطلقه الكائنات الحية البحرية التي تقوم بالبناء الضوئي في الزجاجات.
يمكن تحويل هذا إلى تقديرات لكمية الكربون المُثبَّتة في مادة عضوية؛ لأن عدد جزيئات الأكسجين الناتجة يُعادل تقريبًا عددَ جزيئات ثاني أكسيد الكربون المُثبَّتة في المادة العضوية (انظر معادلة البناء الضوئي السابق ذكرها). من الطرق الأخرى القياس المباشر بقدرٍ أكبر لكمية الكربون المتضمَّنة في العوالق النباتية في الزجاجات باستخدام الكربون المشع ١٤ بوصفه مُتتبِّعًا. باستخدام هذه الأساليب، يمكن الحصول على تقديرات الإنتاجية الأولية في رقعةٍ من المحيط في وقت معين.
تكمُن مشكلة تقنيات القياس «الموقعي» هذه في أنها لا يمكنها أن توفِّر تقديرات للإنتاجية الأولية إلا لعدد صغير من المواقع في وقت واحد محدَّد، وذلك حتى باستخدام الأنظمة التي تأخذ أكثر العينات تكثيفًا. لذلك من الصعب تكوينُ صورة عالمية وتواكب التغيُّرات في الإنتاجية الأولية باستخدام هذه الأساليب. إلا أن ذلك قد تغيَّر عندما بدأ رصدُ الأقمار الصناعية للون أسطح المحيطات منذ عام ١٩٧٨ مع إطلاق القمر الصناعي «نيمبوس ٧». حمل هذا القمر الصناعي أداةً تُسمى ماسح لون المنطقة الساحلية، يقيس الأطوالَ الموجية للضوء المنعكس من سطح المحيط؛ بشكلٍ أساسي كلما كان سطح المحيط أكثر خُضرةً، كان تركيز الكلوروفيل فيه أكثر، ومن ثَم كانت أعداد الكائنات الحية التي تقوم بالبناء الضوئي فيه أكثر. تُستخدم الآن بشكل روتيني أجهزةُ استشعار محمولة عبر الأقمار الصناعية أكثر تقدمًا لتقدير تركيزات الكلوروفيل، ومن ثَم الإنتاجية الأولية، على مساحات شاسعة للغاية من المحيط العالمي. وقد وفرَت القياسات المتكررة المرسلة من الأقمار الصناعية للمحيط العالمي بأكمله على مدار الأيام، والأسابيع، والسنوات، إلى جانب القياسات «الموقعية» المباشرة؛ فَهمًا شاملًا بقدرٍ كبير من التحسين للأنماط المكانية والزمانية للإنتاجية الأولية العالمية.
الأنماط العالمية للإنتاجية البحرية الأولية
في مناطق المحيطات المفتوحة المعتدلة، ترتبط الإنتاجية الأولية ارتباطًا وثيقًا بالأحداث الموسمية. ففي الشتاء، يبرد سطح المحيط وتنهار طبقة التغيُّر الحراري بفضل الرياح القوية التي تخلط طبقاتِ السطح. يسمح هذا بخلط المياه السطحية جيدًا بمياه البحر الأكثر عمقًا الغنية بالمغذِّيات. غير أن مستويات الضوء منخفضةٌ في الشتاء وتحدُّ من الإنتاجية الأولية. وفي الربيع، حيث يطول النهار وترتفع الشمس أكثرَ في السماء، ثَمة وقتٌ يصبح فيه كلٌّ من الضوء والمغذيات غير محدود ويُحفَّز إزهار العوالق النباتية الربيعية. أما في الصيف، فعلى الرغم من توفُّر الضوء، يُعاد تكوُّن طبقة التغيُّر الحراري حيث تزداد المياه السطحية دفئًا، مما يحول بين الطبقة المضاءة والمياه العميقة الغنية بالمغذيات. تصبح المغذيات في ذلك الوقت محدودة و«ينهار» إزهار الربيع. في الخريف، تنهار طبقة التغيُّر الحراري مرةً أخرى، ويتجدَّد تكوُّن المغذيات في الطبقة المضاءة. إذا حدث هذا مبكرًا بما يكفي في الخريف، حيث لا يزال القدْر الكافي من ضوء الشمس متوفرًا، فسيصبح كلٌّ من المغذيات والضوء غير محدود مدةً قصيرة من الوقت، وقد يحدث إزهار العوالق النباتية في الخريف. سيستمر هذا الإزهار حتى يصبح الضوءُ عاملًا مُحدِّدًا مرةً أخرى في أواخر الخريف والشتاء. على الرغم من اعتماد الإنتاجية الأولية على المواسم بشكلٍ كبير، فإن إجمالياتها في المحيطات المعتدلة تصل إلى معدَّلٍ يتراوح تقريبًا بين ٧٠ و١٢٠ جرامًا من الكربون لكل متر مربع من سطح المحيط في السنة وهي مستويات مماثلة لتلك التي في الغابات المعتدلة أو الأراضي العشبية.
في المحيطات الاستوائية المفتوحة، تكون الإنتاجية الأولية منخفضة طوال العام. لا يكون الضوء في هذه المناطق عاملًا مُحدِّدًا على الإطلاق، غير أن طبقة التغيُّر الحراري الاستوائية تعيق خلط مياه البحر العميقة الغنية بالمغذيات بالمياه السطحية. ومن ثَم توجد المغذيات في مستويات منخفضة دائمًا في الطبقة المضاءة، مما يحدُّ من الإنتاجية الأولية. لذلك، عادةً ما يُشار إلى المياه الاستوائية المفتوحة باسم «الصحاري البحرية»، حيث لا تتعدى إنتاجيتها بشكل عامٍّ ٣٠ جرامًا من الكربون لكل متر مربع من سطح المحيط في السنة تقريبًا، وهو ما يُضاهي إنتاجية إحدى الصحاري البرية.
توجد بعض البيئات البحرية الأكثر إنتاجية في المحيط الساحلي فوق الرفوف القارية. وهذا نتيجة لظاهرةٍ تُعرف باسم التيار الصاعد الساحلي، الذي يجلب مياه البحر العميقة والباردة والغنية بالمغذيات إلى سطح المحيط، مُشكِّلًا ظروفًا مثالية للإنتاجية الأولية التي يمكن أن تزيد على ٥٠٠ جرام من الكربون لكل متر مربع من سطح المحيط في السنة، لتُضاهي بذلك إنتاجيةَ الغابات المطيرة البرية أو الأراضي الزراعية المزروعة. هذه النقاط الساخنة للإنتاجية البحرية تكونها الرياح التي تهب بالتناغم مع دوران الكوكب.
يمكن تفسير الظاهرة بمصطلحات أساسية على النحو التالي. عندما تهبُّ رياح منتظمة على سطح المحيط، فإنها تجعل الطبقة السطحية تتحرك في اتجاهها. وهذه الطبقة العُليا من مياه البحر المتحرِّكة ستُحرِّك بدورها طبقةً أسفلها من مياه البحر، ولكن بحركةٍ أبطأ قليلًا من حركة الطبقة التي تعلوها، وهكذا على طول عمود الماء حتى تتحول طاقة الرياح بالكامل إلى مياه متحركة. إلا أنه بسبب دوران الكوكب، وهو ما يكوِّن ظاهرةً تُعرف باسم تأثير كوريوليس، فإن كلًّا من هذه الطبقات المتحركة من مياه البحر تتجعَّد قليلًا إلى اليمين في نصف الكرة الشمالي، وإلى اليسار في نصف الكرة الجنوبي. يُكوِّن هذا نمطًا دوَّاميًّا مميزًا لحركة المياه في عمود الماء يُسمى دوامة إيكمان. النتيجة النهائية لدوامة إيكمان هي أن متوسط اتجاه تدفُّق مياه البحر التي تحرِّكها الرياح يكون تقريبًا قائمَ الزوايا في اتجاه الرياح السطحية، على يمين اتجاه الرياح في نصف الكرة الشمالي، وإلى اليسار في نصف الكرة الأرضية الجنوبي. وتُعرف هذه الحركة الصافية للمياه إلى يمين أو يسار اتجاه الرياح باسم نقل إيكمان.
من مناطق التيار الصاعد الساحلي المهمة حول العالم سواحل كاليفورنيا، وأوريجون، وشمال غرب أفريقيا، وغرب الهند في نصف الكرة الشمالي، وسواحل تشيلي، وبيرو، وجنوب غرب أفريقيا في نصف الكرة الجنوبي. هذه المناطق هي من بينِ أكثرِ النُّظم البيئية البحرية إنتاجيةً على الكوكب. عندما يهب التيار الصاعد، تُحفِّز مياه البحر الباردة والغنية بالمغذيات الإزهارَ الهائل للعوالق النباتية، وخاصة الأنواع الأكبر منها مثل طحالب الدياتوم والأنواع الكبيرة من السوطيات الدوَّارة.
ظاهرة النينيو/التقلبات الجنوبية
يدعم التيارُ الصاعد قبالة الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية؛ أحدَ أكثر مصايد الأسماك إنتاجيةً على هذا الكوكب، وهي مصايد البَلَم المُفغَّر. لطالما كان صيادو بيرو على درايةٍ بظاهرة أطلقوا عليها اسم النينيو (أي الطفل)؛ تكريمًا للطفل المسيح؛ لأنها غالبًا ما تحدُث في وقتٍ قريب من عيد الميلاد المجيد. خلال ظاهرة النينيو، تصبح المياه السطحية دافئةً بدرجة غير معتادة وتموت الأسماك والطيور البحرية، وتتضاءل مصايد البَلَم أو تختفي، كما تختفي الحيتان، والدلافين، والفقمات.
سُجِّل أكثرُ من ٢٠ حدثًا لظاهرة النينيو منذ أوائل خمسينيَّات القرن العشرين، وهناك أدلةٌ على أن شدة هذه الأحداث قد زاد في السنوات الأخيرة. خلال هذه المدة، وقعَت أشدُّ أحداث لظاهرة النينيو في الأعوام من ١٩٨٢ إلى ١٩٨٣، ومن ١٩٩٧ إلى ١٩٩٨، ومن ٢٠١٤ إلى ٢٠١٦، ومن ٢٠١٨ إلى ٢٠١٩. تمسُّ تأثيرات ظاهرة النينيو القوية جميعَ أنحاء العالم. فمن شأن ولاية كاليفورنيا وغرب أمريكا الجنوبية أن يشهدا عادةً أمطارًا غزيرة، بينما يمكن أن تشهد أجزاءٌ من أستراليا، وإندونيسيا، وأفريقيا جفافًا شديدًا. تُعد الفيضانات، وتلَفُ المحاصيل، والانهيارات الأرضية وغيرها من الأحداث المرتبطة بأنماط طقس ظاهرة النينيو؛ مكلفةً للغاية؛ إذ تتسبَّب في أضرارٍ جسيمة وفي العديد من الوفَيَات.
حركة الطاقة عبر الشبكة الغذائية البحرية
كما ناقشنا في هذا الفصل، فإن ميكروبات العوالق النباتية العالقة في الطبقة المضاءة مسئولة عن الإنتاج الأولي بأكمله تقريبًا في المحيطات. ولكن ما المسارات المختلفة التي تنتقل من خلالها هذه الطاقة الغذائية عبر الشبكة الغذائية البحرية؟ وما مستويات كفاءتها؟ على مدى العقود الأربعة الماضية حقَّق علماء الأحياء البحرية تقدمًا كبيرًا في الإجابة عن هذه الأسئلة.
عندما بدأ علماء الأحياء البحرية في فهم أهمية الميكروبات في اقتصاد المحيطات، أصبح من الواضح أن هذا المفهوم للسلسلة الغذائية الكلاسيكية كان في كثيرٍ من الحالات شديدَ البساطة، ولا يُعبر عن الصورة الكاملة لكيفية انتقال الطاقة عبر النظام البيئي البحري. ومن ثَم نشأت نماذجُ جديدة لهيكل الشبكة الغذائية والتي لا تزال قيد الدراسة والتنقيح من قِبل علماء الأحياء البحرية.
ومن المعروف الآن أيضًا أن الكثير من إنتاج العوالق النباتية — ما يصل إلى ٥٠ في المائة في ظل ظروفٍ معينة — لا ينتقل إلى المستوى عبر الاستهلاك المباشر، بل «يتسرب» إلى مياه البحر المحيطة في صورة موادَّ عضويةٍ ذائبة. يَنتج بعض هذا التسرُّب عن الفقد السلبي للجزيئات العضوية عبر غشاء خلايا العوالق النباتية. غير أن العوالق النباتية تطرح بكثافة أيضًا جزيئات عضوية في مياه البحر لأسباب غير مفهومة بالكامل حتى الآن.
علاوة على ذلك، تُفقد المواد العضوية الذائبة والجسيمات الصغيرة من المواد العضوية الدقائقية؛ عندما تتفكَّك خلايا العوالق النباتية أثناء تغذِّي الحيوانات المفترسة عليها وبعد الموت الطبيعي للخلايا. كما تُطلق مجذافيات الأرجل وغيرُها من العوالق الحيوانية أيضًا؛ كمياتٍ كبيرةً من المواد العضوية الدقائقية في المحيطات في صورة براز، وعندما تموت وتتفتَّت. ومن الثابت أيضًا أن لعدوى العاثيات الفيروسية دورًا مهمًّا للغاية في فقدان المواد العضوية الذائبة والمواد العضوية الدقائقية من الميكروبات البحرية. وتشير التقديرات إلى أن الفيروسات تقتل نحو ٢٠ إلى ٤٠ في المائة من البكتيريا البحرية يوميًّا — وهو معدَّل إصابة كبير — وتُطلق كمياتٍ كبيرة من المواد العضوية الذائبة والمواد العضوية الدقائقية عندما تموت الخلايا المُضِيفة.
البِنية الغذائية للأنظمة البحرية والبرية: دراسة للاختلافات
يبلغ إجماليُّ الإنتاجية الأولية للمحيط العالمي نحوَ ٥٠ مليار طن من الكربون سنويًّا. وفي المقابل، فإن إجماليَّ الإنتاجية الأولية لليابسة يبلغ نحو ٥٢ مليارَ طن سنويًّا. وبذلك يكون إجمالي الإنتاجية الأولية للكوكب ما يزيد قليلًا عن ١٠٠ مليار طن من الكربون سنويًّا، يأتي نصفها تقريبًا من المحيطات، ونصفُها الآخر من اليابسة. غير أن ثمة اختلافًا جوهريًّا في الطرق التي يتولَّد بها الإنتاج الأولي بين كلٍّ من أنظمة المحيطات والأنظمة البرية.
كما أوردنا في هذا الفصل؛ فإن الكائنات المنتجة الأولية في المحيطات هي عوالقُ نباتية غير مرئيَّة، أحادية الخلية، مجهرية، تشمل البكتيريا والطلائعيات. في المقابل، فإن الكائنات المنتجة الأولية على اليابسة هي نباتات كبيرة واضحةٌ للعيان تشمل الأشجار، والشجيرات، والعُشب، علاوة على المحاصيل الغذائية التي انضمَّت للقائمة حديثًا، بعد أن دخلنا عصر الأنثروبوسين الذي يُهيمن عليه الإنسان. كما يُمثل إجمالي الكتلة الحيوية، أو المحصول القائم، من هذه الأنواع الشديدة الاختلاف من الكائنات المنتجة؛ تباينًا صارخًا كذلك. فإجمالي الكتلة الحيوية للكائنات المنتجة الأولية في المحيطات، التي يُعبَّر عنها بوزن الكربون في أنسجتها الحية؛ يبلغ نحوَ مليار طن، في حين أن إجمالي الكتلة الحيوية للكائنات المنتجة الأولية على اليابسة أكبرُ في الحجم عدة مرات؛ إذ يبلغ نحو ٤٥٠ مليار طن من الكربون. وهكذا فإن الكتلة الحيوية للكائنات المنتجة الأولية البحرية لا تَزيد على ٠٫٢ في المائة من إجمالي الكتلة الحيوية للكائنات المنتجة الأولية على الكوكب؛ على الرغم من أعدادها الهائلة، ومن حقيقةِ أن بيئاتها تَشغل مساحةً وحجمًا أكبر بكثيرٍ ممَّا تشغله البيئات على اليابسة. لكنَّ اللافت للنظر أن الكائنات المنتجة الأولية البحرية تُنتج القدْر نفسَه من الإنتاج الأولي الذي تُنتجه جميع الكائنات المنتجة على اليابسة سنويًّا. قد تسنَّى ذلك بسبب معدَّلات الأيض العالية للغاية للعوالق النباتية البحرية، وكونها مولِّداتٍ عاليةَ الكفاءة للبناء الضوئي؛ مما يسمح لها بالنمو والانقسام بسرعات فائقة. والنتيجة هي أن العوالق النباتية في المحيط العالمي تُغيِّر كتلتها الحيوية بالكامل تقريبًا كلَّ سبعة أيام في المتوسط. في المقابل، يحدث تغيُّر معدَّلات الكائنات المنتجة الأولية البرية في حدود السنوات في المتوسط.